تفسير المزمور 5 للقديس أغسطينوس

عظة في المزمور الخامس
الكنيسة في منفاها أو النفس المؤمنة

تسأل النفس المؤمنة الله أن تُستجاب فتراه. تُدرِك أن ترهات العالم تُلقيها في الظلمة ولكن بعد هذه الحياة يُشرق نور الصباح، الذي سيكون نصيب البار، عندما يُلقى الآثم في الظلمات.

۱ – عنوان المزمور : “إلى التي فازت بالميراث [۱]” (٥ : ١). بهذا يُشار إلى الكنيسة التي وهبها ربنا يسوع المسيح الحياة الأبدية ميرائًا، لكي تملك الله والسعادة بتعلقها به، بحسب كلام الرب: “طوبی للودعاء، فإنّهم يرثون الأرض” (مت ٥: ٤) وأي أرض غير تلك التي قيل عنها: “أنت معتصمي، أنت نصيبي في أرض الأحياء”. (مز ١٤١: ٦)؛ وأيضًا بكلام أوضح “الربّ نصيب قسمتي وكأسي” (مز ١٥: ٥) والكنيسة بدورها، تُدعى ميراث الرب بحسب ما قيل : “سلني فأعطيك الأمم ميراثًا لك” (مز ۲: ۸). وهكذا فإنّ الله يُدعى ميراثنا، لأنه يوفّر لنا المأكل والمدى ؛ ونحن ميراث الله الذي يحرثنا ويرعانا. وعليه، فإنّ هذا المزمور هو نشيد الكنيسة المدعوة إلى الميراث، لكي تُصبح هي نفسها ميراث الله .

 ۲ – “لأقوالي أَصِخُ أيها الربّ” (٥: ٢). يدعو الله الكنيسة فتستمطر عونه لكي يُمكّنها من تجاوز ظلم الدّهر، والبلوغ إليه: “تفهم تأوهي” هذا التعبير يُبيّن لنا هذا التأوه المتصاعد إلى الله من أعمق أعماق قلوبنا ؛ ذاك أننا نسمع صوت الجسد، ونعي صوت القلب. فالله لا يسمعنا بأذن الجسد بل بحضور جلاله .

٣- “أصغ إلى صوت استغاثتي” (٥: ٣) هذا الصوت الذي كان يسأل الله أن يفهمه : تفهم تأوّهي أصغ إلى صوت استغاثتي يا ملكي وإلهي . في الحقيقة: الإبن إله والآب إله والآب والابن إله واحد؛ وإذا سُئِلنا من هو الروح القدس لا جواب لدينا سوى أنه الله، وعندما نقول الآب والابن والروح القدس علينا ألا نفهم سوى أن الثلاثة إله واحد؛ على أن صفة الملك في الكتاب المقدس تُطلق عادةً على الإبن. وبحسب كلمة الرب : «لا يمضي أحد إلى الآب إلا بي» (يو ١٤: ٦)، للنبي الحق في أن يقول : يا مَلِكي، أولًا، ثمّ «يا إلهي». إلا أنه لا يستعمل صيغة الجمع عندما يقول «أصغ»، لأنّ الإيمان الكاثوليكي(الجامع) لا يقول بإلهين ولا بثلاثة، بل بإله واحد في ثلاثة أقانيم. ولا يُمكن، كما اعتقد سابيليوس أن نقول عن الثالوث تارةً إنّه آب، وتارة إنه ابن، وتارةً إنّه الروح القدس؛ فما الآب إلا الآب، وما الابن إلا الإبن، وما الروح القدس إلا الروح القدس؛ وما الأقانيم الثلاثة إلّا إله واحد. وفي قول الرسول : كلُّ شيء منه وبه وإليه» (رو ١١: ٣٦)، يمكن أن نرى تلميحا للثالوث : لأنّه لم يُضف: لهم المجد، بل : «له المجد».

 ٤ – سأدعوك يا ربّ، وفي الغداة ستسمع صراخي» (٥ : ٤) . لم قال النبي لتوه «أصغ»، كما لو كان يرغب في أن يُستجاب للحال، وها هو الآن يقول: «في الغداة ستسمع صراخي»؛ ثم سأدعوك»، لا «أدعوك»؛ وأخيرا : «في الغداة سأقف وسأرى»، لا «في الغداة أقف وأرى؟ ألا يكون غرضُ توسلاته ما ذكره في دعائه الأوّل؟ لكن النبي، في ليل العالم العاصف الظلم، يُدرك أنّه لا يرى ما يرغب فيه، على الرغم من أنه لا ينفك يرجو: “فما الرجاء الذي يُرى برجاء” (رو ٨: ٢٤) . يعلم جيدا أنه إذا كان لا يرى فذاك لأنّ الليل الظلم الذي هو عقاب الخطيئة، ما انتهى بعدُ ؛ فيقول : لأنّك أنت من سأدعوك يا ربّ». أي تلك عظمتك، أنت يا من سأدعوك، فلا تستجيبني إلا في الغداة. لست إلها بوسع البشر الذين أظلم أعينهم ليل الخطيئة أن يروه؛ لكن عندما ينجلي ليلُ ضلالي، وتنقشع الظلمات التي كانت تلفني بها آثامي، ستسمع صراخي لماذا، إذًا، لم يقل في البدء ستسمع بل قال «أصغ»؟ أيكون ذلك لأنّه أدرك، بعد أن لم يُستَجَب، حين قال «استجبني، أي زمن ينبغي أن ينقضي لكي يُستجاب؟ أم أنه استجيب ولم يُدرك أنه استجيب لأنّه لا يرى من يستجيب دعاءه، وبالتالي ربما تكون جملة : في الغداة ستستجيبني» تعني : «في الغداة سأدرك أنك ستستجيبني»؟ ، كما قيل في مكان آخر: «قم يا ربّ» (۳ : ۷)، بدلا من : “هبني، أن أقوم”. صحيح أن هذه العبارة تنطبق على قيامة يسوع المسيح، لكن إليكم نصًا آخر لا يُمكن فهمه إلّا بالمعنى الذي نقصده: «الرب إلهكم ممتحنكم لتعرفوا إن كنتم تُحبّونه» (تث ١۳: ۳)، أي لكي تعرفوا بواسطته ويُكشف لكم أي تقدم بلغتُم في محبته. 

ه – “في الغداة سأقف وسأرى” : ( ه: ه ) ما معنى سأقف؟ أي : لن أكون بعد مستلقيًا على الأرض. لكن الإستلقاء على الأرض يعني الإستراحة، والبحث عن السعادة في الشهوات الأرضية. سأقف وسأرى» يقول النبي. فلنطرح أمور الحياة الدنيا، إن كنا راغبين في رؤية الله الذي يتجلّى لأنقياء القلوب. لأنك لستَ إلها يهوى الظلم، ولا يُساكنك الشرير، ولا يقف السفيه أمام عينيك، وأبغضت فاعلي الإثم. تُهلك الناطقين بالكذب. سافكُ الدماء والماكر يمقته الرّب» (٥: ٦-٧). الظلم، والمكر والكذب وسفك الدماء، والسفاهة، والخداع، وسواها من الآثام المشابهة ذاك هو الليل الذي يجب أن ينجلي عن صباح يكشف لنا نور الربّ يُخبرنا النبي لماذا سيكون واقفًا في الغداة، ويرى الربّ. لأنك لست إلها يهوى الظلم». فلو كان الله يهوى الظُّلم، لكان الشرّير يراه وما كان بحاجة لانتظار الغداة، عندما ينقضي ليل المظالم.

٦ – “ولا يُساكنك الشرير”، ولا يراك فيتعلق بك؛ من هنا الآية التالية: “ولا يقف السفيه أمام عينيك”، لأنّ عينه، أو بالأحرى روحه التي اعتادت ظلمات الخطيئة، ستُعميها للحال أنوار الحقيقة، ولن تقوى على احتمال إشراقة العقل المستقيم. فإذا ما تسنّى له أن يرى، جزئيا، وهو مقيم في النفاق، وعرف الحقيقة، فهو لا يثبت فيها لأنه يهوى ما يقصيه عنها في ذاته يحملُ ليله، هوى الخطيئة واعتيادها . فإذا انقضى الليل، وانقطع عن الخطيئة وتخلّى عن هواها، يطلع الصباح فيفهم الحقيقة ويهيمُ بها ويعشقها .

٧- “أبغضتَ فاعلي الإثم”. بغضُ الله هنا بمعنى بغض الخاطئ للحقيقة ؛ وقد نقول أن الحقيقة بدورها تبغض كل الذين لا ترتضي بأن يسكنوا فيها؛ فإن كانوا لا يسكنون، فلأنهم لا يقوون على احتمالها. «تُهلك الناطقين بالكذب، لأنّ الكذب مجافٍ للحقيقة . لكن، لا نتصوّرَنَّ أنّ ثمّة طبيعةً أو جوهرًا يُمكن أن يُجافي الحقيقة؛ فلنفهم بالأحرى أن الكذب يؤكّد ما ليس موجودا، لا ما هو موجود. قول الحقيقة هو قول ما هو موجود، والكذب هو قول ما ليس موجودا . لهذا قيل : تُهلِك الناطقين بالكذب»، لأنّهم بتغافلهم عما هو موجود، يذهبون إلى ما ليس موجودًا . غالبًا ما يبدو أنّ الكذب يهدف إلى نُصرة آخر أو إلى ما فيه خيره، وأنه نابع من العطف لا من المكر؛ مثل ذلك مثَلُ تينك القابلتين اللتين كذبتا على فرعون لتنقذا حياة ذكور العبرانيين (خر ۱: ۱۹). لكنَّ المستحسنَ ، هنا هو النية لا الفعل. والذين لا يكذبون إلا على هذا النحو، سوف يستحقون يوما، أن يتخلّصوا من الكذب. لهؤلاء قيل: ليكن كلامكم نعم نعم ، ولا لا، وما زاد على ذلك فهو من الشرير (مت ٥: ۳۷). ومُبرَّر ما كُتِبَ في موضع آخر : الفم الكاذب يقتل النفس (حكمة ۱: ۱۱)، لئلا يظنّ أي إنسان روحاني حقا، أنه مسموح له أ له أن يكذب ليُنقذ حياته أو حياة غيره، التي لا تقتل خسارتها النفس على أنّ ثمة فرقًا بين الكذب وبين التكتم على الحقيقة. فالأول هو قول الزور، والثاني طمس الحق؛ فإذا كنا لا نريد أن نكشف إنسانًا يُرادُ له موت الجسد علينا أن نكتم الحقيقة، لا نكذب، لئلا نكشف شيئًا فنقتل نفسنا بالكذب بإنقاذنا حياة آخر . وإذا لم نتمكن بعد هذه الاستعدادات، فلنجتهد، أقله، ألا نكذب في ما يتجاوز هذه الأوضاع الضاغطة، من أجل أن يُنقذنا الله، حتّى من هذه الأكاذيب البسيطة، ويمنحنا القوّة، بالروح القدس الذي يدفعنا إلى ازدراء كلّ ما يمكن أن نعانيه من أجل الحقيقة ليس ثمة سوى نوعين من الكذب لا يُشكّلان إثمًا خطيرًا، ولكنّهما لا يخلوان من خطيئة، وهما كذب المزاح والكذب من أجل أداء خدمة. ليس الخداع من طبيعة كذب المزاح، ولا يحمل في طياته خطورة. فالذي نكذب عليه يعلم علم اليقين بأنّ كذبَنا يُقصد منه المرح. والثاني من النوع الأخف، لأنه ينطوي على شكل من أشكال الطيبة وما يُقال عن غير سوء نية، لا يستحق أن يقال إنه كذب. إذا كان امرؤٌ قد ائتمن صديقه على سيف، مثلا ، وأخذ منه وعدًا بأن يُعيده إليه عندما يطلبه ؛ من المنطق ألا يردّه إليه إذا طلبه وهو في حالٍ من الجنون فيستعمله ضد نفسه أو ضدّ الآخرين، بل عليه أن ينتظر هدوء سورة جنونه . ليس في الأمر سوء نية، من حيث أن الصديق الذي تسلّم السيف أمانة وتعهد بردّه، لم يكن في وارد أن يُطلب إليه استرداده في سورة من الجنون. الربّ نفسه رأى الخير عدم الجهر بالحقيقة عندما قال لتلاميذه الذين لم يستوعبوا الأمر: «إنّ لدي أشياء أخرى كثيرة أقولها لكم، لكنكم لا تطيقون الآن سماعها» (يو ١٦: ١٢) والقديس بولس قال أيضًا : «ما استطعتُ أن أكلمكم كأناس روحيين بل كأناس جسدتين» (۱كو ۳: ۱). وعليه، يجب ألا نتهم من يسكت عن الحقيقة. ولكنّي لا أرى أنه مسموح للكاملين أن يكذبوا. 

۸- «سافك الدماء والماكر يمقته الربّ» إنّ في هذا القول تكرارًا لما قيل أعلاه: «تبغض فاعلي الإثم وتُهلك الناطقين بالكذب». فسافك الدماء يمكن أن يكون فاعل الإثم ؛ والماكر، الناطق بالكذب. نمكُرُ عندما نوحي بأمرٍ ونأتي آخر. يقول النبي إن الرب يمقت كليهما . وهذا التعبير ينطبق على الذين يُحرمون الميراث ؛ فيما المزمور هو نشيد «التي فازت بالميراث»، وتُبدي فرح رجائها إذ تصرخ: «وأنا بكثرة رحمتك سأدخل بيتك» (٥: ۸) كثرة الرحمة يُمكن أن تعني جمهور الناس الكاملين السعداء الذين تتكوّن منهم تلك المدينة التي تحملها الكنيسة في أحشائها، وتلدها شيئًا فشيئًا . كيف ننكر أنّ هذه الكثرة من الناس الذين ولدوا مجددًا ، يمكن أن تُدعى كثرة رحمة الربّ، وقد قيل بحق : ما الإنسان حتى تذكره وابن البشر حتّى تفتقده؟» (مز ۸: ٥). أما أنا ، «فأدخل بيتك كما يدخلُ حَجَرٌ في بناء. فما هو بيت الله؟ إنه هيكله الذي قيل فيه: «هيكل الله مقدَّس، وهذا الهيكل هو أنتم» (۱ كو ۱۷:۳) وحجر الزاوية في هذا البناء هو ذلك الإنسان الذي تمنطق بقوة الله وحكمته الأزلية. 

۹ – «وأسجد بخشية قرب هيكل قدسِك» (٥: ٨). قال النبي : قرب هيكل قدسك، لا في هيكل قُدسِك أدخل وأعبدك، بل قرب هيكل قدسك أسجد» هذه الحال ليست حال الكاملين، بل حال الذين يتوقون إلى الكمال الكاملون يقولون : «أدخُلُ بيتك». وقبل الوصول إلى البيت، ينبغي أن نقول أوّلا : سأعبدك قرب هيكل قُدسِك». لعله لهذا يقول، كنوع من التحصن لمن يبغي الخلاص : «أسجد بخشية». وحين يتسنّى لكلّ إنسان أن يسجد بخشية في هيكل قدس الله، تتم كلمة الإنجيلي : المحبّة الكاملة تُقصي كلّ مخافة» (١يو ٤: ١٨)، ولا نخشى بعد شيئًا في حضرة الصدّيق الذي يُملكُنا المواعيد ويقول لنا : «لا أدعوكم بعد الآن خدّاما، بل أحبّاء» (يو ١٥: ١٥). 

۱۰ – يا ربّ، أرشدني في بِرِّك لأجل مُضايقي» (٥: ٩). يكشف لنا أنه ينطلق في الطريق، ويتوجّه نحو الكمال، لكنه لم يبلغه بعد، من حيث أنه يسأل الله أن يُرشده فيه. أرشدني في برك»، لا كما يبدو في عيون الناس الذين يتصوّرون أنّ البِرَّ في ردّ الشرّ بالشر؛ فليس هذا برّ الذي قيل عنه : «إنّه يُشرق شمسَه على الأخيار والأشرار» (مت ٥: ٤٥)، لأنّ الله يُجازي الأشرار من دون أن يُنزل بهم القصاصات، فيتركهم في مكرهم. يقول النبي : “ها إنّه يتمخض بالإثم. حبل بالكرب  ليلد الجور. كرى بئرا وحفرها ، فسقط في الهوّة التي صنع . عليه سيرتد كربه وعلى رأسه سيسقط جوره” (مز ٧: ١٥-١٧). يُجازي الله البشر كما يُجازي القاضي منتهكي ،الشريعة لا بإنزال العقوبات بهم بنفسه، بل بدفعهم إلى القصاص الذي اختاروه هم بأنفسهم، فيكون لهم شر قصاص . لكن الإنسان الذي يردّ الشرَّ بالشر، إنّما يفعل ذلك بقصد سيء، فيغدو هو نفسُه شرِّيرًا، إذ يُريد معاقبة الأشرار.

۱۱ – “في حضورِك خُطَّ لي طريقًا قويما” (٥: ٩). واضح أنه يُسلّم إلى الله أمر الوقت الذي تستغرقه رحلته، وأنّ هذه الرحلة لا تسلك طريقا أرضيّة، بل طريق مشاعر القلب. «في حضورِك خُطَّ لي طريقا قويما»، أي في ذلك المكان السرّي الذي لا تبلغه أعين الناس الذين يجب ازدراء مدحهم ولومهم . فهم لا يملكون الحكم على ضمير الآخرين الذي هو الطريق القويم بنظر الله. ويُضيف النبي : «فإنّه لا صدق في أفواههم» (٥: ۱۰) ، ولا يمكن الوثوق في أحكامهم؛ لذلك يجب أن نركن إلى عمق ضميرنا، أمام الله. «قلوبهم مليئة فسادًا». كيف يكون الصدق في أفواههم، وقلوبهم مضللة بالخطيئة وبقصاص الخطيئة؟ من هنا صرخة النبي ليصرفهم عنها : المَ تُحبّون الباطل وتبتغون الكذب؟» (٤ : ٣) .

۱۲ – “أفواههم قبور مفتوحة” (٥: ١٠). بوسعنا أن نطبق هذا القول على الإسراف في الكلام، فهو لكثيرين حافز على الكذب والخداع. بحقِّ قال النبي : إنّ أفواههم قبورٌ مفتوحة، لأنّ شرَهَهم لا يرتوي، وتبقى أفواهم كالقبر المفتوح لاستقبال جثة. نستطيع أن نقول أيضًا إنّه عن طريق الكلام الكاذب والدغدغات الماكرة، يجذبون إليهم أناسًا يوقعونهم فى الخطيئة؛ وإدخالهم في هذه الطريق يعني افتراسهم .

لكن الإنسان الذي يبلغ هذا الحد يموت بالخطيئة؛ والذي أغواه يُدعى، بحقِّ، قبرا مفتوحًا ؛ إنّه مات بشكل من الأشكال، إذ لم تعد فيه حياة الحقيقة، ويستقبل في ذاته الموتى الذين قتلهم، بجرهم إليه عن طريق الكذب وقذارة القلب. وألسنتهم مليئة بالمكر»؛ يقصد النبي ألسنة الأشرار. شرّير هو لسان الشرير الذي ينطق بالسوء وبالخداع. لهؤلاء يقول الربّ : كيف تنطقون بالخير وأنتم أشرار؟».

۱۳ – «أللهم فاحكم عليهم ولتبد مخططاتهم» (٥: ١١). هذه بالأحرى نبوءة لا لعنة ؛ ولا يرغب النبي قط في أن يحلّ ذاك الإنتقام، لكنه يعلم ما سوف يحدث؛ وسوف يقع عليهم الإنتقام لا لأنّ النبي يرغب فيه، بل لأنّهم استحقوا أن يقع عليهم. كذلك عندما يقول: وليفرح جميع المعتصمين بك (٥: ١٢). يتنبأ النبي، ويرى ذاك الفرح المقبل. ويقول أيضًا : «أيقظ جبروتك وهلم لخلاصنا» (مز ۷۹: ۳)، لأنه يتنبأ بأن الربّ سيأتي على أن بوسعنا أن نرى في عبارة ولتبد مخططاتهم، صلاةً يرفعها النبي ، يسأل فيها أن تباد مخططات الأشرار، أو أن يكفّوا عن نسج مخططاتهم الشريرة. لكن كلمة: «أقصهم» تحول دون أن نفهمها على هذا النحو، من حيثُ أنّ الإقصاء الذي يصنعه الربّ، لا يُمكن إلا أن يكون قصاصا على فعل تحقق. وليس الإقصاء بلعنة، بل هو نبوءة تنذر بالويل الذي لا مناص من أن يقع فيه، حتما، أولئك الذين يُصرّون على الثبات في خطاياهم. فلتخزَ أفكارهم، وليسقطوا أمام شهادة ضمائرهم، في مؤامراتهم التي تتبادل التهم، كما قال الرسول : وتشهد لهم ضمائرهم وأفكارهم، فهي تارةً تشكوهم، وتارةً تُدافع عنهم ، يوم يطلع نهار دينونة الله العادلة» (راجع رو ٢: ١٥-١٦).

١٤ – “لكثرة معاصيهم أقصهم” أي إطرحهم بعيدا عنك، فكثرة معاصيهم تقتضي طرحهم في اللجج البعيدة. هكذا يُقصى الآثم عن الميراث الذي نمتلكه في معاينة الله ومعرفته؛ كما النور يقصي العين المريضة، وتتألّم لما يُفرح العين السليمة. هؤلاء، لن يقفوا، إذًا، في الغداة ولن يروا . وهذا الإقصاء قصاص يُقاس حجمه بحجم الفرح الذي قيل عنه : «أما أنا ففرحي أن أعتصم بالله» (مز ۷۲: ۲۸). والقصاص تقابله كلمة الإنجيل : “أدخل فرح إلهك” (مت ٢٥: ٢٢)، والقصاص نفسه توازيه الكلمة الثانية: «ألقوه في الظلمة البرانية» (مت ٢٥: ۳٠)

 ١٥ – “وأنت يا ربّ، وجدوك مُرَّا” (٥ : ١١). «أنا الخبز الحي النازل من السماء» (يو ٦: ٥١) ، قال الربّ ؛ وقال أيضًا : «إعملوا للقوت الذي لا يفنى (يو ٦: ٢٧)، وجاء في المزمور: «ذوقوا وانظروا ما أطيب الربّ (مز ۳۳: ۹) . الخطأة يجدون خبز الحقيقة مرا، ومن هنا حقدهم على الأفواه التي تنطق بالحق. وجدوا الربّ مرا، لأن الخطيئة أسقمتهم حتى بات لخبز الحقيقة الذي تستلذه النفوس القدوسة، مرارة في أفواههم لا تُطاق.

١٦ – «فليفرح المعتصمون بك الذين يعرفون أن يذوقوا الربّ ويجدوه طيبا . يكون فرحهم أبديًّا، وتسكن فيهم» (٥: ١٢). هذا الفرح الأبدي سيبدأ، إذًا، عندما يصير الأبرار هيكل الله، فيصير هو فرحهم ويسكن فيهم. ويبتهج بك الذين يُحبّون اسمك» (٥ : ١٢)، إذ يكون لهم أن يتمتعوا بغاية حبّهم. وبك يفوزون بالميراث، ويكونون بدورهم ميراثك، لأنك تسكن فيهم. ويُقصى عن هذا الفرح كلّ من اطرحهم الله آثامهم .

۱۷ – «”إنك أنت تُبارك البار” (٥: ١٣) . والبركة تكون بالإبتهاج بالرب الذي سيسكن فينا. ذاك هو المجد الذي يحفظه الله للأبرار. ولكي يُصبحوا أبرارا ، كان لا بدَّ من أن يُدعَوْا، لا لاستحقاقاتهم، بل بنعمة الله . “فجميعهم خطأة ويحتاجون نعمة الله ليتبرّروا” (رو ٣: ٢٣-٢٤)، «فالذين دعاهم برّرهم، والذي برّرهم مجدهم» (راجع رو ٨: ٣٠). وبما أنّ هذه الدعوة لا تأتي من استحقاقاتنا، بل من جود الله الرحيم، قال النبي : وعنايتك يا ربّ تُظللنا، ورضاك يكتنفنا مثل ترس» (۵ : ۱۳) . لأنّ عناية الربّ تسبق مشيئتنا . تلكم هي الأسلحة التي نقهر بها عدوّنا. والرسول يواجه العدوّ بالقول: «فمن يتهم مختاري الله؟ وأيضًا: «إذا كان الله معنا فمن علينا؟ لم يَضنَّ بابنه الوحيد فأسلمه إلى الموت من أجلنا» (رو ٨: ۳۱-۳۳). إذا كان المسيح شاء أن يموت لأجلنا ونحن أعداؤه، فما أحرانا ونحن مصالحون أن نخلص به من سخط الله (راجع رو  ٥: ٩-١٠). ذاك الترس المنيع الذي يصدّ العدو الذي يعمل على إغوائنا بدفعنا إلى مهالك التجربة واليأس من هو الخلاص .

١٨ – إذًا ، يبدأ المزمور أولا بصلاة، إنطلاقا من قوله: «لأقوالي أصخ أيها الربّ»، وصولاً إلى «يا ملكي وإلهي»؛ ويؤكد، ثانيا، أنّ الكنيسة تُدرك ما الذي يحول دونَها ورؤية الله، أو دون معرفتها بأنها استجيبت، إنطلاقًا من “سأدعوك يا ربّ، وفي الغداة ستسمع صوتي” وصولا إلى “سافك الدماء تمقته والماكر” ؛ وثالثًا، وانطلاقا من «وأنا بكثرة رحمتك»، وصولا إلى وبخشية أسجد قرب هيكل قدسك»، يوضح أن الكنيسة ترجو أن تُصبح يوما بيت الله، وأن تقترب منه بخشية في هذه الحياة، إلى أن تُقصي المحبّة الكاملة كل مخافة؛ ورابعا، إنطلاقا من «أرشدني يا ربّ في بِرِّك وصولا إلى «وألسنتهم مملوءة مكرًا»، يبيّن أنّ الكنيسة تتقدّم وتسير وسط العوائق، وتستنجد بذاك الداخل الذي لا تستشفّه عين البشر مخافة أن تُحوّلها ألسنة الأشرار عن الطريق القويم طريق الرّبّ. وخامسًا، وإبتداء من «أللهم فاحكم عليهم وانتهاء بنهاية المزمور تُنبئ الكنيسة بعقاب الأئمة، فور خلاص البار؛ وبمكافأة ذلك البار الذي يكون قد استجاب دعوة الله واحتمل بشجاعة كلّ شيء في سبيل الوصول إلى الرّب.

 

  1.  في :الفولغاتا in finem pro ea quae hereditatem consequitur psalmus David أي للغاية إلى التي فازت بالميراث مزمور لداود. وبالمعنى نفسه في السبعينية. وفي العبرية أي: لإمام المغنين، على المزمار، مزمور لداود.  مزمار أو ناي، أو أي آلة موسيقية للنفخ من الجذر = نفخ بالمزمار). أما الفولغاتا والسبعينية فاعتبرتا أن الكلمة بمعنى ورث وامتلك .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى