يو6:3 المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح
“1كَانَ إِنْسَانٌ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ اسْمُهُ نِيقُودِيمُوسُ، رَئِيسٌ لِلْيَهُودِ. 2هذَا جَاءَ إِلَى يَسُوعَ لَيْلاً وَقَالَ لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللهِ مُعَلِّمًا، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَهُ». 3أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ:«الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ». 4قَالَ لَهُ نِيقُودِيمُوسُ:«كَيْفَ يُمْكِنُ الإِنْسَانَ أَنْ يُولَدَ وَهُوَ شَيْخٌ؟ أَلَعَلَّهُ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَطْنَ أُمِّهِ ثَانِيَةً وَيُولَدَ؟» 5أَجَابَ يَسُوعُ:«الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ. 6اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ، وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ. 7لاَ تَتَعَجَّبْ أَنِّي قُلْتُ لَكَ: يَنْبَغِي أَنْ تُولَدُوا مِنْ فَوْقُ. 8اَلرِّيحُ تَهُبُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَتَسْمَعُ صَوْتَهَا، لكِنَّكَ لاَ تَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ تَأْتِي وَلاَ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ. هكَذَا كُلُّ مَنْ وُلِدَ مِنَ الرُّوحِ».” (يو3: 1-8)
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“المولود من الجسد جسد هو،
والمولود من الروح هو روح”. (6)
هذا هو سرّ المعمودية، بها نلنا التبني (رو 15:8)، فصرنا أبناء الملكوت، ولنا حق الميراث. خلالها يتم نزعنا من الزيتونة البرية وتطعيمنا في الزيتونة الجديدة (رو 24:11) بفعل الروح القدس. بها نحمل “الحلة الأولى” (لو 22:15)، و”حلة العرس” (مت 11:22-23) التي بدونها لا يستطيع أحد أن يتمتع بالملكوت. هكذا تحققت نبوة حزقيال: “أعطيكم قلبًا جديدًا، وأجعل روحًا جديدًا في داخلكم، وانزع قلب الحجر من لحمكم، وأعطيكم قلب لحم، وأجعل روحي في داخلكم” (حز 26:36).
إذ أعلن نيقوديموس عن رغبته في إدراك ما يبدو له مستحيلاً، كشف له السيد مفهوم الميلاد الجديد. إنه ليس ميلادًا جسديًا يتحقق بالدخول من جديد في رحم الأم، وإنما هو ميلاد روحي يتحقق بعمل روح الله القدوس القدير، خلاله يتم التقديس بالروح (١ بط ١: ٢) والغسل الداخلي للنفس بالروح (تي ٣: ٥).
إننا جسد، ليس فقط من جهة العنصر الجسداني، وإنما لأن الفساد حلّ به (تك ٦: ٣)، وإذ تلتحم النفس بالجسد صارت النفس أسيرة الإرادة الجسدية الشهوانية، تجد مسرتها في الشهوات، حتى صار الإنسان ككل كأنه جسداني. فأي اتحاد بين الجسداني والله الذي هو روح. هذا ما استلزم الميلاد الجديد لكي يحمل الإنسان ككل سمة الروح، فيجد الجسد لذته ومسرته في الروح لا في شهوات الجسد.
هذا هو العلاج العملي للإنسان الذي أفسدته شهوات الجسد. هذا العلاج يقدمه ابن الله الوحيد بكونه واهب الشريعة العظيم ووسيط العهد الجديد وطبيب النفوس، هو وحده يعرف العلاج الحقيقي.
إنه الكرام الإلهي الذي يعلم أن كل شجرة تقدم ثمارًا حسب بذرتها، فمن يُولد روحيًا يحمل فيه ملكوتًا روحيًا مقدسًا لائقًا بالله.
v يستخدم الماء ليتحقق الميلاد للمولود، كما الرحم بالنسبة للجنين، هكذا الماء بالنسبة للمؤمن. فإنه في الماء يتشكل ويأخذ هيئته. في البداية قيل: “لتخرج المياه الزحافات الحية” (تك 1: 20)؛ لكن منذ دخل الرب مجاري الأردن لم تعد بعد تخرج المياه “زحافات حية” بل نفوسًا عاقلة حاملة الروح، “كعروس خارجة من خدرها” (مز 18: 6). الآن نتحدث عن المؤمنين إذ يبعثون أكثر بهاء منه (من المولود بالجسد). فمن يتشكل في الرحم يحتاج إلى زمن، لكن الأمر غير ذلك في الماء، فكل شيءٍ يتم في لحظة واحدة. هنا حياتنا قابلة للموت، تأخذ أصلها من فساد الأجساد الأخرى، فتتم الولادة ببطء، لكن الأمر ليس هكذا في الروحيات. لماذا؟ لأن الأمور تتشكل كاملة من البداية.
v إذ سمع نيقوديموس ذلك اضطرب، انظروا كيف فتح المسيح أمامه خفايا هذا السرّ تدريجيًا، وجعله أكثر وضوحًا، إذ كان منذ لحظات غامضًا. قال: “المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح” (6). لقد قاده بعيدًا عن كل المحسوسات ولم يسمح له أن يتفحص الأسرار المعلنة باطلاً بعينيه الجسديتين. يقول: “إننا لسنا نتحدث عن الجسد، بل عن الروح يا نيقوديموس (بهذه الكلمات قاده نحو السماويات إلى حين)، لا تطلب أمرًا يخص أمور الحواس، فإن الروح لن يظهر مطلقًا لهذه الأعين، لا تظن أن الروح يلد جسدًا. ربما يسأل أحد: كيف إذن ولد جسد الرب؟ ليس من الروح وحده بل من الجسد، وكما يعلن بولس: “من امرأة مولودًا تحت الناموس” (غلا 4:4) فإن الروح شكَّله بالحق ليس من عدم (وإلا فما الحاجة إذن إلي الرحم؟)، وإنما شكله من جسم بتولي…
“المولود من الروح هو روح” بمعنى “من يولد من الروحي روحي”. فالميلاد الذي يتحدث عنه هنا ليس حسب الجوهر بل حسب الكرامة والنعمة.
v ما هو قوي فحتمًا يسود على ما هو ضعيف. يُبتلع ضعف الجسد بقوة الروح، مثل هذا لا يعود بعد يكون جسديًا، بل يصير روحيًا بسبب شركة الروح.
هكذا يحمل الشهداء شهادة محتقرين الموت، ليس حسب ضعف الجسد، وإنما حسب استعداد الروح. لأن ضعف الجسد يُبتلع بهذه الكيفية تاركًا لقوة الروح أن تشرق.
فالروح من جانبه إذ يمتص الضعف يملك فيه الجسد كميراثٍ له. بهذين الأمرين يتشكل الإنسان الحيّ، فهو حيّ لأنه يشترك بالروح ولكنه إنسان من أجل مادة الجسد.
القديس إيريناؤس
تفسير الأب متى المسكين
6:3- اَلْمَوْلُودُ مِنَ الْجَسَدِ جَسَدٌ هُوَ وَالْمَوْلُودُ مِنَ الرُّوحِ هُوَ رُوحٌ.
في البداية نود لو يلاحظ القارىء أننا لا زلنا مح فكر إنجيل القديس يوحنا الهادف إلى توضيح استعلان رسالة المسيح، وبالتالي استعلان المسيح من وراء استعلان رسالته. فالقارىء يذكر الأية الاولى: تحويل الماء إلى خمر، وهذا التحويل يشمل تحويل العبادة من الغسلات والتطهيرات بالماء إلى شرب الروح وكأس الخلاص، وفي تطهير الهيكل وضح لنا عملية تحويل الهيكل, مركز العبادة, من صناعة يد إنسان في 46 سنة إلى هيكل جسد المسيح بالقياهة من الأموات، حيث صار جسد المسيح هو الكنيسة مركزا لعبادة بالروح والحق؛ والآن في حديث نيقوديموس دخلنا في مفهوم تحويل الإنسان نفسه من حياة قديمة حسب الجد إلى حياة جديدة حب الروح, بالميلاد الثاني من فوق.
والمسيح هنا في هذه الأية يقطع خط الرجعة على نيقوديموس حتى لا يفكر إطلاقأ في الخلط بين خلقة الجسد الأدمية القديمة وخلقة الروح الجديدة. فلا يوجد تطور من الجد إلى الروح، ولا امتداد، ولا تطعيم، ولا تخطي الحدود بالمعرفة, أو بالتقوى, أو بأي عمل يستطيع الإنسان أن يأتيه بقوته أو إرادته أو حتى بمواهبه! فالمولود من الجسد يبقى جسدياً, حسب أصله, والمولود من الروح لم يعد إنساناً جسدياً بعد, بل روحاً أو روحياً, حسب أصله أيضاً.
فالجسد هنا هو العنصر البشري، والروح هو العنصر الإلهي الفائق. ولا يقصد المسيح هنا بالجسدي والروحي: «جسد هو، هو روح» الإتجاه المعتاد بالتعبير عن الجسد «بالمادي»، ولكن الإتجاه في الحقيقة أعمق وأجل، فهو يقصد الإنتهاء إلى «لا شيء» بالنسبة لنهاية الميلاد من الجسد، وبلوغ «الوجود الحقيقي» بالميلاد من الروح، الوجود مع الله للبقاء والخلود، فالمولود من الجسد غريب ونزيل عل الأرض، وزائل، سواء أدرك ذلك في نفسه، أو تلاهى وتعامى عن حقيقة غربته وزواله.
أما المولود من الروح فقد دخل المعجزة الإلهية ليدرك وجوده الحقيقي، ويتيقن أنه صار غير مهدد بالزوال, ويحس أنه استوطن السماء بالفعل، ويمارس كل يوم وجوده برجاء حي يتجدد باستمرار.
وكل من تأمل في وجوده وحياته وأعماله يدرك حقيقة نفسه إن كان يعيش على لا شيء أو يعيش على رجاء الوجود مع الله، وحينئذ يقيم الميلاد من الروح ويسعى نحوه بكل عزمه وتصميمه.
وكما أن الولادة من الجسد تعطي الإنسان صفات جسدية خاصة منها الميل لإشباع رغبات الجسد، هكذا الميلاد من الروح يعطي النفس صفات روحية أهمها الإلتصاق بالله خالقها وإمكانية النزوع إليه من كل الفكر والنفس والقدرة!
وبالتالي كما أن الولادة من الجسد تهيء الإنسان للحياة بالجسد في هذا العالم، هكذا الميلاد من الروح, من فوق, يهيىء الإنسان للحياة, فوق, في ملكوت الله: «إن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوة» (كو1:3). ولأن الإنسان أصلاً هو مخلوق من جسد, ونفس عاقلة روحية, أصبحت حاجة الإنسان المولود من الجسد يقابلها بالضرورة حاجة الميلاد من الروح، كما أن تعلق الإنسان بالحياة على الأرض يقابله تعلق الإنسان بالحياة فوق بالروح.
إنه نزوع طبيعي في الانسان, بحسب حركة الروح الذي فيه, التي نفخها الله في أنفه, أن يتطلع إلى الخلود والامتداد في الحياة إلى ما هو أعظم وأعلى وأرقى دائماً, وحنين الإنسان إلى الله والسماء والقداسة لم ينطفىء منه قط مهما تكدست الخطية فوق رأسه. الإنسان مخلوق أصلاً على صورة الله والصورة تنزع إلى التقرب من أصلها, كما أن الله يحن دائماً إلى صورته ويودها بقربه. ولو دققنا الرؤية أو تعمقنا الإنسان, ولو أنصفنا في تقييمه، لوجدناه روحاً لا جسداً, الإنسان الذي يحيا بجسده يحيا غريباً عن نفسه النزاعة نحو الروح والله! الإنسان يشقى بجسده بسبب وجود روحه الرقيبة عليه التي تستصغر دائماً من أعماله وأفكاره وميوله حينما تتطلع إلى خالقها.
الإنسان لا يستمتع وجوده الحقيقي الذي يشتاق إليه ويتمناه، أو حتى الذي يجهله، ولكن الروح لا تجهل ما لها. فالإنسان يتأوة ولا يعلم ماذا يريد، فقط هو غير راض عما هو فيه، الأفضل دائمأ دائماً غائب عنه, مهما أجهد ذاته للحاق به, وكل ما يحصل عليه يبقى ليس هو الذي له. فالميلاد الروحاني الجديد للانسان هو معجزته التي يعيش على رجائها، مهما كانت مخفية عنه وغائبة عن وعيه, إنه حالما يحصل عليها، يصير هو الإنسان الذي يريده، هو نفسه تماماً، وليس أقل ولا أنملة, ميلاد الإنسان روحيأ من فوق هو بداية الوجود الحقيقي له الذي هو له حقاً، حيث تستقر نفسه على مركزها الثابت الأصيل الذي ليس على أرض الزعازع والأوهام بل فوق. الإنسان المولود من فوق يتشبث بالأبدية فلا يعود الزمن يقلقه ولا توافه الأعمال.
ثم ألا ترى، عزيزي القارىء، أن الإنسان ليس حراً أن يختار بين أن يعيش بالجسد أو بالروح؟ لأنه إن لم يعش بالروح, فهو لا يعيش أصلاً وأبداً. أنظر إلى نيقوديموس الذي جاء يطلب الأفضل وهو معلم إسرائيل الأعلى، فاكتشق أنه حقاً وفعلاً لا يعيش!!
يقولون إن الإنسان حر، يختار مصيره بنفسه، هذا غش وخداع، فمصير الإنسان هو الذي يقنع الإنسان أن يتخلى عن حريته!! ومصير الإنسان تحدده ماهيته، يحدده كيانه، يحدده أصله الذي انحدر منه والذي فقده على الطريق، فصار بدونه كلا شيء، فإذ هو أصر على حريته صار إلى لا شيء. إن نداء الأم التي تاه ابنها عنها يسمعه الولد وهو على بعد فراسخ وأميال، والإنسان يسمع في أعماقه نداء الله مهما بعد عن الله وطال بعاده.
المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح، الجسد لن يوصلنا إلى الله! إن الجسد لا يطيق الله: «محبة الجسد عداوة لله»!! فلكي يقبل الإنسان معجزة الميلاد الثاني من فوق يلزمه حتماً أن يُخضع الجسد لمعجزة الموت: أن يكف الجسد عن أن يحيا لنفسه, ويكف عن أن يقود مسيرة الحياة: «وكان يقتاد بالروح.» (1:4).
تفسير القمص أنطونيوس فكري
آية (6): “المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح.”
بالمعمودية يتحول الإنسان من حياة قديمة حسب الجسد إلى حياة حسب الروح. وما لا يستطيعه الجسد تستطيعه الروح. فأنت الآن يا نيقوديموس تتصور أنك لا يمكنك ترك شهواتك، هذا لأنك مولود من جسد. وبهذه الآية يشرح السيد لنيقوديموس أن الولادة الثانية ليست ولادة جسدية أي لا داعي لأن يدخل بطن أمه ثانية. ومن يولد من الجسد يموت، أما من يولد من الروح ويقوده الروح فله حياة أبدية فالمولود من الروح يقوده الروح حتى يصل به للسماء. من يولد من الجسد يشتهي العالم ومن يولد من الروح يشتهي الإلتصاق بالله، ويتخلى عن شهواته الجسدية.