يو 14:1 والكلمة صار جسدًا وحل بيننا
وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا. يو 14:1
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“والكلمة صار جسدًا، وحل بيننا،
ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب،
مملوء نعمة وحقًا” (14).
يا له من تقديم رائع لأقنوم الكلمة بكونه مع الآب كائن معه من الأزل، وواحد معه في الجوهر، الخالق لكل ما في السماء وعلي الأرض، واهب الحياة، والنور الحقيقي المشرق على الجالسين في الظلمة، يرفعهم فيه لينالوا نعمة التبني لله الآب. الآن لآخر مرة يذكر الإنجيلي اسم “الكلمة” إذ صار جسدًا، فدخل إلى عالم البشر، لا خلال رؤية أو حلم أو كضيف غريب، وإنما كإنسانٍ حقيقيٍ كاملٍ يعيش وسط اخوته الأصاغر. تجسد ليخفي عظمة بهاء لاهوته التي لا تقدر عين بشرية أن تحدق فيه، لكنه خلال هذا السرّ يفتح باب المعرفة والرؤية ليتمتع المؤمن بالبنوة لله والتعرف على الأسرار الإلهية. إنه لا يريدنا أن نقف عند حجاب الجسد ونتجاهل حقيقته، لذا يقول: “طوبي لمن لا يعثر فيّ” (مت 11: 6).
يشبه القديس يوحنا الذهبي الفم البشرية الساقطة بامرأة زانية، وقد نزل العريس السماوي مختفيًا في الجسد لكي لا تخافه فتهرب منه، بل تلتقي معه وتتمتع بالمصالحة مع الآب، وتقبل الاتحاد مع عريسها السماوي إذ تتعرف على أسراره، وتنطلق معه إلى سمواته.
صار الكلمة إنسانًا ليضم البشر فيه فيتمتعوا بالإعلان الإلهي والمعرفة الإلهية عن اتحاد وقرب واختبار.
من أجلنا أخلى نفسه عن مجده الإلهي المنظور، وكما يقول الرسول بولس: “الذي كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه، أخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس” (في2: 6-7).. هذا الإخلاء لم يسبب تغييرًا في خصائص لاهوته، لأن لاهوته المتحد بناسوته لم يمتزج معه، إنما بتأنسه صار الكلمة إنسانًا كاملاً حقيقيًا وهو العلي الإله السماوي. بهذا فتح لنا بابًا إلى الأقداس السماوية. “فإذ لنا أيها الاخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقًا كرسه لنا حديثًا حيًا بالحجاب، أي جسده” (عب 10: 19-20).
“ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب مملوء نعمة وحقًا“.
في العبارات السابقة حلق بنا الإنجيلي يوحنا في جو الإلهيات حيث نشعر بالعجز الكامل عن إدراك أسرار الكلمة الإلهي. لكنه لم يتركنا في عجز لئلا نيأس، إذ عاد فأعلن أن هذا الكلمة صار جسدًا، صار قريبًا إلينا جدًا، في متناول يدنا، نراه ونلمسه ونسمعه ونعيش معه، نشاركه حياته.
نتطلع إلى ابن الإنسان فنراه وهو الكلمة الإلهي حمل الصليب فدان الخطية بالجسد، إذ قدمه ذبيحة خطية من أجل خلاص العالم ومجده. نراه على الصليب في ساعة مجده الخفي، حيث حملنا بصليبه إلى حضن أبيه أبناء مقدسين وممجدين، شركاء في الطبيعة الإلهية.
هذا الجسد العجيب المصلوب القائم من الأموات هو سرّ ثبوتنا فيه ومجدنا وحياتنا أبديًا، يقدمه لنا على الدوام خلال سرّ الافخارستيا، خلاصًا من خطايانا وحياة أبدية لمن يتناول منه.
v لنصغ أيها المستمعون إلى الأناجيل المقدسة، إلى يوحنا اللاهوتي، إذ يقول: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند اللَّه، وكان الكلمة اللَّه“. ويكمل قائلاً: “والكلمة صار جسدًا“. لأنه ليس حسنًا أن نتعبد لإنسانٍ عاديٍ، ولا أن نقول إن المسيح إله فقط ناكرين ناسوته. لأنه إن كان المسيح هو اللَّه فهذا حق، لكن إن قلنا إنه لم يأخذ الطبيعة البشرية يصير الخلاص غريبًا عنا.
إذن لنتعبد له بكونه إله مؤمنين بتأنسه، لأنه لا نفع من القول عنه أنه إنسان وليس اللَّه، أو أي خلاص لنا إن رفضنا الاعتراف ببشريته مع ألوهيته؟
لنعترف بحضوره إذ هو ملك وطبيب. لأن يسوع الملك إذ صار طبيبًا اتزر بكتان ناسوتنا، وشفي ما كان مريضًا.
المعلم الكامل للرُضع صار رضيعًا بينهم (رو 20:2) لكي يعطى حكمة للجهلاء. خبز السماء نزل إلى الأرض لكي يطعم الجياع!
v إذ أعلن أن الذين يقبلونه يولدون من الله ويصيرون أولاد الله، أضاف العلة والسبب لهذه الكرامة التي لا ينطق بها. ألا وهي: “الكلمة صار جسدًا” (14)، فقد أخذ السيد صورة عبد.
لقد صار ابن الإنسان الذي هو ابن الله، لكي يجعل أبناء البشر أبناء لله.
فانه إذ يجتمع العالي بالأسفل لا تُهان كرامته، بل يرفع المنحط من انحطاطه الدنيء؛ هذا ما حدث مع الرب.
ليس من شيءٍ قد قلل من طبيعته بتنازله، بل رفعنا نحن الذين كنا على الدوام جالسين في الخزي والظلمة، إلى مجد لا ينطق به.
هكذا إن تحدث ملك باهتمامٍ وحنوٍ مع إنسان فقيرٍ وضيعٍ، فإن هذا لا يمثل عارًا على الملك، بل يتطلع الكل إلى الآخر باهتمام وتقدير.
v وإذا سمعت أن “الكلمة صار جسدًا” لا تضطرب ولا تسقط، لأن المسيح لم ينتقل من جوهره إلى الجسد، لأن هذه الأفكار فيها كفر وإلحاد، لكن جوهره بقي على ما هو، فاتخذ على هذه الجهة صورة عبد.
وإن سألت: ولِم استعمل البشير كلمة “صار“؟ أجبتك استعملها لكي يسد بها أفواه أصحاب البدع، لأنه إذ يوجد أناس يقولون إن أعمال تدبير ربنا كلها إنما كانت خيالاً وتوهمًا، لذلك وضع البشير قوله “والكلمة صار جسدًا“، وبهذا أبطل من بداية كلامه تجديفهم، وبيّن أنه اتخذ جسدًا حقيقيًا…
“حلّ” أو “سكن” skeenoso باليونانية، وهي تعني إقامة مسكن مؤقت أو خيمة للإيواء. هذا المعنى يناسب ناسوت السيد المسيح، الذي رُمز له بخيمة الاجتماع أو المسكن في العهد القديم. وهو مسكن قابل للموت، لكنه دون أن ينفصل عن لاهوته. كما يُستخدم هذا التعبير في اليونانية عن إقامة مبنى يستخدم في المناسبات والأعياد. فتجسد السيد المسيح حول حياتنا إلى عيدٍ لا ينقطع.
إذ ارتبط قلب الإنسان بالأرض فظن أن سكناه عليها أبديًا، ولم يعد قادرًا على الانطلاق بقلبه وفكره وأحاسيسه خارج حدود الأرض والزمن، أعلن الرب منذ القديم اشتياقه للسكنى في وسطهم، حتى يذوقوا خالق الأرض والسماء، فيشتهون الانطلاق إليه والسكنى معه. ففي أيام موسى “غطت السحابة خيمة الاجتماع، وملأ بهاء الرب المسكن، فلم يقدر موسى أن يدخل خيمة الاجتماع ” (خر 40: 34- 35). وفي عصر الأنبياء يعلن الرب: “ترنمي وافرحي يا بنت صهيون، لأني هأنذا آتي وأسكن في وسطك يقول الرب” (زك 2: 10). وفي أرض السبي حيث فقد الشعب أرض الموعد مسكنًا لهم وعدهم الله، لا أن يردهم فحسب ليسكنوا في كنعان، بل يجعل فيهم مسكنًا مقدسًا له، أفضل من الأرض: “ويكون مسكني فوقهم، وأكون لهم إلهًا، ويكونون لي شعبَا” (حز 37: 27).
يصيرون أشبه بتابوت العهد حيث كان الله يعلن عن حضرته على غطائه بين الشاروبين. أما وقد تجسد الكلمة فصار كمن سكن البشرية باتحاد الكلمة بالناسوت، إذ صارت هيكله الجديد، وحل بيننا لنرى مجده، وننعم بالشركة معه. وهكذا فتح لنا تجسده ينبوعًا من النعم لا ينقطع.
v “حل بيننا” حتى نتمكن أن ندنو منه وأن نخاطبه ونتصرف معه بمجاهرة كثيرة.
إذ حلّ الكلمة بإخلائه وتجسده بيننا إنما لنختبر قبسًا من مجده، فنشتهي التمتع برؤية المجد الإلهي. هذا ما اختبره المعمدان في لحظات عماد السيد المسيح، فانفتحت عيناه على معرفته له بصورة أروع.
وهذا ما اختبره بطرس ويعقوب ويوحنا على جبل طابور حين تجلى السيد المسيح أمامهم. وقد سجل لنا بطرس الرسول تلك الخبرة: “لأننا لم نتبع خرافات مصنعة، إذ عرفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه، بل قد كنا معاينين عظمته، لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجدًا، إذ أقبل عليه صوت كهذا من المجد الأسنى: هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به. ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء، إذ كنا معه في الجبل المقدس” (2 بط 1: 16-18).
بالصليب والقيامة أعلن مجد حب الرب الفائق للبشرية وشوقه لإقامة الكل من الأموات. وقد عبر سفر إشعياء عن ذلك في حديثه عن العصر المسياني: “يصير المعوج مستقيمًا، والعراقيب سهلاً، فيعلن مجد الرب، ويراه كل بشر معًا، لأن فم الرب تكلم” (إش 40: 4- 5).
أعلن هذا المجد الإلهي الذي لابن الله الوحيد، إذ بالتجسد الإلهي تعرفنا على حب الآب الفريد لابنه كمصدر لتمتعنا نحن بالحب الإلهي. إذ “بهذا ظهرت محبة الله فينا أن الله أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به “(1 يو 4: 9).
أعلن مجده إذ قدم لنا ابنه الوحيد مصدر النعم والبركات، لكنها تقدم بروح الحق. يغفر خطايانا، لكنه هو يدفع الثمن. يفتح باب السماء، وهو الذي يقدسنا بروحه القدوس لندخل المقادس الإلهية السماوية، بهذا يربط النعمة بالحق.
v ما هذا؟ “رأينا مجده مجدًا كما لوحيدٍ من الآب“. ما كان يمكننا أن نراه (المجد) ما لم يُظهر لنا خلال جسد يخفيه ويعيش بيننا…
ولكن ماذا يعني “مجدًا كما لوحيدٍ من الآب“؟ حيث أن كثير من الأنبياء أيضًا قد تمجدوا، مثل موسى وإيليا وإليشع. فإليشع أحاطت به مركبة نارية (2 مل 6: 17)، وإيليا صعد عليها، وبعدهما دانيال والثلاثة فتية وآخرون كثيرون أظهروا عجائب ومُجدوا، وظهرت ملائكة للبشر… بل ظهر لهم حتى الشاروبيم والسيرافيم.
يقودنا الإنجيل بعيدًا عن كل هذه، وعن الخليقة، وبهاء العبيد زملائنا ويضعنا أمام ذروة الأمور الصالحة… السيد نفسه، الملك ذاته، الابن الوحيد الأصيل، رب الكل نفسه، رأينا مجده.
تعبير “كما” لا يعني هنا المشابهة أو المقارنة وإنما لفظة تحقيق وتحديد خالٍ من الشك، كأنه قال: “ورأينا مجده مجدًا كما وجب أن يمتلكه ابن وحيد خالص لإله الخليقة كلها وملكها”1.
v كل جسدٍ هو عشب، وكل مجدٍ كزهر العشب. العشب يجف والزهر يسقط… “أما كلمة الله فتبقى إلى الأبد” (إش ٤٠: ٦، ٧ LXX؛ ١ بط ١: ٢٤، ٢٥).
لكن لكي يعيننا “الكلمة صار جسدًا وحلَّ بيننا” (يو ١: ١٤).
ماذا يعني “الكلمة صار جسدًا؟ الذهب صار عشبًا. صار عشبًا لكي يحترق. احترق العشب لكن بقي الذهب. في العشب لم يحترق (الذهب)، بل غيَّر العشب. كيف غيره؟ أقامه وأحياه ورفعه إلى السماء، وأقامه عن يمين الآب.
v حتى في كونه قد صار ابن الإنسان يختلف عنا كثيرًا. نحن أبناء البشر بشهوة الجسد، هو ابن الإنسان بإيمان بتول.
والدة أي إنسان آخر مهما يكن تحبل باتحاد جسدي؛ وكل أحد يُولد من والدين بشريين: من أبيه وأمه. أما المسيح فوُلد من الروح القدس والعذراء مريم.
جاء إلينا، لكنه لم يفارق ذاته (لاهوته)، نعم من ذاته بكونه الله لن يفارق ذاته، بل أخذ ما هو لطبيعتنا.
جاء إلى ما لم يكن هو عليه، ولم يفقد ما كان عليه.
صار ابن الإنسان، ولم يكف عن أن يبقى ابن الله…
لم يأتِ إلينا كمن يترك الآب. ومن عندنا ذهب لكنه لم يتركنا. وإلينا سيأتي مرة أخرى، لكنه لا يترك الآب.
v لكي نقتني (رؤيته) إن كنا لا نقدر بعد أن نرى الله الكلمة، لنسمع “الكلمة صار جسدًا“، ناظرين أننا نحن جسديون، فلنسمع الكلمة المتجسد. فإنه لهذا السبب جاء، ولهذا السبب حمل ضعفنا حتى يمكن أن نقبل كلمات الله القوية الحامل ضعفنا.
بحق قد دُعي “اللبن”، إذ يهب لبنًا للرضع حتى يقدم وجبة الحكمة (اللحم) للناضجين.
لترضع الآن في صبرٍ حتى تُنعش رغبة قلبك المملوءة غيرة…
إذ أن الرضع ليس لهم قوة كافية ليأكلوا لحمًا موضوعًا على المائدة، ماذا تفعل الأم؟ إنها تحول اللحم Incarnat إلى مادة جسمها وتجعل منه لبنًا. إنها تجعل منه ما نستطيع أن نأخذه.
هكذا الكلمة صار جسدًا حتى يمكننا نحن الصغار، الذين بالحق كالرضع بالنسبة للطعام، فننتعش باللبن.
لكن يوجد هنا اختلاف بأن تجعل الأم الطعام يتحول من لحم إلى لبن، والطعام إلى لبن، أما الكلمة الذي سكن بنفسه آخذًا الجسد دون أن يتغير حتى يبدو كنسيجٍ من الاثنين.
v أولاً لتدركوا تنازل الله. لتتنازلوا فتكونوا متواضعين لأجل أنفسكم، متطلعين إلى الله الذي تنازل متواضعًا لأجلكم أيضًا وليس لأجل نفسه…
اعترفوا بضعفكم؛ ولترقدوا أمام الطبيب في صبرٍ.
عندما تدركوا تنازله ترتفعوا معه، ليس بأن يرفع نفسه بكونه الكلمة، بل بالأحرى يُدرَكْ منكم أكثر فأكثر…
هو لا يزيد، لكنكم أنتم تتقدمون، فيكون كمن ارتفع معكم…
تطلعوا إلى الشجرة فإنها أولا ضربت جذورها إلى أسفل حتى تنمو إلى فوق. تثبت جذرها السفلي في الأرض لكي ما تمتد بقمتها إلى السماء. هل تبذل جهدًا للنمو إلاَّ من خلال التواضع؟ إذن “ليحلّ المسيح بالإيمان في قلوبكم، وأنتم متأصلون ومتأسسون في المحبة… لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله” (أف ٣: ١٧ – ١٩).
v لتؤمن أن في هذا الناسوت أخذ ابن اللَّه طبيعتنا كاملة، أي النفس العاقلة والجسد القابل للموت، بدون خطية. لقد شاركنا ضعفنا، لكنه لم يشاركنه شرنا، حتى بالضعف المشترك معنا يحل رباطات شرنا ويُحضرنا إلى برِّه، شاربًا الموت من كأسنا، ساكبًا الحياة من الذي له.
v كان قبل وجود جسده، لقد خلق أمه واختارها هذه التي منها يُجعل به، خلق هذه التي منها يُخلق (حسب الجسد). فلماذا تتعجبون؟ فإني أتحدث إليكم عن الله: “وكان الكلمة الله“.
إني أتحدث عن الكلمة، الذي هو ربنا، يحمل شيِئًا ما من التشابه مع كلمة البشر، وإن كانت غير متساوية إلى أبعد الحدود، وليس من وجه للمقارنة. ولكن يوجد شيء ينقل إليكم تلميحًا عن شيءٍ من التشابه. نعم فإن الكلمة التي أنطق بها إليكم كانت في قلبي. لقد جاءت إليكم لكنها لم تفارقني. إنها تبدأ أن تكون فيكم وهي لم تكن فيكم. إنها مستمرة معي عندما خرجت إليكم.
إذن كما أن كلمتي قد جُلبت إلى أجسامكم ولم تفارق قلبي، هكذا الكلمة جاء إلى حواسنا ومع ذلك لم يفارق الآب.
كانت الكلمة معي وجاءت في صوت. كانت كلمة الله مع الآب وجاءت في جسد. لكن هل أستطيع أن أفعل بصوتي ما يستطيع (الله) أن يفعله بجسده؟ فإني لست سيدًا على صوتي عندما يطير. أما هو فليس فقط سيدًا لجسده ليولد ويعيش ويعمل، بل وأيضًا إذ مات أقامه ومجده لدى الآب فهو المركبة الحاملة له والتي بها جاء إلينا.
v الكلمة صار جسدًا لكي نعبر نحن من الجسد إلى الكلمة. لم يتوقف الكلمة عن أن يبقى على ما كان عليه (الكلمة)، كما لم تُفقد الطبيعة البشرية التي صارت بالميلاد.
تفسير الأب متى المسكين
14:1- وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً.
تقسيم هذه الأية:
ا- وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً
ب- وَحَلَّ بَيْنَنَا
ج- وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ
د- مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً.
نتذكر الاستعلان السالف الذي أكمله «الكلمة» أنه كان على مستوى تكميل وعد سابق بفم كل الأنبياء، أكمله بالمجيء الفعلي في ملء الزمن: “إلى خاصته جاء”. وكان مجيئه استعلاناً محصوراً في شعب هو خاصته وفي أرض هي من خاصته. ولكن الأن يستعلن “الكلمة” ذاته على غير موعد وعلى مستوى البشرية كلها والعالم أجمع.
وهكذا نكاد نصفق بأيدينا لهذا الانجيلي البديع زي البصيرة الحادة والرؤيا المترامية الأطراف، الذي واكب الكلمة في درجات استعلانه من الآزلية قبل الزمن، عبوراً بالخليقة والحياة والنور الذي لم ينحصر عن الإنسان قط منذ أن خٌلق، إلى الآباء والأنبياء والشعب المختار والحياة الآبدية المكنوزة في الكتب لمن يفتش عنها, إلى المعمدان يشهد للنور، إلى الرفض والمصادرة حتى منتهاها, إلى الاستعلان الأخير الذي نعيشه في ملء نوره وبهائه, كل ذلك أيها القارىء العزيز في أربع عشرة أية لم تأخذ من إنجيله أكثرمن نصف صفحة!!
أ- وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً
“الواو” هنا تتبع المسلسل الذي جاء في أول الآصحاح، فهو عودة على ذي بدء. ومن ذلك نلمح وبسهولة في قوله: « وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً» تكملة مفاجئة للآية الاولى بكل إحكام، ونقراها معاً هكذا: “في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله والكلمة صار جسداً”.
وهنا اخر مرة نسمع فيها القديس يوحنا يذكر«االكلمة» إذ يدخل بها إنجيل الخلاص لنرى الكلمة في شخص المسيا.
هنا يتفضل الله وينزل بنفسه إل عالمه الذي خلق، لا كزائر روحي بشبه ملاك أو رئيس ملائكة، ولا كضيف غريب يباغت الإنسان في عقر داره، بل نزل كإنسان ليعيش مع الإنسان كإنسان، وليتكلم مع الإنسان بعد أن أخفقت كل الوسائل في توصيل كلمته إليه. جاء في «الجسد» ليتحدث مع كل ذي جسد: «إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته.» (ي 2:17).
نعم قد جاء الله بنفسه في الكلمة المتجسد ومعه الحياة الآبدية والنور الحقيقي في الجسد مخفيين في الجسد ولكن منظوران بالرؤيا الإيمانية النفاذة التي تنفذ خلال الظواهر والحجب والظلال والأقنعة لتقع على الحقيقة مباشرة, رؤية منفتحة على الإيمان. لذلك كل من كان له عين ترى وأذن تسمع، رأى مجده وسمع صوت الله فيه فعاش: “أما رأيت يسوع المسيح ربنا.” (1كو1:9)
لذلك بقدر ما كان الله الكلمة المتجسد نوراً وحياة أبدية لمن وقعت عينه على اللاهوت الذي فيه, بقدر ما كان الكلمة المتجسد عثرة للعين التي توقفت عند حجاب الجسد، فاختفى عنها الله والحياة والنور معاً: «طوبى لمن لا يعثر فًي.» (مت 6:11).
وكأنما سر التجسد هو الظل المرافق «للكلمة« منذ البدء! فـ «سر» التجسد الإلهي فوق أنه يحتضن كل ما عداه من أسرار الاستعلانات السابقة, للكلمة, ويكملها، فهو, أي “سر” التجسد” يحمله معه في وجوده المطلق منذ البدء وفي كيانه الإلهي «وكان الكلمة الله»، منطوياً تحت حب الله للعالم!!
وهكذا وبسهولة أيضأ نلمح في «الكلمة» احتضان الأزلية للزمن وانعطاف الله عل الإنسان! فسر المصالحة العظمى التي جاء ليصنعها الكلمة بين العالم والله: «أي إن الله كان في المسيح مصالحا العالم لنفسه» (اكو 19:5)، هذه المصالحة كانت دوافعها وأدواتها كائنة فيه منذ الآزل!
انظر معي أيها القارىء العزيز وتمعن كيف أن «الكلمة» يحتضن الآزلية والزمان معاً “في البدء كان الكلمة”، «والكلمة صار…»
وكيف ينعطف اللاهوت على الإنسان: «والكلمة كان عند الله»، و”حل بيننا”:
فالزمن خرج من رحم الآزلية، وحب الله للانسان كان كامنا في حضه الآزلى.
ثم انظر كيف يجمع «الكلمة» في نفسه الله والإنسان: “وكان الكلمة الله” و “الكلمة صار جسداً”.
ثم انظر كيف نجح الكلمة أخيرا نجاحا منقطع النظير في استعلان ذاته واستعلان الله فيه: «ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الأب مملوءاً نعمة وحقاً».
«والكلمة صار جسداً»»: هنا، وهنا أخيراً، استقر القديس يوحنا بعد تحليقه طائراً وراء الكلمة في الآزلية محلقا في الله ليراه عنده قائماً، وفي الخليقة هناك خالقاً، وفي الحياة نورا مرفوضاً ومقبولاً، وكنا نحن نلهث وراء يوحنا ما عسى أن يكون «الكلمة» هذا، وما هيئته أو صورته، حتى انقطعت أنفاسنا؛ وأخيراً حط هذا النسر الجسور المتمرس في التحديق في نور الله، حط بـ «الكلمة» على «جسد» إنسان فعرفنا في الحال أنه «يسوع المسيح».
«مناجاة»
أيها الكلمة والفعل الآزلي، الكائن الذاتي, الله منطوقاً لنا بالكلمة والله مستعلنأ لنا بالفعل، الفاعل بكل قدرات الله ومشيئته في الخلق والتدبير، القائم الدائم في الذات الإلهية العظمى, الملتحم جوهريا وذاتيا بـ “أنا” الله بالحب المطلق، وصاحب الاسم الإلهي معه «أنا هو»، المنطلق من كيان الله لاستعلان الله بلا انقطاع، الحامل للكلية الإلهية بغير تجزؤ، والعامل بسلطان الله بلا نقصان مع الله كإرادة وفعل معاً كلي القدرة وكلي المعرفة وكلي الوجود, غير المنحصر في ذاته وغير المحدود وغير المبتدىء.
فأنت البداية التي بلا بداية, والنهاية التي بلا نهاية, التي ينتهي عندها كل زي نهاية، غير المتغير، والمتغيرات كلها فعل من أفعالك.
الزمان منك أخذ حركته ودورانه ليحكي عن عظمة سكونك الفعال وتعاليك عن كل ظل دوران، وإليك ينتهي وعندك يهدأ من كل حركاته، فأنت السكون الضابط لكل حركة.
أما المكان الذي تمثله روائع الأكوان كخيمة أقمت أعمدتها في وسط الوجود المطلق, فهي تحكي بوجودها المحدود عن جبرؤوت الله ووجودك غير المحدود ولا منظور. فكل الأكوان بما تحوي من بدائع المخلوقات المعروفة وغير المعروفة، هي صفعة منبسطة تعكس طرفاً من بهاء مجد الله فيك غير المدرك. فأنت الكلمة الله الذي هو وحده بالفعل والكلمة استعلن عظمة الله غير المدرك ولا معروف والذي لن يُدرك ولن يُعرف إلا فيك.
فهذا البدء الزماني والمكاني السحيق في القدم، هو بكلياته وجزئياته فعل حدث من أفعال أزليتك, خرج إلى الوجود كما صورته قدرة الله ومشيئته فيك.
أيها الكلمة الله الذاتي الذي كنت محتجباً في الله، مح أنك أنت الحامل لاستعلان الله، لقد استعلنت نور الله الذي كان سيظل محتجباً لولا هذا العالم الذي خلقت، الذي حمل إلينا رسالة ناطقة من خلف آياته الجبارة, تحكي عن الإرادة العظمى التي أرادته، وحكمة الفعل الإلهي الذي به خُلق.
فالمصنوعات فيه تحكي عن لاهوت الصانع، فكل الأفلاك والمجرات والعوالم التي يضج بها الفضاء بقوانين تحركها وتقلبها، وانضباطها الخاضع لسلطان الدقة الهندسية الفائقة، تحكي لنا عن ما هي الإرادة الإلهية التي أرادت والفعل الإلهي الذي خلق، تحكي عنك أيها الكلمة ذو الحكمة والقوة والسلطان والمجد والجلال العامل لحساب استعلان الله،
تحكي عن حب الله القائم في العالم لحساب العالم، فانبث فيه قانون المحبة والتآلف الذي يحكم حركتها جيعاً من جماد ونبات وحيوان وانسان. فكل ذرة, بحركتها الباطنية المنسجمة والمنضبطة في تآلف فائق القدر والوصف، تحكي عن التألف بين الإرادة والفعل في ذات الله الذي خلق. أما القوة الذرية المرعبة التي ظهرت عند انشطارها فهي تحكي عن القوة الإلهية التي جُمعت وضُبطت.
وهذا الإنسان الذي خلقت، حسب قصد محبة الله التي تعمل كل شيء حسب رأي مشيئته في المحبة، خلقته بامتياز الإدراك والنطق والحب، ليدركك ويدرك فيك الله المُدرك الكامل الذي يٌدرك ولا يٌدرك كماله، ويحبك ويقيس حب الله فيك؛ وصورته ليكون في النهاية على صورة خالقه ليستمتع بالحياة الأبدية ويحيا الخلود وينأى عن العجز والفساد.
هناك قبل كون العالم وأنت قائم في مجدك مع الله، عندما نويت أنت في أزليتك أن تحمل صورته البائسة التي انحط إليها, لترفعه أنت إلى صورتك في ملء الزمان وعند انتهاء أزمنة شقاء الإنسان، خلعث ثوب مجدك الظاهري لتقوى على حمل اتضاعنا وخساسة طبيعتنا، وأتيت إلينا على الأرض وصرت جسداً، وأنت الكلمة الذي لا تسعك السموات.
وهكذا لما أخذت هيئة بنوتنا, تعرفنا عليك حالاً أنك أنت أنت ابن الله الذي منك انبثقت كل بنوة، فأنت الحامل للبنوة الإلهية جوهراً وذاتاً، التي كل بنوة في العالم المخلوق هي صورة منك.
وهكذا وأنت أصل كل بنوة، لما حملت صورة بنوتا اكتشفنا فيك الآصل: وتعرفنا عليك أنت الابن الوحيد لأبيه. وأدركنا بالروح مقصدك الحميد، أنك لبست صورة بنوتنا لترفعها إلى مستوى جوهر بنوتك. وتجعل الصورة التي ماتت تحيا من جديد» وتنطق باسم الله “يا أبا الآب”.
أيها الرب يسوع المسيح الكلمة ابن الله الذاتي, كلي الكرامة والمجد مع الله أبيك” الأن عرفناك أنك أنت أنت الكلمة الذي كان، والكائن في البدء ومنذ الآزل عند الله.
فبعد ما كملت استعلان الله بالخلق الناطق بلاهوت الله في كل المصنوعات التي خلقت، التي تحكي عن جبرؤوت خالقها، تجسدت بشبه خليقتك التي خلقت، مع أنك أنت لا تزال قوام الخلائق طرا، فكلها تتخذ وجودها ودوامها بتدبير حكمتك، فأنت حياة ونور كل أحد.
أنت «الكلمة» الذي كان، والمستعلن لنا «ابن الله» الآن.
هكذا نؤمن وهكذا نعترف، انك بعد أن أكملت استعلان الله بالكلمة, جئت إلينا لتكمل استعلان الله بالجسد. ولكننا من خلال اتضاع بشريتك أدركنا وتيقنا من مجد ألوهيتك ومجد الآب الذي أعلنته ببنوتك. فإن كانت الخليقة هي لغتك، فقد أعطانا الروح فك شفرتها، فأدركنا أن نور بصائرنا الذي به نراك هو رجع لشعاع نورك، وحياتنا وميض من حياتك, وحتى الحب الذي يقوم حياتنا وأجناسنا وأسرنا وأفرادنا كقانون يتغلغل كل ذي جسد، هو هو حب الآب فيك الذي منه سكبت هذا الحب في خليقتك لما خلقت. فإن كان قانون الحب عندنا هو علة حياتنا الذي يجمع كل جنس ويضم كل أمرة ويوحد الذكر بالأنثى والابن مع أبيه وأمه, فما ذلك إلا أنك أنت أحببتنا قبل أن تخلقنا وأحببتنا قبل أن تفدينا, فصار الحب هو علة وجودنا وخلاصنا, الذي يحكي بقوة عن الحب الذي فيك من نحونا ونحو أبيك، الذي هو من طبيعتك.
ولم تكتف أن يبقى حبك حبيس الخليقة التي خلقت، بل أفضت من روحك القدوس, سر الحب الأقدس، على أرواحنا فتخطينا حدود الخلائق، وارتقينا بالحب فوق طبيعتنا، والتصقنا بالله فيك، لنبقى معه فيك روحاً في روح، لأن “من التصق بالرب فهو روح واحد”(1كو17:6)، فبلغنا غاية الحب وبلغنا الرؤية العظمى, لأن “الذى يجبني يحبه أبي وأنا أحبه واظهر له ذاتي” (يو21:17)، وصرنا من «أهل بيت الله» (أف19:2).
وهكذا بعد أن كنا عاراً في خليقتك، صرنا بالحب شركاء مجدك، نأخذ منه ونعطيك. وهكذا أكملت اسعقلان الله فينا لما سكب فينا أبوة الله المنسكبة فيك، فاستعلنا الله أباَ لنا وورثتنا ما هو ليس لنا…
لما أراد الله أن يكمل حديثه معنا ليعرفنا بمحبته ويكشف لنا عن أحشاء رحمته بعد أن كلم الآباء بالأنبياء، كلمنا فيك، فتكلمت معنا بفم أبيك, أنت الكلمة والابن والله الناطق بسر الوجود. فتجسدت لتكون أقرب إلينا من أنفسنا، فنسمعك سمع الاذن ونراك رؤيا العين، وكابن الإنسان وأنت ابن الله تكلمت مع الإنسان، فكان الصوت صوت إنسان والمتكلم هو الله!!
ولما لبست صورة الترابي بعد أن أخليت ذاتك, لم تستطع أن تخفي ذاتك لأن حضرتك الإلهية كشفت سر اتضاعك، وكان صوت أبيك سباقاً لتعريفنا بك: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت له اسمعوا.» (مت5:17)
والروح القدس لم يطق قعوداً في السماء بل أخذ جناحي حمامة وطار وحط عليك, فرآه المعمدان لما استقر عليك, فعرفك ونادى وشهد هذا هو ابن الله. بل وإن روح البنوة التي فيك استعلنت مجد بنوتك للعيون المفتوحة، فرأوا فيك مجد الابن الوحيد وشهدوا له, ومن ملء لاهوتك أخذ تلاميذك وامتلأوا نعمة وحقاً.
سجلت بأعمالك شهادة لاهوتك، وأعلنت بالكلمة سر بنوتك الفريدة لآبيك، ففيك استعلن الآب حالما استعلنت البنوة، وكلاهما كان الصفة الجوهرية التي كانت محتجبة، والقائمة في ذات الله: البنوة مع الابوة, وهكذا استكملت استعلان الابوة التي لك خاصة، في الله أبيك والتي نقلت عطفها إلينا وحبها فينا كما هو فيك.
الله لم يره أحد قط, هكذا قلت، ولهذا جئت لتخبرنا أنت وحدك بالخبر اليقين وبما رأيت وعاينت وسمعت، فعليك أنت الكلمة ؤضع كل حمل استقلان الله منذ البدء.
أنت الابن المحبوب الذي استودعك الله أبوك ملء سر حبه الأبوي، لهذا لم يستأمن أن يرسل سواك إلينا في ختام عهد تأديبنا، لتبلغنا حبك كعريس، وتنقل لنا حب أبيك كما هو فيك، وتنقلنا إلى حال العروس في بيت أبيك، وتمنحنا رتبة البنين لله كامتياز, في قوة ونعمة بنوتك الذاتية لآبيك, بعد أن فديتنا بحياتك ودم صليبك، لنرث معك وفيك ميراث البنين، بعد أن كنا عبيدً وكان مقامنا خارج السياجات.
أيها الكلمة الآزلي ذا القوة والجلال، يا مسيح الصليب والقبر والقيامة, يا ابن الله المحبوب لآبيه، الجالس عن يمين العظمة في الآعالي، والمكلل بالمجد والكرامة، ما الخليقة كلها في السماء وعلى الآرض بكل أفرادها ومكوناتها، والإنسان على رأسها، إلا انعكاس فعال لحب الآب لك ولحبك لآبيك القائم الدائم في الذات الإلهية العظمى، هذا الحب الماسك بأطراق العالم الذي لولاه لانفرط عقده، بل إن العالم كله والإنسان على رأسه إن هو إلاستعلان في صميم الزمان لسر الحب الذي كان عند الله في الآزل من نحو العالم والانسان، الذي كان يكمن فيه سر خلاص الإنسان، وباستعلان حب الله في الإنسان واستعلان الابوة والبنوة للانسان صار الإنسان هو الصورة المجسدة الضئيلة التي تحكي عن سر اكتفاء الله في ذاته.
أنت “من لي في السماء، ومعك لا أريد شيئاً على الآرض.” (مز25:73)
لك نقدم الشكر مع التسبيح والسجود والمجد الدائم لك مع أبيك الصالح والروح القدس الإله الواحد أبينا وسيد كل أحد.
“والكلمة صار جسداً”
«صار» هنا لا تفيد التغيير كما لا تفيد أن الكلمة توقف عن أن يكون الكلمة. لأن “الكلمة” بدء كل ذي بدء، له جوهر الله وطبيعته، لذلك فهو غير قابل للغيير وغير قابل للتحول, ولكن القول “صار” يفيد اتخاذه درجة في الاستعلان تتناسب مع ضعف إدراكنا، لأن عجز الأنبياء في توصيل « الكلمة» للناس وفشل الناس في إدراك «الكلمة» جعلا الكلمة يأخذ حالة أكثر اقتراباً لإدراكنا، حتى يتمم فيها استعلاناً أكثر لله.
كذلك نجد أذ قوله: «صار» هنا تتصل بمفهوم عميق مع «صار» التي جاءت في الأية 2:1 “كل شيء به صار”، إذ نلمح أن القديس يوحنا يكاد يقول أن الكلمة هو أصل ومركز الخليقة القديمة والخليقة الجديدة، فالاولى «به صارت» والثانية “فيه صارت”, و«صار هو رأساً لها»، وكأن القديس يوحنا يود أن يقول “أنه صار إلى الذي به صار. ومن هنا جاء القول «بكر كل خليقة» (كو 15:1)، لأنه هو أيضاً أول قيامة الأموات!!
كذلك فإن “الجسد” الذي صار إليه وفيه؛ لا يعبر عن جزء من الإنسان، ولكنه تعبير لاهوتي عن طبيعة الإنسان ككل، جسداً ونفساً وروحاً.
وكلمة «الجسد» هي تعبير سائد في العهد القديم يعبر عن البشرية ككل، ونسمع ذلك في قول يؤئيل النبي (في الترجمة السبعينية): « ويكون بعد ذلك أني أسكب روحي على كل جسد… «، التي جاءت في الترجمة العربية «على كل بشر.» ( يؤئيل 28:2)
والمعنى أن «الكلمة» الذي «كان في البدء، وكان عند الله، وكان هو الله»، صار إنساناً كاملاً له كل ما للطبيعة البشرية من صفات, ما عدا الخطية وحدها, وهو هو الكلمة، كما كان قبل التجسد هكذا بقي كما هو بعد التجسد.
والقديس يوحنا, عن حكمة روحية وبصيرة لاهوتية, اختار كلمة «صار«، ولم يقل «أخذ جسداً»، كما يخطىء بعض اللاهوتيين، فهو لم «يأخذ» وإلا كان من المحتمل أن «يترك»؛ كذلك لم يقل «حل في الجسد» مجرد حلول وإلا احتمل الإخلاء والترك؛ بل قال «صار»» بحيث يستحيل أذ يتراجع فيما صار اليه لأن الصيرورة هنا شملت كيانه كله!
وحيما قال صار”جسداً، فهو بحكمة اختار كلمة «جسد»، فهو لا يقصد أنه صار إنساناً ما مجرد واحد من الناس. ولكه يقصد أنه صار«بشراً» له «ملء الطبيعة البشرية كلها«. لذلك نسمع المسيح يعطي نفسه اسم »ابن الإنسان» ليعبر عن البشرية كلها القائمة فيه. وفعلاً قد عبر بحياته على الآرض تعبيراً كاملاً عن الطيعة البشرية بكل ضعفها وأعوازها دون خطأ أو خطية، دون أن يتنازل لحظة واحدة ولا طرفة عين عن كونه «الكلمة» الله أو «الله الكلمة». وبهذا استطاع أن يرفع الطبيعة البشرية التي صار فيها إلى منتهى الكمال: “لأجلهم أقدس أنا ذاتي” (يو 19:17). لأن القصد من التجسد هو استعلان أن «يسوع» هو المسيا “الكلمة” الأزلى: «كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله(ايو2:4)، حيث كلمة «جاء في الجسد» تضيف إلى مفهوم «صار جسداً» الاولى مفهوم الديمومة في التجسد الكامل دون أي تغيير. لأن «صار جسداً» وحدها تفيد الحقيقة أنه صار بطبيعة الإنسان كاملة، أما قوله: “جاء في الجسد” فتفيد التواجد في هذه الحقيقة، والإستمرار فيها.
أما تأكيد التجسد أو أن الجسد الذي صار به هو جسد بشري داخل في مسلسل البشرية, فهذا يقرره بولس الرسول في رسالته إلى رومية: “بولس عبد ليسوع المسيح… الذي سبق فوعد به بأنبيائه في الكتب المقدسة عن ابنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسد.” (رو 1:1-3)
واختصار هذه الأية هو كالأتي: “يسوع, المسيا, ابن الله, تجسد !!”
ثم إذ التأكيد على أن البشرية التي صار بها هي بشرية حقيقية متألمة وقابلة للموت, فهذا يصفه أيضأ بولس الرسول: “فالله, إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية, دان الخطية في الجسد”(رو3:8)
أما قوله: «شبه جسد الخطية» فهو ليفرقه من “جسد الخطية”، فجسد المسيح يحمل كل مكونات جسد الخطية ما عدا الخطية، لأن بشرية المسيح وُجدت, لحظة ما وُجدت, متحدة بلاهوته!! فلم يكن ممكناً أن تداهم, الجسد, عناصر الخطية، بل ولأن جسد المسيح كان خالياً خلواً تاماً من عنصر الخطية، استطاع بلاهوته أن يدين, أي يحكم ويعاقب ويفرز الخطية بالجسد عندما حل عقوبتها عليه وهو بريء منها. فالصليب والموت كانا أقصى فضيحة للخطية وأعظ تتويج لجسد الإنسان بالنصرة عليها: “فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضاً كذلك فيهما لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس”(عب14:2)
ولكن السؤال الكبير المحير: كيف أمكن «للكلمة الله» أو “الله الكلمة” وهو في ملء لاهوته ومجده أن «يصير جسداً»، ويوجد في الهيئة كإنسان؟ بمعنى أن مجد اللاهوت حينما يحل حلولاً ذاتيأ ودائمأ في جسد إنسان, علمأ بأنه كان أكثر من حلول إذ هو اتحاد وصيرورة, فإنه يمنع الجسد من أن يظهر بصورته الطبيعية, فبهاء مجد الله يصعق العين الترابية، وهوذا المثل أمامنا عملياً وواضحاً، فالمسيح نفسه لما استعلن لبولس الرسول بعد القيامة وهو في مجده لم يحتمله لا بولس ولا الذين معه: «رأيت في نصف النهار في الطريق أيها الملك نورا من السماء أفضل من لمعان الشمس قد أبرق حولى وحول الذاهبين معي, فلما سقطنا جميعا على الارض سمعت صوتاً يكلمني ويقول باللغة العبرانية شاول شاول لماذا تضطهدني… فقلت أنا “من أنت يا سيد” فقال “أنا يسوع الذي أنت تضطهده”» (أع13:26-15)
ولكن الذي نعرفه تماما أن يسوع المسيح حينها كان يعيش على الآرض، لم يكن له هذا النور الذي هو أشد لمعاناً من نور الشمس وقت الظهيرة!
هنا يقول بولس الرسول أنه لكي يحل ملء اللاهوت في الجسد ويتحد به، يلزمه أولاً أن يتخلى عن مجده الإلهي المنظور: “الذي كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة (هيئة) عبد صائرأ في شبه الناس” (فى6:2-7). وهذا هو الذي عبر عنه اللاهوتيون باسم “الإخلاء” باعتباره عملاً يتبع قدرة الله على كل شيء التي بها يقدر أن يخلي ذاته, في الظاهر, من مجده.
ولكن هذا الإخلاء ل يُنقص من كل خصائص اللاهوت التي حل بها الكلمة فى «الجسد» واتحد به, إذ يقول بولس الرسول: “فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديا, وأنتم مملوؤن فيه!!”(كو9:2)
من هذا نستطيع أذ ندرك مدى عمق وفخامة المعنى في قول القديس يوحنا، وبمنتهى الإختصار «والكلمة صار جسدا»، فهنا قد بلغ استعلان الكلمة أوج قوته وعمقه وفعله لأن «جسد الكلمة» هذا، الذي هو جسد يسوع المسيح، أصبح أعلى قوة إلهية حصل عليها الإنسان ليدرك الله بها وفيها ويقترب إليه.
فجسد الكلمة, أي جسد يسوع المسيح, صار هو الطريق المفتوح أمام الإنسان إلى الأقداس العليا في السماء: «فإن لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إل الأقداس بدم يسوع، طريقاً كرسه لنا حديثاً حيا بالحجاب أي جسده…» (عب19:19-20). لأننا سبق أن قلنا أن يسوع المسيح “دان الخطية بالجسد”، فبالصليب أي بموت الجسد عن الخطية صار«الجسد» معبراً سرياً إلى الأمجاد العليا.
ثم إن هذا «الجسد», جسد الكلمة يسوع المسيح ابن الله, الذي قدمه الله نفسه ذبيحة خطية على مذبح خطية العالم كـ «حمل الله الذي يرفع خطية العالم» [فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة] فأصبح لحمه يؤكل بالسر, أي بالروح للتقديس, وهذا نسمعه من فم الرب قديماً متتماً بالفعل كنبوة ونموذج لذبيحة المسيح على الصليب يوم الفصح:
“تكون لكم شاة (حملاً) صحيحة ذكرا ابن سنة… ويكون عندكم تحت الحفظ إلى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر(نيسان), ثم يذبحه كل جمهور جماعة إسرائيل في العشية، ويأخذون من الدم ويجعلونه على القائمتين والعتبة العليا في البيوت التي يأكلونه فيها. ويأكلون اللحم تلك الليلة مشويأ بالنار مع فطير، على أعشاب مرة يأكلونه… هو فصح للرب.” (خ 5:12-11)
هذا هو المسيح فصحنا، فقد قبضوا عليه وتحفظوا عليه حتى اليوم الرابع عشر, بحسب إنجيل يوحنا, واشترك كل جهور جماعة شعب إسرائيل في ذبحه على الصليب “حسب الطقس”، وأهرقوا دمه على الصليب وعلى الأرض، على خلفية من نار الآلام ومرارة التعذيب، فكان هو “الفصح الحقيقي” الذي تم على اسمه أول فصح في مصر: “وتكون جثتاهما على شارع المدينة العظمى التي تدعى روحيا سدوم ومصر حيث صُلب ربنا أيضاً” (رؤ8:11). هذا هو فصحنا الحقيتي المذبوح لنا: “لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبح لأجلنا” (اكو 7:5)
وكما أن الذين أكلوا الفصح الآول عبر عليهم الملاك ولم يقتحمهم حسب وعد الله لكل من أطاع وأكل لحم الفصح واختبأ خلف الدم، والذين لم يأكلوا ولم يتحصنوا بالدم أهلكهم المهلك؛ هكذا صار الأكل والشرب من فصحنا الجديد حمل الله الذي يرفع خطية العالم.
الفصح القديم كان بالرمز لنموذج جسدي، أما فصحنا الجديد فبالحق على مستوى الروح: “جسدي مأكل حق ودمي مشرب حق… فمن يأكلني فهو يحيا بي” (يو55:6-57)
والإنذار الآول بالهلاك لمن لم يشترك في القصح بقي هو كما هو:
”من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير” (يو54:6)
“إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة فيكم.” (يو53:6)
ثم هذا هو بعينه “الجسد” الذي «صار للكلمة».
وهو الجسد الذي بذله من حياة العالم على الصليب.
وهو الجسد الذي هو بالحقيقة »خبزالسماء», «حبة الحنطة» التي سقطت من السماء على أرض الشقاء فماتت، ثم قامت واستقامت، وأتت بغلة وفيرة ملأت أهراء الحياة.
وهكذا يكون بـ «الكلمة صار جسداً», قد صار تأسيس طريق الخلاص للدخول إلى الأقداس العليا، وتأسيس سر الاتحاد الجديد بالإفخارستيا. فجسد الكلمة، أي «يسوع« المسيح ابن الله، صار خبز الحياة الذي يأكل منه الإنسان ولا يموت. فهنا اتحاد ذو شقين:
الأول: اتحاد عل مستوى الطبيعة الإلهية: «كما أن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى… اللذين بهما قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية» (2بط3:1-4)؛ “لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله.» (أف19:3)
والثاني على مستوى الذات، أي شخصي: «ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم» (أف17:3)؛ «مع المسيح صُلبت فأحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا في. فما أحياه الأن في الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غل20:2)؛ “إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً. (يو23:14)
فكل هذه النعم والمواعيد العظمى والثمينة, وهذا الخلاص العجيب، وهذا الحب الإلهي الذي جعل هياكل أجسادنا وأرواحنا منزلاً مريحأ لسكنى الآب والمسيح والروح القدس لتغيير طبيعتنا وتقديسها، وهذه الشركة والزمالة والمؤازرة في الحياة الحاضرة مع شخص الكلمة يسوع المسيح ابن الل؛ كل هذا تم لما انتهى «الكلمة» إلى قراره الآخير: “أن يصير جسداً”.
والآن يلزمنا أن نعود لندقق في المعاني اللاهوتية التي يتضمنها «التجسد» حتى نتجنب الإنزلاقات التي وقع فيها أئمة الهراطقة الذين خرجوا عن حدود الإيمان الصحيح بالتجسد:
1- البشرية التي «صار» إليها وبها الكلمة, أي التجسد, هي بشرية كاملة وصحيحة للانسان الكامل. وهذا ما وقع فيه أبوليناريوس الذي قال بأن البشرية التي أخذها المسيح لنفسه لم تكن كاملة. فهو أخذ جسداً ولكن هذا الجسد لم يكن جسداً كاملاً كما لإنسان عادي.
2- البشرية التي صار بها المسيح كانت بشرية حقيقية ودائمة. وهذا ما وقع فيه جماعة الغنوسيين (العارفين) الذين قالوا أن الكلمة أخذ جسداً حسب الظاهر فقط ولمدة قصيرة وبقي غريباً عن نفسه. فالكلمة عندهم صار جسداً ولكنه لم يلبس هذا الجسد. كما ضل الدوسيتيون الذين قالوا إن الجسد كان خيالاً أو شبهاً فقط. ولم يكن حقيقيا.
إن الطبيعة الالهية والطبيعة البشرية اتحدتا بالتجسد اتحادا كليا وكاملاً وصارتا واحداً. ولكن هذا الاتحاد لم يغير شيئاً من كلتا الطبيعتين، كل في مجاله، فهو “إله متأنس” وليس إلهاً وإنساناً وكأنه ازدواج للشخصية. فلم يأت عملاً إلهياً دون أن يكون الجسد شريكأ فيه، ولم يعمل عملاً جسدياً دون أن يكون اللاهوت شريكاً فيه. فلما أقام لعازر من الموت، أقامه بقوة لاهوته وبصوت فمه معاً. ولما مات، مات بالجسد، واللاهوت فيه لم يفارقه حياً وميتاً، لذلك لم يفسد الجسد ولذلك قام!! ولذلك أيضاً كان موته نصرة للجسد والروح معاً وكان فداء وخلاصاً! فإذا لم يكن اللاهوت ملازماً وشريكا في الآلام والموت لاستحالت الآلام أن تكون آلاما خلاصية والموت موتاً فدائياً. فالله فدانا بالجسد، والدم كان دماً إلهياً. “فكم بالحري يكون دم المسيح الذي بروح أزلى قدم نفسه لله (عب14:9), ولما قال: «أنا هو القيامة والحياة» (يو25:11)، قاما عل أساس لاهوت القيامة الكائن في الجسد المتحد به؛ فلما قام، قام بقوة لاهوته وبالجسد. ولما بكى، كان ذلك أعظم تعبير عن شركة اللاهوت (الله) في أحزان الإنسان موضحاً بالجسد: «في كل ضيقهم تضايق…(إش9:63). وهكذا لم يأت المسيح عملاً إلا واللاهوت له فيه كما للناسوت. لأن بعد الاتحاد لا يمكن أن تعمل أي طبيعة منهما بانفراد عن الأخرى ، لأن شخص المسيح، أي أقنومه، واحد هو الذي جمع الطبيعتين ووحدهما في واحدية ذاتية، فيستحيل عليه أن يكون له مشيئتان ولا إرادتان ولا قولان ولا نظرتان قبالة موضوع واحد. فجاءت أعماله كلها تنطق بوحدة بشرية كاملة ناضجة نفسا وجسدا وروحاً مع لاهوت كامل فعال على مستوى الله قوة وسلطانا ومجدا. وهذا كله واضح لا محتاج إل مجادلة في قول القديس يوحنا «والكلمة صار جسداً»». و«صار» هنا تنص وتؤكد عل عملية توحيد سري فائق للغاية أتاها الكلمة مع الجسد في ذاته ليعيش فيه إلى الأ بد ويعمل به كل أعمال الخلاص، بل ويمجد به الله والآب ، بل ويعيش به في مجده الذي كان له قبل إنشاء العالم، فكلمة «صار» أصبحت هي مركز الوحي اللاهوتي الصحيح. لأنه وإن كانت كلمة “صار” في قوله »والكلمة صار جسداً» تحمل في طياتها عمليات إلهية سرية خطيرة في معزل عن قدرة فكر الإنسان، وهيهات للانسان أن يبلغ مداها؛ إلا أن شيئاً واحداً يتحتم علينا أن لا نفوته، وهو أنه إن لم يكن قد صالح الله «الكلمة بالجسد» لما «صار الكلمة جسداً»، لما أمكن أن يصالح الكلمة المتجسد الله بالإنسان! أو كيف يصالح الآب الكلي القداسة بالإنسان الذي بلغ الحضيض في الخطية والنجاسة؟
وإن كان المسيح الكلمة المتجسد قد وقف يتشفع ويحامي ويطلب لدى الله الأب عن الإنسان الخاطىء, مطالبأ الله أن يجعله واحدأ في الآب والابن: «ليكون الجميع واحداً كما أنك أنت أيها الأب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا, ليؤمن العالم أنك أرسلتني» (يو21:17), لأن رسالة المسيح »الكلمة المتجد» تتركز وتتلخص في هذا المطلب الواحد الآخير أن الإنسان يصير واحدأ مع الآب والابن؛ فكيف يتصور أن يكون الكلمة قد أخفق في أن يوحد اللاهوت بالناسوت إلى واحد في نفسه؟
وعندما قال المسيح: “أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد” (يو23:17)، فهل لم يكن يحب حساب الناسوت الذى له؟ وكيف يعقل أن نصير نحن واحد في المسيح, وواحداً في الآب مع المسيح, ونبلغ إلى «الشركة في الطيعة الإلهية»ء إذا تصورنا أن المسيح نفسه قد أخفق أن يُصير اللاهوت والناسوت واحداً ؟!
إذن فإيمان الكنيسة القبطية الأ رثوذكسية هو إيمان إنجيلي بالدرجة الأ ول ولاهوتها هو من عمق أعماق لاهوت إنجيل يوحنا؛ عندما تقول أن الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية صارتا واحداً بالاتحاد في أقنوم الكلمة المتجسد وليس اثنين بعد الاتحاده وأن المسيح كانت له بالتالي حتماً وبالضرورة مشيئة واحدة وإرادة واحدة.
هذا الأمر اختلط على أوطاخي إذ اعتبر أن اتحاد الطبيعتين أنشأ طبيعة ثالثة، واحدة، كانت فيها الطبيعة البشرية منسحبة وكأن لا وجود لها. فسماه اللاهوتيون(Monophysite) وألصقوا هذا الإصطلاح بالكنيسة القبطية، وهي من الأوطاحية ومن هذا الإفتراء براء !!
فعندنا «الكلمة صار جسداً» تعني أن كل من الكلمة والجسد صارا واحداً، يعملان معاً بانسجام فائق، نتيجة اتحاد كامل، إذ وحد بينهما المسيح في ذاته ليعملا عملاً واحداً بمشيئة واحدة وإرادة واحدة ورأي واحد هي مشيئته وارادته الذاتية الواحدة التي يستمدها من الأب. وفي وحدة الطبيعة والذات التي عاش بها المسيح ويعيش بها حتى الأن وإلى الأ بد مع الله، سيظهر بها كما كان يعيش فيها على الأرض: «ولكن نعلم أنه إذا أظهر نكون مثله, لأننا سنراه كما هو» (1يو2:3)
4- إن بشرية المسيح كانت عامة وليست بشرية فردية. فهو كان، ونادى بأنه “ابن الإنسان” أكثر مما عُرف أنه من الناصرة أو الجليل أو ابن داود. كما كانت بشريته كاملة تسمو فوق اعتبارات الجنس ذكراً أو أنثى. وهذا واضح ومُضمن في قول القديس يوحنا «صار جسداً» ولم يقل صار إنساناً, وهذه لفتة بديعة, حتى يشمل كل ما للإنسان دون أن يستثني شيئاً منه.
5- قولنا أن الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية اجتمعتا واتحدتا إلى واحد في شخص «الكلمة»، أي يسوع المسيح, ثم قولنا أن المسيح وحدهما إلى واحد في ذاته، وبناء على ذلك كانت له مشيئة واحدة وارادة واحدة, هذا يقطع خط الرجعة على كل أشكال «النسطورية» التي قالت أنه كان له شخصية إلهية بجوار شخصية بشرية كل منهما تعمل عملها الخاص بها. وذلك نشأ بضرورة الحال لما اعتبروا أن الطبيعتين اللاهوتية والبشرية لم تأتيا فيه إلى إتحاد ووحدة!! فعندهم كل طبيعة برزت بشخصية تحمل خواصها. وهذا تقسيم شنيع في شخص المسيح الواحد. علماً بأن “الكلمة الذي كان في البدء، وكان عند الله وكان الله، والكلمة صار جسداً»؛ نقول أن شخص الكلمة أو أقنومه لما صار جسداً لم يأخذ شخصية جديدة عما كان له، ولم يغير شخصيته الإلهية، بل نسمع المسيح, أي الكلمة المتجسد, يقول بقوة وجلال «أنا هو»: « أنا هو الحق والحياة والنور» !!! »وقبل أن يكون إبراهيم أنا كائن»، و«إن لم تؤمنوا أني أنا هو تموتون في خطاياكم» (يو24:8)، «وليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء, ابن الإنسان الذي هو في السماء.» (يو13:3)
6- إن الطبيعة البشرية التي صا رفيها الكلمة تأثرت تأثرا مباشراً باللاهوت, فبعد أن كانت تحت لعنة الموت رفع عنها الكلمة هذه اللعنة بلاهوته لحظة أن صار فيها، وفي هذا يقول القديس كيرلس الكبير: [لأنه كان من الضروري عندما صار الجسد جداً له أن يشترك في عدم الموت الذي له, أي الذي للكلمة].
7- كذلك فالطبيعة البشرية التي صارت للكلمة وصار الكلمة لها لما أخذت قوة عدم الموت أخذت فيها قوة القيامة من الأموات. لذلك قام الجسد من الموت دون أن يمسك فيه.
وهكذا فإن قول القديس يوحنا “والكلمة صار جسداً” فتح أمام اللاهوتيين كل كنوز اللاهوت التي كانت مخبأة لحساب «الجسد» الكلي أي البشرية عامة. لأن التجسد كان في حقيقته تنازلاً إلهياً سخياً إلينا، حاملآ على ذراعيه كل ما يمكن أن يعطيه الله للانسان مما كان هو محتاجاً إليه أو مما كانت محسوبة له أصلاً في الخليقة الاولى وفقدها بالخطية وبالبعد عنه.
هذه العطايا الإلهية السخية، حمل الله أصولها ونموذجها الكامل لجسده أي بشريته, التي صيرها له وصير نفسه لها كعينة لما هو مزمع أن يصنعه في جسد البشرية. ولو أدركنا هذه الحقيقة لآدركنا سر لاهحوت بولس الرسول كله، بل وسر إنجيل يوحنا وبقية الأناجيل وكل أقوال المسيح:
أ- فبولس الرسول فهم «الكلمة صار جسداً» بأن ملء اللاهوت حلق في جسد الكلمة “فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً” (كو9:2). فيتمسك بذلك بولس الرسول بالحرف الواحد, كما أصبح حقاً لنا أن نمتلىء منه أو فيه: «لكي تمتلئوا الى كل ملء الله» (أف19:3)، «وأنتم مملوؤون فيه» (كو10:2). أو حسب تعبير القديس يوحنا «ومن ملئه نحن جيعا أخذنا نعمة فوق نعمة» (يو16:1)
ب- ولأن لعنة الموت رُفعت عن «جسد الكلمة» وحل محلها قوة القيامة وملء الحياة الأبدية نتيجة الاتحاد الإلهي، كذلك أصبح لنا هذا الحق عينه: «من آمن بي ولو فسيحيا, وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى إلى الابد.» (يو25:11-26)
»من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إل دينونة بل قد انتقل من الموت إلى الحياة.» (يو24:5)
«من يأكل جسدي ويشرب دمي فله حياة أبدية وأنا اقيمه في اليوم الأخير.» (يو24:5)
وهنا قوة ومركز الإفخارستيا المنقطع النظير، المترتب أصلآ عن أن “الكلمة صار جسداً”، إذ أن «الجسد» بفهوم «اللحم» و »الدم »» في الكلمة أي فى “جسد الكلمة” صار فيه وصار له كل ما للكلمة من قوة إلهية مدخرة فيه وعاملة به للشفاء من الموت، لذلك ستاه الآباء “ترياق عدم الموت”؛ بل ولإعطاء الحياة الآبدية، بل ولأخذ قوة القيامة ونور الخلود، لأنه «جسد الكلمة» أو إذ جاز القول “جسد الله” أو “جسد الحياة الابدية” أو «جسد النور»!! فانظر أيها القارىء وتمعن كيف يأكل ويشرب الإنسان بالسر “جسداً” مُدخراً فيه كل كنوز الله هذه مجاناً.
ب- «وحل بيننا».
كلمة “حل” تأتي في اليونانية ( ). وأصل الكلمة مأخوذ من كلمة الخيمة. وهكذا فهي تشير
إلى السكنى أو الحلول كما يضرب الإنسان خيمة على الآرض.
ثم تأتي كلمة “بيننا” لتزيد معنى الإقامة في خيمة وسط شعبه، إشارة إلى الحياة التي سيحياها على الأرض. فهي لا تعني السكنى فقط بل الإقامة والمعيشة. والحياة في الجسد كما في خيمة هو تراث فكري يهودي نسمع عنه من بطرس الرسول “عَالِماً أَنَّ خَلْعَ مَسْكَنِي قَرِيبٌ كَمَا أَعْلَنَ لِي رَبُّنَا يَسُوعُ الْمَسِيحُ أَيْضاً (2بط 1 : 14)”, وكذلك عند بولس الرسول «لأننا نعلم أنه إذا نقض بيت خيمتنا الأرضي (الجسد) فلنا في السموات بيت من الله الله غير مصنوع بيد أبدي» (2كو 1:5)
ولكن قصد القديس يوحنا الأساسي من ذكر هذا التعبير, أي الحلول في الخيمة, هو رفع أبصارنا إل ما صنع «يهوه» الرب قديماً عندما حل في خيمة الإجتماع وسط شعب إسرائيل.
“ثم غطت السحابة خيمة الإجتماع وملأ بهاء الرب المسكن، فلم يقدر موسى أن يدخل خيمة الإجتماع.” (خر34:40-35)
“لأني لم أسكن في بيت منذ يوم أصعدت بني إسرائيل من مصر إلى هذا اليوم بل كت أسير في خيمة وفي مسكن” (2صم6:7)
وبهذا يكون القديس يوحنا قد ربط بين حلول يهوه قديماً في خيمة الإجتماع وسط الشعب حيث ملأ بهاؤه المسكن، وبين حلول الكلمة في خيمة جسده الذي لم يستطع أذ يخفي بهاه عن أصحاب العيون المفتوحة “ورأينا مجده” بالرغم من الإخلاء الظاهري الذي أجراه في ذاته ومن اتضاع هيئة جسده.
والعجيب أن الروح لا يتركنا بلا توضيح، فالنبوات لم تترك حتى هذا الحلول والسكنى في أخر الأيام دون إشارة، فنسمع عنه من زكريا النبي «ترنمى وافرحي يا بنت صهيون لأني هأنذا أتي وأسكن في وسطك يقول الرب.» (زك10:2)
هذا من جهة الحلول « في وسطنا».
كما يعطيا حزقيال النبي صورة أخرى للحلول «من فوق»: «ويكون مسكني فوقهم وأكون لهم إلهاً ويكونون لى شعباً« (حز27:37)
ولا نستغرب قوله: «مسكني فوقهم»، فهذا في الواقع كان موضع سكنى يهوه الرب العظيم داخل خيمة الإجتماع فوق “الغطاء” على التابوت. وغطاء التابوت هذا له شأن عظيم جداً سواء في اللاهوت العبري القديم, وكان اسمه عندهم «الشاكيناه» وهو “السكن” أي “موضع السكنى”, وطبعا دون ذكر اسم الله احتراماً وتوقيراً, أو في اللاهوت الطقسي في الكنيسة القبطية(الايلاستيريون) .
“وصنع غطاء من ذهب نقي طوله ذراعان ونصف وعرضه ذراع ونصف، وصنع كروبين (الشاروبيم) من ذهب… وكان الكروبان باسطين أجنحتهما إلى فوق مظلين بأجنحتهما فوق الغطاء ووجهاهما كل واحد إلى الأخر” (خر6:37-9). وقد حدد الله مكان تواجده عل هذا الغطاء هكذا:
2- «كَلِّمْ هَارُونَ أَخَاكَ أَنْ لاَ يَدْخُلَ كُلَّ وَقْتٍ إِلَى الْقُدْسِ دَاخِلَ الْحِجَابِ أَمَامَ الْغِطَاءِ الَّذِي عَلَى التَّابُوتِ لِئَلَّا يَمُوتَ لأَنِّي فِي السَّحَابِ أَتَرَاءَى عَلَى الْغِطَاءِ. (لا2:16)
22- وَأَنَا أَجْتَمِعُ بِكَ هُنَاكَ وَأَتَكَلَّمُ مَعَكَ مِنْ عَلَى الْغِطَاءِ مِنْ بَيْنِ الْكَرُوبَيْنِ اللَّذَيْنِ عَلَى تَابُوتِ الشَّهَادَةِ بِكُلِّ مَا أُوصِيكَ بِهِ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ (خر22:25)
وفي العبري تترجم “الايلاستيريون” بـ »الكابوراة», ويترجمها بعض العلماء بكرسي الرحمة, إشارة إلى مركز المسيح الشفاعي؛ ولكن معظم العلماء المدققين يربطون معناها بالكفارة وليس بالشفاعة, لأن المعنى الجذري في العبرية يقوم على الذبيحة، فهو معنى ذبائحي ينسجم مع الكفارة وليس الشفاعة. لأن رئيس الكهنة يدخل مرة واحدة في السنة في يوم الكفارة إلى قدس الآقداس لينضح من ذبيحة الخطية على الكبوراة أي غطاء التابوت أي الإيلاستيريون. وبولس الرسول يقطع بأن المسيح قد صار هو الايلاستيريون وقد تخضب بدم نفسه فصار الكبوراة الإلهية والكفارة الدائمة (رو25:3).
من هذا يتضح أن عبادة يهوه قديماً ارتبطت بخيمة الإجتماع وحلوله فيها وكان مركز خيمة الإجتماع الأقدس هو التابوت، وأقدس ما في التابوت هوغطاؤه حيث يسكن يهوه بصفة دائمة، كما يُفهم من الآيات السابقة.
وفي اللاهوت العبري، يعتبر الغطاء هذا أو الشاكيناه هو موضع «سكن» يهوه المقدس الدائم سواء في ترحاله قديماً أو إقامته الدائمة في الهيكل. وقد قدس العبرانيون اسم الشاكيناه »السكن» وجعلوه عوض اسم الله أو “الحضرة الإلهية”، فجاءت الترجمة العبرية للآية: «ويجعلون لى مُقدساً (هيكلاً) لآسكن في وسطهم» (خر8:25) في الترجوم هكذا: «وسأجعل الشاكيناه تسكن في وسطهم». لذلك فإن قول القديس يوحنا: “وسكن بينناً” كان يهدف بقوة إلى لفت أنظارنا إلى الحضرة الإلهية أو موضع سكناه في القديم.
وقد التقط آباء الكنيسة القبطة الآوائل هذا الوضع الفائق والممتاز لغطاء التابوت, الشاكيناه, (السكن)، وجعلوه تعبيراً عن الجسد، وجعلوا العذراء القديسة مريم هي الغطاه الذهب الذي حل عليه الله، أو سكنت فيه الحضرة الإلهية.
غير أن بولس الرسول استخدم لفظة “الغطاء” بمعنى الكفارة في الآية: “الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه” (رو25:3)، وهي الكلمة العبرية الأصل “كبوراة” المسماة أيضاً “كرسي الرحمة”.
من ها جاءت النبوة «ويكون مسكي فوقهم وأكون لهم إلهاً ويكونون لى شعباً» (حز27:37). فإنجيل لوقا يسجل لنا كيفية مدخل الكلمة إلى الجسد الذي حل فيه هكذا: «الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظلك، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يُدعى ابن الله« (لو35:1). فهنا واضح أنه بدأ سكناه هكذا «يحل عليك» وبدأ مجد الله وقوته تخيم «فوق» جسد البشرية الممثل في العذراء القديسة الثيئوتوكس.
ويحلو لنا أن نكمل بأن ترحال يهوه قديماً «ساكناً» وسط شعبه، من خيمة إلى خيمة ومن موضع إلى موضع مع الشعب التائه أربعين سنة, وفي العبور الإعجازي للأردن، حيث التابوت كان يتقدم المسيرة، ثم الإقامة الساخطة في وسط شعب متمرد غليظ الرقبة الذي أعطوه القفا دون الوجه جزاء ترحاله المضني معهم هذه السنين كلها، أخيراً وأخيراً جداً استقر في “جسد الإنسان: الشاكيناه الحقيقي والحضرة الحقيقية لله” التي وثق أعمدتها في السماء وعلى الأرض: «وليس أحد صعد إل السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء» (يو13:3) ليعيش فينا ومعنا دائمأ وإلى الأ بد “وها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر.” (مت 20:28).
ج- “ورأينا مجده”
واضح أن «حل بيننا» بمفهومها المنطبق على سكنى الحضرة الإلهية في الجسد عل مستوى خيمة الإجتماع لا بد أن يرافقها استعلان المجد. وها يقدم القديس يوحنا شهادته كواحد من الذين رأوا هذا المجد.
وكلمة »«رأينا» باللغة اليونانية تتبع مجموعة الرؤية غير العضوية التي ليست بالعين بل بالإيمان للاستعلان. فكلمة «يرى» باليوناية عند القديس يوحنا وردتعل ستة تركيبات تختلف في اللفظ بعضها عن بعض، بينما هي تأتي في الترجمة العربية بتركيب واحد: «يرى»، أما في اليونانية فهي تنقسم إلى ثلاث مجموعات كل منها له موضع خاص للتعبير عن نوع من الرؤيا الخاصة, ولفظة ( ) هنا تتبع الرؤيا الخاصة بالاستعلان، سواء بخصوص حادثة أو لشخص المسيح نفسه الذي يستعلن ذاته من خلال كلماته وأعماله. وهذا النوع من الرؤيا لا يتبع الرؤيا الروحية التي للروحيين, التي يروا بها ما لا يُرى، ولكنها هنا رؤية الايمان البسيط الذي يستعلن الحق بمقدار ما يعلن الحق ذاته. وهذا كان سلوك المسيح العجيب، الذي كان يعمل ويتكلم مُعلناً الحق الذي فيه، الذي كل من كان عنده حاسة الإيمان كان يقبله ويؤمن، لأنه كان يرى الحق الذي فيه. وهذا النوع من الإيمان أو رؤية الإيمان لا يحتاج في الحقيقة للرؤية العينية وهو الذي نص عليه المسيح بقوله لتوما: »لأنك رأيتني يا توما أمنت، طوبى للذين أمنوا ولم يروا” يو29:20). هذه الطوبى المدخرة في رؤيه الإيمان بلا عيان وهي التي بقيت لنا حتى اليوم كما يقول بطرس الرسول: “الذي وأن لم ترونه تحبونه, ذلك وإن كنتم لا ترونه الآن لكن تؤمنون به فتبتهجون بفرح لا يُنطق به ومجيد.”(1بط8:1)
هنا يتحتم علينا أيها القارىء العزيز أن نوضح قيمة رؤية الايمان غير العيني, إذ أنه أصلاً قائم على رؤية علنية منظورة ومحسوسة إذ كانت تخص الكلمة المتجسد, هذه الرؤية العلنية التي ارتفعت عندهم إلى رؤية غير معتمدة على النظر والسمع، هذه هي الرؤية الإيمانية الصرف, التي سلمها الرسل للكنيسة، فصارت هي أساس الإيمان القويم غير المعتمد على المشاهدة ورؤيا العين، ولكن بقي الرسل هم أساس هذا الإيمان الوحيد. لذلك نحن نؤمن بالرسولية الكنسية عن حق وأصالة وضرورة حتمتها رؤيتهم القائمة على الرؤية العينية والمشاهدة واللمس التي اختصوا بها وحدهم دون جميع من رأوا الرب, لهذا صار الإيمان الرسولي المؤسس على ( ) هو ذخيرة الكنيسة، التي عليها نعيش، وبها نمسك كمن يمسك بالحياة الأبدية.
وهذا الأساس الرسولى الإيماني القائم على الرؤية الإيمانية غير العينية يضعه القديس يوحنا الرسول موضع الشهادة الرسولية، لكي يعتمد بختم رسول: «ونحن قد نظرنا ونشهد أن الآب قد أرسل الابن مُخلصا للعالم» (1يو14:4), «الذي كان من البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة… » (1يو1:1). لذلك نستطيع بكل يقين أن نقول أن الإيمان غير العيني القائم على الرؤيا الصادقة هو إيمان تاريخي بالدرجة الاولى، له جذر تاريخي عاينه الرسل وعاشوه, لأن الله ظهر في الجسد وفي التاريخ. لهذا فكل من بلغ بالحقيقة إل رؤية الرسل هذه لابن الله يكون قد بلغ الرؤية الأمثل بكل تأكيد، أي يكون قد واجه معجزة التجسد ووضع يده على الجسد ورأى وشاهد ولمس، وذلك من خلال إيمان الرسل وشهادتهم, لذلك لم تصبح معجزة التجسد حبيسة تاريخ جيل الرسل, لقد استطاع الرسل بالرؤيا الغير عينية أن يجعلوا معجزة التجسد معجزة كل جيل, لتد أخرجوها من حيزها التاريخي إلى ما هو فوق التاريخ وبعده.
ولعل أقوى المواضع التي ذكر فيها كيف شوهد المجد علناً وعياناً هو حادثة التجلي، ولو أن القديس يوحنا لم يذكرها مع أنه كان أحد ثلا ثة شهود لها، وقد سجل هذه الحادثة كل من الآناجيل الثلاثة: «أخذ بطرس ويوحنا ويعقوب وصعد إلى جبل ليصلي, وفيما هو يصلي صارت هيئة وجهه متغيرة ولباسه مبيضاً لامعاً, وإذا رجلان يتكلمان معه وها موسى وايليا, اللذان ظهرا بمجد, وتكلما عن خروجه الذي كان عتيدا أن يكمله في أورشليم, وأما بطرس واللذان معه فكانوا قد تثقلوا بالنوم, فلما استيقظوا رأوا مجده والرجلين الواقفين معه. وفيما هما يفارقانه قال بطرس ليسوع: يا معلم جيد أن نكون ههنا، فلنصنع ثلاث مظال لك واحدة ولموس واحدة ولإيليا واحدة. وهو لا يعلم ما يقول, وفيما هو يقول ذلك كانت سحابة فظللتهم فخافوا عندما دخلوا في السحابة, وصار صوت من السحابة قائلآ: هذا هو ابني الحبيب, له اسمعوا» (لو28:9-35)
وفي هذا الحادث نلتقط عدة أمور تهمنا في شرح الأية التي نحن بصددها:
1- “أخذ بطرس ويوحنا ويعقوب”. 2
2- “صارت هيئة وجهه متغيرة” يقول عنها القديس متى في إنجيله: «تغيرت هيئته (تجلى)، واضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور.» (مت2:17)
3- “موسى وايليا اللذان ظهرا بمجد”
4- «فلما استيقظوا رأوا مجده».
5- “فلنصع ثلاث مظال لك واحدة ولموسى واحدة ولإيليا واحدة”.
6- “كانت سحابة فظلتهم”. يقول عنها القديس متى الإنجيلي أنها “سحابة نيرة”
7- “وصار صوت من السحابة قائلأ: هذا هو ابني الحبيب. له اسمعوا”.
ونحن إذا عدنا إلى الحادثة المماثلة في العهد القديم مع موسى، نجد الآتي: «فصعد موسى إلى الجبل فغطى السحاب الجبل وحل مجد الرب عل جبل سيناء وغطاه السحاب… وكان منظر مجد الرب كنار آكلة” (خر15:24-17). ففي هذا المنظر وكل مناظر استعلان مجد يهوه الله في العهد القديم نجد أنه بمجرد اقتراب الله من الشعب، أو بالأكثر من موس وهارون، أو اقتراب موسى وهارون أمام الله، كان يصاحب ذلك ظهور واستعلان مجد الله! فإن كان الأمر هكذا في القديم فكم وكم بالحري بعدما اقترب الله ثم اقترب ثم تواجه مع الإنسان داخل الانسان كيف لا يستعلن مجده فيه!
وإن حادثة التجلي تجمع الظهورين معاً والمجدين معاً: مجد الآب في السحابة النيرة التي ظللتهم مع صوته الأتي من المجد الأسنى، مع مجد الابن ونور الكلمة يغشى »الجسد» فيجمل الوجه يضيء كالشمس.
ثم علينا أن نعود إلى ذاكرة القديس بطرس لنسمع منه ما يتذكره عن حادثة التجلي هذه بعينها: “لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ. لأَنَّهُ أَخَذَ مِنَ اللَّهِ الآبِ كَرَامَةً وَمَجْداً، إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهَذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ». وَنَحْنُ سَمِعْنَا هَذَا الصَّوْتَ مُقْبِلاً مِنَ السَّمَاءِ إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ. (2بط16:1-18)
واضح من هذه الشواهد أن القديس يوحنا حينما قال: “ونحن” فهو يقصد الخاصة جداً من تلاميذه وهم الثلاثة الذين كان قد انتخبهم مم الاثنى عشر ليطلعهم على سر مجده هذا، كما أطلع موسى سابقاً عل الجبل في سيناء، حيث تقول النبوة أنه «سيراه كل بشر» (إش 5:40)
وقد يظهر تعارض في قول النبوة قديماً على فم إشعياء النبي بخصوص هذه الرؤية وهذا المجد “عزوا عزوا شعبي يقول إلهكم. طيبوا قلب أورشليم ونادوها بأن جهادها قد كمل، أن إثمها قد عُفي عنه أنها قد قبلت من يد الرب ضعفين عن كل خطاياها. صوت صارخ في البرية أعدوا طريق الرب، قوموا في القفر سبيلً لإلهنا. كل وطأة يرتفع، وكل جبل وأكمة ينخفض، ويصير المعوج مستقيمأ والعراقيب سهلاً. فيعلن مجد الرب ويراه كل بشر معاً لأن فم الرب تكلم” (إش 1:40-5)
ولكن كان دأب الأنبياء أن يختصروا الزمن اختصاراً، فآلاف السنين تصير غداً أو سريعاً، لأن الرؤيا تكون في وهج شدتها متجمعة معاً وليست موزعة على السنين والأجيال. وقد تم بالفعل الجزء الاول من الاعلان عن مجد الرب, ورأه الأخصاء والمقربون والمختارون والمفديون، فمجدوا صاحب المجد. أما الجزء الثاني من الإعلان عن مجد الرب فهو مؤجل للجزء الباقي من البشرية حينما يرونه في مجيئه الثاني، في ملء مجده ومجد أبيه مع ملائكته (مت 30:24 , رؤ7:1).
وقوله: «رأيناه» فهو يتكلم عن رؤيا غير عادية كانت تحت سحابة نيرة، أي في الحضرة الالهية، التي تطابق حضور “يهوه” قديمأ على جبل سيناء في السحابة التي ظللته. وهنا إشارة سرية إلى التعرف على شخصية المسيح. وحضور موسى وإيليا في التجلي بمجد هو إشارة ضمنية إلى قوله: «مشهودأ له من الناموس (موسى) والأنبياء (إيليا)» (رو 21:3). وكلمة “بمجد” بالنسبة لموسى وإيليا تفيد ارتفاع كرامة الناموس والأنبياء في أشخاص مُمثليهما موسى وإيليا.
وقوله: «ورأينا مجده» فهو يقصد مجد «الكلمة بعد أن صار جسداً» أي يسوع المسيح. وقد اتضح من تسجيلات حادثة التجلي أنه فعلاً تغيرت هيئته الجسدية ولمع وجهه كالشمس وابيضت حتى ثيابه كالنور. ويصف القديس بطرس هذا المجد الذي رأه على الجبل أنه عاين عظمته، أي جلاله وقدرته، وأنه أخذ من الآب كرامة ومجداً: “مجد كما لوحيد من الآب مملوء نعمة وحقاً”.
هنا فإن تكرار كلمة «المجد» هو بقصد التركيز ولفت الإنتباه لكي لا نتوه في تواضع «الجسد» أو في مضمون الإخلاء. فالمجد مًعلن ومنظور للعيون التي لا يلزمها الإخلاء والتي أدركت حقيقة «الكلمة» اللوغس، مهما تنازل وأخذ منظراً: «هكذا مُفسداً أكثر من الرجل» حسب قول إشعياء النبي (14:52). لأن خطيئتنا هي التي حتمت على العين الضعيفة أن تراه «لا منظر(له) فنشتهيه» (2:53)
أو ليس “الكلمة” اللوغس هو صوت الله ونداؤه, وهو قوله وأمره، فكيف نسمع صوت الله من فم اللوغس ولا نحس بالمجد المحاط به، هذا إذا أحسئا الرؤيا؛ لأنه حتى اليهود العاديون لمحوا في كلامه مجد الله وسلطانه «لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة» (مت29:7)!! أو بمعنى متقدم قليلاً عن الآية, إن المجد الذي رأوا ما هو إلا حب الآب منطبعاً عليه فلم يستطع أن يخفيه, واستطاعوا هم أن يستشفوه من فيض النعمة التي كانت عليه والحق الخارج منه الذي يهز كيان الإنسان الروحي.
وهذا المجد الذي رأوه فيه الذي هو حب الآب المنطبع عليه هو هو الذي جعل من الذين قبلوه أولاداً لله, أي أن هذا الحب نفسه أو المجد نفسه لما آمنوا به أدخلهم في مجاله فصاروا أولاد الله أي الحائزين على الحب الآبوي.
ونلاحظ أنه بظهور الكلمة في الجسد صار استعلان المجد الذي فيه. وقول القديس يوحنا أن هذا المجد لمحوه وتيقنوا من أنه مجد ابن وحيد لآبيه أو بالحري هو مجد الآب للابن الوحيد، هذا يوضح لنا سرا من أخطر الأسرار، أن استعلان المجد في الكلمة المتجسد كشف في الحال سر الأب والابن فيه، فبالرغم من أنه ظهر كابن، ولكن المجد كان مجد الآب في الابن. وهذا أيضاً صار كل من يرى الابن برؤية الإيمان فإنه يرى الآب بالضرورة، لأن مجد اللاهوت في الابن يشمل معه مجد الآب بآن واحد بدون شرح ولا توضيح: “الذي راني فقد رأى الآب.” (يو9:14)
القديس يوحنا يجمع هنا جملة ما رآه وسعه واختبره مع الخاصة من التلاميذ ويؤكد ذلك بقوله: “ونحن”, فهو سمع بنفسه الرب يسوع المسيح يخاطب الأب عن مجده الخاص له عند الأب (يو5:17 و 24)، بل وسمع الأب يوافق بأنه «مُجد وسيمجد أيضاً (يو28:12)، بل وسمع ورأى هذا المجد في حادثة التجلي المذكورة سابقاً, بل شاهد وعاين وشهد لأعمال الرب يسوع المسيح التي تنطق جيعها بمجده وأوضحها عرس قانا الجليل ومعجزة تحويل الماء خمراً التي بها أظهر المسيح مجده لتلاميذه فآمنوا به. هذا ولا ننسى المجد الذي عايشه القديس يوحنا مع كوكب الصبح المنير يسوع المسيح نفسه في سفر الرؤيا: «ووجهه كالشمس وهي تضيء في قوتها.» (رؤ 16:1)
«مجداً كما لوحيد من الآب»:
ها يقصد بحرف “كما” أن المجد الذي ظهر به الكلمة المتجسد هو المناسب والمطابق فقط لابن الله، الذي له وحده يليق كل مجد الله “الآب كالابن”.
“وحيد من الآب” (مونوجانيس) والكلمة كم مقطعين “نوع” و “واحد” وهذا الوصف بالنسبة للكلمة المتجسد هو استعلان الحب الأبوي وهو من أعمق وأعز الاستعلانات التي عرفها الإنسان عن الله .
و«المونوجانيس« كأعظم وأعز استعلان للحب الإلهي فاز به العالم لما بلغ ملء أحزانه وأعوزه مجد الله، إذ انشقت السماء بالفعل وأرسل الله محبوبه ليدبر العالم ويرعى الإنسان: “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد (المونوجانيس) لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو16:3). لاحظ الارتباط بين «أحب« و«الابن الوحيد» .
وإذا أردت أن تعرف أيها القارىء العزيز قيمة هذا المحبوب الوحيد عند الله، اسمع ما يقوله: «الذي يؤمن به لا يدان والذي لا يؤمن قد دين لأنه لم يؤمن بابن الله الوحيد (المونوجانيس) (يو18:3)، وقوله: «الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني.» (يو26:16)
والقديس يوحنا يصادق على هذا ويزيد: «بهذا أظيرت محبة الله فينا أن أرسل ابنه الوحيد (المونوجانيس) إلى العالم لكي نحيا به» (ايو9:4). أي أن المونوجانيس عند القديس يوحنا هو أعظم حدث من أحداث الحب الإلهي الذي استعلن لنا في يسوع المسيح.
وحينما يقول القديس يوحنا أن المونوجانيس كائن في الحضن الأبوي فهو يضع المحبة في موضعها، ويشير إلينا من أين انفتح لنا ينبوع هذا الحب. وإن كان هذا هو الموضع الذي خصصه الآب للمونوجانيس، إذن فأي موضع يليق به عند الإنسان ليضعه فيه إلا القلب!!؟
هذا الوصف ليس من عند القديس يوحنا بل هو نفس الصفة التي أعطاها الله الآتي من السماء، أو كما يقول القديس بطرس: من المجد الأسنى، والذي سعمه القديس بطرس بنفسه هكذا: “هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به” (2بط17:1). فالمونوجانيس تفيد أنه ابن حبيب وموضع مسرة أبيه الفريدة الذي لا يشاركه فيها اخر قط. وهذا الإصطلاح في الاستخدام يأتي للمذكر والمؤنث على السواء وقد جاء في مواضع كثيرة.
وكلمة المونوجانيس بحسب تحقيق العلماء لا تحمل معنى الولادة أو المولود وأدلتهم في ذلك ورود هذا الوصف في حالات يتعذر بل يمتنع فيها معنى الولادة أو المولود مثل:
1- في وصف إسحق ابن إبراهيم من فم الله نفسه: “وحدث بعد هذه الامور أن الله امتحن إبراهيم. فقال له يا إبراهيم، فقال هاءنذا. فقال خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق، واذهب إل أرض المريا وأصعده هناك محرقة…” (تك1:22-2).
والمعروف أن إبراهيم ؤلد له ابنان وليس ابناً واحداً, فهو ليس وحيداً. ولكن كان إسحق هو “الابن الوحيد المحبوب عند أبيه” وهذا هو المونوجانيس ضبطاً وربطاً.
2- كما ورد هذا الوصف العادي على ابن أرملة نايين: «إذا ميت محمول ابن وحيد لأمه وهي أرملة» (لو12:7). ومن هنا تأتي كلمة «مونوجانيس« باعتبارها «قيمة» عالية وغالية جداً عند هذه الأرملة.
3- وإذا رجل اسمه يايرس… لأنه كان له بنت وحيدة » (لو41:8-42)
4- « ثم أتى يفتاح إل المصفاة إلى بيته. واذا بابنته خارجة للقائه بدفوف ورقص وهي وحيدة. لم يكن له ابن ولا ابنة غيرها» (قض34:11 ). وهنا أيضأ المونوجانيس تأتي كصفة تحمل قيمة عالية للغاية.
5- وقد جاءت في معان كثيرة لا علاقة لها بالبنوة ولا بالميلاد، ولكن أتت في معنى الوحيد المحبوب للغاية بالنسبة للانسان وهي نفسه: «نفس وحيدتي»: «…يا قوتي أسرع إل نصرتي. أنقذ من السيف نفسي من يد الكلب وحيدتي (مز 19:22-20 و 17:35 )
6- وجاءت بمعنى أنا وحدي. “التفت إلي وارحمني لأني وحيد ومسكين أنا”(مز16:25)
وقد جاءت هذه الكلمة ( ) في اللغة العبرية في مواضع كثيرة بمعنى المحبوب فقط ( ) وهي قريبة من كلمة المغبوط.
ولكن كانت نظرة آباء ما قبل نيقية منحصرة نوعاً ما في معنى « الولودة» وهذا لا تحتمله الكلمة .
“كما لوحيد من الآب”:
هنا يبدأ القديس يوحنا يضع أساس استعلان الكلمة بعد التجسد والتأنس، فهو يكشف عن درجة بنوة الكلمة لله حيث «الكلمة هو الابن» في الذات الإلهية والله هو الأب. والقديس يوحنا يعلن عن اكتشافه للابن عن طريق المجد الذي استعلن في الكلمة لما تجسد، تماماً كما أعلنت الأناجيل بفم الملاك عن الحبل الإلهي للابن بالميلاد الإعجازي الفائق من العذراء مريم وبشارة الملاك العلنية بذلك: “الروح القدس يحل عليك، وقوة العلي تظلك، فلذلك أيضاً القدير المولود منك يدعى ابن الله.” (لو35:1)
وقد أعاد المسيح نفسه صياغة نطق الملاك هذا بتأكيد قائلأ: »فالذي قدسه الآب وأرسله إلى العالم أتقولون له إنك تجدف لأني قلت إني ابن الله.»» (يو36:10)
وكما استعلن للقديس بولس بالقيامة من الأموات بمجد الآب: «وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات.» (رو3:1 , 4:6)
وكما تيقن القديس لوقا الإنجيلي بإعلان من المسيح نفسه أنه سيأتي كابن الله في مجده ومجد أبيه: »متى جاء بمجده ومجد الآب والملائكة القديسين» (لو26:9)
وهكذا نرى هذه الاستعلانات كلها متدرجة من جهة يقينية استقلان درجة البنوة لله هكذا:
أولأ: بالميلاد: دُعي ابن الل بفم الملاك.
ثانياً: بالقيامة: تعين ابن بالقوة من جهة روح القداسة.
ثالثاً: بالمعايشة والمعاينة: رأيناه ابن لله _ مع القديس يوحنا.
رابعاً: بوعد المسيح نفسه أنه يأتي ثانياً كابن الله في مجده ومجد أبيه.
خامساً: بتصريح المسيح نفسه.
“من الآب”:
وقول القديس يوحنا «من الأب« يشير ويركز على «نسبة المجد والبنوة بين الآب والابن»، كما تفيد أيضاً “الإرسالية” = ابن وحيد مُرسل من الآب: »أنا أعرفه لأني منه وهو أرسلني» (يو29:7)
وقول القديس يوحنا: «كما لوحيد من الآب» تفيد بحسب لاهوت القديس يوحنا، وهو اللاهوت الذي استرعى انتباه آباء الكنيسة الأوائل، أنها تفيد علاقة يبدو فيها الابن مرتبطاً في وجوده بالأب ارتباطاً ذاتيأ وجوهرياً، فهو ليس فقط ابن للأب بل ومرسل منه رسالة يؤديها بحتمية (الطاعة). وحتى المجد الذي للابن فهو ليس مجرد الابن بل مجد ابن وحيد من الإب.
والقديى بطرس يوضح هذه النسبة بغاية الدقة هكذا: «لأنه أخذ من الله كرامة ومجداً (2بط17:1). إذن فهو “مجد من الآب” للابن، وبهذا ينكشف لا المعنى المختفي وراء قول القديس يوحنا: «مجداً كما لوحيد من الآب«. ولا ينبغي أن يفوتنا أن كلمة «وحيد لأبيه» تفيد معى الفرادة في الحب حيث يستحوذ الابن على كل حب الأب. هذا نسمعه من الله بغاية الوضوح والتركيز «ابني الحبيب»، أي أن «مجد ابن وحيد لأبيه» تعني بكل العمق استعلان «مجد الحب الأبوي» في المسيح للتلاميذ، وبالتال للكنيسة، لأن كل مجد الابن ورثته الكنيسة لأنها جسده المملوء نعمة وحقاً.
وهكذا فإنه بحب الأب للابن تم الخلق, وتم الفداء، وتأسست الكنيسة! لأن بحب الأب للابن “كان كل شيء” في الخليقة الجديدة مثل القديمة، وبدون حب الابن للآب لم يكن شىء مما كان, وهكذا أحب الله العالم ففداه بحياة ابنه: «بذل ابنه الوحيد.» (يو16:3)
فالعلاقة بين الأب والابن علاقة تشمل وتتغلغل كل ما للابن حتى أنه لا يوجد الابن منفردأ بصفة لاهوتية خاصة به على الإطلاق إلا كونه ابناً.
ومن الملفت للنظر أن الله الأب بالنسبة للمسيح الابن في إنجيل يوحنا مذكور 137 مرة، في حين أن إنجيل متى مذكور فيه 64 مرة فقط، وانجيل لوقا 56 مرة، وإنجيل مرقس 18 مرة.
هذا يلزم أن ينبه ذهننا أن إنجيل يوحنا يتخصص في توضيح علاقة الآب بالابن والابن بالأب، أو بتعبير أصح يركز على استعلان سر الابوة والبنوة في عملية الخلاص والفداء والتبني.
لذلك فبعد الآصحاح الآول الذي كرسه لاستعلان «الكلمة» باعتباره الشخصية المحتجبة في الله: «حقاً أنت إله محتجب يا إلة إسرائيل المخلص» (إش15:45)؛ نجد القديس يوحنا بعد تجسد الكلمة يركز على المسيح كابن الله حتى نهاية الإنجيل، كاشفاً دور الآب كأساس لعمل الابن الخلاصي.
د- «مملوءاً نعمة وحقاً»:
بعد أن حلق القديس يوحنا في ذكرياته السالفة عن الأمجاد التي رأها واستعلنها في الابن الوحيد ووقعت عينه ويده عليها في المسيح, الذي اكتشف فيه سر الحياة الآبدية ومجد البنوة الوحيدة للآب؛ يعود بنا إلى ذكرياته عن «الكلمة» في شخص يسوع المسيح كما اختبره في حياته الخاصة والعامة وسلوكه مع الأحباء والأعداء. وأعطى هذه الشهادة أنه كان مملوءاً نعمة وحقاً… فالنعمة والحق هي الصفات الإلهية المتجسدة « للكلمة» المتجسد.
هي أصلاً صفات الله الكائنة فيه، ولكن بتجسد الكلمة استعلنت هذه الصفات لأنها صارت في موضع العطاء، اوتجهزت لتصير هبة تمنح للناس: «وتعرفون الحق والحق يحرركم… فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً.» (يو32:8 و 36)
«النعمة»:
لم تُستخدم في إنجيل يوحنا إلا هنا وفي الآية 17 من هذا الأصحاح فقط. وأما الحق فهو الصفة الإلهية التي تجىء في القمة بالنسبة للكلمة المتجسد، والتي أعلن عنها المسيح جهارا: «أنا هو الطريق والحق والحياة.» (يو6:14)
وهاتان الصفتان في ها المقابل في العهد الجديد اللتان تعامل بهما الله معنا في شخص يسوع المسيح، كما كان يتعامل بهما يهوه قديماً: «فنزل الرب في السحاب. فوقف عنده (موسى) هناك ونادى باسم الرب. فاجتاز الرب قدامه ونادى: الرب الرب إله رحيم ورءوف، بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء، حافظ الإحسان إلى ألوف، غافر الإثم والمعصية والخطية، ولكن لن يبرىء إبراءً» (خر5:34-7). فهو “رحيم” ولكنه “لن يبرىء”.
لذلك فالنعمة والحق في العهد الجديد هما المقابل الحقيقي للناموس والدينونة كما وضعهما القديس يوحنا نفسه في الآية 17 القادمة.
والنعمة في مفهوم القديس يوحنا إذا كانت في مقابل الناموس فهي عملية الفداء والخلاص بكل مشتملاتها ونتائجها، وبالأخص جداً في أنه جعلنا أولاداً وأحباء, بل وأحراراً بعد أن كنا عبيدا تحت سطوة الناموس بمقتضى سلطان الخطية المُذل. بل وتشمل النعمة حتماً كل نعم الله من مواهب؛ بل وبالاكثر جداً اتصالنا بالآب واتحادنا بالابن. أي أن النعمة عند القديس يوحنا هي التجسد الذي أجراه الكلمة في نفسه، فهي بالتالي شخص يسوع المسيح نفسه بالدرجة الاولى. لأن فيه وبه نلنا كل النعمة بل كل النعم. لذلك هكذا ظهر الكلمة لما تجسد أنه مملوء نعمة وحقاً, أي كله نعمة وكله حق, على مستوى العطاء.
فنعمة الأب لنا هي أنه بذل ابنه الوحيد من أجلنا ليكون لنا حياة أبدية باسمه، ثم ولدنا لنفسه لما قبلنا ابنه بالإيمان في قلوبنا وحياتنا. الأب ولدنا لنفسه باتصال وليس بالمجاز أو التصور. لأن نعمة الأب لنا هي انعطاف ذاتي والتحام سري. فكلمة «مولودين من الله» هي من الجدية والحقيقة العملية الروحية على مستوى أعلى من «الميلاد من الدم ومشيئة الجسد ومشيئة الرجل», أي أنها بقوة فعل سري فائق يسري في كياننا الروحي فيغيره ليكون على صورة خالقه كما ينمو الولد ويتشكل على صورة والده. «كل من هو مولود من الله لا يفعل خطية لأنه زرع (زرع الله) يثبت فيه ولا يستطيع أن يخطىء لأنه مولود من الله.» (يو9:3)
ونعمة الآب هي مكملة لنعمة الابن لنا الذي تنازل وأخذ جسدنا لذاته ليهيئنا بالتقديس الذي أجراه لنا, لنكون مؤهلين لتبتي الآب لنا.
“الحق”:
الحق بالسبة للقديس يوحنا ليس هو الصدق الذي هو عكس الكذب بل الحقيقة Reality في مقابل الشبه أو الظل.
فكل أعمال ومعاملات الله قديماً كانت شبه السماويات وظلها، «إذ يوجد الكهنة النين يقدمون قرابين حسب الناموس، الذين يخدمون شبه السمويات وظلقا كما أوحي إل موسى وهو مزمع أن يصنع المسكن» (عب6:4-5). وكل رؤية الله مهما سمت كانت ليس أكثر من «شبه الله يعاين» كما جاء ملى لسان الله: «فقال (الرب) اسمعا كلامي: إن كان منكم نبي للرب فبالرؤيا أستعلن له في الحلم. أما عبدي موسى فليس هكذا, بل هو أمين في كل شي، فماً إلى فم وعياناً أتكلم معه لا بالألغاز، وشبة الرب يعاين« (عد6:12-8)
ولكن الآن، وباستعلان الله في الكلمة المتجسد أي شخص يسوع المسيح، ليس بعد كلام الله في حلم ولا بالآلغاز بل «كلمنا … في ابنه»، «الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة« (عب2:1؛ يو 63:6)، ولا بالشبه نعاين الله بل بالحق، «الأليثيا»: « الذي رآني فقد رأى الآب ( الله)«, «أنا هو… الحق» (يو6:14و9)
فـ «الحق» هنا عند القديس يوحنا هو استعلاذ الله في ذاته استعلاناً حقيقياً كاملآ كأب تبنانا، وعرفناه أباً ووالداً لنا, ليس بولادة مجازية أو كمنحة ولكن باتصال وفعل سري: «كل من يحب فقد ؤلد من الله» (1يو7:4)، وكابن أخذ جسدنا ومات عنا وفدانا.
فعندما يقول القديس يوحنا أنه مملوء نعمة وحقاً فهو يعني أنه بالقياس وبقدر ما يستطع الإنسان أن يقيس ويستوعب فهو الاستعلان الكلي لكل ملء الله سواء من جهة نعمته أومن جهة ذاته. والكلام كله منصب على «الكلمة صار جسداً».
ولكي ندرك صلة “الحق الأليثيا” باستعلان الابن عند القديس يوحنا نسمع من المسيح بوضوح قوله بأنه «الحق» و”الابن” واحد هكذا: «إن ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي، وتعرفون الحق والحق يحرركم» (يو31:8)، «فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً» (يو36:8)
ويلاحظ هنا أن »معرفة الابن» معرفة ثابتة توصل إلى »»معرفة الحق» ومعرفة الحق أو الابن كلتاها تحرر. والمعرفة هنا ليست بنت الفهم والدراسة بل حصيلة رؤيا واستعلان. فالذي يستعلن«الابن» ويدركه في ذاته يستعلن »الحق». أو بمعنى أكثر وضوحاً الذي يستعلن الله «كأب وابن»» يبلغ إلى منتهى الحق، لأنه يلده ابناً حرا لله! هذا كل ما نترجاه من النعمة وكل ما نطلبه من الحق، وهذا قد صار لنا لما صار الكلمة جسداً.
تفسير القمص أنطونيوس فكري
أية (14): “والكلمة صار جسدًا وحل بيننا، ورأينا مجده، مجدًا كما لوحيد من الآب، مملوء نعمة وحقًا.”
بدأ يوحنا الإنجيلي رؤيته للكلمة في أزليته ثم في خلقته للعالم، وأنه كان ينير للخليقة، ثم إرسال المعمدان ليشهد له، ثم رفض خاصته له والآن نراه يأتي متجسدًا.
وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا = وَالْكَلِمَةُ = حرف الواو تعني أن الكلام عائد على ما قبله وتعني أن الكلمة الذي هو الله صار جسداً وهنا نسمع لآخر مرة عن الكلمة إذ سنراه بعد ذلك في شخص المسيح الذي ظهر كإنسان. وكون أن المسيح أخذ له جسداً فهو لم يتوقف عن أن يكون الكلمة، ولكنه إتخذ له جسداً حتى نراه وندركه “الله ظهر في الجسد” (1تي16:3). فالإنسان قد فشل في أن يتعرف على الكلمة ويدركه، وهذا ما جعله يأخذ حالة أكثر اقتراباً لإدراكنا. وهو صار جسداً ليكون رأس الخليقة الجديدة التي ننتمي إليها بالمعمودية ويسميها بولس الرسول “في المسيح” . أما قوله كل شيء به كان فيشير للخليقة القديمة (أي جسد آدم وبنيه). وصار بكر كل خليقة (كو15:1) لأنه أيضاً كان أول من قام من الأموات. وجسداً هنا تشير لأنه صار إنساناً كاملاً (جسداً ونفساً وروحاً). أي أخذ الطبيعة البشرية بكل خصائصها أي صار بشراً وهذا ما نعنيه في قانون الإيمان بقولنا تجسد وتأنس، فهو شابهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها.
والكلمة الأقنوم الثاني من الثلاثة أقانيم هو وحده الذي تجسد. فلو تصورنا أن الشمس وهي = قرص الشمس + نور + حرارة. نجد أن نور الشمس وحده هو الذي يتحول بالتمثيل الكلوروفيلي إلى نبات. فهل نقول أن الشمس كلها + نورها + حرارتها داخل النبات. النور فقط هو الذي يتحول إلى نبات.
وقوله صَارَ تعني أنه لن يتراجع عن اتحاده بالجسد الذي اتخذه للأبد. وهو لكي يأخذ شكل الإنسان أخفى مجده وأخلى ذاته (في6:2-7). وهذا الإخلاء لم ينقص اللاهوت شيئاً “ففيه حل كل ملء اللاهوت جسدياً” (كو9:2). هذا الإخلاء يعني أنه حجب مجد ونور لاهوته آخذاً صورة عبد. لكن المسيح استعلن لاهوته في بعض الأحيان كما في التجلي. وهو حجب لاهوته لنراه فنحن في جسدنا الحالي لن نحتمل مجده بسبب خطايانا. وتجسده هذا فتح لنا طريق الأقداس (عب19:10-20) وصار جسده طريقاً ومعبراً لنا للأمجاد السماوية، وهذا معنى “أنا ذاهب لأعد لكم مكاناً”. بل هو أعطانا جسده ودمه مأكلاً ومشرباً حق لنحيا بهما (يو55:6-57) ولقد ظهرت هرطقات كثيرة بخصوص التجسد مثل هرطقة أبوليناريوس الذي إدَّعى أن الجسد الذي أخذه المسيح لم يكن جسداً كاملاً. ولكننا نؤمن أن جسد المسيح كان جسداً كاملاً. وقال أوطاخي أن المسيح كان له طبيعة واحدة إنسحبت منها الطبيعة البشرية وكأن لا وجود لها. وقال الغنوسيون أن المسيح أخذ جسداً حسب الظاهر فقط ولمدة قصيرة، ولكننا نؤمن أن جسده كان حقيقي ودائم، وقال غيرهم أن جسد المسيح كان خيالي وهذا خطأ.
نحن نؤمن أن لاهوته اتحد بناسوته (الذي كان جسداً حقيقياً كاملاً) وكان هذا الإتحاد للطبيعتين إتحاداً كلياً وكاملاً وصارا واحداً، طبيعة واحدة من طبيعتين كإتحاد الحديد بالنار (تشبيه البابا كيرلس عمود الدين) والنحاس بالنار (رؤ15:1). والفحم المشتعل في المجمرة (الشورية) إشارة للمسيح في بطن العذراء. صار الكلمة إلهاً متأنساً (ولا يقال إلهاً وإنساناً معاً) فحينما أقام لعازر من الموت أقامه بقوة لاهوته وبصوت فمه أيضاً، فأعماله الإلهية قد اشترك فيها جسده. والمسيح المتأنس قال عن نفسه أنا هو (يهوه) (يو24:8) وحينما مات المسيح انفصلت روحه الإنسانية عن جسده وظل اللاهوت متحداً بكليهما لذلك لم يفسد الجسد بل خرج منه دم وماء (الدم علامة حيوية الجسد لإتحاد اللاهوت به والماء علامة لانفصال الروح الإنسانية عن الجسد)، ولذلك أيضاً قام بقوة لاهوته المتحد مع جسده . لقد اتحدت الطبيعتين وصارا طبيعة واحدة بدون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير لذلك يقول بولس الرسول “كنيسة الله التي اقتناها بدمه” (أع28:20) . وحينما مات المسيح بالجسد دفن الجسد المتحد باللاهوت في القبر أما الروح المتحدة باللاهوت فقد ذهبت للجحيم لتفتحه بسلطان إلهي وتأخذ أنفس الأبرار وتفتح لهم الفردوس أيضا بسلطان إلهي فالروح متحدة باللاهوت. وبالقيامة إتحدت الروح مع الجسد في جسد ممجد. وبعد الصعود حجبت سحابة المسيح عن تلاميذه فهم لن يحتملوا صورة مجد جسده التي نعبر عنها بقولنا جلس عن يمين أبيه.
وإذا لم يكن اللاهوت متحداً بالناسوت كان من المستحيل أن يتم الفداء، فالفداء هو موت المسيح غير المحدود (لإتحاد لاهوته بناسوته) ليغفر خطايا غير محدودة. أما لو كان اللاهوت منفصلاً عن الناسوت لصار الناسوت محدوداً ولما حدث الخلاص غير المحدود. وحينما قال أنا القيامة والحياة قالها على أساس لاهوته الكائن في جسده المتحد به. ولما قام، قام بقوة لاهوته وبالجسد. ولما بكى على قبر لعازر كان هذا دليلاً أن الله بلاهوته يشترك مع الإنسان في ضيقته “في كل ضيقهم تضايق” (إش9:63). وبعد الاتحاد كان له مشيئة واحدة لا مشيئتان فلا ازدواج في شخصيته. وكان اتحاد اللاهوت بالناسوت بركة للمؤمنين لأنهم سيصيروا واحداً في الله (هذا لا يعني قطعاً تأليه الإنسان أي لن يصير الإنسان إلهاً، بل سيأخذ الإنسان بركات كثيرة نتيجة هذا الاتحاد، فنحن كشركاء الطبيعة الإلهية(2بط4:1) لن نشترك في لاهوت الله بل في قداسته ومحبته بل وفي مجده والجلوس في عرشه (يو21:17). والمسيح أخذ شكل جسدنا ومَجَّدَهُ ليعطينا أن نكون على صورته في الأبدية (1يو2:3).
وَحَلَّ بَيْنَنَا = حلًّ في أصلها اليوناني خَيَّم أي اتخذ له خيمة. وهي تشير للسكنى أو الحلول المؤقت، كما يضرب الإنسان خيمته على الأرض ثم يخلعها ليرحل. وقوله بيننا فهو يريد السكنى وسط شعبه. وكون جسدنا الحالي يُعَبَّرْ عنه بالخيمة هو تراث فكري يهودي ، وفك الخيمة أو خلع الخيمة يشير للموت إذ نرحل عن هذا العالم (راجع 2بط14:1+ 2كو1:5) وقول بطرس هنا عالِماً أن خلع مسكني.. أي خيمتي يشير لموته بالجسد.
والخيمة (خيمة الاجتماع) كان يطلق عليها المسكن. وكانوا يحلونها (يفكونها) عند الترحال، أما بعد أن إستقروا في أرض الميعاد بنوا هيكلا ثابتا.
ويكون قوله حل بيننا أي أن المسيح إتخذ له جسداً بشرياً ليحل بيننا كما كانت الخيمة سابقاً وسط الشعب وليموت بهذا الجسد لفدائنا ثم يكون له جسد ممجد وحياة أبدية، وليكون لنا جسدا ممجدا مثله وحياة أبدية.
كانت الخيمة رمزًا للمسيح الذي يحل بمجده وسط شعبه (خر34:40-35+ زك10:2) ورأينا مجده= كيف رأي يوحنا مجد المسيح:
1- التلاميذ آمنوا بالمسيح، وإيمانهم أعطاهم أن يروا في المسيح ما لم يراه غيرهم من ذووا القلوب المتحجرة، فالمسيح استعلن نفسه لهم بسبب إيمانهم. وهذا هو مفهوم قول المسيح “طوبى لمن آمن ولم يرى”.. أي لم يرى رؤية عينية.
2- يضاف لهذا رؤيتهم للمسيح في حالة تجلى وهذه الحادثة رآها بطرس ويعقوب ويوحنا وذكرها بطرس لأهميتها (2بط16:1-18).
3- لقد رأى التلاميذ معجزاته التي تنطق بلاهوته مثل تحويل الماء إلى خمر وتفتيح عيني المولود أعمى وإقامة لعازر. بل رأوه يصنع أعمالًا ويتكلم بسلطان بل أن اليهود أنفسهم شهدوا بهذا السلطان (مت29:7).
4- سمع يوحنا المسيح يطلب أن يتمجد، وربما ميزَّ الصوت الذي أتاه من السماء بأن الآب مجده وسيمجده (يو5:17+24)+(يو28:12) ثم رأي يوحنا صعوده.
5- يوحنا رأى المسيح في مجده (سفر الرؤيا) وسقط عند رجليه كميت (رؤ17:1).
مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ = كلمة وحيد تعني الفريد أو الوحيد في نوعه (KIND). والمجد الذي ظهر به الابن يليق به كابن وحيد للآب. وكلمة وحيد هي ترجمة للكلمة اليونانية مونوجينيس (يو16:3-18+ 1يو9:4). ولكي نفهم عظم عمل الفداء، علينا أن نعلم أنه الابن المحبوب (أف6:1) موضع مسرة أبيه (2بط17:1). هذا هو الابن الوحيد الذي بذله الآب عنا حتى لا نهلك. وقوله وحيد من الآب نرى فيها ارتباط وجودي جوهري بين الآب والابن، وأن الآب أرسله لأجل رسالة يؤديها.
مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا = هذا ما لمسه يوحنا بنفسه حين عاش مع المسيح. ورأى كلماته وتصرفاته ومحبته حتى مع أعدائه. والمسيح حين تجسد أراد أن يمنحنا صفاته هذه لتكون لنا. وتعني النعمة أن المسيح أبرع جمالاً من بني البشر بسبب أنه بلا خطية، وأن طبيعته هي المحبة وكل عطاياه مجانية.
نِعْمَةً = المسيح هو مصدر كل نعمة، نسأله فيعطينا إياها مجاناً، ليس عن استحقاق فينا. وهكذا فعل بولس الرسول (رو7:1) وباقي رسائله ، والقديس يوحنا (2يو3). وهذه هي صيغة البركة الرسولية “محبة الله الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة وعطية وموهبة الروح القدس تكون معكم” (2كو4:13). بل العرش الإلهي صار يعرف بعرش النعمة (عب16:4). والنعمة تشمل الفداء المجاني والخلاص بنتائجه والذي به صرنا بنيناً وأحباء وأحراراً من سلطان الخطية ووارثين مع المسيح، وحل فينا الروح القدس. نحن في المسيح حصلنا على كل النعم. ونلاحظ أن يوحنا وضع النعمة في مقابل الناموس (آية17) .
وَحَقًّا = المسيح هو الحق نفسه. والحق هو في مقابل الباطل الذي هو العالم بملذاته التي لا تشبع ولا تعطي حياة. وهو أي الحق من يعرفه ويتذوقه يتحرر من معرفة وحب العالم الباطل. وهو الحقيقة في مقابل الشبه أو الظل وليس الصدق وعدم الكذب. والعهد القديم كان ظل وأشباه السماويات، كان ألغاز ورموز ولكن في العهد الجديد جاء الحق (عب5:8+ عب2:1+ يو63:6)+ (يو6:14+9) لذلك وضع الحق في مقابل الناموس (آية 17). فالحق هو استعلان الله في ذاته استعلاناً حقيقياً كآب وابن. ومن يعرف الابن يعرف الحق ويتحرر (يو31:8-36) ويصير ابناً حراً لله. والحق هو الشيء الثابت وتعني أن الله أمين وصادق ودائم وغير متغير وسرمدى أي أزلى وأبدى، اما العالم فهو باطل أي عكس كل هذا، من يمسكه أو يظن أنه امتلكه فهو قد أمسك الهواء “قبض الريح” هو كالسراب. الحق هو شخص المسيح والنعمة هي القوة التي تحفظنا كأولاد لله من الخطية. والحق هو اختيار حر للمسيحي. وهو ترك العالم الباطل. لذلك من يعرف الحق يتحرر من الباطل.
الآب والابن والروح القدس إله واحد مثلث الأقانيم بلا انفصال.الآب في الابن، والابن في الآب، والروح القدس هو روح المسيح. فالثلاثة أقانيم هم إله واحد.
0 “أنا والآب واحد” (يو30:10).
0 “الآب في وأنا فيه” (يو38:10).
إذاً كيف نتصوَّر أن الأقنوم الثاني فقط هو الذي صار جسداً؟.
هذا يحدث أمامنا كل يوم. فالنبات ينمو بالتمثيل الكلوروفيلى، وفيه يتم إتحاد الضوء بالنبات، بالضوء فقط ينمو النبات، مع أن الشمس ونورها وحرارتها هم ثلاثة في واحد. وهكذا فالكلمة الذي تجسد كان في نفس الوقت واحداً مع الآب والروح القدس لاهوتياً، لكن الذي أخذ جسداً هو الكلمة. وهذا ما ظهر يوم المعمودية، فالكلمة المتجسد في الماء والروح القدس على شكل حمامة وصوت الآب آتٍ من السماء.
مع الأخذ في الإعتبار أنه لا يوجد تشبيه كامل من خلال الطبيعة يُعبِّر عن الله غير المُدرك، لذلك نقول عن التجسد أنه سر.