القديس مار مينا العجائبي

 

باع كل ما لديه ليشترى به اللؤلؤة الكثيرة الثمن،  نال من الكرامة ما لم ينله غيره من الشهداء المصريين هو مارمينا الذي يلقبه مواطنوه بصانع العجائب ( العجايبي).

ومن الطريف أنه نال هذا اللقب بعد انتقاله من هذا العالم – لأن الآيات والعجائب التي جرت بواسطته تمت جميعها بعد استشهاده. وذاع صيته بسبب هذه العجائب في مختلف البلاد، فتقاطر الناس على كنيسته طلباً لبركته وللشفاء مما بهم بشفاعته. ولقد عثر الباحثون على قنينات تحوى الماء أو الزيت عاد بها زوار مارمينا ليمكنوا ذويهم من الحصول على بركة هذا الشهيد. وليس أدل على ذيوع صيت مارمينا من أن هذه القنينات وجدت في بلاد متباعدة كدنقلة، وكولونى، ومرسيليا، وأورشليم.

ولقد ولد هذا القديس من أبوين مسيحيين. وكان أبوه حاكماً لمريوط على أنه تيتم من أبويه وهو في الحادية عشرة من عمره. فلما بلغ أشده انتخبه الشعب ليخلف أباه في الحكم. وعندما أضرم دیوقلديانوس نار الإضطهاد دخل الخوف قلب مينا ، فهجر عاصمته وذهب إلى الصحراء حيث قضى فترة من الزمن. وفى احدى الليالي رأى الملائكة في المنام وهم يتوجون الشهداء بأكاليل النصر، فلما أصبح الصباح عاد إلى عاصمة ولايته وأعلن إيمانه المسيحى جهاراً. وعندها حاول الوالى الروماني أن يستميله أولاً بالوعد ثم بالوعيد ولما خاب أمله فيه أمر بقطع رأسه لكونه من الأشراف فنال الأكليل الذي رأه فى يد الملائكة. وقد بادر المؤمنون بنقل جثمانه الطاهر إلى مكان عزلته في الصحراء حيث واروه التراب بكل تجلة واحترام. وظل قبر هذا الشهيد العظيم مجهولاً فترة من الزمن وحدث أن راعيا كان يرعى خرافه في تلك المنطقة ، فعراه شئ من الدهش إذ كان بين خرافه خروف أجرب شفي من هذا الداء الوبيل لغير سبب ظاهر. ولاحظ أن شفاءه كان نتيجة لتمرغه فوق الأرض. وقد ذاع نبأ هذا الشفاء العجيب فجاء غيره من أهالي تلك المنطقة ليقفوا على ما فى هذه الأرض من سر خبي – وكان كل مريض ينطرح فوقها ينال الشفاء. وعند ذلك أعمل الأهالي فؤوسهم في تلك البقعة ليروا ما بداخلها فإذا بهم أمام رفات مارمينا. ولقد ذاعت عجائب هذا القديس وانتشرت في الأصقاع حتى بلغت القسطنطينية. وكان للامبراطور زينون ابنة مريضة، فلما سمعت بما يتم من شفاء باسم مارمينا العجايبي قصدت إلى مريوط فكان لها ما أرادت. ولما عادت إلى القسطنطينية وعرف أبوها الامبراطور زينون أنها نالت الشفاء التام بشفاعة هذا القديس بادر إلى بناء كاتدرائية فوق قبره. وكانت هذه الكاتدرائية في عصرها الذهبي أجمل كنائس المسكونة بما زانها من أعمدة من المرمر الوردي. وقد أدت اقامة الكاتدرائية إلى أن يسود العمار تلك المنطقة بحيث أصبحت مدينة فخمة ظلت قائمة حتى القرون الوسطى[1].

ولقد كان لمارمينا أثر بالغ فى القرون الأولى فاستشفع الناس به في مشارق الأرض ومغاربها. غير أن نفوذه تقلص على أثر خراب کنیسته. فهجر الناس المدينة التي كانت قد شيدت حولها، وامتدت إليها يد النسيان فترة من الزمن استعاد بعدها القديس مينا الشيء الكثير من نفوذه. فعاد الناس يستشفعون به ، ويحاولون زيارة كنيسته الأثرية ويبنون الكنائس الجديدة على اسمه. ومن الطريف فى هذه المناسبة أن أحد المؤمنين وهو يتبرك بزيارة قبر المسيح في القدس – رأى القديس مينا في حلم يقوله له : « إن كنت تنوى أن تبنى كنيسة على اسمى فليكن ذلك في بلدة منهری» فلما عاد من تلك الزيارة المقدسة أخبر أهل بلدته بما رأى . فقصدوا في الحال إلى الجهة التي أشار إليها القديس ووجدوا كنيسة قديمة تحمل اسمه فشادوا الكنيسة الجديدة فى المكان الذي عينه وهم يسبحون الله في قديسيه[2].

وهنا يحسن بنا أن نقف قليلاً لنصـور بـخـيـالـنا الحال التي كانت عليه كتدرائية مارمينا فى عصر ازدهارها. فقد كان أهم جزء هو القبو الذي يحوى جثمان الشهيد والكنيسة العظمى التي تضمه. ولقد قامت حول هذه الكنيسة مدينة كاملة بكل ما فيها من مبان وشوارع وحمامات عامة ومدارس وكنائس أخرى . وكان أهم مصدر للرزق فى هذه المدينة هو القديس الشهيد نفسه فالعدد الكبير من سكانها كان يعمل في الأرض المملوكة للكنيسة : منهم الفلاحون ورعاة الغنم والإبل والخفر وناظر الزراعة، ومنهم أيضا المشتغلون باستخراج الزيت والخمر ، وإلى جانب هؤلاء جميعاً كان هناك أشخاص يعملون القنينات التي يحملها الحجاج ملأى بالزيت أو بالماء المقدس إلى بلادهم ليحملوا إلى ذويهم بركة مارمينا. ولا شك أيضاً في أنه كان هناك أشخاص يرتزقون بالرسم أو بعمل الأيقونات . وهكذا كانت المدينة أهلة بالصناع والزراع الذين يعيشون على حساب القديس مينا الذي طبق صيته الآفاق فاجتذب إلى كنيسته الحجاج من أركان العالم الأربعة. وفي أيام الاحتفالات بمولد القديس أو بنياحته أو بغير ذلك من المناسبات كانت المدينة تزدحم بالزوار إلى حد أن البعض منهم كان لا يجد مكاناً في الفنادق فيقيم في الخيام التى كانت تقام حول الكتدرائية. وكان هؤلاء الزوار خليطاً عجيباً : فمنهم الاسكندريون المتأنفون الذين عرفوا معنى الترف ، ومنهم الفلاحون الذين لم يذوقوا غير طعم الجد والكد ، ومنهم الأغنياء والوجهاء إلى جانب الفقراء ومتوسطى الحال ، ومنهم الحجاج الساعون إلى التزود ببركة القديس والاقتراب إلى الله بشفاعته ، يقابلهم الذاهبون لمجرد حب الاستطلاع ، ومنهم المصريون وغير المصريين . فكانت مدينة مريوط إذ ذاك أشبه بالبحر الزاخر لكثرة من فيها وتباين مشاربهم. وقد ظلت هذه المدينة مركزاً للحج مدى قرون، أما الآن فقد أصبحت أثراً بعد عين إذ لم يبق منها غير بعض الجدران المتداعية وبعض الأعمدة المتناثرة تحيط بها الرمال إلى منتهى الأفق. إلا أن الله تعالى الذى لا ينسى تعب المحبة قد شاء أن ينبه أبناء القرن العشرين إلى خدمات مارمينا فأقام لنفسه شهوداً من الأنبا ثيئوفيلس ورهبانه. لأن هؤلاء الرجال الأبرار استنوا تقليداً جديداً يستند إلى التقاليد القديمة : وهو أن يقصدوا إلى هذه الأطلال العزيزة مرتين سنوياً للاحتفاء بالقداس الإلهى : المرة الأولى فى ١٥ هاتور ( ٢٤ نوفمبر) وهو عيد استشهاد مارمينا، والمرة الثانية فى ١٥ بؤونة ( ٢٢ يونيو ) وهو عيد تشييد كتدرائيته التى كان لها الصيت البعيد في القرون الأولى. وينتهز بعض الغيورين من القبط والأجانب هاتين الفرصتين ليسعدوا بالصلاة في هذه البقعة المقدسة. ثم شاء الآب السماوى أن يعتلى الأنبا كيرلس السادس السدة المرقسية في الأحد الأول من الخمسين المقدسة الموافق ۲ بشنس سنة ١٦٧٥ ( ١٠ مايو سنة ١٩٥٩) . فلما جاء ١٥ بؤونة من هذه السنة رأى أن يذهب ليقيم القداس الإلهى بين أطلال مارمينا. فكان ذهابه فرصة هيأتها السماء إذ قد قصد إلى مريوط جمع من المطارنة والأساقفة والكهنة والشعب: رجالاً ونساء وأطفالاً. وعلت أصواتهم بالصلوات وترددت أصداؤها في ذلك المكان الفسيح.  وامتلأت القلوب نشوة مضاعفة : نشوة الاشتراك في الصلاة مع البابا الجليل ، ونشوة الذكرى إذ قد أحسوا بأن صلواتهم امتزجت بصلوات أجدادهم التي رفعوها من هذا المكان عينه منذ أجيال . ومما زاد الصلاة بهاء الشعور بأن الألحان الكنسية تتردد مرة أخرى في هذا المكان المقدس بعد أن خفتت مئات السنين ، فتجددت معنى القيامة في الأذهان وهى تحلق نحو السماء خلال البخور المتصاعد والترانيم المتجاوبة الأصداء.

  1. أبا مينا ، مختارات من المخطوطات القبطية ترجمها إلى الانجليزية جيمس دريشر ص ۲۷
  2.  مختصر تاريخ الأمة القبطية ، لسليم سليمان ص ٤٢٧ . ( السنكسار الأثيوبي ) ترجمه إلى الانجليزية واليس بودج، جـ ٤ ص ١٠٠١ – ١٠٠٢ .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى