تفسير سفر الرؤيا اصحاح 12 لابن كاتب قيصر
الأصحاح الثاني عشر
(1) وهوذا علامة عظيمة ظهرت فوق في السماء امرأة ملتحفة بالشمس والقمر تحت رجليها وعلى رأسها إكليل من اثنى عشر كوكبا (2) وهي حبلى تصرخ وتطلق وتتوجع لتلد (3) وعلامة أخرى أيضا ظهرت في السماء هوذا تنين بلون النار عظيم جدا وله سبع رؤوس وعشرة قرون وسبعة أكاليل على رؤوسه (4) فجر ذنبه ثلث نجوم السماء وطرحهم على الأرض والتنين وقف أمام المرأة التي تلد حتى إذا ولدت الولد يبتلعه (5) فولدت الابن الذكر هذا هو الذي يرعى الأمم بقضيب من حديد فاختطف الولد إلى الله وإلى عرشه (6) والمرأة هربت إلى البرية إلى الموضع الذي أعده لها الله كى تربى هناك ألفا ومائتين وستين يوما.
قوله : « وهوذا علامة عظيمة ظهرت فوق في السماء امرأة ملتحفة بالشمس والقمر تحت رجليها وعلى رأسها إكليل من اثنى عشر كوكبا » ومعلوم أن هذا إدراك عقلي نبوى لا مشاهدة بالبصر ، وإلا لامتنع إدراكه بأن الشمس هي رداء هذه المرأة . وذكره علامة تدل على أن القول ليس على ظاهره ، بل هو رمز ، والرمز علامة للمرموز عليه ، وعظم هذه العلامة هو في مقدار هيئتها المدركة . أما المرأة فقد ذهب مفسر إلى أنها على ظاهرها والمراد بها السيدة مريم الطاهرة ، وذلك مشكل من عدة وجوه ، ، أولها : لو كان كذلك لكان بقية المثل على ظاهره وهو مستحيل بالبديهة . وثانيها : أن السيدة العذراء لم تهرب إلى البرية ألفا ومائتين وستين يوما ، وإنما هربت إلى مصر بولدها مع يوسف خطيبها عندما طلب هيرودس الطفل يسوع، وأقامـوا بمصر سنتين[1] ، ثم عادوا إلى أرض إسرائيل وثالثها : أن السيدة العذراء لم تعط جناحی نسر كما جاء في الفص الحادي والستين ورابعها : أن السيدة العذراء لم يجر نهر ماء خلفها وابتلعته الأرض كما جاء في الفص 61 وخامسها : أنه ليس للسيدة العذراء زرع آخر كما قال أيضا في الفص 61 ، فقد بان أن القول ليس على ظاهره.
وذهب إيبوليطس الأسقف في تفسيره لهذا الفص إلى أن المرأة رمز على الكنيسة ، وأن الشمس التي التحقت بها رمز على سيدنا المسيح لأنه سمى شمس البر ، وأن القمر الذي تحت رجليها رمز على يوحنا المعمدان وأن الإكليل الذي على رأسها من اثني عشر كوكبا رمز على الرسل الاثنى عشر وهو تفسير قريب من المقصود ، لكن لفظة الكنيسة مشتركة يراد بها تارة البناء المعد للصلوات والقداسات ، ويراد بها تارة أخرى الجماعة التي هي جماعة المؤمنين . فإن كان مراده بالكنيسة البناء، فهو مردود بقوله إنها حبلى وإنها تلد ، وكذا بقوله إنها هربت إلى البرية ، وغير ذلك من الأقوال مما لا يمكن أن يقال عن الجماد وإن كان مراده بالكنيسة الجماعة ، فهو مشكل آخر ، إذ يقول إنها حبلى وإنها ولدت الابن الذكر الذي يرعى الأمم بقضيب من حديد . فإن الجماعة لا يصدر عنها مثل هذا الفعل سواء من حيث هي جماعة ، أو باعتبار كل فرد منها ، إذ أنه فعل مختص بمفرد مؤنث ؛ وكل ذلك ظاهر الاستحالة باعتبار الحقيقة وباعتبار المجاز . أما الحقيقة فظاهر . وأما المجاز فلأن المولود منها لا يحتمل التأويل إنه غير السيد المسيح ، وكيف يقتضى التأويل جعل يوحنا المعمدان تحت الرجلين ؟ فهذا ما اقتضاه تتبع النظر ، وإن كان خطأ ، فلتقصير البشرية . والذي يمكن أن يقال في ذلك إن المرأة رمز على المعمودية التي صرحت الشريعة بميلاد المؤمنين منها ، ونطقت أيضا بأن سيدنا المسيح اعتمد . فهي بهذا الاعتبار، وجميع المؤمنين مولودون منها ، وليس معنى هذا العماد أن سيدنا المسيح الابن الأزلي حصل على موهبة البنوة عند معموديته كبقية المؤمنين ، بل المراد أن هذه البنوة لم يكشف سرها إلا عند معموديته ، حيث حل الروح ، وجاء صوت من السماء قائلا : «هذا هو إبنى الحبيب الذي به سررت ». وأما التحافها بالشمس ، فالرمز بالشمس على الشريعة الحديثة شريعة الفضل ، كما يقول داود «إن وصاياك نور » وأما القمر الذي تحت رجليها فيرمز به على شريعة العدل التي صارت بالنظر إلى الحديثة كالثوب البالي الخليع الملقي . فإن كانت شريعة عظيمة في نفسها لكنها أبطلت بالنسبة إلى الحديثة ، وقد أغنانا بولس الرسول بما بسطه من القول فيها وأما الإكليل الذي على رأسها من اثنى عشر كوكبا فهو كما قال إيبوليطس إنه رمز على الرسل الاثنى عشر ، لأنهم القائمون بالدعوة المسيحية المبتدئون بها ، كما أن التاج مبتدأ الرأس.
قوله : « وهي حبلى تصرخ وتطلق وتتوجع لتلد » ، إن المعمودية صفة تعم الموصوفين بها وتشملهم ، وهي قائمة فوصفها لاحق بهم والحبلى رمز على ما اشتملت عليه من شوق خدامها . والصراخ رمز على إذاعة الدعوة وتعليم الكرازة . أما الطلق والتوجع فرمز للجهاد والاجتهاد الذي كان من خدامها ، ومقاساة الأوجاع والآلام والرباطات والقتل إلى أن دخل المؤمنون في الإيمان.
قوله : « وعلامة أخرى أيضا ظهرت في السماء هوذا تنين بلون النار عظيم جدا وله سبع رؤوس وعشرة قرون وسبعة أكاليل على رؤوسه» ، العلامة قد تقدم تفسيرها إنها دليل على أن القول مرموز به . وقد ذكر في هذا الفص بأن التنين العظيم هو إبليس المضل للعالم كله ، وكونه بلون النار إنه لون قد يدل على الشر والغضب والحقد وأمثال ذلك . ومعلوم أن الرؤوس والقرون رمز بها على الملوك والممالك ، وقد بين هذا دانيال في رؤياه وسيصرح به الملاك في الفص السابع والثمانين من هذه الرؤيا ولما كانت الرؤوس هي الحاملة للقرون ، صارت كأنها الأصول ، والقرون فروعها ، وعنى أن الملك الذي تقدمه ملك قبله قد مهد له الملك كالفرع لذلك الأصل . فلهذا حسن أن يرمز بالرؤوس السبعة على سبعة ملوك متقدمين وبالقرون العشرة على عشرة ملوك يتلونهم كالفروع لهم . وأما التيجان السبعة التي على الرؤوس فرمز على مزية الرؤوس وتمييزها على الملوك التالين لها . لكن هؤلاء الملوك والممالك لابد من تخصيصهم بحيث يكون بينهم وبين المثل مناسبة مطابقة ، ليصح أن يكون المثل لممثول ولا يتعلق بما اتفق من أن الملوك والممالك إذا وجدنا عددا يوافق هذا العدد ، أعنى السبعة والعشرة ، أو صادفنا وفاقا في حال ما.
قال إيبوليطس لما فهم أن رؤوس هذا التنين وقرونه ملوك ، إنهم من أتباع الشيطان وعباده ، أن السبعة رؤوس هي سبعة ملوك : أولهم بختنصر الكلداني ، وتاداريوس الماهي ، ودارا الفارسي ، والإسكندر اليوناني ، وعد خدام الإسكندر الأربعة مملكة واحدة ، ومملكة الروم ، وسابعهم مملكة الدجال وقال عن العشرة القرون بأنها عشرة الملوك الذين يهلكون مع الدجال ، وأما التيجان فلم يتعرض لتفسيرها ولم يراع ، لما ذكر الملوك السبعة ، إنهم لا يناسبون هذه القصة ، ولا أن للملوك العشرة رمز يخصهم . ولأن النبوة تبطل بذكر من مضى من هؤلاء الملوك الذين أمرهم معروف وقد سودت بها التواريخ ، ولأنه لا فائدة في ذكر الرؤيا لهم هنا ، وذلك لثلاثة أمور
أولها : مجرى الحال ، وذلك بأن نستقرئ الملوك الذين قصدوا معاندة الملة المسيحية ، فإن الشيطان هو الموعز لهم الموسوس لكل منهم باعتماده حسبما سطر في آخر قوانين الرسل وأتباعهم ، حيث جاء : « ولما فرغ الحواريون من وضع هذه السنن والشرائع على ما ألهمهم روح القدس ومتلاأت الأرض من المؤمنين ، الرؤساء والمرؤوسين ، أغرى الشيطان في ذلك الوقت الملوك بهم وحرضهم بالحنق أن يغصبوهم على عبادة الأوثان ، فأسرعوا – الملوك – في تعذيبهم وعقابهم وسبيهم وقتلهم ، فلم يشتغلوا بما كانوا فيه من الضيق والشدة والقهر بوضه سنن أخرى» . والمدة من أيام تلاميذ السيد المسيح وأسلافهم إلى قرب ملك قسطنطين الكبير المؤمن بالمسيح هي زهاء ثلاثمائة وست وخمسين سنة شمسية.
وثانيها : الوقت ، وهو أن نستقبل بالمدة الصعود المعظم لأنه الوقت الذي ذكر أن الولد اختطف إلى الله وإلى عرشه.
وثالثها : أن يحفظ العدد المذكور.
فإذا اعتمدنا هذا الاعتماد وصح المقصد ، وفينا بإظهار النبوة .
والصعود المعظم كان بعد انبعاث سيدنا من بين الأموات بأربعين يوما. وذلك يوم الخميس الحادي والعشرين من شهر أيار (مايو) في السنة الثامنة عشرة من ملك طيباريوس قيصر ابن أغسطس ، وكان قد صار للعالم خمسة آلاف وخمسمائة وثلاثة وثلاثون سنة وستة أشهر وثمانية عشر يوما على سياقة سعيد ابن بطريق.
وأما الملوك السبعة المرموز عنهم برؤوس التنين ، فأولهم : نيرون الذي أهاج على النصاري الشر والبلاء والعذاب ، وقتل بطرس وبولس برومية ومرقس بالإسكندرية وحرق جسده بالنار . وهو الذي وجه أسباسيانوس فخرب مدائن اليهود وقتلهم وحاصر مدينة القدس فعجز عنها . وثانيهم : أسباسيانوس المذكور الذي ملك بعد نيرون وعمل مصائب عظيمة . وثالثهم : تيطس ولده الذي حاصر القدس سنتين فمات كل من فيها جوعا حتى أكلوا الميتة ولحوم أولادهم وأكلت النساء مشائمهم ، بل إن جنود تيطس كانوا يشقون بطون الحوامل ويضربون بأطفالهن الصخور . ولقد خرب تيطس المدينة والهيكل وأحرقهما . ورابعهم : دومتيانوس ، وكان شديدا على اليهود فلم يظهر في أيامه يهودي ، وقتل الملوك وأولادهم حتى لا يكون غيره ، كما أمر بقتل النصاري لقولهم أن المسيح ملكهم ، وأمر أن لا يقيم في مملكته نصرانی وخامسهم : طارايانوس ، وهو أندريانوس الذي أثار على النصارى بلاء عظيما ، وقتل شهداء كثيرين منهم أغناطيوس بطريرك أنطاكية برومية ثم قتل سمعان بن اكلأوبا أسقف بيت المقدس مصلوبا ، وأمر باستعباد النصارى ورجمهم بالحجارة . وفي أيامه كتب يوحنا الرسول هذه الرؤيا المعروفة بالأبولمسيس.
فإن قيل أن أولئك الملوك الخمسة مضوا قبل كتابة الرؤيا ، وقد قلت أم ذكر الملوك السالفين ليس نبوة ، فالجواب : إن الرؤيا إنما اعتبرت المثل من أوله إلى آخره ، فدخل هؤلاء في الجملة ، والمعلوم عنهم كفرهم فقط وسادسهم : إيليا أندريانوس الذي جاء إلى مصر فلقى أهلها منه شدة عظيمة ، لأنه دعاهم إلى السجود للأصنام وقتل من النصارى خلقا لا تحصى. وقتل اصطاتيوس وامرأته وابنه بأن سلقهم ، وأعاد تخريب مدينة بيت المقدس وقتل جميع سكانها . وسابعهم : الدجا ، وستأتي له فصوص تخصه.
وأما الملوك العشرة المرموز عليهم بقرون التنين ، فأولهم : مرقس أورسليوس قيصر الذي أثار على النصارى بلاء عظيما حتى استشهد كثيرون وكان في أيامه قحط وجوع ووباء لأن السماء لم تمطر سنتين ، فكاد الناس يهلكون من الجوع والوباء . فسألوا النصارى أن يصلوا ، فلما صلوا أمطرت السماء مدرارا وارتفع الوباء وثانيهم : ساويرس ، وقد أثار على النصارى شدة عظيمة واستشهد في أيامه خلق كثير خاصة حين جاء إلى مصر وقتل من أهلها وأهل الإسكندرية عددا كبيرا ، كما هدم الكنائس وخرب الصوامع . وثالثهم : مكسيمانوس الذي أثار على النصارى شدة شديدة وقتل منهم خلقا كثيرا بسبب امتناعهم عن عبادة آلهته ، كما قتل العديد من الأساقفة والبطاركة ورابعهم : داكيوس ، فقتل من النصارى ما لا يحصى واستشهد في أيامه خلقا لا تعد ، وقتل بلانيوس بابا رومية ، وقتل خلقا أفسس وصلبهم على حصنها ، وفي أيامه كان أهل الكهف السبعة . وخامسهم : غلينوس ألاريانوس ، وقد قتل خلقا كثيرا منهم قزمان الشهيد وكان هذا الملك شريرا على النصارى وسادسهم : مرقس أوريليوس قيصر الذي قتـل شهداء لا يحصى عددهم وسابعهم : فالريوس ، وكان شديدا على النصارى ، ومن جملة قتلاه قزمان ودميان الشهيدان وثامنهم : ديقلاديانوس ، وقد أثار على النصارى بلاء لا يوصـف وشدة لا تدرك ، ولا تعرف أعداد من قتلهم واستباح أموالهم ، فلقد استشهد في عهده ألوف وربوات ، منهم مار جرجس وسرجيوس وواخس ومينا وبقطر وبوماخس ومرقوريوس والبابا بطرس الأول بابا الإسكندرية وغيرهم.
وتاسعهم : مكسيميانوس الكرديوس ، وهذا أقام على النصارى بلاء عظيما إجلاء ونهبا وقتلا أشد ممن سلفوه. وعاشرهم : مكسيميانوس غلاريوس الذي أقام على النصارى شدائد من القتل والنهب ، وكان شريكه في الملك مقسیطيوس ابن الكرديوس ولما مرض هذا الملك وتقطع لحمه ، فاستشفع بأن يصلى عليه النصارى وأطلقهم من معتقلهم ، فصلوا من أجله فشفى ولكنه عاد وكتب إلى الأقطار أن لا يحيا أحد منهم ، ولا يسكنوا مدينة أو قرية ، فكان أن قتل رجالا ونساء لا يحصى عددهم إذ كانوا يحملون على العجل ويرمون في البحر.
هؤلاء هم الملوك الذين تجردوا لمعاندة المسيحية ، وتعذيب أهلها وسبيهم ونهبهم وعقابهم وقتلهم.
لكن برأفة من الله تعالى ولطف من سياسته العالية ، كان يتخلل مدد هؤلاء الملوك ملوك أخر ، ألهاهم شأنهم عن الاضطهاد . فوجد المؤمنون بذلك راحة قليلة وحل الخناق حينا ما . ولولا ذلك لانقطعت هذه الديانة بالكلية وذهب الحرث والنسل ولا خلص منها ذو جسد .
ويمكن تقسيم هؤلاء الملوك إلى ثلاث طوائف :
طائفة لم تطل مدة ملكها ، وأكثرهم مدة من أقام سنة واحدة ، وهم عشرة ملوك :
علياس أقام سبعة أشهر ومات ، أولون ثلاثة أشهر ، بيطاليين ثمانية أشهر ، باباوس سنة واحدة يوطسفوس ثلاثة أشهر ، یولیانوس شهرین مقرنيوس سنة واحدة بورنيوس ثلاثة أشهر ، قلوديوس سنة واحدة ، طانيوس ستة أشهر.
وطائفة ثانية شغل كل ملك منها بمحاربة من يثور من الأطراف أو بوباء عظيم أو بتدبير مملكته هذا الأمر ، وهم ثمانية ملوك :
قلوديوس وفي أيامه حدثت مجاعة عظيمة في العالم كله أنطونيوس شغل بتدبير مملكته ، نمودس بن مرقس قیصر شغل بحروب الفرس ، وفي أيامه قامت مملكتهم الثانية ، أنطونيوس قيصر الأضلع شغل بتدبير ملكه . أنطونيوس ، الإسكندر ماما ، غرديانوس شغل بحروب في أيامه .بروسيز وشغل أيضا بحروب في أيامه.
والطائفة الثالثة ملكان آمنا بالسيد المسيح ولم يعلنا إيمانهما في دولتهما ، وهما فيلبس وغاليوس ألاريانوس
ولما انقضت دولة القرن العاشر حينئذ ملك الملك العظيم قسطنطين الكبير المؤمن هو ودولته كلها ظاهرا.
ولنعد إلى حل رموز بقية الفص ، فقوله عن التنين : « فجر ذنبه ثلث نجوم السماء وطرحهم على الأرض» ، الذئب رمز على الرأى والاختيار ، لأن الرأي لاحق بصاحبه لحوق الذئب لصاحبه ، والهاء من ذنبه عائدة على التنين ونجوم السماء رمز به هنا على ملائكته لما بينها وبين النجوم من المشابهة في الرفعة والنور قبل سقوطهم . ويريد بثلثهم مقدار ثلث طغمة الملائكة ، لأنه من مقدمي الطغمة المذكورة ، فسقط معه من تابع رأيه ، وطرحهم على الأرض إشارة إلى سقوطهم إلى الأسافل من العلو ، وهذه ثالث سقطة للشيطان وجنوده . وسنوضح ذلك في الفص الآتي.
قوله : « والتنين وقف أمام المرأة التي تلد حتى إذا ولدت الولد يبتلعه» ، قد عرفت أن الرمز بالتنين على الشيطان وبالمرأة على المعمودية ووقوف التنين رمز على مراصدة سيد الكل حال عماده والابتلاع رمز على الشهوات البدنية التي بها جرب الشيطان سيد الكل بعد المعمودية من يوحنا وإنما أخر الشيطان المجاهرة بجهاده إلى هذا الوقت لسببين ، أحدهما : إنه لم يقو في ظنه أن سيدنا المسيح هو بهذا الشأن العظيم ، وما توهم أنه لا يقهره أو يفوته إيقاعه في سقطة ما والثاني : إنه انتظر له حتى وصل إلى سن الشبيبة التي تقوى فيها الغيرة والشهوة وهي ثلاثون سنة ، فلذلك تعينت المجاهدة والتجربة في هذا الوقت.
قوله : « فولدت الابن الذكر هذا هو الذي يرعى الأمم بقضيب من حديد » ، ولادة المرأة الابن الذكر رمز على قبوله المعمودية من يوحنا بن زكريا والإشارة بالرعاية إلى الملك ، ولذلك كان بقضيب من حديد ، لأن المراد به السيف والرمز به على التسلط الآلى والملك القهرى . وقد صرح بذلك داود النبي في المزمور الثاني ، فقال : «أنت ابني وأنا اليوم ولدتك سلني فأعطيك الشعوب ميراثك وسلطانك إلى أقطار الأرض فترعاهم بقضيب من حديد ومثل آنية الفخار تسحقهم ».
قوله : « فاختطف الولد إلى الله وإلى عرشه » الاختطاف رمز على الصعود المعظم ولم يرد إنه احتطف عند ولادته من المعمودية ، بل بين الولادة والاختطاف [الصعود مدة مقدارها ثلاث سنين وثلاثة أشهر ، وهذه عادة الكتاب الإلهي أن يذكر الفعلين ويترك المدة بينهما ، فإن التوراة تقول : « وغرس نوح كرما وشرب من شرابه وسكر »، وبين الغرس والسكر أقل ما يمكن ثلاث سنين وكسر.
قوله : « والمرأة هربت إلى البرية» رمز بهرب المرأة إلى هرب أبنائها كما قررناه في تفسير حبلها وطلقها . ولم يرد أيضا أن ساعة الاختطاف هي ساعة هرب المرأة إلى البرية ، فإن بينهما زهاء ألف وتسعمائة وثلاث وستين سنة شمسية ، لأن الاختطاف هو عند الصعود والهرب في الدولة الدجالية ، ونظير هذا قول الإنجيل في بشارة متى : « وسيقوم مسحاء كذبة أنبياء كذبة »
فبعض هؤلاء المسحاء والأنبياء الكذبة في أوائل البشرى ، كما أخبر بذلك الرسل في كتبهم ورسائلهم ، وآخرهم الدجال والوحش البري الذي بين يديه ، وبين هاتين المدتين ألفان وأربعمائة سنة شمسية وكسور كما نظن ، فإن تحقيق الأزمنة خفى عن البشر ، وكقوله أيضا : « وللوقت بعد ضيق الأيام الشمس تظلم والقمر أيضا لا يعطى ضوءه » . فإن كان هذا الضيق هو الاضطهاد الذي في الدولة الدجالية ، فبينه وبين إظلام الشمس في القيامة العامة ألف سنة، وإن كان المراد به خراب أورشليم فالمدة أعظم.
قوله : «إلى الموضع الذي أعده لها الله كى تربى هناك ألفا ومائتين وستين يوما » ، هذا الموضع المعد يشير به إلى الأماكن التي يرشد الله الأبرار إلى قصدها في البراري والقفار والجبال والمغاير ، ليختفوا فيها عند طلب الدجال لهم وبحثه عنهم ليهلكهم بإيعاز من الشيطان . وإنما خص هذه الأماكن ليشعرنا بأنها تخفى عن الشيطان والدجال والأعوان الطالبين الأبرار. ویرید بالتربية الإقامة هناك مدة الدولة المظلمة ، وهي ثلاث سنين ونصف ونصف شهر ، وهذا معنى قوله : « ألفا ومائتين وستين يوما».
الفصل الثاني عشر
59- (7) وكانت حرب عظيمة في السماء ميخائيل وملائكته يحاربون قبالة التنين والتنين وملائكته كان يحارب قبالتهم (8) فلم يستطع أن يقاتلهم ويحارب معهم ولم يتركوا موضعا بعد في السماء (9) فطرحوا التنين الثعبان العظيم الأول الذي يدعى الشيطان إبليس المضل للعالم كله أسقطوه أسفل الأرض وأسقطوا ملائكته معه
هذا أول القسم الحادي عشر في سقوط التنين وقصته مع المرأة.
قوله : « وكانت حرب عظيمة في السماء» هذه الحرب روحانية لا جسمانية ، فتعائد القوى الروحانية من الفئتين المتحاربتين مفهوم ، ولا تظن أن الحرب لا تكون إلا في الجسمانيين ، فإن الأفعال في الحقيقة تصدر عن القوى ، والأجسام كالآلات لها وقوى المجردين عظيمة جدا لا نسبة لقوى البشر إليها ، ولهذا تكون تلك الحرب عظيمة ، إلا أنها ليست بسلاح ولا فيها مابقی کالدروع والجواشن والأسلحة البيض) وما يشبه ذلك ، فإن هذه تختص بالأجسام ، فأما تلك فقوى تعاند قوى ، والأقوى منها تقهر الأضعف.
وأما كون هذه الحرب العظيمة في السماء فدليل على أن الشيطان وجنده يحرصون على ألا يفارقوا التردد إلى السماء فعندما يؤمر ميخائيل رئيس الملائكة ومن معه أن يدفعوهم من هناك ، فإنهم يسقطون سقوطا لا يعاودون معه القرب منها فضلا عن التردد إليها ، وهذا معنى قوله : «ميخائيل وملائكته يحاربون قبالة التنين والتنين وملائكته كان يحارب قبالتهم» ، فقد صرح بمجاهرة الشيطان للقتال ومناصبته للحرب دون هبوطه من السماء.
قوله : «فلم يستطع أن يقاتلهم» ، لم يرد به عدم القتال ، بدليل أنه قد تقدم ما دل على قتاله ومناصبته، وإنما أراد أنه قاتل ومن معه ولكنهم لم يقووا على الثبوت أمام ميخائيل وملائكته لكونهم من طغمة أعلى وقوتها أشد من قوة إبليس وملائكته ، فلهذا لم يستطيعوا الثبوت للمقابلة والمقاتلة
قوله : «ولم يتركوا موضعا بعد في السماء» ، هذه هي السقطة الثالثة للشيطان على نحو ما تبين في الفص السابق وبحسب ما دلت به نصوص الكتب الإلهية . وقد اضطرب كثير من العلماء الباحثين حول هذا الموضع ، إذ لم يخطر لهم إنه سقط سوى مرة واحدة ، ثم حملوا بقية النصوص عليها ، فخرجت النصوص عن معانيها وزاغت عن مقصودها . ونحن نفصل ذلك ونبينه بالأدلة ، فنقول إن :
السقطة الأولى : هي سقوطهم من الرتبة الملائكية ومن الإقامة في السماء ، والدليل على هذين المعنيين كليهما قول يهوذا الرسول في رسالته : « إن الله ألقى الملائكة الذين لم يحفظوا رئاستهم بل تركوا مراتبهم في الظلمة القصوى » ، فالإلقاء ء معناه السقوط ، وكونهم في الظلمة القصوى يدل على عدم الإقامة في السماء . لكن الشيطان وجنوده لم يمنعوا من التردد على السماء ، ولا منع الشيطان من الوقوف أمام العظمة ، بدليل ما تضمنه سفر أيوب الصديق ونبوة زكريا ، أما سفر أيوب فقال : « وفي يوم من بعض الأيام صعدت ملائكة الله للقيام أمام الله وإذا الشيطان معهم». وأما زكريا فقال : « وأراني يهوشع الكاهن العظيم وهو قائم قدام ملاك الرب والشيطان قائم عن يمينه يريد أن يضربه فقال ملاك الرب للشيطان يزجرك الرب منتخب أورشليم هذا العود المنتشل الذي نجا من النار». فهذان تصریحان بصعود الشيطان وبوقوفه أمام العظمة وإذ لم يمنع من التردد على السماء ، لم تمنع ملائكته لأنه بالمنع أولى منهم .
والسقطة الثانية : عندما أرسل سيدنا يسوع المسيح المسيح له المجد تلاميذه السبعين وأعطاهم سلطانا على الأرواح النجسة ، ثم عادوا وأخبروه بطاعة الأرواح وخضوعها لهم فقال : «إني رأيت الشيطان قد سقط من السماء كالبرق » وليس المراد بذلك أن الشيطان قد سقط من السماء ، بل البرق المشبه به هو السماء ، حتى يكون تقدير القول أن الشيطان سقط كسقوط البرق الذي يسقط من السماء ، وأما وجه الشبه فهو السرعة في السقوط ، لأن بعض النصوص تشهد بعد ذلك بأن الشيطان وأعوانه مترددون على السماء ، ففهمنا منها أن هذا هو السقوط الثاني ، ذلك أنه لما وقف أمام العظمة قبالة الملائكة ضعف ووهن فسقط كالبرق في سرعته.
والسقطة الثالثة من تردده وملائكته على السماء : فهي قبل الدولة الدجالية ، كما يخبرنا بذلك هذا الفص الذي نحن في تفسيره من هذه الرؤيا وهو قوله : « ولم يتركوا موضعا بعد في السماء» ، وفيه دليل على أنهم كانوا قبل ذلك مترددين على السماء . فإن ادعى مدع أن ذلك إخبارا بسقطته الأولى ، فهو مردود بدليلين ، أحدهما : ما يلى هذا القول ، وهو قوله في الفص الحادي والستين : «فلما رأى التنين أنه قد طرح إلى الأرض أسرع خلف المرأة التي ولدت الابن الذكر فأعطيت جناحان عظيمان مثل جناحی نسر لتمضى إلى البرية إلى الموضع الذي تربى فيه زمانا وزمانين ونصف زمان» ، وهذا تصريح بوقت هذا السقوط إنه قرب الدولة الدجالية ، وأن هرب أولاد المرأة الدجال كان خلال مدة دولته المذكورة . والدليل الآخر : أن هذه نبوة على ما سيكون قبل كونه ، فلو كان إخبارا بماض بطلت النبوة وسقطت الفائدة أيضا ، لأن الإعلام بمعلوم تحصيل الحاصل وهو محال.
قوله : «فطرحوا التنين الثعبان العظيم الأول الذي يدعى الشيطان إبليس المضل للعالم كله أسقطوه أسفل الأرض وأسقطوا ملائكته معه» ، هذا هو الدليل الثاني على سقوطهم من السماء إلى أسفل الأرض . وأما تسميته الشيطان تنينا وثعبانا ، فقد سماه باسم الوحش الذي نطق على لسانه أولا حين خدع حواء وآدم ، ، وذلك الوحش هو الثعبان والتنين بالحقيقة . وأما إطلاقه على الشيطان فباللغة الروحانية على سبيل المجاز التشبيهي وأطلق ذلك لخمسة أوجه ، أولها : خبث هذا الوحش ، لأن التوراة تقول : « وكان الثعبان أخبث من كل وحش الأرض» وثانيها : العداوة التي بين هذا الوحش وبين البشر كالعداوة التي بين الشيطان وبينهم ، فإن الله يقول في التوراة : «وأجعل العداوة بينك وبينها وبين نسلك وبينها » وثالثها : إن التنين قاتل بسمه ، كذلك الشيطان قاتل بفعله ، ولذلك قال عنه سيد الكل في بشارة يوحنا : «ذاك الذي لم يزل منذ البدء قتالا للناس». ورابعها : إن التنين مخوف بنفسه تنفر منه الطباع ، وكذلك الشيطان وخامسها : من رؤيا الرسول في الإصحاح الثاني عشر التنين الذي بلون النار المرموز به على الشيطان ؛ وأما إردافه بلفظة الثعبان بعد التنين ، وكذلك لفظة إبليس بعد الشيطان ، فذلك للتأكيد الذي يزول معه اللبس والشك والتأويل ، ثم وصفه مع ذلك بالفات الخاصة به لإزالة الريب في أنه المقصود بهذه الأسماء المترادفة والصفات المخصصة لا غيره ، وهي قوله : «العظيم الأول الذي يدعى الشيطان إبليس».
قوله : «المضل للعالم كله» ، وتعجب من قوله إنه مضل للعالم كله فهل أخنوخ الذي قيل عنه أن الله رفعه لبره وتقواه، ونوح الذي قال الله أنه صديق بار وملكي صادق كاهن الله العلى وإبراهيم صاحب المواعيد واسحق ، ويعقوب ، الذي نسب الله نفسه إليهم بقوله : «أنا إله إبراهيم وإله اسحق وإله يعقوب»، ثم أيوب الذي قال الله عنه إنه بار تقى خائف من الله معتزل للسيئات، وموسى الذي قال الله عنه أنه أخشع قلبا من كل من في الأرض ، وداود الذي قال الله عنه : «إنني رأيت قلب داود عبدی مثل قلبی » ، وصموئيل وشرفه، وإيليا وغيرته والذي رفع أيضا لصلاحه، وبقية الأنبياء والقديسين والأبرار الذين في العتيقة والحديثة فهل هؤلاء جميعهم يدخلون في هذا الضلال أو يستثنون منه ؟ والوصول إلى إجابة عن هذا السؤال صعب شديد ، تحتاج عناصره ومعاقده إلى تحليل ومجمله إلى تفصيل . وذلك أن الضلال يراد به هنا مطلق الخطأ ، والخطأ قد يكون في العلم ، وقد يكون في العمل ، وكل منهما قد يكون بالفكر ، وقد يكون بالفعل ، وكل من هذين قد يكون في الكبائر ، وقد يكون في الصغائر التي تسمى الهفوات . فهذه ثمانية أقسام ، وكل واحد من هذه الأقسام الثمانية بترك مأمور به أو ارتكاب منهى عنه ، فصارت الأقسام ستة عشر قسما . وكل من هذه إما أن تكون بينه وبين نفسه ، أو بينه وبين خالقه ، أو بينه وبين أبناء جنسه ؛ وبحسب ذلك تصير الأقسام ثمانية وأربعين قسما من أمهات مسائل الخطأ ، وتحتها أنواع كثيرة لا تكاد تنحصر وإذا عرفت هذا التفصيل ، فاعلم أن مذهب الإجماع من فرق النصرانية المؤتلفة والمختلفة قد أجمعوا على أن أحدا من البشر لم يخل من خطأ إما بالفكر وإما بالفعل خلا سيد الكل بناسوته ، فإنه لم يصدر عنه خطأ بالفكر ولا بالفعل ، وسائر الناس بعده متباينو الدرجات والمستويات في إتيان الصواب أو ارتكاب الخطأ . فمن غلب صوابه خطأه فهو من حيز الأخبار ، ومن غلب خطوه صوابه فهو من حيز الأشرار تكافأ صوابه وخطؤه فلله ترجيحه إلى الجانبين لأيهما شاء حيزه والرحمة أولى . أما الأخيار والأشرار فلهم طبقات ومنازل كما قال : « في بيت أبي منازل كثيرة». وحول هذه الأقسام توجد أسئلة ومشكلات تليق بكتاب غير هذا.
قوله : «أسقطوه أسفل الأرض وأسقطوا ملائكته معه» على ظاهره وفيه دليل على سقوطهم من السماء.
60- (10) وسمعت صوتا عظيما في السماء قائلا الآن صار الخلاص والقوة والمملكة لإلهنا والسلطان لمسيحه لأنه طرح المشتكى على إخوتنا على الأرض الذي ينم عليهم أمام الله النهار والليل (11) لأنهم غلبوه بدم الحمل وبدم شهادتهم لأنهم لم يحبوا أنفسهم إلى الموت (12) من أجل هذا افرحي أيتها السموات والويل للأرض والبحر لأن الشيطان نزل إليكما وبه غضب عظيم وهو يعلم أن الذي له زمانا قليلا.
هذا السماع إدراك عقلى كما تقدم مثله . وذهب إيبوليطس إلى أنه عن الملائكة ، ويجوز أن يكون عن نفوس الأبرار بدليل قوله إخوتنا والحمل على الحقيقة أولى من الحمل على المجاز . وعظم الصوت رمز على عظم الفرح بسقوط الشيطان وأعوانه.
قوله : «الآن صار الخلاص والقوة والمملكة لإلهنا والسلطان لمسيحه لأنه طرح المشتكى على إخوتنا على الأرض الذي ينم عليهم أمام الله النهار والليل» ، في هذا القول عدة مسائل :
المسألة الأولى : ما مفهوم هذا الخلاص ، وهل هو على ظاهره أم لا ؟ والجواب : إنه على ظاهره ، لأن معنى الخلاص لغة التنجية ؛ تقول خلصته كذا تخليصا أي نجيته . وقد جاء لفظ الخلاص في الكتب الإلهية على ثلاثة أضرب ، أولها : على ظاهره ، كما قال بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس : « وبنعمته خلصنا وأقامنا معه». والثاني : بمعنى موهبة النبوة ، كما قال بطرس في رسالته الأولى : «ذلك الخلاص الذي التمسته الأنبياء وفحصوا عنه لما تنبأوا بالنعمة التي تكون فيكم » والثالث : بمعنى الأبرار في الآخرة لقوله في الرسالة المذكورة : «أيها الذين هم بقوة الله وبالإيمان محفوظون للخلاص المعد ». والمراد في هذا الفص هو المعنى الأول الظاهر.
المسألة الثانية : من أي شيء صار هذا الخلاص ؟ والجواب : أن الشيء الذي صار منه الخلاص جاء في الكتب الإلهية على أربعة أنحاء النحو الأول : من الخطأ الذي تقدمت أقسامه ، وإليه أشار الملاك ليوسف بقوله : «وهو يخلص شعبه من خطاياهم». والنحو الثاني : من الفساد والدثور المقابل للبقاء ، وإليه أشار بولس الرسول في رسالته إلى العبرانيين بقوله : «ولكنه دخل نفسه بيت المقدس مرة واحدة ونال الخلاص الأبـدى ». والنحو الثالث : من الموت الطبيعي ، وإليه أشار بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس : «بالنعمة أنتم مخلصون وأقامنا معه وأجلسنا عنده في السماء». النحو الرابع : من عقوبة الأشرار في الآخرة ، وعنه ذكر بولس في الرسالة المذكورة : «هذا الذي نلنا الخلاص بدمه غفرانا لذنوبنا »
المسألة الثالثة : كيف جعـل إسقاط الشيطان عـلة لمصير الخلاص والقوة والمملكة لإلهنا ، وهل لم تكن له هذه من قبل ، بل كان بغير خلاص ولا قوة ولا مملكة ؟ تعالى الله عن ذلك علوا كثيرا . والجواب : إن كل من استعاد قوة كان أطلقها فقد صارت إليه وعادت له . ومن المعلوم أن تردد الشيطان على السماء وتمكنه من الشكوى نهارا وليلا على البشر إنما هما بإطلاق إلهي . ولا شك أن للشيطان بهاتين الحالتين ، وهما التردد والاستيلاء ، قوة وولاية ليستا له بذاته ، بل بإطلاق إلهي ، كما يشهد به سفر أيوب نصا بينا وعند سقطة الشيطان هذه ، سلب الله منه هذه القوة وهذا الاستيلاء . فإلى ذلك أشارت الرؤيا بأن القوة والمملكة صارتا لله ، ولم تعن أن هذه القوة هي القوة الإلهية الكلية ، ولا أن هذه المملكة المملكة الإلهية العظمى ، بل قوة واستعادة ما كان قد أطلقه الله للشيطان . وأما الخلاص الذي صار لإلهنا ، فهو خلاص البشر من نم الشيطان عليهم نهارا وليلا أمام الله ؛ أما ثمه على الأبرار فلكي يدخلهم الله في التجارب ليقنطوا، وأما الأشرار فبالتجاوز عن بعض أفعالهم معجلا ليكفروا . وقد تقدم في الفص السابع والخمسين عندما بوق الملاك السابع مثل هذه التسبحة ونظيرها ، فإن الإشارة في تلك إلى بطلان ممالك العالم وملوكها ، والإشارة هنا إلى بطلان تردد الشيطان على السماء وبطلان نميمته.
المسألة الرابعة : ما هو السلطان الذي صار لمسيحه الآن وهو القائل بعد قيامته من الأموات «أعطيت كل سلطان في السماء والأرض»؟ والجواب : أن هذا السلطان الذي صار لمسيحه الآن هو سلب القوة والاستيلاء اللذين كانا للشيطان كما تقدم بيانه . ولم يقصد هنا سلطان السموات والأرض المعطى للابن بما هو إنسان ، فاعلم ذلك.
المسألة الخامسة : لم يقبل الله تعالى نم الشيطان على البشر مع علمه بشر سريرته ؟ والذي يظهر من جواب هذه المسألة المستغلقة، هو ما أجاب به بولس في ذلك بقوله : «إذ لابد من البدع فيما بينكم ليظهر فيكم المزكون ». ولمعترض أن يقول : أنتم ادعيتم أن سقطة الشيطان الثانية إنما كانت من الوقوف أمام الله ، فكيف قال بعد ذلك هنا : ينم أمام الله النهار والليل ؟ فنجيبه بأن الجهات وهي الفوق والتحت واليمنة واليسرة والقدام والخلف والقرب والبعد والغيبة والحضور وما يجرى مجرى ذلك ، إنما يكون في الحقيقة لأجسام ، إذ كل ذلك من لوازم المكان الذي هو من لوازم الأجسام . أما المجردات تجريدا عن المادة فليس لها شيء من هذا . ولعل للمجردات معان خاصة نسبتها إليها نسبة المكان إلى الجسم ، ولذلك عبرت عنها الكتب بهذه التشبيهات المحسوسة ، ليتصور ما يفهم منها . وأما الفرق بين « أمام» الأولى التي سقط منها الشيطان ، وبين «أمام» الثانية التي أشير إليها هنا ، فهو كالفرق بين قول جبرائيل الملاك لزكريا الكاهن كم جاء في بشارة لوقا الرسول: «أنا هو غبريال الواقف أمام الله أرسلت لأخاطبك بهذا»، وما جاء في نفس البشارة عن زكريا المذكور «فبينما هو يكهن في أيام خدمته أمام الرب ». فإن «أمام» الأولى في السماء ، والثانية في الأرض . وتقدير قوله : «المشتكى على إخوتنا » ، أي النمام عليهم.
قوله : «لأنهم غلبوه بدم الحمل وبدم شهادتهم لأنهم لم يحبوا أنفسهم إلى الموت» ، إن الشهداء والأبرار غلبوا الشيطان خزاه الله . ومعنى هذا الغلب إنهم لا يطيعونه ، بل يصممون على معاندته ومعصيته والكفر به وبأعماله والصبر على التجارب والعقاب الشديد ، وبالجملة المثابرة إلى الموت . وإنما استمدوا هذه القوة من قوة سيد الكل الذي بدأ بفعل ذلك إلى أن أريق دمه الزكي وهو صابر صامت كالحمل أمام الجزار . والوجود شاهد بذلك ، فإن العتيقة كلها ظهر فيها أربعة شهداء جاهدووا على الإيمان ، هم : الفتية الثلاثة ودانيال النبي ، ولم يبلغوا إلى الموت ، بل أدركوا بالعناية الإلهية وخلصوا فهم بهذا الاعتبار في طبقة المعترفين لا الشهداء الذين كملت شهادتهم . فأما الحديثة ، فمنذ إيمان أهلها بسيد الكل ، فإن شهداءها المجاهدين على الإيمان به لم يحبوا أنفسهم أو يشفقوا عليها من الآلام ، بل جاهدوا حتى الدم ، وصابروا إلى الموت ، ألوف ألوف وربوات ربوات لا تعد ولا تحصى ، فهل هذا إلا لقوة جدد فيضها عليهم وسرت منه إليهم . فغلبتهم على الشيطان بدم الحمل هي باستفادة القوة منه من الحمل والاقتداء به . وغلبتهم عليه بدم شهادتهم لأنهم لم يطيعوه الشيطان) إلى أن أريقت دماؤهم ، شهادة لهم بقهره ، وإنهم لم يقهروا له ، وشهادة لهم عند الله بجهادهم على الإيمان به وحفظ وصاياه قوله : «من أجل هذا افرحي أيتها السموات والويل للأرض والبحر لأن الشيطان نزل إليكما وبه غضب عظيم وهو يعلم أن له زمانا قليلا» ، ليست السموات على مذهب الشرعيين ممن تعقل فتفرح ، كما أن الأرض والبحر ليسا ممن يعقل فيحزن ولذلك كان المراد أهل السماء ، وأهل الأرض ، وأهل جزائر البحر والسالكين فيه ، على طريق حذف المضاف للعلم به ، كما قال : «يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها»، وإنما أراد أهل أورشليم قتلة الأنبياء وراجمى المرسلين . وفرح أهل السموات هو من أجل سقوط الشيطان عنهم ، وأعطى والويل لأهل الأرض والبحر لنزول الشيطان إليهم ، وقد تقدم تفسير الويل في الفص الثالث والأربعين . وعظم غضب الشيطان هو لأجل إسقاطه ، وقد كان مساق القول يقتضى أن يقول : والويل للأرض والبحر لأن الشيطان نزل إليهما . فعدل إلى توجيه الخطاب بالكاف فقال إليكما للعناية وتخصيص الإشارة بضمير الحاضر فإنه أعرف من غيره وأرفع للاشتباه والريبة وأبلغ في العبارة . ثم ذكر إن الشيطان يعرف أن الذي بقي له زمن قليل ثم يسجن في العمق مغلولا مقيدا بالأمر الإلهي بحيث يمنع من التصرف والجولان كما كان . أما نهاية الوقت الذي بقي له فقدرت بثلاث سنين ونصف ، وذلك مدة الدولة الدجالية ، فكأنه استنسل فبالغ في الجهاد والاجتهاد وإغراء الدجال وآله ببقية المؤمنين.
61- (13) فلما رأى التنين أنه قد طرح إلى الأرض أسرع خلف المرأة التي ولدت الابن الذكر (14) فأعطيت جناحان عظيمان مثل جناحی نسر لتمضى إلى البرية إلى الموضع الذي تربى فيه زمانا وزمانين ونصف زمان من وجـه الثعبان (15) والتنين ألقى من فمه مثل نهر ماء خلف المرأة (16) والأرض فتحت فاها وابتلعت نهر الماء الذي ألقاه التنين خلف المرأة (17) فغضب التنين على المرأة ومضى وحارب بقية زرعها الذين يحفظون وصايا الله وشهادة يسوع .
هذا هو الدليل الثاني على سقطة الشيطان الثالثة . وقال في الفص السابق إنه نزل بغضب عظيم لأجل إسقاطه من السماء إلى الأرض ، وحينئذ يثير الدجال ويخدم دولته لينفذ به مقاصده ، ويحرضه على زرع المرأة وطلبهم ، فإما أن يطيعوه ويؤمنوا به ، وإما أن يهلكهم . وعند ذلك ينقسم القوم فرقتين : فرقة تختار الهرب والبعد ، وفرقة تختار الإقامة والصبر والثبات لقبول الشهادة . فأما الفرقة الأولى ، وهي الأكثر ، فيوعز الشيطان إلى الدجال بأن يتعبها ويتبعها بخيله ورجله إلى كل مكان من المدائن والقرى والبراري والقفار والجبال والكهوف والمغاير والشقوق وجزائر البحر وكل جهة وهذا معنى قوله : «فلما رأى التنين أنه قد طرح إلى الأرض أسرع خلف المرأة التي ولدت الابن الذكر» ، وقد سبق لك أن المرأة هي المعمودية فإنها صفة قائمة بأبنائها ، فما لحق بهم فهو لاحق بها وبالعكس . فإسراع الشيطان خلفها فهو بواسطة الدجال المرسل جيوشه لتطلب الفرقة الهاربة ، وأطلق اللفظ عاما على المرأة لكون الفرقة الهاربة هي الأكثر ، ووصفه للمرأة بأنها التي ولدت الابن الذكر ليوضح بأنها هي المرأة السالف ذكرها.
قوله : « فأعطيت جناحان عظيمان مثل جناحی نسر لتمضى إلى البرية إلى الموضع الذي تربى فيه زمانا وزمانين ونصف زمان من وجه الثعبان» أما الجناحان العظيمان فرمز على القوة الموهوبة لهذه الفرقة من الله تعالى، والإعانة على الهرب بسرعة من وجه الثعبان الذي هو الشيطان ، ولهذا وصفهما بأنهما عظيمان ، وكذلك قال أشعياء : « ويرفعون أجنحة كالنسور » . وشبههما بجناحي “نسر لأن هذا الطائر على عظم حجمه سريع التحليق والانقضاض وحركة الطيران لفرط قوته وحدته . وإيبوليطس أول ، أي فسر الجناحين بأنهما الرجاء والمحبة والبرية أراد بها غير المعمور ، كي لا يعرفها الدجال فيقصدها . والموضع الذي تربى فيه هو حيث إقامة الفرقة الهاربة . وأما الزمان فرمز على سنة واحدة والزمانان على سنتين ولفظ التثنية في اللغة القبطية قد يكون مخصصا وهو المقترن به لفظ اثنين ، وقد يكون مرسلا بلفظ الجمع ، لأن التثنية عندهم من جملة الجمع ، لكن القرينة خصصت الدلالة على التثنية ، لأن مدة دولة الدجال تقدر بثلاث سنين ونصف ، وقد تقدم إحصاء أيامها وشهورها في الفص الثاني والفص التاسع والعشرين ، فتعين حساب سنيها ، وأما نصف زمان فرمز على نصف سنة . وأما قوله : «من وجه الثعبان» ، أي يبتعدون عن الشيطان ويخفون عن علمه ويحجبون عن معرفته بالقدرة الإلهية . ولذلك يزداد غضبه ويلجأ إلى البحث عنهم والتفتيش عليهم بنفسه ، وبغيره من جيوش الدجال وأعوانه وحشود دولته.
قوله : «والتنين ألقى من فمه مثل نهر ماء خلف المرأة» ، الإلقاء يعود على جيوش الدجال وأعوانه وحشود دولته ، وتمثيلهم بنهر ماء لأربعة أوجه : لكثرتعم والتئامهم وسرعتهم وحسن سيرهم ، فإن أشعياء يقول في وصف عسكر بختنصر : « ويسمع صوته كالبحر» ، وتسربهم إلى كل مكان ظاهر وخفي كتسرب نهر الماء في كل مكان يغشاه ، ويعم ، لا يغادر بقعة يدركها قلت أو جلت. وأما إلقاؤه النهر من فمه فرمز على تسييرهم بكلمة فيه ووسوسته وأمره وتقدمه بذلك.
قوله : «والأرض فتحت فاها وابتلعت نهر الماء الذي ألقاه التنين خلف المرأة » ، ابتلاع الأرض للجيوش المسيرين يحتمل معنيين ، أحدهما : أن يكون على ظاهره ، فيجرى لهم كما جرى لبنى قورح حين انفتحت الأرض فهبطوا إلى أعماقها وانطبقت عليهم . والآخر : أن يتأول ، فيكون بلعها لهم هو تيههم فيها وضلالهم عن مقصدهم ، وهذا مذهب إيبوليطس . ولعل الأول أرجح ، إذ يجوز أن ينصرف على الظاهر ، بدليل قوله : « فغضب التنين على المرأة ومضى وحارب بقية زرعها الذين يحفظون وصايا الله وشهادة يسوع» ، هذه الفرقة الثانية التي تختار الثبات وقبول الشهادة ، بدليل قوله : « بقية زرعها » وذكره إنهم يحفظون وصايا الله يريد إنهم يحفظونها ، لا بالدراسة فقط ولكن بالعمل ، وحفظهم شهادة يسوع بأن يتشبهوا به في الصبر والجهاد على الحق وقبول الشهادة . وهذا دليل على أن هذه الفرقة أقوى نفوسا من الفرقة الأولى ، وأشد شجاعة وثباتا ، وأثبت إيمانا وطاعة . ولو كان ثباتهم وعدم هربهم لأجل عناهم وشفقتهم على أموالهم ، كما قال إيبوليطس ، لما ثبتوا لهذه الشدائد .
- اختلف المؤرخون حول المدة التي استغرقتها رحلة العائلة المقدسة إلى مصر . بيد أن مصادر الكنيسة القبطية تؤكد أن هذه الرحلة منذ أن قدمت العائلة المقدسة إلى مصر حتى تلقت من الملاك الأمر بالعودة إلى فلسطين بلغت ثلاث سنوات وسبعة أشهر . فإذا قدرنا أن رحلة العودة استغرقت بضعة أشهر أخرى ، تكون هذه الرحلة قد استغرقت نحو أربع سنوات.
تفسير سفر الرؤيا – 11 | سفر الرؤيا – 12 | تفسير سفر الرؤيا | تفسير العهد الجديد | تفسير سفر الرؤيا – 13 |
ابن كاتب قيصر | ||||
تفاسير سفر الرؤيا – 12 | تفاسير سفر الرؤيا | تفاسير العهد الجديد |