بناء النفس

إنجيل يوم الجمعة من الأسبوع الثاني من الصوم المقدس

المزمور : “10الرَّبُّ بِالطُّوفَانِ جَلَسَ، وَيَجْلِسُ الرَّبُّ مَلِكًا إِلَى الأَبَدِ. 11الرَّبُّ يُعْطِي عِزًّا لِشَعْبِهِ. الرَّبُّ يُبَارِكُ شَعْبَهُ بِالسَّلاَمِ.” (مز 29: 10، 11)

الإنجيل: ” 39وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلاً:«هَلْ يَقْدِرُ أَعْمَى أَنْ يَقُودَ أَعْمَى؟ أَمَا يَسْقُطُ الاثْنَانِ فِي حُفْرَةٍ؟ 40لَيْسَ التِّلْمِيذُ أَفْضَلَ مِنْ مُعَلِّمِهِ، بَلْ كُلُّ مَنْ صَارَ كَامِلاً يَكُونُ مِثْلَ مُعَلِّمِهِ. 41لِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ 42أَوْ كَيْفَ تَقْدِرُ أَنْ تَقُولَ لأَخِيكَ: يَا أَخِي، دَعْنِي أُخْرِجِ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِكَ، وَأَنْتَ لاَ تَنْظُرُ الْخَشَبَةَ الَّتِي فِي عَيْنِكَ؟ يَا مُرَائِي! أَخْرِجْ أَوَّلاً الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ. 43«لأَنَّهُ مَا مِنْ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تُثْمِرُ ثَمَرًا رَدِيًّا، وَلاَ شَجَرَةٍ رَدِيَّةٍ تُثْمِرُ ثَمَرًا جَيِّدًا. 44لأَنَّ كُلَّ شَجَرَةٍ تُعْرَفُ مِنْ ثَمَرِهَا. فَإِنَّهُمْ لاَ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ تِينًا، وَلاَ يَقْطِفُونَ مِنَ الْعُلَّيْقِ عِنَبًا. 45اَلإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الصَّالِحِ يُخْرِجُ الصَّلاَحَ، وَالإِنْسَانُ الشِّرِّيرُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الشِّرِّيرِ يُخْرِجُ الشَّرَّ. فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ فَمُهُ. 46«وَلِمَاذَا تَدْعُونَنِي: يَارَبُّ، يَارَبُّ، وَأَنْتُمْ لاَ تَفْعَلُونَ مَا أَقُولُهُ؟ 47كُلُّ مَنْ يَأْتِي إِلَيَّ وَيَسْمَعُ كَلاَمِي وَيَعْمَلُ بِهِ أُرِيكُمْ مَنْ يُشْبِهُ. 48يُشْبِهُ إِنْسَانًا بَنَى بَيْتًا، وَحَفَرَ وَعَمَّقَ وَوَضَعَ الأَسَاسَ عَلَى الصَّخْرِ. فَلَمَّا حَدَثَ سَيْلٌ صَدَمَ النَّهْرُ ذلِكَ الْبَيْتَ، فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُزَعْزِعَهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّسًا عَلَى الصَّخْرِ. 49وَأَمَّا الَّذِي يَسْمَعُ وَلاَ يَعْمَلُ، فَيُشْبِهُ إِنْسَانًا بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الأَرْضِ مِنْ دُونِ أَسَاسٍ، فَصَدَمَهُ النَّهْرُ فَسَقَطَ حَالاً، وَكَانَ خَرَابُ ذلِكَ الْبَيْتِ عَظِيمًا!». “(لو 6: 39-49)

بسم الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين

إنجيل القداس:

إنجيل هذا الصباح، يا أحبَّائي، يخصُّنا كثيراً، فهو إنجيل ”بناء النفس“. فيا ليتنا نُصغي إلى كلام هذا الإنجيل حتى يصير عملاً.

يقول الرب يسوع: «كلُّ مَن يأتي إليَّ ويسمع كلامي ويعمل به… يُشبه إنساناً («أُشَبِّهُه برجلٍ عاقلٍ» – مت 7: 24) بنى بيتاً، وحفر وعمَّق ووضع الأساس على الصخر. فلما حدث سَيْلٌ صَدَمَ النهر ذلك البيت، فلم يقدر أن يُزعزعه، لأنه كان مؤسَّساً على الصخر (في إنجيل القديس متى 7: 25 يقول: «نزل المطر، وجاءت الأنهار، وهبَّت الرياح»). وأمَّا الذي يسمع ولا يعمل، فيُشْبه إنساناً («يُشبَّه برجلٍ جاهل» – مت 7: 26) بني بيته على الأرض («على الرمل» – مت 7: 26) من دون أساسٍ، فصدمه النهر فسقط حالاً، وكان خراب ذلك البيت عظيماً» (لو 6: 46-49).

«كل مَن يأتي إليَّ ويسمع كلامي»:

النقطة الأساسية في هذا الإنجيل كله هي كلمة: ”كلامي“. فكلام الرب حلوٌ في الفم، ولذيذٌ للنفس جداً، وشهيٌّ للعقل الذي يتفحَّص في الكلمات. ويقول الرب في موضع آخر: «أليست هكذا كلمتي كنارٍ، يقول الرب، وكمطرقةٍ تُحطِّم الصخر» (إر 23: 29).

فهل القوة والفعالية الهائلة بدون عمل، تساوي شيئاً؟ إطلاقاً. فيصير كلام الله عاطلاً عند الإنسان العاطل. وأُريد أن أؤكِّد وأقول: إنَّ كلام الله عاطلٌ فقط عند الإنسان العاطل. فكل كلمة يتكلَّم بها الإنسان سوف يُعطي عنها حساباً أمام الله، فليست كلمة واحدة مما يتفوَّه بها الإنسان إلاَّ وتُسجَّل عليه ولا يمكن أن تسقط، لأننا سوف نُعطي حساباً عن كل كلمة بطَّالة نتفوَّه بها (مت 12: 36).

وبحسب كل المعايير اللاهوتية والروحية، فإنَّ كل كلام نتكلَّم به، وكذلك الأعمال التي نعملها، محفوظة في وعي الإنسان، وسوف تنكشف أمام الإنسان عندما ننتقل من هذا العالم كأنها صفحة مفتوحة، كل ما قيل وكل ما عُمِلَ، وسوف نُعطي عنها حساباً أمام الله.

ولكن، كلمة الله التي نسمعها وتدخل إلى قلبنا، ستكون باقية أكثر بكثير من الكلمة التي نتفوَّه بها؛ لأن الكلمة التي نتكلَّمها نحن، تخرج من أفواهنا وننساها في التوِّ. أما كلمة الله، أو كلمة المسيح، التي نسمعها، يكون لها صدًى داخل قلوبنا، لأن إمكانية تسجيلها تكون أقوى. وينبغي أن نَعْلَم تماماً أنَّ كلمة المسيح مُسجَّلةٌ في الأزل، على صفحة الأزل، كالمسيح نفسه.

إيمان أطفال عجيب يتحدَّى كلَّ منطقٍ لإلحاد الكبار:

+ نُشِرَت في مجلة مرقس قصة عن بناتٍ صغيرات(2)، أعمارهن من 10-12 سنة، كانت مُدرستهُنَّ شيوعية (مُلحدة)، وتحـاول بكـل الطُّرُق أن تُضايقهُن وتزعزع إيمانهن. وقبل عيد الميلاد بأيامٍ قليلة استدعت هـذه المُدرِّسة فتاة صغيرة تُدعَى ”أنجيل“، وبدأت تسألها أمام كل التلميذات: ”عندما يُنادي عليكِ والداك، فماذا تفعلين“؟ أجابت أنجيل: ”أحضر في الحال“! واستكملت المُدرِّسة أسئلتها لأنجيل: ”وماذا يحدث عندما يستدعي والداك مُنظِّف المداخن“. أجابت أنجيل: ”إنه يأتي“. فأردفت المُدرِّسة: ”حسناً! فمُنظِّف المداخن يستجيب للنداء ويأتي، لأنه يُوجَد! وأنتِ تُلبِّين النداء وتأتين، لأنك توجدين! ولكن لنفترض أن والديك استدعيا جدَّتك التي ماتت. فهل هي تأتي“؟ أجابت أنجيل: ”لا أعتقد هذا“! ثم التفتت المُدرِّسة لبقية التلميذات الصغيرات وقالت: ”أنتُنَّ تَرَيْنَ أنَّ الأحياء الذين لهم وجود يستجيبون للنداء؛ وعلى النقيض تماماً، فمَن لا يستجيب للنداء، فهو ليس من الأحياء، ولا يمكن أن يكون له وجود“.

ثم أَمَرَت أنجيل أن تخرج خارج الفصل، فخرجت وأغلقت الباب ببطء وراءها. وحينئذ قالت المُدرِّسة للتلميذات: ”نادين عليها“! فصاحت حوالي ثلاثين تلميذة بشدَّة: ”أنجيل، أنجيل“! وعندما سمعت أنجيل النداء، دخلت الفصل. وهنا بكل مكرٍ ودهاء قالت المُدرِّسة الملحدة للتلميذات الصغيرات: ”نحن، إذن، متَّفقات تماماً على أنكُنَّ عندما تُنادين أحداً ويكون هذا موجوداً، فإنه يأتي. وحينما تستدعين أحداً ما غير موجود، فهو لا يأتي، ولا يقدر أن يأتي، لأن ليس له وجود حقيقي. فنفترض الآن أَنكُنَّ تُنادين الطفل يسوع، فهل توجد بينكُن مَن تؤمن بعد بوجود الطفل يسوع“. أجابت بعض الأصوات: ”نعم“. ثم التفتت إلى أنجيل وقالت لها: ”وأنتِ، هل تعتقدين بعد أنَّ الطفل يسوع يسمعك حينما تدعينه“؟ فأجابت أنجيل: ”نعم، أومِن بكل يقين أنه يسمعني“! فالتفتت المُعلِّمة المُلحدة إلى التلميذات وقالت لهُن: ”إذا كان الطفل يسوع موجوداً حقّاً، فهو سيسمع نداءكن. بناءً على هذا يمكنكن الآن أن تَصِحْنَ كُلُّكُنَّ معاً: “تعالَ أيها الطفل يسوع”“!

أما البنات الصغيرات، فإذ عجزن عن الردِّ، سكت‍ن. ولكن أنجيل صاحت بأعلى صوتها: ”نعم، هلمُّوا بنا ندعوه. أتسمعونني؟ الكل معاً: “تعالَ أيها الطفل يسوع”“! وفي لمح البصر وقفت كل الفتيات الصغيرات وأَمسكن بأيدي بعضهن البعض في حلقة متَّصلة بحماسٍ شديد، وقلبهُن مُفْعَمٌ بالرجاء الذي يفوق كل منطق بشري، وهتفن معاً: ”تعالَ أيها الطفل يسوع“! كانت أبصارهن تتَّجه نحو الركن الذي تقف فيه أنجيل؛ بينما بدأ باب الفصل ينفتح بكل هدوء، وإذا بهن يلحظن كما لو أنَّ ”كل نور النهار يتجمَّع فجأة ويتركَّز جهة الباب، وكان هذا النور يعلو ويتَّسع، حتى صار في شكل كُرة كبيرة من نورٍ قويٍّ باهر“. أما هذه الكُرة فبَدَت وكأنها انفتحت وظهر في وسطها طفل ”له جاذبية تسلب العقل والقلب، لم يسبق لهُنَّ أن رأين مثله على الإطلاق“.

