يو1: 3 كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان

 

“كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ.” (يو1: 3)

+++

تفسير الأب متى المسكين 

3:1- كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ.

وَقَدْ جَعَلْتُ أَقْوَالِي فِي فَمِكَ (اللوغس) وَبِظِلِّ يَدِي َستَرْتُكَ لِغَرْسِ السَّمَاوَاتِ
وَتَأْسِيسِ الأَرْضِ وَلِتَقُولَ لِصِهْيَوْنَ: «أَنْتِ شَعْبِي» (أش 16:51).

وهكذا ينحدر القديس يوحنا سريعاً من تحليقه فيما وراء الزمن في الآزلية، ومن الشخوص الفائق ‏في كيان اللوغس عند الله الذي أوقفنا أمامه وفي مواجهته لحظة، لينزل بنا إلى واقعنا المادي إل الخليقة بكافة أشكالها وأنواعها فيما يُرى وما لا يُرى .
‏ولا يخفى على الدارس للفكر اليهودي القديم أن يلمح في هذه الأية تقابل الوزن العبري بالإيجاب ثم السلب باتصال, ليغوص بنا في أعماق وأطراف العنى، وليجمع بينهما فكر واحد متكامل محبوك لا يأتيه الشك من أي جانب: «كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان»، حيث لا يزال التركيز هنا على الكلمة اللوغس باعتباره العامل الوحيد في الخلق. فكل الخليقة أخذت وجودها وكيانها المرئي وغير المرئي منه», لا توجد خليقة قط يمكن أن تتخذ لها وجوداً بدونه.
‏وبينما يظل الكلمة أزليا كما هو، أخذت منه الخليقة مبدأها الزمني، وارتبطت به ارتباط الوجود والكيان والحركة والدوام على ستوى الزمن، وظل هو حراً منها لا يحده زمان أو كيان.
* هنا “كل شيء” يفيد كل شيء بمفرداته واحداً واحداً، وليس كل شىء كجمع كلي، وإلا كانت تُكتب ( )، كما جاءت في رسالة بولس الرسول “فإنه فيه خُلق الكل…” (كو16:1). وبالتأكيد فإن “كل شيء” هنا يعود عل تنوع الخلائق من روحية وبشرية ومادية ، ليقطع خط الرجعة على بدع القائلين أن اللوغس هو العالم أو أنه كان ملاكاً أو ‏كان مجرد إنسان.
* “به كان” والآصح بحسب الاصول والمعنى اليوناني «به صار».
‏والمعنى المقصود هو “به خُلق”، لأن “كان” هنا كما جاءت في اللغة العربية توقعنا في خطأ وارتباك لأنها لم تجيء في اليوناية  التي تفيد الكينونة، بل وتعني »«صار» أو “ظهر في الوجود” أو “خًلق”.
‏وبحسب العالم وستكوت فإن فعل “خلق” يأتي عل ثلاث صور من الأفعال:
‏الاول: يخلق والثاني: يصنع وذلك بالنسبة للخالق. والثالث: يصير.

1- والفعل الأول يخلق كما جاء في (كو1: 16و17) :”فإنه فيه خُلق الكل ما في السموات وما عل الأرض ما يُرى وما لا يُرى سواء كان عروشا أم سيادات أم رياسات أم سلاطين، الكل به وله قد خلق، الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل”.  وهنا يأخذ فعل «خلق» معنى وحقيقة التصميم والتخطيط والقصد من الشيء قبل صنعه في ذهن الخالق .

2- أما الفعل الثاني ««صنع» كما جاء في إنجيل مرقس: «من بدء الخليقة ذكرا وأنثى
خلقهما الله » ( مر٦:١٠)، فهي تفيد النتيجة الفعلية أو الشيء الناتج من الخلق كصنعه. كما هو واضح جدا من قول بولس الرسول: «لأننا نحن عمله (وترجتها بالانجليزية واضحة للغاية workmanship his are we for) مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها…) ( أف 2: 10)
3- أما الفعل الثالث «يصير» الذي نحن بصدده هنا، « كل شيء به (كان) صار»، فهو يفيد القانون الخاص الذي بمقتضاه يتم ظهور الشئ حسب تدبير العناية الالهية.
وأوضح مثل لذلك ما جاء في الفعلين المستخدمين في الاية 1:14: « والكلمة صار جسدا»؛ وفي الآية 17:1: «لأن الناموس بموسى أُعطى أما النعمة والحق فبيسوع المسح صارا»
وهنا تنكشف قوة هذا الفعل كمعبر عن كيفية الاستعلان عن النظام والتدبير الإلهيين وإظهارهما للوجود. بمعنى أنه قبل أن يخلق الله العالم بالكلمة كان هناك تدبير وخطة ونظام وقانون انتهت جميعاً إلى استعلان خطة العالم بوجوده، وانتهت إلى استعلان تجسد الكلمة، ثم انتهت إلى استعلان النعمة والحق في المسيح يسوع، وهذا هو المعنى النوعي والتحديدي لفعل eyéveto.

+ «به» : الحرف اليوناني لا يفيد المعنى باللغة العربية «به»، ولكن معنى آخر أعمق يمكن أن يترجم «بواسطته» التي تأتي بالإنجليزية through him   وليس  by him.
لهذا فالحرف  يعطي معنى أكثر علاقة بين الكلمة اللوغس وبين الخليقة. أي أن كل شيء هو به وفيه بان واحد، وليس به فقط، فالكلمة بعد أن خلق، ظل حافظأ ومقيما وماسكاً ومدبرا للخلق، المسيح عبر عن ذلك بقوله: «بدونى لا تقدرون أن تفعلوا شيئا.» ( يو15: 5)

والعلاقة الممتدة بين الخليقة والكلمة تتضح من كلام القديس بولس الرسول:
«فإن فيه خلق الكل
الكل به وله قد حلق
وفيه يقوم الكل (كو1: 16 و17)
أي أن الخليقة بواسطته خُلقت، وفيه هي مخلوقة وقائمة ومتماسكة معا.
هذا يوضحه ق . يوحنا منتهى الإختصار بقوله :
« وبغيره لم يكن شيء مما كان» ، والترجمة الأصح: «وبغيره لم يصر شيء مما صار».
وكلمة « بغيره» تفيد «بعيدا عنه » أي: «بدونه » لا يصير لها وجود وكيان.

وبهذا تكون الخليقة قائمة تحت عاملين:
العامل الاول: الاعتماد الكلي على التوسط الإلهي بواسطلة الكلمة.
العامل الثاني: الحضرة الإلهية الدائمة التي تقيم وتحفظ كيانها.

فالخليقة أولاً صارت إلى الوجود بواسطة الكلمة، ثم أخذت وتأخذ قيامها وتماسكها ودوامها معاً بالكلمة أيضاً.

‏هذا الأمر توضحه الرسالة إل العبرانيين عندما يقول:” الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ الْعَالَمِينَ. الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ”(عب 2:1-3)؛ حيث «بة»» توضح سر بقاء ودوام الخليقة كونها محمولة بقوة الكلمة . فهنا سر الخلق، وسرقيام الخلق، وسر دوام الخلق.

ويزيد القديس بولس الرسول هذا الوضع الأخير وضوحاً بقوله: «لأننا به نحيا, ونتحرك, ونوجد» (أع 28:17)
‏نفهم من هذا صحة قول بولس الرسول أن الله موجود وظاهر في الخليقة بصورة تجعل تجاهله دينونة على الإنسان _ أي إنسان في العالم _ “إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ. لأَنَّ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ تُرَى أُمُورُهُ غَيْرُ الْمَنْظُورَةِ وَقُدْرَتُهُ السَّرْمَدِيَّةُ وَلاَهُوتُهُ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ”.(رو 19:1-20)

ثم وجود الخليقة في مجال العمل الإلهي بل والوجود الإلهي أيضأ، الذي منه تأخذ كيانها ووجودها وحياتها وحركتها وكل تدبيرها الذي تحكمه مئات بل ألوف بل ملايين الملايين من ‏القوانين والقياسات والضوابط والصفات الموروثة والمكتسبة والموهوبة، التي بلغ الإنسان إلى معرفتها والتي لم يبلغ إليها بعد والتي لن يبلغ إليها في هذا الدهر قط، والتي تتحكم في سير الكون بل الأكوان بسمائه ومجراته والأرض وما عليها من جوامد وأحياء نباتية وحيوانية والإنسان، ناهيك عن السماء الروحانية بكل أجنادها، هذه كلها لولا الضبط الإلهي الذي بالكلمة ما صارت وما سارت.

أما السؤال التقليدي الذي أثاره الإنسان في كل عصوره وعلى كل مستوياته الخلقية والدينية: هل العالم مُحدث أم أزلى؟
‏فيرد القديس أوغسطينوس على هذا بقوله أنه محدث بالنسبة لواقعه الظاهري، ولكنه كان موجوداً عند الله كخطة ونظام قبل أن يكون ويظهرفي الوجود.
‏والقديس يوحنا باختياره فعل “صار” لتوضيح خلقة الله لكل أشياء العالم واحدة واحدة بواسطة الكلمة، يقطع خط الرجعة على نظرية أفلاطون بأزلية العالم، كما يقطع خط الرجعة على نظرية كل من الغنوسيين وفيلو اليهودي بثنائية خلقة العالم بين شر وخير، وأيضا ينتفي أن يكون لغير الكلمة اللوغس أي وساطة أخرى في الخلق, خاصة بتشديده على استحالة الخلقة بدون «الكلمة» باستخدامه النفي للتأكيد «وبغيره لم يكن شيء مما كان».

كما ولينتبه القارىء كيف بدأ القديس يوحنا بوضع الأساس في حقيقة الخلق والخليقة بقوله: “والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله”. حتى إذا جاء إلى الخلق وقال أن ««به»» _أي بواسطة الكلمة_ خلق الله العالم، لا يكون أمام القارىء أي فرصة ليظن أن الكلمة أقل من الله الخالق حينما يكون عمل «الكلمة» هو توسطي فقط أي «بواسطة» الكلمة. لأن المعنى في كُليته يكون بالنهاية: بواسطة الله خلق الله العالم.
والقديس ذهبي الفم يرى أن ذكر القديس يوحنا لخلقة العالم هنا, لا يركز بالدرجة الاولى على عمل الكلمة كما يركز على وحدة العمل الخلقي مع الله إمعاناً في إظهار لاهوته وتفوقه فوق كل الخلائق.
كما تنبري جملة النفي: «وبغيره لم يكن شيء مما كان»، لتؤكد أن ««توسط» الكلمة في الخلق أساسي بالدرجة الاولى، إذ بدونه يستحيل الخلق أو دوام الخليقة.

والقديس بولس الرسول يرى بالروح وبالرؤية السماوية الفائقة علاقة المسيح بالخليقة الاولى، ما رآه القديس يوحنا بصورة محققة وكاملة، فلا يكتفي بأن يجعل عمل المسيح « الكلمة» توسطياً بمفهوم مستوى المساعدة الآلية لله، بل يرفع رؤيتنا لنرى الخليقة كلها حتى الروحانية كلها قائمة فيه تتخذ منه وجودها وحركتها وبقاءها ودوامها: «فإنه فيه خُيق الكل ما في السموات وما على الأ رض, ما يُرى وما لا يُرى سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين، الكل “به” وقد خلق» الذي هو قبل كل شيء “وفيه” يقوم الكل.» (كو 16:1-17)
وليلاحظ القارىء هذه ‏الحروف الئلاثة: “فيه وبه وله” التي تحكم العلاقة بين الخليقة والخالق.
وسفر الرؤيا يعطينا صورة إضافية حية مبدعة تنطق بمستوى خضوع كافة الخليقة الروحانية بالنسبة للمسيح الخالق لها، فكافة الأجناد السماوية تتبعه: «والأجناد الذين في السماء كانوا يتبعونه على خيل بيض لابسين بزا أبيض ونقياً.» ‏(رؤ 14:19).

وهنا يجدر بنا أن نتأمل في هذه الخليقة كلها المتعددة الممالك: سمائية بجندها الروحاني وبنجومها وأقمارها وأفلاكها ومجراتها التي يتوه فيها عقل الإنسان، والأ رض بجمادها ونباتها وحيوانها وإنسانها، كيف يتبناها الله جيعاً كأب ويدبرها الكلمة كراع أعظم ما فيها, والأعظم في الخليقة فوق حدود تصور الإنسان, كأقل ما فيها، حتى العصفور له موضع في قلب الله ومكانة وعناية: «هكذا أحب الله العالم ……» (يو 16:3)

ثم اسمع ما يقوله المسيح كخبيرفي شئون خلقته: «أليس عصفوران يباعان بفلس وواحد منهما لا يسقط على الأرض بدولأ أبيكم؟ وأما أنتم فحتى شعور رؤوسكم جيعها محصاة. فلا تخافوا، أنتم أفضل من عصافير كثيرة» (مت 29:10-31‏). ويزيد على هذا القول نفسه القديس لوقا في إنجيله من جهة هذه العصافير أيضأ ويقول: «واحد منها ليس منسيا أمام الله» (لو 6:12).
‏أما من جهة الإنسان الذي خلقه على صورته كشبهه, فتقول الحكمة (الكلمة _ اللوغس): «لمَّا وَضَعَ لِلْبَحْرِ حَدَّهُ فَلاَ تَتَعَدَّى الْمِيَاهُ تُخْمَهُ لَمَّا رَسَمَ أُسُسَ الأَرْضِ. كُنْتُ عِنْدَهُ صَانِعاً وَكُنْتُ كُلَّ يَوْمٍ لَذَّتَهُ فَرِحَةً دَائِماً قُدَّامَهُ. فَرِحَةً فِي مَسْكُونَةِ أَرْضِهِ وَلَذَّاتِي مَعَ بَنِي آدَمَ.» (أم 29:8-31)

فاصل
تفسير القمص تادرس يعقوب

كل شيء به كان،

وبغيره لم يكن شيء مما كان” (3).

قدم الإنجيلي الكلمة بكونه “الخالق” إذ به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان. لم يقدم هذا إلا بعد الحديث عن العلاقة الأزلية بين الآب والكلمة. فالآب والابن (أو الكلمة) مع الروح القدس فيه التقاء ذاتي داخلي، كلي الحب والحياة. هذه الطبيعة الإلهية التي تفيض حبًا ليست في حاجة إلى الخليقة السماوية أو الأرضية لتحقق الحب عمليًا. الحب عامل بين الأقانيم الإلهية أزليًا، وقد جاءت الخلقة من فيض الحب الإلهي، لا كضرورة لتحقيق حب الله بل ثمرة هذا الحب. وما نقوله عن الخلقة نكرره عن الخلاص بكونه الخلقة الجديدة.

الكلمة الأزلي هو الخالق والمخلص، يحقق مشيئة الآب، التي هي واحدة مع مشيئة الابن.

بقوله “كل شيء به كان“؛ فرز نفسه من كل الخلائق السماوية والبشرية والمادية، فهو خالق كل أحد وكل شيء أينما وجد.

يقصد بـ “به كان” أنه به قد صار إلى الوجود، أو خلق كل شيء. فعل “كان” هنا في اليونانية مختلف عما ورد بخصوص الكلمة، هنا يعني الخلق، وهناك الكينونة الذاتية.

وجاء الحرف “به” يحمل معنى بواسطته ومن خلاله وفيه، فقد خلق وبقي مدبرًا لخليقته معتنيًا بها وحافظًا لها. هذا ما عبر عنه الرسول بولس: “فإن فيه خلق الكل”… به وله قد خلق… وفيه يقوم الكل” (كو1:16-17). “حامل كل الأشياء بكلمة قدرته” (عب 1: 3). “لأننا به نحيا ونتحرك ونوجد” (أع 17: 28).

يري القديس يوحنا الذهبي الفم أن الإنجيلي يركز على وحدة العمل الخاص بالخلقة بين الكلمة والآب، لإظهار لاهوت الكلمة ومساواته للآب. بالقول: “وبغيره لم يكن شيء مما كان” يؤكد أن دور الكلمة في الخلق أساسي، بدونه استحالة تحقيق الخلقة أو استمرارها.

عندما تحدث موسى النبي عن بدء الخليقة: “في البدء خلق اللَّه السماوات والأرض” خشي لئلا يظن أحد أن الأرض أزلية فأكد أن لها بداية، وأنها من إبداع الخالق. فلو أن الكلمة مخلوق لالتزم الإنجيلي بتأكيد خلقته، لا بالحديث عنه كخالق للكل.

v من هو هذا الذي يسقط في هذا الخطأ، إذ يعلن عمن يخلق ويصنع كل الأشياء أنه مخلوق؟ إني أسأل: هل خلق الرب نفسه؟… من يفكر هذا؟ إن اللَّه خلق كل شيء في حكمة (مز 24:104). إن كان الأمر هكذا، فكيف نفترض أن الحكمة قد خُلقت في نفسها؟

القديس أمبروسيوس

v إن كنت تظن أن تعبير “به” هو علامة على أنه أقل، إذ تجعل من المسيح أداة للخلقة، اسمع (داود) قائلاً: “في البدء يا رب أسست الأرض والسماء عمل يديك” (مز 101 (102): 25). ما قاله عن الآب كخالق يقوله بخصوص الابن، الأمر الذي ما كان يقوله ما لم يحسبه الخالق، وليس مساعدًا لآخر. إن كان تعبير “به” يستخدم هنا أنه ليس لسبب سوى أنه لا يشك أحد في أن الابن غير مولود. بخصوص لقب الخالق ليس هو بأقل من الآب في شيء. اسمع ما يقوله بنفسه: لأنه كما أن الآب يقيم الأموات ويحي كذلك الابن أيضا يحي من يشاء” (يو 5: 21).

v ألا ترون أنه بهذه الإضافة: “وبغيره لم يكن شيء مما كان” قد عالج كل الصعاب المحدقة، لأن القول: “وبغيره لم يكن شيء مما كان” ثم يضيف “به كان كل شيء“، فإنه يضم الأشياء التي يمكن إدراكها بالعقل (أي التي في العالم غير المنظور) لكنها لا تضم الروح (القدس)…

لئلا يقول أحد: “إن كان كل شيءٍ به كان، فالروح أيضا كان مخلوقًا”. أجيبه:” إنني أجزمت أن ما خُلق إنما خلق به، سواء كان غير منظور أو غير مادي، أو في السماء. لهذا لم أقل بطريقة مطلقة “كل شيءٍ” بل قال: “كل شيء كان“، أي المخلوقات، وأما الروح فهو غير مخلوق. أترون دقة تعليمه… لقد استبعد الروح القدس عن كل الخليقة.

بنفس الروح إذ استمد بولس ذات النعمة قال: “به خلق الكل” (كو 1: 16). لاحظوا هنا الدقة عينها. فإن ذات الروح (القدس) هو حرك هذه النفس أيضًا. فلا يوجد أي استثناء من المخلوقات من كونها أعمال الله… ” سواء كان عروشًا أم سلاطين، أم رؤساء أم قوات”. فإن تعبير “سواء” يضم الكل، مظهرًا لنا أنه ليس شيء آخر إلا هذا أن “به كان كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان“.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v هل يمكن أن يكون الكلمة من صنع اللَّه؟ لا، لأنه هو أيضًا عند اللَّه في البدء. هل الأشياء التي خلقها اللَّه غير التي خلقها الكلمة؟ لا، لأن كل شيء به كان. بأية وسيلة خلقت بواسطته؟ لأنه فيه كانت الحياة، وقبل خلقتها كانت الحياة موجودة. ما قد خُلق ليس بالحياة، بل خلقت بحكمة اللَّه، وقبل خلقتها كانت الحياة. ما قد خلق يعبر ويزول، وأما ما في الحكمة لا يمكن أن يعبر.

v إن قلت: “كل شيء” ففي هذا لا تكذب، لأن هذا الكلمة يُدعي حكمة الله. ولدينا المكتوب: “خلقت كل شيء في الحكمة” (مز ١٠٤: ٢٤).

القديس أغسطينوس

v تتمعن العروس بتأمل في يد العريس التي تمثل قدرته على العمل “حبيبي مد يده من الكوّة” (نش 5: 4) لا تتمكن الطبيعة البشرية من احتواء الطبيعة الإلهية الغير محدودة. تقول العروس: “فأنّت على أحشائي” (نش 5: 4)… تتعجب كل نفس بما لها من قدرة للفهم بالأعمال المبهرة ليد اللّه التي تفوق قدرات الإنسان، لأن الطبيعة الإلهية التي تعمل هذه العجائب لا يمكن فهمها أو احتوائها. فكل مخلوق حي هو من عمل هذه اليد التي ظهرت في الكوّة. لذلك يصرخ يوحنا في إنجيله قائلاً: “كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو3:1). ويعبر النبي إشعياء عن نفس الفكرة، فيسمى اليد قوة اللّه للعمل: “كل هذه صنعتها يدي، فكانت كل هذه يقول الرب” (إش 2:66). لا يتمكن عقل الإنسان من فهم هذا الإنجاز: جمال السماء بما فيها من نجوم والشمس وعجائب الخليقة الأخرى. غير أن قلب الإنسان يخاف من قوة اللّه. فإذا كان الإنسان لا يفهم كل أعمال اللّه، فكيف يتمكن من فهم اللّه الذي يعلو على ما في الخليقة؟

v دعونا نعيد هذه الآية حتى نستفيد مما سقناه ونجعله يتمشى مع كلمات الوصيفات: “ما حبيبك من حبيب، أيتها الجميلة بين النساء؟ ما حبيبك من حبيب حتى تحلفينا هكذا؟” (نش 5: 9)

دعينا نستمع بانتباه بعدما رُفعت براقعنا، ونلتفت إلى الحق بعيون نفوسنا.

كيف تصف العروس لوصيفاتها ذاك الذي تبحث عنه؟

كيف تصف العروس هيئة من ترغبه في كلمات؟

كيف تُحضر العذارى من لا يعرفونه؟ المسيح غير مخلوق وأيضا مخلوق: ونعلم أن الغير مخلوق هو أبدى وموجود قبل إنشاء العالم، وهو خالق الكل. وعلى الجانب الآخر يرشدنا الجزء المخلوق، لأنه تكوّن حسب جسدنا الوضيع (في 21:3). ويمكننا فهم الكلمات بطريقة أفضل إذا فحصناها حسب ما جاء بالكتاب المقدس. نحن نعرف أنه في البدء كان الكلمة وأنه كان دائما مع اللّه وأن الكلمة لم يُخلق، وبدونه لم يكن شيء مما كان (يو 1: 1-3). والكلمة كان مع اللّه وكان الكلمة اللّه، وبه كان كل شيء. وُلد المسيح، أي أنه أخذ جسدًا وحلّ بيننا. وأظهر تجسده عظمته بوضوح، أنه اللّه، الابن الوحيد للّه الذي هو في حضن الآب، ظهر في الجسد، وقال عنه يوحنا: “والكلمة صار جسدًا وحل بيننا ورأينا مجده كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمة وحقًا” (يو 14:1).

القديس غريغوريوس النيسي

v “كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان“. لأننا نؤمن أن كل شيء قد خُلق بواسطة الابن لا نستطيع أن نحسبه كواحدٍ من الكل (المخلوقات)، بل هو غيّرها تمامًا، لأنه ليس ضمن الطبائع المخلوقة، بل نعترف أنه وحده بالطبيعة الإله الحق.

v لم ينل قوة من آخر لكي يُخلق، وإنما هو قوة اللَّه الآب، الابن الوحيد، الذي يعمل كل شيء مع الآب والروح القدس. لأن كل شيء من الآب بالابن، لأنه لو خلق الابن منفصلاً عن الآب لما استطاع الابن أن يقول: “أنا في الآب والآب فيّ” (يو10:14).

القديس كيرلس الكبير

يقول القديس أغسطينوس ]أن البعض مثل اتباع ماني يحسبون الشيطان خالقًا لبعض الكائنات كالذباب. ويرد القديس على هؤلاء بأن اللَّه خالق كل شيء، ويستخدم حتى الكائنات التي تبدو تافهة ومضرة لصالح الإنسان، لتنزع عنه كبرياءه. [لتعلموا يا اخوة أنه من أجل ترويض كبريائنا خُلقت هذه الأشياء لكي تسبب لنا متاعب، فقد استطاع اللَّه أن يحط من كبرياء شعب فرعون لا بالدببة والأسود والحيات بل أرسل عليهم ذبابًا وضفادع، ليخضع كبرياءهم بأتفه المخلوقات].

فاصل
تفسير القمص أنطونيوس فكري

أية (3): “كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان.”

الكلمة هو خالق كل شيء ما يرى وما لا يرى، في السماء وعلى الأرض (أف9:3) والخليقة أخذت كيانها منه ووجودها منه، ولا توجد خليقة تتخذ لها وجودًا بدونه، فالكلمة أزلي ولكن الخليقة أخذت مبدأها الزمني منه، وهي مرتبطة به تأخذ كيانها منه. وكلمة كان في هذه الآية تختلف عن كان في آية (1). ففي آية (1) تعني الكينونة ولكنها هنا تعني صار الشيء become.

بِهِ كَانَ = الأصل اليوناني يفيد “به صار الشيء وظهر” بحسب تدبير العناية الإلهية. وبه في الإنجليزية Through him وهذه أدق من صار أو كان في العربية فالكلمة بعد أن خلق، ظل حافظاً ومقيماً وماسكاً ومدبِّراً للخلق لذلك يقول الرب “بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً” (يو5:15). كنا في عقل الله أولًاً ثم صرنا خليقة. لذلك هو ضابط الكل “به نحيا ونتحرك ونوجد” أما من ينفصل عنه فيقال له “لك اسم أنك حي وأنت ميت” (رؤ1:3) ويوحنا يشير لهذا فهو يريد أن يتكلم عن الخليقة الجديدة. ومعنى الكلام أن المسيح خالق الخليقة الأولى هو تجسد ليقوم بالخليقة الجديدة.

وبغيره لم يكن شيئًا مما كان= بدونه لا يصير للخليقة وجود وكيان. فهو يخلق أولًا ثم يحفظ، فهو ضابط الكل. وإذا كان الكلمة هو الذي يخلق ويحفظ ويضبط العالم فهو ليس أقل من الله، بل هو الله نفسه. راجع (عب2:1، 3 + أع28:17 + رو19:1-20 + كو16:1-17+ مت29:10-31 + لو6:21 + أم23:8-31).

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى