كو 15:1-17 الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة
15الَّذِي هُوَ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ. 16فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ. 17الَّذِي هُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِيهِ يَقُومُ الْكُلُّ.(كو 15:1-17 )
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
اقتبس الرسول بولس هذه التسبحة الخاصة بشخص السيّد المسيح، رئيس خلاصنا، وهي تتغنّى بمركزه الذي من خلاله يقدّم لنا إمكانيّاته الإلهيَّة. وسواء اقتبسها الرسول كما هي، أو هو واضعها، أو أعطى لمساته التفسيريّة واللاهوتيّة، فإنّها تعتبر من أهم القطع التي وردت في العهد الجديد بخصوص شخص السيّد المسيح.
“الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة” [15].
“صورة الله غير المنظور“، إن كانت الخطية قد حجبت عن الإنسان رؤية مجد الله، فقد جاء الكلمة المتجسّد لا ليقدّم لنا أفكارًا عقلانيّة نظريّة عن المجد الإلهي، وإنما أزال بصليبه الخطية، فانشق الحجاب وصار لنا حق رؤية الله خلال الصليب. لقد أشرق السيد المسيح بنوره الإلهي على شاول الطرسوسي وهو في طريقه إلى دمشق، فأصيبت عيناه الجسديّتان بنوعٍ من العمى، لعجزهما عن رؤية الله، بينما انفتحت بصيرته الداخليَّة وتمتّع بولس الرسول بالنور الحقيقي. هذه الخبرة تمتّع بها الرسل بطرس ويعقوب ويوحنّا على جبل طابور حيث تغيّرت هيئته قدّامهم، وأضاء وجهه، وصارت ثيابه كالنور (مت17: 1-5).
كلمة “صورة“، وفي اليونانيَّة “أيقونة” تعني الإعلان الكامل المنظور للإله غير المنظور، وهو الذي يحمل طبيعة جوهره ورسم بهائه، وهذا هو ما قاله الرب عن نفسه: “من رآني فقد رأى الآب”.
جاء السيد المسيح، الكلمة المتجسّد، ليحقق الرغبة التي أوجدها عميقة في قلب الإنسان، ألا وهي الحنين إلى رؤية الله. فكانت شهوة قلب موسى النبي بعد كل ما ناله من أعمال عجيبة هي: “أرني مجدك” (خر33: 18). أيضًا يقول داود المرتل: “أدخل إلى مذبح الله تجاه وجه الله الذي يفرّح شبابي” (مز 43: 4 LXX). بل هذه هي مسرّة الله نفسه أن يتراءى لمحبوبه الإنسان، كما كان يفعل مع آدم في الجنة عند هبوب ريح النهار (تك3: 8-9). لقد جاء ليتمتّع الإنسان بالشركة معه على الأرض، لكي يحمله بالصليب إلى حضن الآب ويتمتّع بالرؤية الإلهية أبديًا.
* يمكن أن توجد صورة بين الآباء والأبناء ومساواة وتشابه لو كان فارق السن غير قائم. لأن تشابه الطفل يأتي من الوالد حتى يُدعي بحق صورة… على أي الأحوال في الله لا يوجد عامل الزمن، فلا يمكن تصور إن الله ولد الابن في زمن هذا الذي خلاله أوجد الأزمنة. لهذا ليس فقط الابن صورته لأنه منه (الله), والشبه لأجل الصورة, بل والمساواة عظيمة هكذا حيث لا يوجد أي تمييز مؤقت يقف حائلًا بينهما[55].
* لنتبصر أولًا وقبل شيءٍ ما هي الأشياء التي تدعي صورًا في الحديث البشري العادي. أحيانًا يستخدم تعبير “صورة” على رسم أو نحت على مادة ما مثل الخشب أو الحجارة. أحيانًا يُقال عن الطفل إنه صورة الوالد (أو الوالدة) عندما يحمل شبهًا لملامح والده في كل جانب… بخصوص ابن الله الذي نتحدث عنه الآن, فإن الصورة يمكن أن تقارن بالتوضيح الثاني هنا, فهو الصورة غير المنظورة لله غير المنظور[56].
* الصورة العادية صورة جامدة لكائن متحرك. هنا لدينا صورة حيَّة لكائن حي,ومتميزة عنه، مصدرها إلى درجة عالية أكثر مما لشيث الصادر من آدم, وأي نسل من والديه[57].
* يعلن الرب: “إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي” (يو 37:10). من ثم إنه يُعَلِم إن الآب يُري فيه إذ هو يتمم أعماله, حتى إن قوة الطبيعة المُدركة تعلن طبيعة القوة غير المدركة, لذلك إذ يشير الرسول أن هذا هو صورة الله فيقول: “الذي هو صورة الله غير المنظور… وأن يصالح به الكل لنفسه“. بهذا فإنه هو صورة الله بقوة هذه الأعمال[58].
القديس هيلاري أسقف بواتييه
* إنه يدعو المسيح الصورة غير المنظورة، ليس لأن الله يصير منظورًا فيه, بل بالأحرى لأن عظمة الله تظهر فيه.من ناحية نحن نرى طبيعة الله غير المنظورة في المسيح كالصورة, بمعنى إنه وُلد من الله… وأنه سيدين كل الأرض عندما يظهر في طبيعته اللائقة به فيوقت مجيئه الثاني. هكذا من أجلنا يأخذ حالة “الصورة” المنظورة والتي تنتمي ليسوع الأرضي, لوضعه البشري, وذلك لكي نقدر أن نستدل على طبيعته الإلهية.
الأب ثيؤدور أسقف المصيصة
* إذ هو نفسه صورة الله غير المنظور غير الفاسد, فليشرق عليكم كما في مرآة الناموس. اعترف به في الناموس حتى يمكنك أن تعرفه في الإنجيل[59].
إذ كان الرسول يكشف عن غاية التجسد الإلهي ويعالج مشكلة الغنوسيين الذين نادى بعضهم بعبادة الملائكة كوسطاء أو أيونات أو شفعاء، يحملون المؤمنين إلى المعرفة الحقيقية للكائن الأسمى، نادى آخرون بأنه ثمة تعارض بين إله العهد القديم وإله العهد الجديد. لهذا استخدم الرسول تعبير: “صورة الله غير المنظور” ليؤكد أنه الكلمة المتجسد، وهو الخالق الذي به كان كل شيء، ولأجله كان، وفيه تقوم كل الخليقة، هو وحده إذ تجسد وأعلن بالصليب المحبة الإلهية قادر أن يعلن معرفة الآب. نرى الآب وندرك أسراره في الابن المتجسد كما في صورة ليست جامدة لكنها حيَّة قادرة على الكشف عن الآب.
“بكر كل خليقة” [15]
دعوته “بكر كل الخليقة” أو رئيسها، فلا تعني أنه أحد المخلوقات السامية، إنما وقد تجسد صار بإرادته أخًا ليضم الخليقة إليه، فيحملها إلى حضن أبيه. وأنه وحده قادر بدمه يتمم المصالحة بين الآب والبشرية.
يقول البابا أثناسيوس الرسولي أنه لم يرد قط عن السيد المسيح أنه “بكر من الله” أو “خليقة من الله”، إنما كُتب عنه أنه الوحيد الجنس، الابن، الكلمة، والحكمة، هذه كلها تمس علاقة الأقنوم الثاني بالأول، أما قوله “بكر كل خليقة” فهي تسمية تختص بتنازله وتفضّله من أجل الخليقة[60].
“فإنه فيه خلق الكل ما في السماوات،
وما على الأرض،
ما يُرى وما لا يُرى،
سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين،
الكل به وله قد خلق” [16].
إذا كانت كل الخليقة قد خُلِقَت فيه، وهو قبل كل خليقة [17]، إذن فهو ليس بالخليقة بل خالق الخليقة. إذن قيل عنه أنه البكر، ليس لكونه من الآب، لكن لأن كل الخليقة به ظهرت إلى الوجود، وهو لم يزل الابن الوحيد الجنس للآب.
“فيه قد خُلق الكل” [16]، وبه، وله. خُلقت فيه أي في محيط التدبير العقلي للابن، أي خلال حكمة الله، الابن الكلمة والحكمة. وبه خُلقت إذ تحقّقت خطة الخلقة به، حين قال الله فكان. “كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو1: 3).
تأكيد أن فيه خُلق الكل ما في السماوات… مقدمًا بين المخلوقات أعلى الطغمات السمائية” العروش والسيادات والسلاطين” [16]، فلكي يعلن ضرورة التمييز بين الخالق والخليقة، حتى وإن كانت أسمى المخلوقات السماوية، فهو ليس واحدًا منهم، ولا هم شركاء معه في الوساطة أو الشفاعة الكفارية، ورفع الإنسان إلى حضن الآب.
كان لا بُد للقديس بولس أن يؤكد مرارًا وتكرارًا أن كل الخليقة – ما في السماوات وما على الأرض – مدينة بوجودها لكلمة الله المتجسّد، يسوع المسيح ليطمئن المؤمنين أنه ليس من وجه للمقارنة بين السيد المسيح والملائكة، ردًا على أولئك الذين ادّعوا وساطتهم لدى الله عن البشريَّة دون المسيح.
* “كل شيءٍ به كان وبغيره لم يكن شيءٍ مما كان” (يو 3:1). لا يوجد استثناء واحد من هذا “الكل“. الآن إنه الآب الذي صنع كل الأشياء به, سواء المنظور أو الغير المنظور, الحسي والعقلي, الوقتي من أجل تدبير ما أو الأبدي. هذه لم توجد خلال ملائكة ما أو قواتٍ ما, منفصلة عن فكره[61].
* لو أنه وُجد شيء قبل الابن, يتبع هذا فورُا أن كل الأشياء في السماء وعلى الأرض لم تُخلق فيه, ويظهر الرسول مخطئ في قوله هذا في رسالته. على أي الأحوال, إن كان لا يوجد شيء قبل مولده, فإنني أفشل في رؤية كيف يُقال عن ذاك المولود قبل الدهور قد جاء بعد وجود أي شيءٍ[62].
* لا يوجد شك في أن كل الأشياء هي بالابن, إذ يقول الرسول: ” به كان كل شيء”, وكل الأشياء قد جاءت من العدم, ولا يوجد استثناء في وجود الكل به, فإني أسأل كيف ينقصه شيء من طبيعة الله وقوته؟ فقد استخدم قوة طبيعته لكي توجد هذه الأشياء التي لم تكن موجودة, وإن هذه الأشياء توجد وهي موضوع مسرته[63].
القديس هيلاري أسقف بواتييه
* المسيح هو ابن الله الوحيد خالق العالم، لأنه “كان في العالم والعالم به كونّ” و”إلى خاصته جاء” كما علمنا الإنجيل (يو 10:1، 11). لقد خلق المسيح كأمر الآب ليس فقط الأشياء التي تُرى بل وما لا يُرى، إذ يقول الرسول: “فإن فيه خلق الكل ما في السماوات وما على الأرض ما يُرى وما لا يرى سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خلق. الذي هو قبل كل شيء، وفيه يقوم الكل“.حتى إن تحدثت عن العوالم فإن يسوع المسيح أيضًا هو خالقها بأمر الآب، إذ “كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكي شيء الذي به أيضًا عمل العالمين” (عب 2:1). هذا الذي له المجد والإكرام والقدرة الآن وإلى أبد الأبد آمين[64].
* لم يصر كلمة الله من أجلنا بل بالحري نحن قد صرنا من أجله. وبه خلقت كل الأشياء. وليس بسبب ضعفنا نحن كان هو قويًا وصائرًا من الآب وحده، لكي يخلقنا بواسطته كأداة! حاشا! فالأمر ليس كذلك لأنه حتى لو لم يستحسن الله أن يخلق المخلوقات، فالكلمة مع ذلك كان عند الله وكان الآب فيه. وفي نفس الوقت كان من المستحيل أن تكون المخلوقات بغير الكلمة لأنها قد صارت به؛ وهذا هو الصواب. وحيث أن الابن هو الكلمة ذاته حسب الطبيعة الخاصة بجوهر الله، وهو منه وهو فيه كما يقول هو نفسه، لذلك لم يكن ممكنًا أن تصير المخلوقات إلا به. لأنه مثلما يضيء النور كل شيء بأشعته وبدون إشعاعه ما كان شيء قد أضاء- هكذا أيضًا فإن الآب خلق كل الأشياء بالكلمة كما بواسطة يد، وبدونه لم يخلق شيئًا[65].
للقديس أثناسيوس الرسولي
* إذ هو نفسه صورة الله غير المنظور غير الفاسد, فليشرق عليكم في مرآة الناموس. اعترف به في الناموس حتى يمكنك أن تعرفه في الإنجيل[66].
“سواء كان عروشًا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين،
الكل به وله قد خلق” [16].
يقول القديس أنبا أنطونيوس الكبير أنه توجد أنواع من الملائكة والشياطين:
* أُعطيت لهم أسماء مختلفة حسب نوع كل واحدٍ منهم. فالبعض من الملائكة يُسمون رؤساء ملائكة، والبعض منهم كراسي وربوبيات، والبعض رئاسات وسلاطين والشاروبيم. أُعطيت هذه الأسماء لهم حين حفظوا مشيئة خالقهم.
ومن الجهة الأخرى فإن شر الآخرين جعل من الضروري تسميتهم بأسماء: إبليس والشيطان، بسبب حالتهم الشريرة، والبعض منهم دُعوا شياطين، والبعض أرواح الشريرة وأرواح نجسة، والبعض مُضلّة، والبعض دعوا باسم رؤساء هذا العالم. وتوجد أنواع أخرى كثيرة منهم[67].
القديس أنبا أنطونيوس الكبير
* كما سبق أن قلت أنه إن كان الكلمة مخلوقًا فلم يكن من اللازم أن يكون هو أولها بل يكون مع سائر القوات الأخرى، حتى وإن تفوق في المجد عن الآخرين بدرجة أكبر. وهذا ما يمكن أن نجده في القوات الأخرى، لأنها وإن كانت قد خُلِقَت كلها في نفس الوقت، ولا يوجد أول أو ثانِ، إلا أنها تختلف بعضها عن بعض في المجد، فيقف البعض عن اليمين والبعض حول العرش والبعض الآخر عن اليسار، والجميع يسبحون معًا ويقفون في خدمة الرب[68].
للقديس أثناسيوس الرسولي
يرى القدّيس ديوناسيوس الأريوباغي أنّه توجد 9 طغمات سمائيّة، يقسّمها في ثلاث مجموعات[69] أو ثلاث رتب كل رتبة تضم ثلاث طغمات.
الرتبة الأولى: يسكنون أبديًا وعلى الدوام في حضرة الله، أكثر التصاقًا بالله، وفوق كل الرتب الأخرى. تضم هذه الرتبة الطغمات:الكراسي (العروش)، والشاروبيم والسيرافيم المملوئين أعيُنًا، وذوي أجنحة كثيرة. وهم متساوون في الرتبة، كاملون أكثر من غيرهم في تشبههم بالله، ومتحدون مباشرة بالنور الأول للاهوت.
الرتبة الثانية: تضم القوات والسلاطين Dominions والربوبيات Virtues.
الرتبة الثالثة: تضم الملائكة ورؤساء الملائكة والرئاسات Principalities.
ويرى ابن العبري[70] أن هذه المجموعات الثلاث هي أشبه بكنائس سمائية ثلاث:
الكنيسة الأولى تضم السيرافيم والكاروبيم والكراسي، هؤلاء الطغمات الثلاث يمثلون معًا العرش الإلهي، فيظهر في حزقيال أن السيرافيم هم مركبة الله الحاملة له، وجاء في المزامير: “أيها الجالس على الكاروبيم”. ويحمل اسم الكراسي أو العروش معنى العرش الإلهي.
الكنيسة الثانية: تضم الطغمات: السيادات ثم القوات، فالسلاطين.
الكنيسة الثالثة: تضم الرئاسات، فرؤساء الملائكة ثم الملائكة.
وفي العهد القديم كان رئيس الكهنة يرتدي الصدرية وهي تحمل 12 حجرًا كريمًا، منها تسعة تمثل هذه الطغمات الملائكية، وهي:
الصف الأول: عقيق أحمر يرمز للسرافيم الناريين، وياقوت أصفر يمثل الكاروبيم أصحاب المعرفة، وزمرد يمثل الكراسي.
الصف الثاني: بهرمان وياقوت أزرق وعقيق أبيض.
الصف الثالث عين الهر ويشم وجمشت.
أما الصف الرابع فهو يمثل كنيسة بني البشر المنضمة إلى الكنائس السمائية، وتضم زبرجدًا وجزعًا ويشبًا، إشارة إلى درجات الكهنوت الثلاث: رؤساء الكهنة، والكهنة والشماسة.
“الذي هو قبل كل شيء،
وفيه يقوم الكل” [17].
“فيه يقوم الكل” [17]: لم يكن الابن مجرد أداة لتحقيق الخلقة، لكنه كمالكٍ ومحبٍ لها يرعاها ويهتم بها، يعمل على استمرار ديناميكيتها، إذ هو “حامل كل الأشياء بكلمة قدرته” (عب1: 3). تُقدّم له التسبحة السماويّة: “أنت مستحق أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة، لأنك خَلقت كل الأشياء، وهي بإرادتك (لمسّرتك) كائنة وخُلقت” (رؤ4: 11). كل الأمور خاضعة له، وخلال قوّته الإلهيَّة الخلاّقة على الدوام تمتّع الخليقة بالاستمراريّة. أنّه ضابط الكل ومدبّر كل شيء. ليس شيء ما في العالم أو في الحياة وليد الصدفة، بل هي تحت سيطرة المسيح.
* إن كانت الخليقة قد خُلقت عن طريق الابن، وأن “فيه تثبت (تقوم) كل الأشياء في الوجود” [17]، فإن الذي يتأمّل الخليقة بطريقة مستقيمة، لا بُد أن يرى أيضًا بالضرورة الكلمة الذي خلقها، ومن خلال الكلمة يبدأ أن يُدرك الآب[71].
* لم يُلقّب بكرًا كمساوٍ للمخلوقات، أو أولهم زمنيًا [لأنه كيف يكون هذا وهو نفسه الوحيد الجنس بحق؟] لأنه بسبب تنازل الكلمة إلى المخلوقات، صار أخًا لكثيرين. وهو يعتبر وحيد الجنس” قطعًا، إذ أنه وحيد وليس له إخوة آخرون، والبكر يُسمّى بكرًا بسبب وجود اخوة آخرين… إن كان بكرًا لا يكون وحيدًا (1يو 4: 9)، لأنه غير ممكنٍ أن يكون هو نفسه وحيدًا وبكرًا إلا إذا كان يشير إلى أمرين مختلفين. فهو الابن الوحيد بسبب الولادة من الآب، لكنه يُسمّى بكرًا بسبب التنازل للخليقة ومؤاخاته للكثيرين… فهو مرتبط بالخليقة التي أشار إليها بولس بقوله: “فيه خُلق الكل” [16]. فإن كانت كل الخليقة خُلقت بواسطته فإنه مختلف عن المخلوقات، ولا يكون مخلوقًا بل هو خالق المخلوقات[72].
* “فيه يقوم الكل“، من الواضح أن الابن لا يمكن أن يكون “عملًا” لكنه هو يد الله وحكمته[73].
البابا أثناسيوس الرسولي
تفسير القمص أنطونيوس فكري
أيات 15 – 17 :- الذي هو صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة. فانه فيه خلق الكل ما في السماوات و ما على الارض ما يرى و ما لا يرى سواء كان عروشا ام سيادات ام رياسات ام سلاطين الكل به و له قد خلق. الذي هو قبل كل شيء و فيه يقوم الكل.
رسالة كولوسى تتحدث عن المسيح رأس الكنيسة وأمجاده. وهنا نرى وصفاً لمجد المسيح بإعتباره الخالق. بولس يشرح من هو المسيح رداً على الغنوسيين.
صورة الله غير المنظورة = قارن مع قوله أنه إبن محبته آية 13. فالإبن له نفس طبيعة أبيه، فإبن الإنسان يكون إنساناً وهكذا. إذاً المسيح له نفس طبيعة وجوهر الآب. الآب غير منظور، والإبن الذى هو صورة الآب صار منظوراً لنراه ولنعرف الآب فهو رسم جوهره وبهاء مجده (عب3:1). ولا يوجد بهاء بدون مجد ولا مجد بدون بهاء، ولا يوجد شعاع بدون نور ولا نور بدون شعاع. والمسيح قال: “من رآنى فقد رآى الآب” (يو 9:14). وقال: “أنا أظهرت إسمك للناس” (يو 6:17). لذلك قال يوحنا “الإبن خبرّ” (يو 18:1). وكلمة صورة فى اليونانية تعنى صورة طبق الأصل، وليس أحد الإنبثاقات كما يقول الغنوسيون. هى صورة تحمل نفس الطبيعة مثلما نقول فلان له صورة إنسان، إذاً هو إنسان. هذا التعبير يشير لعلاقة الآب والإبن السرمدية.
فى محبة المسيح وصليبه أدركنا محبة الآب، وفى تفتيح عينىّ الأعمى وفتح أذنىّ الأصم وقيامة لعازر وغيره من الموتى أدركنا أن الآب يريد لنا حياة أبدية وشفاءً روحياً فنرى ونسمع صوت الله. ماكان يمكننا أن نرى الآب فى مجده، فلا أحد يرى الله ويعيش (خر20:33). وذلك بسبب ضعف طبيعتنا بسبب الخطية، ولذلك تجسد المسيح ليستطيع أن يكلمنا فندرك محبته. راجع (تث 18 : 5-18) فكان هذا وعد الله. فالمسيح الإبن له نفس جوهر وطبيعة الله فهو صورته، ولكن قد أخفى مجد لاهوته فى ناسوته لنراه ولا نموت.
بكر كل خليقة = كلمة بكر فى اليونانية تشير لمعنى المولود الأول، فالمسيح أو الإبن هو مولود من الآب وليس مخلوق، التعبير لا يعنى أول خلق الله. وكلمة بكر تعنى رأس أو بداءة أو مُبدىء كل خليقة الله، والخليقة مخلوقة وليست مولودة. ونفهم قوله بكر كل خليقة أنه المتقدم الذى يفوق الخليقة كلها، وهو قبل كل الخليقة وقبل الزمن. ونسمع بعد ذلك أنه هو الخالق، فكيف يكون خالقاً ومخلوقاً فى الوقت نفسه = الكل به. وإذا كان هو خالق الكل. فهل خلق نفسه؟
فإنه فيه خُلق الكل = الفاء هنا تعنى أنه هو بكر كل خليقة لأنه فيه خلق الكل أى لأنه هو الخالق. هذه العبارة تساوى “به كان كل شىء” (يو3:1) وقوله فيه يعنى بواسطتهBY HIM، وعن طريقه، فهو البداية ومنه فاضت الحياة فهو له قدرته وسلطانه على جميع الأشياء. وهكذا قال الرسول: “الله خالق الجميع بيسوع المسيح” (أف 9:3) +(عب 2:1).
وله قد خلق = هو سيد ومالك الكل وتعنى أيضاً لأجل مجده، فكل خليقة المسيح تعلن قدراته الفائقة ومحبته للكل، فالخليقة تمجد المسيح. وطالما هو خلق كل شىء، وكل شىء كان لمجده. فهو له سلطان على كل الخليقة.
العروش = من أعلى رتب الملائكة. وقارن الإسم مع (مز 10:18) ركب على كاروب وطار. ومنها نرتل يوم أحد الشعانين “الجالس فوق الشاروبيم“.
سيادات / رياسات/ سلاطين = درجات مختلفة من الملائكة. وهنا فالرسول يرد على الغنوسيين الذين إدعوا أن هذه الرتب من الملائكة أعلى من المسيح ويظهر أن المسيح هو خالق الجميع.
قبل كل شىء = تشير لأزلية المسيح، فوجوده يسبق الوجود، وهو فوق كل الملائكة بمراتبهم، بل هو الذى خلقهم.. فما معنى عبادة الملائكة أذن ؟
وفيه يقوم الكل = هو الأساس والدعامة والحافظ لكل الوجود. هذه العبارة تساوى قوله حامل كل الأشياء بكلمة قدرته (عب3:1). فهو وراء التكامل فى هذا العالم، ووراء النظام الذى يحكم العالم، ووراء كل القوانين التى تحكم العالم كالجاذبية مثلاً. وطبعاً فى هذا رد على من يقول أن العالم خُلِقَ بواسطة أيونات أقل من الله فى جوهرها (أيونات ناقصة) وهذا مبرر للشرور التى فى العالم.