كان هذا الطفل يبتسم لهُنَّ ”دون أن ينطق بكلمةٍ واحدة“. ولم يَعُد عند الفتيات أيُّ شيء من الخوف، ”فلم يَسُد عليهُنَّ إلاَّ الفرح الغامر“. واستمرت هذه الرؤيا العجيبة ما يقرُب من ساعة. لم يَقُل لهُنَّ شيئاً، ولم يعمل سوى أنه كان يبتسم لهُنَّ. ثم توارَى في كُرة النور الباهر الذي بدأ يخفت تدريجياً حتى غاب تماماً، وأُغلِقَ باب الفصل بكل هدوء من ذاته. وكسر صمتهنَّ صرخة حادة مُفاجئة، فقد صاحت المُعلِّمة المُلحدة وهي مذعورة وشاردة البصر: ”إنه أتى! إنه أتى“، ومن ثَمَّ خرجت مُسرعة وأغلقت الباب وراءها بسرعة غير عادية. أما أنجيل فقالت بكل بساطة لزميلاتها: ”أرأيتُنَّ! إنه موجود، والآن لنُقدِّم الشكر لله“. أما المُعلِّمة المُلحدة فقد آل بها الحال أن توضع في مصحَّة أمراض عقلية. طبعاً المُدرِّسة آمنت، ولكن لكي يكتموا شهادتها، أودعوها المستشفى!

كلام المسيح وأعماله لا يزولان:

+ الكلمة هنا مهمة جداً، فالطفل يسوع ظهر لهن. إذن، كل مراحل المسيح كائنة في الأزل، ثابتة لا تتغيَّر. كل القامات التي مرَّ عليها المسيح كائنة، لا يمكن أن تتغيَّر أو تتبدَّل. كل عمل عمله قائمٌ ثابتٌ، وكل قول قاله قائمٌ ثابتٌ. السماء والأرض تزولان، ولكن ولا كلمة مِمَّا قالها المسيح تزول، ولا عمل مِمَّا عمله يزول أيضاً. هذه هي طبيعة المسيح. لقد انفرش اللاهوت على الناسوت، فقدَّسه إلى التمام، ورفعه إلى مستوى اللانهائية، إلى الأزل.

فالطفل يسوع عندما كان طفلاً في ذاك الزمان، ظهر للفتيات الصغيرات كما كان تماماً؛ وهكذا كلام الله، وهكذا كلام المسيح، أزليٌّ، قيل في الزمن ولكن الأزلية قد سجَّلته، ونحن «لابُدَّ أننا جميعاً نُظْهَرُ أمام كرسي المسيح، لينال كلُّ واحدٍ ما كان بالجسد بحسب ما صنع، خيراً كان أم شرّاً» (2كو 5: 10).

يقول المسيح في إنجيل يوحنا: «إن سمع أحدٌ كلامي ولم يؤمن فأنا لا أَدينه… الكلام الذي تكلَّمتُ به هو يَدينه في اليوم الأخير» (يو 12: 48،47). المسيح لا يدين أحداً، عندما تترك هذا العالم وتذهب إلى العالم الآخَر، سوف لا تجد المسيح واقفاً ويتكلَّم، ولكنه جالسٌ على كرسي مجده، ووراءه صفحة الأزل تحكي عن كل ما قاله، فتنظر أنت إليه، وتحكم على نفسك: «لأنه لم يُرسِل الله ابنَه إلى العالم ليدين العالم، بل ليَخْلُص به العالم» (يو 3: 17).

فالمسيح لا يدين أبداً، ولا يحكم على أحدٍ، لكن الكلام الذي قاله مبسوطٌ قدَّامه، وأنت هو الذي تدين نفسك على ضوء كلامه. كلمة الله قوية، وإلى الآن لم نتنبَّه إلى قدرتها في العمل داخل الإنسان.

«مَن له أُذُنان للسمع فليسمع»:

+ مَن «يسمع كلامي». السَّمْع هنا ليس هو سمع الأُذُن، لأن الذي يسمع فقط لا يعي شيئاً؛ لكن المسيح يقصد هنا ”سمع الروح“: «مَن له أُذُنان للسمع فليسمع» (مت 11: 15). وما هو سمع الروح؟ لقد عبَّر عنه المسيح في سفر الرؤيا قائلاً: «هأنذا واقفٌ على الباب وأَقْرَع. إنْ سَمِعَ أحدٌ صوتي وفتح الباب، أَدْخُل إليه وأتعشَّى معه وهو معي» (رؤ 3: 20).

الباب هنا هو ”باب القلب“، الذي يقرع عليه المسيح كل حين ”بكلماته“. فكلمات الإنجيل كلها كلمات تقرع على القلب. القلب اليقظ ذو الأُذُن الروحية المفتوحة عندما يسمع طرقات الكلمة، ينفتح في الحال، وتدخل الكلمة إلى القلب بسلطان، لأنها كلمة المسيح ذات القوة وذات السلطان، فهي كنارٍ وكمطرقة تُحطِّم الصخر. فالله يطلب أُذُناً مع قلب، هنا يظهر الوعي، فهو لا يطلب أُذُناً فقط، لأن الأُذُنَ وحدها متى سمعت الكلمة تموت الكلمة فيها، ولكن قبول الكلمة يحتاج إلى أُذُن مع قلب. نسمع الكلمة، فنُنخس ونتجاوب معها، فينفتح القلب. وحينئذ تدخل الكلمة فتجد الإرادة تقبلها. فإذا كانت الإرادة متَّصلة بالأُذُن والقلب، وذات قدرة على تمييز الكلمة وقبولها؛ حينئذ تمسُّ الكلمةُ القلبَ، فتخضع الإرادة لسلطانها، لسيف الروح الذي هو كلمة الله. فلا تعود بعد الإرادة مستقلة إذ يُسلِّم الإنسان إرادته لسلطان الكلمة.

هذا هو ما حدث ويحدث للقدِّيسين: الكلمة بسلطانها الإلهي تُسمَع، ثم تدخل إلى القلب وتهزُّه، فينفتح. وقد تكون الإرادة سقيمة، منفعلة بالعالم، وذات مواريث رديئة، متواصلة حتى آدم، لا تطيق قوة ونور وسلطان الله في الكلمة؛ ولكنها أمام سلطان الكلمة تنهار، وتبتدئ كلمة الله تأخذ مكانها في الإرادة، لتسود وتقود.

كلمة الله لها طبيعة الله:

+ أُريدكم أن تفهموا نقطة في غاية الأهمية: كلمة الله – كما قلتُ سابقاً – هي كلمة إلهية، لها طبيعة كطبيعة الله، كطبيعة المسيح، فهي أزلية، نورٌ ونارٌ. وهل ممكن للإنسان (التراب) أن يسمع كلام الله (الذي هو نور ونار) ويعمل به؟ هذا مستحيل!

أنا من طبيعة ترابية؛ وكلمة الله إلهية، سماوية. كلمة الله نور، وأنا ظلمة، فما الذي يجعل الظلمة تطيع النور وتخضع له! هنا يوجد تنافُر، يستحيل معه خضوع الظلمة للنور! فيوجد إنسانٌ مُحبٌّ للكذب، ومُحبٌّ للباطل؛ لكن كلمة الله هي صدقٌ وحقٌّ إلهيَّيْن! فكيف يمكن لهذا الإنسان أن يستخدم الحق، يعمل بالحق، يعمل بالنور، يعمل بالقداسة! وما الذي يجعل هذا الإنسان له سلطان لعمل الحق والنور والقداسة. فالظلمة يستحيل أن تتلاقَى مع النور، ولا يمكن للباطل أن يتعاهَد مع الحق، وكذلك القداسة لا يمكنها أن تتقابل مـع النجاسة. إذن، لابـد هنا من عمل وسيط، هذا ما رأيناه في المسيح عندما تجسَّد، فاتَّحد اللاهوت بالناسوت في شخصه الإلهي. فلا يمكن للإنساني أو البشري أن يأخذ مـن الله، ويسود الله على الإنسان، بـدون اتحاد الطبيعتين في المسيح. وهنا لابد أن نُعطي لكلمة الله فرصة لتتفاعل مع الطبيعة البشرية.

فلابد من الخضوع الكامل والتسليم الكُلِّي لكلمة الله. إذا استُعلِنَت كلمة الله، يكون قد استُعلِنَ الله للإنسان، وبحسب العهد القديم، فإنَّ الإنسان لا يرى الله ويعيش (خر 33: 20). فالله «لم يَرَهُ أحدٌ قط» (يو 1: 18)، وبالتالي لا يقدر أحدٌ أن يسمعه. فطبيعة الله تختلف تماماً عن طبيعة الإنسان، فهي طبيعة مُختلفة ومُضادة للطبيعة البشرية. فلو حدث أن رأى الإنسان الله فلابد أن يموت، لابد أن يقع تحت سلطان الكلمة. هذه هي بداية عمل الإنسان بالنسبة لله، بالنسبة للحق، بالنسبة للكلمة، حتى تستطيع الكلمة أن تعمل فيه، وليس الإنسان هو الذي يعمل فيها.

لقد سمع أنبا أنطونيوس الكلمة، وقرعت الكلمة على باب قلبه، فانفتح القلب، واستسلم لكلمة الله. وحينذاك باع كل شيء، ترك أُخته، تخلَّى عن الكل، وخرج إلى البرية. انظر كيف أنه مات عن العالم عندما قَبِلَ كلمة الله. سلَّم إرادته نهائياً للكلمة، والكلمة قادته إلى حيث تُريد، قادته من مكانٍ إلى مكان، ومن مجدٍ إلى مجد.

يقول المزمور: «خبَّأتُ كلامك في قلبي» (مز 119: 11)، فدخول الكلمة إلى القلب، هي عملية تفريخ، عملية إعطاء فرصة للكلمة لكي تتَّحد بالطبيعة الساقطة، لكي تمحي منها العتيق وتهبها الجديد. وهكذا «وُجِدَ كلامك فأكلته» (إر 15: 16)، و«مَن يأكلني فهو يحيا بي» (يو 6: 57)، وهنا الأكل هو أكل المسيح نفسه. فكلمة الله عندما يقبلها الإنسان تتغلغل داخل كيانه الداخلي، ويبتدئ يتشرَّب كيانه بكلمة الله. ويوماً بعد يوم تسري الكلمة في أعماقه مثل الخميرة الصغيرة، تسري في كيانه كله، في فكره، في إرادته، في مشيئته. فالإنسان لا يتغيَّر من تلقاء نفسه، ولكنه بقبوله الكلمة، وبإعطائها فرصة لكي تتغلغل إلى أعماقه، تبدأ تُفرخ. وحينئذ يتواصل ليله بنهاره، يُصلِّي بالليل وبالنهار، يُردِّد الآيات التي يحبها ليلاً ونهاراً، ”يصرخ إلي الله نهاراً وليلاً“ (يو 18: 7). هذا الصراخ لا يذهب سُدًى، ولكن يتردَّد صداه مرة أخرى داخل الإنسان ويعمل عمله في أعماقه.

كلمة الله وقدرتها على بناء النفس:

+ كلمة الله لها قدرة على البناء، بذاتها، ولكن من المهم أن نُعطيها فرصة لتعمل، والفرصة بالتسليم المطلق لسلطانها. وحينئذ تبتدئ الكلمة تدخل وتتغلغل داخل الإنسان، ويُسْكِنها الإنسان داخل قدس أقداس قلبه، أي أعز ما لديه. فيُنادي بها الله الليل والنهار، لأنها أصبحت كتاجٍ على رأسه، على قمة عواطفه ومشاعره، يتمجَّد بها، ويتعظَّم بها، لأنها بدأت تأخذ مكانها داخل قلبه.

بناء البيت على الصخر:

والسؤال الآن: أين ذهبت الكلمة بالنسبة لهذا الإنسان؟

الإجابة: الكلمة دخلت إلى أعماق الإنسان، ثم تعمَّقت، ثم نزلت وترسَّخت على أساسٍ بُنِيَ على الصخر، والصخر هو المسيح (1كو 10: 4). الكلمة تثبَّتت على صاحبها، أي على المسيح: «مبنيين على أساس الرسـل والأنبياء، ويسوع المسيح نفسه حجر الزاويـة» (أف 2: 20). فالنفس تُبنَى يوماً بعد يوم، والكيان كله يتغيَّر. هذا هو البناء، بناء النفس من الداخل. هنا النفس ليست هي صاحبة هذا البناء، فظاهرياً يبدو أن الإنسان هو الذي بنى نفسه، بنى بيته؛ لكن هذا البناء الذي يُرى هو الظاهر من الخارج، لكن الأساس مطمور ومغمور لأنه وصل إلى الصخر وبنى عليه. فكل أسرار علاقة الإنسان بالله مُختبئة، ولم يَرَ الناس ولا العالم إلاَّ ما هو ظاهر فقط للعيان!

فالبيت الظاهر للعيان، لابد للشيطان أن يُحاربه، يقول للإنسان: ”ادفع العوائد، أنت بنيتَ البيت على أرضي، في عالمي، وصرتَ منظراً للناس. كيف لك أن تتجرَّأ وتبني بيتاً على أملاكي“! وتبتدئ التجارب والضيقات والمشقَّات تُلاحق الإنسان الذي بنى بيته على الصخر، تُلاحقه من الداخل قبل الخارج، ومن كل الأصناف: تن‍زل الأمطار والسيول، وتأتي الأنهار، وتهب الرياح، وتصدم البيت. لكن هذا البيت الذي بُنِيَ على الصخر، ليس بيتي أنا، وليس في مقدرتي أن أحميه؛ لكن الكلمة المتغلغلة فيه هي التي تحميه.

إذا ادَّعى الإنسان أن هذا البيت هو بيته، فسوف يقع في الحال، ولا يكون مؤسَّساً بعد على الصخر. ولكن إذا كان البيت مبنيّاً على الصخر، فالصخر هو الذي يُقوِّمه، وثِقَل البيت كله مؤسَّسٌ عليه، لأن الصخر هو الذي يحمله. ليس الإنسان هو الذي يُدافع عنه، بل صاحب البيت هو الذي يُدافع عنه ويحميه. العدو يحاول بكل قوَّته أن يضرب البيت بالأمواج وبالرياح وباللُّجج، مدى الأيـام والعمر كله، ضيقات وتجارب، ليس لها أول مـن آخر، تصدم ذلك البيت؛ ولكنه لا يقدر أن يُزعزعه، لأنه مؤسَّسٌ على الصخر. فهذا البيت ليس بيتي أنا، بل بيت المسيح؛ ليس عليه اسمي أنا، بل اسمه القدوس.

البيت المبني على الرمل:

+ يوجد إنسانٌ يبني بيته، لكن ليس على المسيح، ولا أسَّسه على الصخر؛ بنى لنفسه، لكي تراه النفس، وتُعجَب بزخارفه. لكن مَن هو ذلك الإنسان؟

للأسف، فإنَّ ما يُحزن القلب، أنَّ ذلك الإنسان ليس إنساناً غير معروف أو مزدَرَى، ولكنه إنسانٌ يبدو أنه مجتهدٌ، حافظٌ للإنجيل والمزامير، مُردِّدٌ للآيات التي يحفظها عن ظهر قلب، يعظ بآيـات الإنجيل التي حفظها، وحائزٌ على شهادات في علم اللاهوت. كـل ذلك، ولا توجد آية واحدة دخلت إلى أعماق قلبه وغيَّرت حياته. فيكون بيته فارغاً، غير ثابت، يكون مبنيّاً على الرمل.

وينخدع ذلك الإنسان، ويكون مزهوّاً بذلك البيت، وهو لا يدري أنه فارغ. والناس تُشجِّعه على ذلك، وتقول له: ”إنك رجلٌ عظيم، وبيتك من أجمل البيوت“. ولكن فجأةً، تأتي التجارب من الداخل ومن الخارج، وتصدم ذلك البيت، ولأنه مبنيٌّ على الرمل، يسقط حالاً، ويكون خراب ذلك البيت عظيماً!

والسؤال الآن: لماذا سقط هذا البيت؟ فبالرغم من أنَّ هذا الإنسان تعب كثيراً، وحفظ الآيات الكثيرة، وأخذ الشهادات العالية، وحصل على شهادات من الناس، وانعقدت عليه الآمال، حتى ظنَّ الناس أنه يُقدِّم للآخرين طريق الخلاص، ويساعد الكل على التجديد، ويقدر أن يُقيم مَن هو ساقط؛ إلاَّ أنه قد بنى بيته على الرمل، فلما صدمته التجارب والمحن، سقط أمام الناس والملائكة وأرواح القدِّيسين، وصار خرابه عظيماً، لأنه لم يؤسِّس بيته على الصخر الذي هو المسيح.

ولربنا المجد الدائم إلى الأبد، آمين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى