نش 7،6:8 اجعلني كخاتم على قلبك كخاتم على ساعدك
٦ اِجْعَلْنِي كَخَاتِمٍ عَلَى قَلْبِكَ، كَخَاتِمٍ عَلَى سَاعِدِكَ. لِأَنَّ ٱلْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَٱلْمَوْتِ. ٱلْغَيْرَةُ قَاسِيَةٌ كَٱلْهَاوِيَةِ. لَهِيبُهَا لَهِيبُ نَارِ لَظَى ٱلرَّبِّ. ٧ مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْفِئَ ٱلْمَحَبَّةَ، وَٱلسُّيُولُ لَا تَغْمُرُهَا. إِنْ أَعْطَى ٱلْإِنْسَانُ كُلَّ ثَرْوَةِ بَيْتِهِ بَدَلَ ٱلْمَحَبَّةِ، تُحْتَقَرُ ٱحْتِقَارًا.(نش 7،6:8)
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
تؤكد العروس العاملة التصاقها بعريسها وسط انشغالها بخدمة القريب قائلة:
“اِجْعَلْنِي كَخَاتِمٍ (ختم) عَلَى قَلْبِكَ،
كَخَاتِمٍ عَلَى سَاعِدِكَ،
لأَنَّ الْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ،
الْغَيْرَةُ قَاسِيَةٌ كَالجحيم (كالقبرِ)[191].
لَهِيبُهَا لَهِيبُ نَارِ، لَظَى الرَّبِّ.
مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْفِئَ الْمَحَبَّةَ،
وَالأنهار لاَ تَغْمُرُهَا.
إِنْ أَعْطَى الإِنْسَانُ كُلَّ ثَرْوَةِ بَيْتِهِ بَدَلَ الْمَحَبَّةِ تُحْتَقَرُ احْتِقَارًا” [٦-٧].
إن كانت النفس قد تمتعت خلال المعمودية بالميلاد الجديد تحت شجرة التفاح، وفي سرّ الميرون ختمت بختم الروح القدس، فصارت في ملكية العريس، تحمل ختمه وسماته، فإنها تعتز بهذا الختم الذي صار لها في كل جوانب حياتها. هذه الحياة تشعل لهيب حبها نحوه فتسأله لا أن يقبلها بين ذراعيه أو يأخذها في أحضانه الأبدية، بل تشتهي أن تلتصق به كالختم على قلبه وساعديه، لا يفصلها حتى الموت عنه.!
إنها تطلب أن تكون ختمًا على قلب العريس، فهي لا تطلب أن يكون لها مجرد موضع في قلبه بل تحتل القلب كله، وكأن الله لا ينشغل إلاَّ بها. تُريد لا أن يكون أسمها منقوشًا على قلبه، بل هي بكل حياتها مختومة عليه، فلا يقدر أحد أن يقترب أو يمحو أسمها من أمام وجه الله.
في سفر إشعياء النبي يقول الرب: “هوذا على كفي نقشتك” (٤٩: ١٦)، أما هنا فالعروس تطلب أن تكون خاتمًا على ساعده…
بهذا تستقر العروس في قلب الله “مركز العاطفة والحب” وفي ساعده “مركز العمل”، تستريح إلى الأبد على عرش محبته وعلى كرسي قدرته! هذه هي دالة الكنيسة لدى عريسها.!
أما سرّ هذه الدالة القوية فهو الحب الذي سكبه الرب في قلبنا من نحوه لهذا تقول: “المحبة قوية كالموت، الغيرة قاسية كالقبر…” وكأنها تقول له: إن الموت هين، لا يقدر أن يفصلني عن حبي لك، والمياه الكثيرة وجميع الأنهار لا تقدر أن تطفئه أو تغمره. وكما يقول الرسول بولس: “من سيفصلنا عن محبة المسيح: أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف… فإنيّ متيقن أنا لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا” (رو ٨: ٣٨، ٣٩).
يقول القديس أغسطينوس[192]: [لا تستطيع زوابع العالم أو أمواج التجارب أن تطفئ لهيب الحب. عن هذا قيل: “المحبة قوية كالموت”. فكما أن الموت متى حل لا يوجد من يقدر على مقاومته، إذ لا يقدر المولودون للموت أن يصدوا عنف الموت بأي فن من الفنون أو نوع من الأدوية، هكذا لا يقدر العالم أن يقف ضد قوة الحب.
لقد أخذ التشبيه بمثال الموت المضاد، فكما أن الموت عنيف هكذا في التدمير، كذلك الحب قوي في الإنقاذ (الخلاص).
خلال الحب مات كثيرون عن العالم ليحيوا لله].
في سط العالم قدمت العروس لعريسها ما لا يقدر العالم أن يُقاومه، قدمت قلبها لذاك الذي يجد في القلب لذته، فهي لم تقف عند حدود تقديم الخدمة والجهاد والأسهار، بل قدمت أولًا قلبها أي “حبها” كله، والذي تقول عنه: “إِنْ أَعْطَى الإِنْسَانُ كُلَّ ثَرْوَةِ بَيْتِهِ بَدَلَ الْمَحَبَّةِ تُحْتَقَرُ احْتِقَارًا“. وكأنها تردد ما قاله الرسول بولس: “إن أطعمت كل أموالي وإن سلمت جسدي حتى أحترق ولكن ليس ليّ محبة فلا أنتفع شيئًا” (١ كو ١٣: ٣).
إنها ليست كالزوجة التي تظن أنها تخدم زوجها حسنًا، فتبذل كل جهدها لخدمة البيت وتسلمه جسدها… لكن قلبها ليس معه! إنها تُقدم القلب أولًا، ومن خلاله لا تقدر أن تمتنع عن خدمته.!
تأملات للبابا شنوده الثالث
اجعلني كخاتم على قلبك، كخاتم على ساعِدك (نش 8: 6)
كلمة خاتم هنا معناها ختم. فيكون القلب مختوما به، وكذلك يكون الساعد (الذراع) مختوما، مثلما قال الرب للمدينة المقدسة “نقشك علي كفي” (أش 49: 16).
عبارة الختم علي القلب تعني الحب والعاطفة.
والختم علي الساعد تعني العمل الجاد. فالمساعدة مشتقة من الساعد.
والختم علي كليهما يعني العاطفة التي تعبر عن ذاتها بالعمل. فلا يكفي فقط أن تحبني، بل أن تكون يدك معي أيضا، تعمل معي.
ومن جهة التأمل في هذه الآية: يمكن أن تؤخذ كأنها موجهة من الإنسان إلي الله، ومن الله إلي الإنسان، ومن إنسان إلي إنسان غيره (أي في العلاقات البشرية).
فإن كانت لك محبة من نحو الله والناس، ينبغي أن تكون المحبة في قلبك، وأيضا في عملك (في ساعدك). وإن كان سفر النشيد قد تكلم عن الحب، فلم يقصد به مجرد الحب في القلب ” حبيبي لي، وأنا له” (نش 2: 16) بل قيل أيضا ” شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني” (نش 2: 6). أي أن الساعد مشترك مع القلب. هنا الحب والحنان معا.
فالمحبة ليست مجرد عواطف وكلام. بل قال الرسول “لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق” (1 يو 3: 18).
الأم تحب أبنها، طفلها رضيعها، هو خاتم علي قلبها. وفي نفس الوقت هي تحمله وتحتمله، وتغذيه وترعاه وتنظفه وتداويه. هو خاتم علي ساعدها.
والأب يحب أولاده. محبتهم في قلبه. ولكنه يشتغل ويصرف عليهم (هم في ساعده).
ولنتناول هذه الآية من جهة الله ومحبته للإنسان.
لقد أحبنا الله “أحب خاصته الذين في العالم، أحبهم حتى المنتهي” (يو 13: 1). هنا المحبة في القلب. ولكنها في الساعد أيضا، في كل أعمال الرعاية، وكذلك في الفداء ” هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد. لكي لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3: 16).
* إذن علي الصليب، كان الحب في القلب، وفي الساعدين المبسوطين وفي كل أنواع الرعاية، ظهر عمليا الحب الذي في القلب..
أحب الله الشعب المضطهد من فرعون، فظهرت يده القوية في تخليصهم منه: في الضربات العشر، ثم في شق البحر الأحمر. وبساعده اهتم بهم في البرية، بهدايتهم، وبإنزال المن والسلوى من السماء، وبتفجير الماء من الصخرة..
أحب دانيال الملقي في الجب، هذا عن القلب. وماذا عن ساعده؟ يقول دانيال: إلهي أرسل ملاكه , فسد أفواه الأسود” (دا 6: 22). وبنفس الوضع مع الثلاثة فتية: تمشي معهم في النار، ولم يجعل لها سلطانا عليهم (دا 3).
أحب يوسف الصديق، فجعله إنسانًا ناجحًا، وزوده بموهبة تفسير الأحلام، وأخرجه من السجن ليكون “رئيسًا علي كل أرض مصر” (تك 45: 8).
وظهر قلب الله وساعده، فيما أجراه من معجزات.
كانوا خاتما علي قلبه في قول الكتاب ” لما أبصر الجموع تحنن عليها” (مت 9: 36) (مت 14: 14) (مر 6: 34). وفي معجزة الخمس خبزات والسمكتين، في قوله “إني أشفق علي الجموع.. لئلا يخوروا في الطريق” (مت 15: 32). ولم يكتف بالإشفاق، بل أعطاهم ليأكلوا وأشبعهم..
وأرملة نايين الباكية لموت ابنها وحيدها “لما رآها الرب، تكنن عليها” (لو 7: 13). هذا من جهة القلب. أما عن ساعده، فأقام ابنها ودفعه إلي أمه..
وساعده أيضًا يظهر في معجزات الشفاء، إذ كانوا يقدمون له المرضي، فيضع يديه علي كل واحد فيشفيهم” (لو 4: 40).
*قلبه وساعده يظهران أيضا في أعمال المعونة والإنقاذ.
وبهذا يتغني داود النبي في المزمور فيقول ” لولا أن الرب كان معنا حين قام الناس علينا، لابتلعونا ونحن أحياء.. مبارك الرب الذي لم يسلمنا فريسة لأسنانهم. نجت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين. الفخ انكسر ونحن نجونا. عوننا من عند الرب..” (مز 124).
أحب لعازر. وقيل “بكي يسوع”. ولما رآه اليهود يبكي، قالوا “أنظروا كيف كان يحبه” (يو 11: 25، 16). ولم يكتف بحب القلب، بل أقام لعازر. هنا ساعده..
* قلبه وساعده ظهرا أيضا في أعمال المغفرة.
لا شك أن مغفرة الله للخطاة تدل علي محبته، وأنهم خاتم علي قلبه. ومن أجمل الأمثلة هنا، معاملته لزكا العشار، الذي كان أيضا خاتما علي ساعده، فدخل إلي بيته، ولم يبال بانتقاد اليهود الذين تذمروا لدخوله إلي بيت رجل خاطئ. بل أكثر من هذا أنه دافع عن زكا وقال “إذ هو أيضا ابن إبراهيم” لذلك صرح قائلًا “اليوم حصل خلاص لأهل هذا البيت” (لو 19: 9).
مثال آخر محبته لتوما الذي شك في قيامته. وهكذا ظهر له، ومد ساعده وقال لتوما ” هات أصبعك إلي هنا، وأبصر يدي.. ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنا ” وهكذا فعل أيضا في إزالة شكوك كل تلاميذه (لو 24: 36-43).
وظهرت محبته للمرأة المضبوطة في ذات الفعل، أنه مد يده وكتب علي الأرض (غالبًا خطايا المتآمرين عليها). ونجاها منهم قائلًا لهم “من كان منكم بلا خطية، فليرمها بأول حجر” (يو 8: 7).
كذلك مع الخروف الضال: لم يكن فقط خاتما علي قلبه، بل أيضا ذهب وبحث عنه حتى وجده. وامتد ساعده فأخذه “وحمله علي منكبيه فرحا” (لو 15: 5). وهكذا فعل أيضا مع الدرهم المفقود (لو 15: 8).
*قلب الله وساعده ظهرا أيضًا في أعمال الرعاية:
إنه ليس فقط يحب غنمه، بل أيضا ” يبذل نفسه عن الخراف” (يو 10: 11) بل يقول أيضًا “وأنا أعطيها حياة أبدية، ولن تهلك إلي الأبد. ولا يخطفها أحد من يدي” (يو 10: 28). لماذا؟ لأنها “خاتم علي ساعده”.
ولأنها خاتم علي ساعده، لا يجعلها معوزة شيئًا، بل “في مراع خضر يربضها، وغلي ماء الراحة يوردها. يهديها إلي سبل البر” (مز 23). وهكذا يقول ” أنا أرعي غني وأربضها.. واطلب الضال، واسترد المطرود، وأجبر الكسير، وأعصب الجريح..” (حز 34: 15، 16). أليست هذه أعمال ساعده؟..
ومن عمل ساعده في أعمال الرعاية، قوله إذا وقع خروفك في يوم سبت، ألا تقيمه؟ (مت 12: 11) وهذا يقودنا إلي نقطة أخري هي:
* قلب الله وساعده في عمل التوبة والخلاص:
إننا خاتم علي قلبه “يريد أن الجميع يخلصون، وإلي معرفة الحق يقبلون” (1 تي 2: 4). ولا يسر بموت الخاطئ، بل أن يرجع ويحيا” (حز 18: 23).. ولكنه لم يكتف هنا بأن نكون مجرد خاتم علي قلبه، بل جعلنا أيضا خاتما علي ساعده. وكيف؟ بأن أرسل إلينا الأنبياء والوحي والوصايا. وكلف رسله بخدمة المصالحة، ينادون لنا “أن اصطلحوا مع الله” (2 كو 5: 20). وبالإضافة إلي هذا، منحنا النعمة وعمل روحه القدوس “يبكتنا علي خطية” (يو 16: 8) ويذكرنا بكل ما قاله الرب لنا (يو 14: 26). وأرسل إلينا ملائكته “كأرواح خادمة، مرسلة للخدمة، لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص” (عب 1: 14).
اه يا رب، أنا أعرف أنك جعلتني خاتما علي قلبك، اجعلني أيضًا خاتمًا علي ساعدك، وساعدني بكل قوتك علي خلاص نفسي. لا تتركني..
من جهة البشر:
تكلمنا عن الله -تبارك اسمه- وكيف أنه جعلنا خاتما علي قلبه وخاتما علي ساعده. وبقي أن اسأل: هل يفعل البشر هكذا في علاقتهم مع الله؟
كلنا نقول إننا نحب الله، وقد جعلناه خاتما علي قلوبنا. فهل جعلناه أيضا خاتما علي سواعدنا؟ وهل يظهر هذا في حياتنا العملية؟
أمثلة توضح كيف يكون الله خاتما علي سواعدنا، ولا يكون كذلك:
*كان السيد المسيح خاتما علي قلب بطرس، حينما قال له بطرس “ولو أنكرك الجميع لا أنكرك”، “لم شك فيك الجميع، فأنا لا أشك” (مت 26: 33) (مت 26: 35) “أنا مستعد أن أذهب معك إلي الموت وإلي السجن” (لو 22: 33). ولكنه لم يجعل السيد علي ساعده، حينما أنكره ثلاث مرات، وسب ولعن وقال “لا أعرف الرجل” (ت 26: 74). كان علي ساعده (و إنما بطريقة خاطئة) حينما سئل سيفه دفاعا عنه وقطع أذن العبد (يو 18: 10) وحينما جاهد من أجله فيما بعد. وقال “ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس ” (أع 5: 29) وأيضا حينما صلب بسب إيمانه به، كان الرب خاتما علي قلبه، وخاتما علي ساعده.
*أيضا باقي التلاميذ كان الرب خاتما علي قلوبهم (مت 26: 35) ولكنه لم يكن خاتمًا علي سواعدهم حينما هربوا وقت القبض عليه (مت 26: 56) ثم أصبح الرب خاتمًا علي قلوبهم وسواعدهم بعد حلول الروح القدس عليهم (أع 2).
*أيضا الذين أنكروا الرب في عصر الاستشهاد ثم عادوا فتابوا، كان الرب خاتما علي قلوبهم، ولم يكن خاتما علي سواعدهم وقت إنكارهم.
*أما الشهداء والمعترفون، فكان الرب خاتمًا علي قلوبهم وعلي سواعدهم.. وكذلك أيضًا كل أبطال الإيمان، الذين جاهدوا واحتملوا بسب إيمانهم.
عناصر في جعل الله خاتما علي سواعدنا:
1- في عمل الرعاية وبناء ملكوته:
قال السيد الرب لبطرس “أتحبني..؟ أرع غنمي.. أرع خرافي” (يو 21: 15، 16). أي إن جعلتني خاتما علي قلبك، فاجعلني خاتمًا علي ساعدك برعاية أولادي.. كإنسان يقول للرب: أنا جعلتك خاتمًا علي قلبي. والدليل علي ذلك إنني أحمل أولادك علي ذراعي.. ينطبق هذا علي كل بناة الملكوت، كل الرسل والمعلمين الحقيقيين.
2- كل الذين يتعبون في الخدمة من أجل الله.
مثلما قال بولس الرسول “جاهدت الجهاد الحسن.. حفظت الإيمان” (2 كو 11: 23). وكما قال لتلميذه تيموثاوس “اعكف علي الكلمة”، “عظ، وبخ، انتهر، بكل أناة وتعليم” (2 تي 4: 2).
3- يحفظ الوصايا، وحياة القداسة.
قال الرب “إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي” (يو 15: 10). “من يحبني “أي من يجعلني خاتما علي قلبه. يحفظ وصاياي، أي يجعلني خاتما علي ساعده، بأن يجاهد في تنفيذ أوامري. وبهذا يكون نقيا في قلبه.
هنا الارتباط الوثيق بين الخاتم علي القلب والخاتم علي الساعد.
قال القديس يوحنا الرسول في رسالته الأولي “من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه، فهو كاذب وليس الحق فيه. وأما من حفظ كلمته، فحقا في هذا قد تكمَّلَت محبة الله” (1 يو 2: 4، 5).
4- تجعل الرب خاتما علي ساعدك، بالطاعة.
* أبونا إبراهيم أبو الآباء، كان الرب خاتما علي قلبه، ومن أجله ترك أهله وعشيرته وبيت أبيه (تك 12: 1) ومضي وهو لا يعلم إلي أين يذهب (عب 11: 8). بهذا كلن الله علي ساعده أيضا، وبالأكثر حين أطاع الله في تقديم ابنه وحيده الذي يحبه إسحق، ورفع ساعده بالسكين ليقدمه محرقة لله (تك 22).
* الملائكة يحبون الله، هو خاتم علي قلوبهم، وهم أيضا يجعلونه خاتما علي سواعدهم، يقول الكتاب عنهم ” الفاعلين أمره عند سماع صوت كلامه” (مز 103: 20).
5- نجعل الله خاتما علي سواعدنا، بالاهتمام ببيته.
*حينما سمع نحميا أن أورشليم مهدمة وأبوابها محروقة بالنار، يقول “لما سمعت هذا، جلست وبكيت، ونحت أياما وصمت وصليت” (نح 1: 4) هنا كان الله خاتما علي قلبه. ولكنه لم يكتف بهذا، بل كلم الملك أرتحشستا وذهب فعلًا وبني سور أورشليم، واحتمل في سبيل ذلك الكثير. فكان الرب بذلك خاتما علي ساعده.
*كذلك كان داود النبي، حينما أعد كل العدة لبناء بيت الله.
* وكذلك كل من يصرف علي تعمير الكنائس والأديرة، مثلما كان يفعل المعلم إبراهيم الجوهري. وأيضا من يهب بيته ليكون كنيسة كما فعلت مريم أم مرقس الرسول (أع 12: 12). وكما فعل أكيلا وبريسكلا (رو 16: 5). وكما فعل نمفاس في لاوديكية (كو 4: 15) وغيرهم.
كل هؤلاء، كان الله خاتما علي قلوبهم، وعبروا عن ذلك بأن وهبوا بيوتهم لله. وبرهنوا بذلك علي أن الله خاتم علي سواعدهم.
وفي هذه النقطة لا ننسي ما فعلته: الملكة القديسة هيلانة.
6- أيضا جعلوا الرب خاتمًا علي سواعدهم: أولئك المتوحدون والنساك:
بسبب محبتهم للملك المسيح، كان خاتمًا علي قلوبهم. وعبروا عن كونه خاتمًا علي سواعدهم، بأن تركوا من أجله العالم وكل مشتهياته، احتملوا آلام الوحدة ومتاعب الطبيعة، والنسك والصوم والسهر.
7- كذلك الذين يحيون حياة التسبيح والصلاة الدائمة.
سواء كانوا من السواح والرهبان. ومثل طائفة السارافيم الذين يسبحون قائلين “قدوس قدوس قدوس..” (أش 6: 3). ومن يجاهدون في الصلاة وفي التأمل قدر طاقتهم، ويأخذون طقس مريم التي جلست عند قدمي المسيح، تسمع وتتأمل (لو 10: 39).
8- نضم إلي هؤلاء: الذي يعترف باسم الرب، ويجاهر باسمه.
مثال ذلك يوسف الرامي في قصة صلب المسيح. كان التلاميذ خائفين، والبعض أنكر. أما هو فذهب إلي بيلاطس، وطلب جسد يسوع بعد موته (مر 15: 43). ولم يخف، وكفنه، ودفنه في قبر جديد لهُ، معلنًا إيمانه بهُ، واهتمامه بجسده وهو ميت.
9- يجعل الرب خاتما علي ساعده أيضًا، من له غيرة مقدسة في الدفاع عن أسم الرب.
مثال ذلك الشاب داود, لما سمع جليات الجبار يجدف علي اسم الرب وشعبه. حينئذ أخذته الحمية, وقال: من هذا الأغلف حتى يعير صفوف الله؟.. لا يسقط قلب أحد بسببه (1 صم 17: 26، 32). ولم يبال بقوة الرجل وجبروته، وبأن الجيش كله خائف منه. بل ذهب ليحاربه وهو لا يملك سوي المقلاع وبعض حصوات ملساء!
10- أيضا يجعل الرب خاتما علي ساعده، من يضبط جسده ونفسه.
و يقول مع القديس بولس الرسول “اقمع جسدي واستعبده” (1 كو 9: 27). من أجل محبة الله الذي جعله خاتما علي قلبه، يجاهد شهواته، ويصلب الجسد مع الأهواء (غل 6: 24). وبهذا يجعل الرب خاتمًا علي ساعده، لأنه يعمل من أجله مجاهدا نفسه، متأثرا بتوبيخ الرسول الذي قال “لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية” (عب 12: 4).
11- عبارة “اجعلني خاتم علي قلبك، كخاتم علي ساعدك” تشمل الإيمان والأعمال.
“خاتم علي قلبك” تشير إلي الإيمان. و”خاتم علي ساعدك” تشير إلي الأعمال. ولا يمكن أن تستقيم حياة الإنسان الروحية بدون الاثنين معا. فالخاتم علي الساعد ثمر للإيمان, ثمر للخاتم علي القلب.
12- أحيانا تكون وسائط النعمة خاتمًا علي ساعدك، وليست خاتما علي قلبك! مجرد عمل خال من الحب.
*كالعبادة التي تتحول إلي روتين، وتخلو من العاطفة والحب. وقد وبخ الرب أمثال هؤلاء قائلًا “هذا الشعب يكرمني بشفتيه، وأما قلبه فمبتعد عني بعيدًا” (مت 15: 8). فهو ليس خاتما علي قلبه. وبالمثل ما قاله الرب عن كل العبادات المرفوضة منه..
* وهكذا كان الفريسيون، يدققون كثيرًا في تنفيذ الشريعة، بدرجة وصلت إلي الحرفية، كأنها خاتم علي سواعدهم! وفي نفس الوقت لم يكن الله خاتما علي قلوبهم. إذ كانت قلوبهم مركزة في الذات والعظمة! ونجد مثالًا واضحًا لذلك في قصة الفريسي والعشار. حيث قال الفريسي “أشكرك يا رب أني لست مثل سائر الناس الخاطفين الظالمين الزناة، ولا مثل هذا العشار. أصوم مرتين في الأسبوع، وأعشر كل ما أقتنيه” (لو 18: 11, 12). كان الله خاتمًا علي ساعده بكل هذه الأعمال.. ولكنه لم يكن خاتما علي قلبه. لذلك لم ينزل من الهيكل مبررا (لو 18: 14).
*مثال آخر: من يدق صليبًا علي ذراعه، ومن تعلق صليبا علي صدرها. و يكون كل منهما بعيدًا عن محبة الله. فالله خاتم علي ساعده وليس خاتما علي قلبه! وبالمثل كل من هن مسيحي بمجرد الاسم..
في معاملات الناس:
* هناك النخوة والشجاعة، في القلب وفي العمل.
مثال ذلك موقف أبينا إبراهيم، لما سمع عن سبي لوط ضمن سبي سادوم. كان لوط خاتما علي قلبه، فلم يحتمل أن يتركه مسبيًا، وتحركت النخوة في قلبه. ولكنه لم يكتف بهذا. بل يقول الكتاب: “فلما سمع إبرام أن أخاه سبي، جر غلمانه المدربين، ولدان بيته ثلاثمائة وثمانية عشر”. وهكذا حارب ورد سبي لوط وسادوم (تك 14: 14-16). بهذا اشترك ساعده مع قلبه.
*مثال آخر هم دفاع الجندي عن وطنه. بمحبته لوطنه، يكون وطنه خاتما علي قلبه. ولكنه يصبح أيضا خاتما علي ساعده، حينما يحمل هذا الجندي سلاحًا ويدافع عن وطنه. وقد يجرح ويقتل من أجله.
أمثلة أخري، يكون فيها الخاتم علي القلب، خاتما علي الساعد:
* موقف بولس الرسول من أنسيموس عبد فليمون: كان خاتمًا علي قلبه، في قوله عنه “ابني أنسيموس الذي ولدته في قيودي.. الذي هو أحشائي” (فل 10، 12) “لا كعبد فيما بعد، بل أفضل من عبد، أخًا محبوبًا ولا سيما إلي” (فل 16)..
وكان أنسيمس خاتمًا علي ساعد القديس بولس، في قوله عنه لفليمون “إن كان ظلمك بشيء. ولك عليه دين، فاحسب ذلك علي. أنا بولس كتبت بيدي، أنا أوفي” (فل 18، 19).
*مثال آخر في معجزة الخمس خبزات والسمكتين: لم يكتف السيد الرب بإشفاقه علي الشعب وعدم صرفهم جوعانين. وإنما جعلهم خاتما علي ساعده، حينما بارك الخبز القليل وأعطاهم، فشبعوا وفضل عنهم.، إعطانا درسًا حينما قال لتلاميذه “أعطوهم ليأكلوا” (لو 9: 13).
إذن لا يكفي أن نظهر اشفاقنا علي الفقراء، وأن نكتب ذلك في مقالات. فالخاتم علي القلب وحده لا يكفي. إنما يجب أن نعطيهم ليأكلوا، بذلك يكونون خاتما علي سواعدنا أيضًا.
* كذلك أيضًا في معاملاتنا للأطفال، لا يكفي فقط أن نحبهم، إنما نظهر حبنا لهم بما نقدمه من هدايا ومن ملاطفة.
إن العاطفة خاتم علي القلب. أما العطاء فهو خاتم علي الساعد، وتعبير عملي عن الخاتم الذي علي القلب.
والسيد المسيح لم يأمر تلاميذه فقط بأن يتلمذوا الناس ويعمدوهم ويعلموهم (مت 28: 19، 20). إنما قال لهم أيضًا: “اشفوا مرضي، طهروا بُرصًا، أقيموا موتي، أخرجوا شياطين” (مت 10 ك 8). وبذلك يكون الناس خاتمًا أيضًا علي سواعدهم.. وقال كذلك ” مهما فعلتموه بأخوتي هؤلاء الأصاغر، فبي قد فعلتم” (مت 25: 40).
* فمثلًا ابن يحب أباه، ويجعله خاتمًا علي قلبه. يحب أيضًا أن يجعله خاتمًا علي ساعده: بأن يحترمه، ويهتم به في شيخوخته ويعوله، كما فعل يوسف الصديق مع أبيه يعقوب في أرض مصر (تك 47).
هناك أمثلة عكسية لا يتفق فيها الخاتمان معًا (القلب والساعد).
* يعقوب أبو الآباء: لاشك أنه كان يحب أباه إسحق ويحترمه ويجعله خاتما علي قلبه ويطلب بركته ويسعي إليها. لكنه لم يجعل أباه خاتما علي ساعده، حينما خدع أباه وكذب عليه وقال له “أنا عيسو بكرك” (تك 27: 19).
* كذلك في قصة أصحاب أيوب، لما أتوا إليه في تجربته، أظهروا أنه كان خاتما علي قلوبهم حينما حزنوا عليه “ورفعوا أصواتهم وبكوا، ومزق كل واحد جبته، وذروا ترابًا فوق رؤوسهم..” (أي 2: 12). ولكنه لم يكن خاتمًا علي سواعدهم في كلامهم معه، حينما أخزوه، ولم يراعوا شعوره، بل اتهموه ظلما وأثاروه..
*نحن نحب ملكوت الله ونجعله خاتمًا علي قلوبنا، فهل جعلناه خاتمًا علي سواعدنا بالعمل لأجله. إننا نقول “مساكنك محبوبة أيها الرب إله القوات” (مز 84: 1). فكما أنها هكذا خاتم علي قلوبنا، هل جعلناها خاتمًا علي سواعدنا، بالخشوع فيها ودوام التردد عليها؟!
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (6): “اجعلني كخاتم على قلبك كخاتم على ساعدك لأن المحبة قوية كالموت الغيرة قاسية كالهاوية لهيبها لهيب نار لظى الرب.“
نجد في هذه الآية أقوى عبارات تُصوِّر حب العروس لعريسها. إجعلني كخاتم على قلبك= الخاتم يحمله الشخص إما على صدره مدلّى من رقبته، أو هناك من يحب شخص فيضع صورته على صدره أو على ساعده في سوار. والأقرب للتصور، فهناك طريقة قديمة ومازالت مستخدمة، بإذابة الشمع ثم وضع الختم على الشمع المذاب فيتشكل بشكل الختم. وهذه العروس جعلها حبها القوى أن تشتعل وتذوب، وأين تريد أن يضعها حبيبها؟ على قلبه. هي تريد أن تملأ قلب حبيبها كله، فلا يستطيع أحد أن يقترب إليها ويمحو اسمها من أمام وجه الله. والختم عن طريق الشمع الذائب تختم به الأوراق الهامة حتى يظل محتواها سرياً، وهي تريد أن تكون علاقتها بحبيبها سرية لا يعرفها أحد، هو يملأ كل قلبها، وهي تملأ كل قلبه، ولا أحد يعرف هذه العلاقة. والشمع المذاب يتشكل بحسب صورة الختم. ونحن مختومين بختم الروح القدس ليتصور فينا المسيح ونأخذ صورته (أف30:4+ 2كو21:1،22+ غل19:4) كخاتم على ساعدك= قال الله “نقشتكم على كفي” لإظهار رعايته. ولكن هذه العروس التي اشتعلت حباً تريد أن تكون في قلبه مركز عواطفه وليس هذا فقط بل على ساعده مركز العمل لتعمل معه، لا بل بقوته. وإذا فهمنا أن الساعد يشير للمسيح “استيقظي استيقظي إلبسى قوة يا ذراع الرب” (إش9:51) نفهم أن النفس تريد إتحاداً كاملاً مع المسيح المتجسد. وهذه الدالة في طلبها نابعة من المحبة القوية كالموت= كان أقوى شئ. قبل المسيح هو الموت، فأخذ كمثال كأقوى شئ، فكل جبار مهما زادت عظمته وجبروته هُزِمَ أمام الموت. (بعد المسيح تغيرَّ هذا فقيل “أين شوكتك يا موت”). والعروس هنا تود أن تقول أن حبها قوياً جداً كأقوى شئ أي الموت، بل حتى الموت لا يستطيع أن يوقف حبها له (رو38:8،39). والموت قوي جداً في التدمير، أما الحب فقوي جداً في الإنقاذ والخلاص، ولا شئ يوقف أو يبطل هذا الحب. والغيرة قاسية كالهاوية= النفس التي تحب لو شعرت أن حبيبها سيتركها تفضل أن تلقى في الهاوية أو القبر عن أن يتركها. ومن أشعل هذا اللهيب هو الرب= لهيبها لهيب نار لظى الرب وهكذا حل الروح القدس على شكل ألسنة نار وسكب محبة الله في قلوبنا (رو5:5).
آية (7): “مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة والسيول لا تغمرها أن أعطي الإنسان كل ثروة بيته بدل المحبة تحتقر احتقاراً.“
نار المحبة المقدسة هذه تحرق كل خطية داخلها ومياه= بحر هذا العالم لا تطفئها. وكل ثروة هي ترفضها إن كانت بديلاً عن المحبة. هكذا رفض المسيح كل أمجاد العالم، وهكذا كل نفس أحبت المسيح تحتقر كل ثروات العالم لأنها تحبه ولا تعوضها ثروات العالم عن محبته. ودعوة المسيح لكل نفس “يا ابني اعطني قلبك” فهو لا يريد المال ولا أي شئ إن لم يسبق الحب كل شئ. فلو أعطت الزوجة لزوجها كل شئ حتى جسدها لكن بدون محبة لما فرح الزوج. والرجل الذي يتزوج بامرأة لأجل ماله يُحْتَقَرْ. المسيح يطلب الحبالمتبادل.