تفسير المزمور 1 للقديس أغسطينوس

عظة في المزمور الأوّل

الإنسان السماوي والإنسان الأرضي – الأوّل يسوع المسيح، والثاني آدم الخاطئ – يسوع المسيح الذي تفادى الأشراك التي کلفت آدم الموت، سيكون له في الكنيسة نسل هم القديسون – وآدم سيكون نسله الأشرار.

۱ – «طوبي للرجل الذي لم يمضِ في مشورة الإشرار» (مز ۱: ۱). هذه الطوبى تنطبق على يسوع المسيح الإنسان السماوي. «طوبي للرجل الذي لم يمض في مشورة الإشرار، مثل آدم الأرضي الذي سمع لامرأته التي أغوتها الحيّة وازدرى وصية الربّ (تك ٣: ٦) . «وفي طريق الخطأة لم يتوقف». والحال، فإنّ يسوع جاء في طريق الخطيئة، فولد كالخطأة ؛ لكنّه لم يتوقف في تلك الطريق، لأنّ مفاتن العالم لم تُغوه . وفي مجلس القذارة لم يجلس»، لأنه لم يشأ أن يكون له في الأرض عرش مزهو، عرش القذارة الحقيقي. فكما أنّ حُبّ التسلّط وشهوة المجد الباطل تتسلّل إلى كلّ روح إنسانية، تقريبا، روح. كذلك الطاعون هو ذلك الوباء الذي ينتشر فيُصيب كل الناس أو جلهم. إن مجلس القذارة أقرب إلى العقيدة الفاسدة التي يجتاح تعليمها ويرعى كالآكلة (٢تي ۲: ۱۷). لنتأمل بتدرّج هذه الكلمات الثلاث : مضى، توقف، جلس». مضى الإنسان عندما ابتعد عن الله؛ وتوقف عندما استهوته الخطيئة وجلس عندما تصلب في كبريائه ولم يكن بوسعه الرجوع، من دون أن يحظى بمُحرِّرٍ، هو ذاك الذي لم يمض في مشورة الشرّير، وفي طريق الخطأة لم يتوقف، ولم يجلس في مجالس القذارة.

٢ – بل في شريعة الربّ ،هواه، وفي شريعته يهدُّ نهارًا وليلا» (۱ : ٢). يقول الرسول : الناموس لم يُشرع للبار (۱تي ١: ٩). لكن السلوك في الناموس غير الرضوخ للناموس. السلوك في الناموس هو تطبيقه، وتلك حرّيّة. والرضوخ للناموس هو الخضوع لنيره، وتلك عبودية. والناموس المكتوب الذي يُفرض على العبد، غير الناموس الذي يقرأه في قلبه من ليس بحاجة لناموس مكتوب. «من يهد في الشريعة نهارًا وليلا هو من يتأملها بلا انقطاع، أو في الفرح (النهار) وفي الشدّة (الليل). في الفرح قال الإنجيلي: «رأى إبراهيم نهاري فابتهج (يو ٨: ٥٦) ؛ وفي الشدّة قال النبي : “وفي الليل، أيضًا، تعظني كليتاي” (مز ١٥: ٧).

٣ – “فيكون كالشجر المغروس على مجاري المياه” (۱: ۳)، أي بالقرب من الحكمة التي تنازلت واتحدت بالإنسان لخلاصنا، لكي يكون الإنسان شجرةً مغروسة على مجاري المياه؛ وعلى هذا النحو نفهم كلام المرنم : «نهرُ الله امتلأ مياها» (مز ٦٤: ١٠). بوسعنا أن نفهم بالمياه، الروح القدس الذي قيل عنه : «هو الذي يُعمّدكم بالروح القدس» (مت ۳: ۱۱) ؛ وكذلك :” إن عطش أحدٌ فليُقبل ويشرب» (يو ۷: ۳۷) ؛ وأيضًا لو كنتِ تعرفين عطية الله، ومن هو الذي يسألك ليشرب، لسألته أنتِ فيُعطيك ماءً حيَّا، من يشرب منه يرتوي ولا يعطش أبدا، ويصير فيه ينبوع ماء يتفجر إلى الحياة الأبدية» (راجع يو ٤: ١٠-١٤) . كما بوسعنا أن نفهم بعبارة «على مجاري المياه» سقوط الشعوب في الخطايا؛ ففي الرؤيا تدل المياه على الشعوب (رؤ ١٧: ١٥)، والمجاري، على السقوط الذي يلازم الخطيئة. فالشجرة، إذًا، هي الرب يسوع الذي يمتص المياه الجارية – أو الشعوب الخاطئة – بجذور تعاليمه . الذي يؤتي ثمره» : أي الذي يُنشئ كنائس في أوانه» : أي عندما يتمجّد بقيامته وصعوده إلى السماء. فبعد أن أرسل الروح القدس إلى الرسل الذين ثبتهم في الإيمان به، وأطلقهم في الأمم، جنى الكنائس ثمَرًا . وورقه لا يذبل»، لأنّ كلمته لن تكون بلا فائدة: «كل بشر عشب، وكل مجده كزهر الصحراء. العشب يبس وزهره سقط، وأما كلمة إلهنا فتبقى إلى الأبد» (أشعيا ٤٠ : ٦-٨). وكلّ ما يصنعه ينجح»: أي كل ما تحمله تلك الشجرة من ثمر وورق، ترمز إلى الأفعال والأقوال.

٤ – «ليس كذلك الأشرار ، لكنّهم كالغفى الذي تُذريه الريح (عن وجه الأرض)» (١: ٤) والأرض هنا هي الميراث الأبدي، ميراث الله الذي كتب عنه : «الربّ حظ قسمتي… وحبال التقسيم وقعت في أراضي خصب، وميراثي جليل» (مز ١٥: ٥-٦). وفي مكانٍ آخر : «إنتظر الربّ واحفظ طريقه، فيرفعك لترث الأرض» (مز ٣٦: ٣٤)؛ وأيضا : طوبى للودعاء، فإنّهم يرثون الأرض» (مت ٥: ٤). الأرض اللامنظورة للإنسان الداخلي بمثابة الأرض المنظورة للإنسان الخارجي، التي تعطيه الطعام والمدى والريح، أو الكبرياء التي تنفخ، تطرد الشرّير عن وجه هذه الأرض اللامنظورة. أما الذي يُسكره فيض بيت الله، ومن نهر لذاته يرتوي، فيقي نفسه من الكبرياء ويقول : «لا أصل إلى قدم المتكبّر. مز ۳۵: ۹ و١٢). ومن هذه الأرض أيضًا، أقصت الكبرياء ذاك الذي قال: «أرفع عرشي فوق كواكب الله … أصعد فوق أعالي السحب وأكون شبيها بالعليّ» (إش ١٤: ١٣ و١٤). وأخيرًا، من هذه الأرض طَردت الكبرياء ذاك الذي تجرّأ فأكل من الثمرة المحرّمة، لكي يُصبح شبيها بالله، وأراد أن يختبئ من وجه الرب (تك ٣: ٦-٨) وإليكم كلمات من الكتاب المقدس تُخبرنا بأنّ هذه الأرض هي ميراث الإنسان الداخلي، وأن الكبرياء أقصت منها إنسان الخطيئة: «لماذا يتكبّر التراب والرماد؟ … إطرح أحشاءه مدة حياته» (إبن سيراخ ۱۰: ۱۰۹). من هنا بوسعنا أن نقول بحق إنه اطرح نفسه بنفسه.

٥- «لذلك لا يقوم الشرير للقضاء» (١ : ٥) لأنه يُكنس من الأرض كحفنة من تراب وبحق يقول النبي ، هنا، إن المتكبر يُحرم ممّا يطمح إليه، أي سلطان القضاء. ويُفهمنا هذا القول، على نحو أفضل، في الجملة التي تلي : ولا الخطأة في جماعة الصدّيقين». جرت العادة في الكتاب المقدّس، أن يُفسر المقطع الثاني من الآية المقطع الأول، وعليه نفهم أنّ «الشرّير» هو الخاطئ وأنّ «القضاء» جماعة الصدّيقين. أو على الأقل، إذا كان ما يُميّز الشرير عن الخاطئ أن كل شرّير هو خاطئ، وكل خاطئ ليس بشرّير، فـ «لن يقوم الشرير للقضاء»: أي أنه يقوم، لكن لا للقضاء، لأنه سبق أن أُدين بعقاب لا يرقى إليه شك. ولا الخطأة في جماعة الصدّيقين»: لا ليقضُوا بل ليدانوا ؛ بحسب ما قيل عنهم : وهذه النار سوف تمتحن عمل كلّ واحد، فمن بقي . عمله الذي بناه على الأساس، نال أجره، ومن احترق عمله بالنار، كان من الخاسرين؛ أما هو فسيخلص، لكن كمن يخلص بالنار» (۱كو ۳: ۱۳-١٥). 

٦ – فإنّ الربّ عالم بطريق الصدّيقين» (١ : ٦) كأن تقول: «إنّ الطب عالم بالشفاء، لا بالمرض، على أن المرض نفسه معروف في فنون الطب؛ وبالمعنى نفسه نستطيع أن نقول إن الله عالم بجنس الصديقين، لا بجنس الأشرار ؛ وهذا لا يعني أن الله يجهل شيئًا ما ، ولو انه يقول في الخطأة : «إنّي لا أعرفكم» (مت ٧: ٢٣). «أما طريق الأشرار فتهلك». هذه العبارة تقالُ بالمعنى نفسه الذي نقول فيه : الربّ لا يعرف طريق الشرير. لكنّنا، بهذا، نرى بوضوح أنّ ما يجهله الله يهلك، وما يعلمه يدوم إلى الأبد أن تكون معلومًا لدى الله، فأنت موجود، وأن تكون مجهولا ، فأنت لا شيء. والحال فإنّه قال: «أنا هو الذي هو» و«هو أرسلني» (خروج ٣: ١٤). 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى