رو8: 9 وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح…

 

وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَسْتُمْ فِي الْجَسَدِ بَلْ فِي الرُّوحِ، إِنْ كَانَ رُوحُ اللهِ سَاكِنًا فِيكُمْ. وَلكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَيْسَ لَهُ رُوحُ الْمَسِيحِ، فَذلِكَ لَيْسَ لَهُ.“(رو8: 9)

+++

تفسير القديس يوحنا ذهبي الفم

” وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح ” (رو9:8).

وهو هنا لا يقصد الجسد في حد ذاته، بل يقصد الجسد الذي انجذب وقهر بالشهوات. وقد يقول أحد، لأي سبب لم يتكلم هكذا بوضوح، ولم يشر حتى إلى الاختلاف؟ فعل هذا لكي يسمو بالمستمع، ولكي يظهر بأن من يريد أن يحيا حياة مستقيمة، لا يسلك بحسب الجسد. لأنه من حيث إن الإنسان الروحي لا يحيا في الخطية، فهذا واضح لكل أحد. لكن الرسول بولس يشير إلى الأمر الأعظم، أن الإنسان الروحي لا يحيا في الخطية، بل ولا في الجسد أيضا، طالما أنه هو نفسه قد صار بالأحرى ملاكاً من الآن، وارتفع إلى السماء، والجسد لم يتعد كونه شيئا يلبسه. وإن كنت تتهم الجسد لأن الحياة الجسدية تحمل اسم الجسد، فإنك بذلك ستتهم العالم، لأن الشر في مرات كثيرة، يسمى بالعالم، تماما كما قال المسيح لتلاميذه: ” لأنكم لستم من العالم” وأيضا قال لإخوته: “لا يقدر العالم أن يبغضكم ولكنه يبغضني. وأيضا ستقولون عن النفس أنها غريبة عن الله، لأنه دعا الذين يحيون في الخداع، نفسانيين.

لكن هذه الأمور ليست هكذا ، لأنه يجب أن نبحث في كل موضع ليس عن الكلمات، بل في رؤية المتحدث، وأن نعرف المعنى الصحيح لكلامه. لأن الكلام عن الصلاح شيء، والكلام عن الشر شيء آخر، والمنطقة الوسط بينهما شيء ثالث. مثل النفس والجسد، فهما في الوضع المتوسط، ويمكن أن يصيرا إما هذا أو ذاك (أي صلاح أو شر). بينما الروح يتعلق دائما بالصلاح، ولا يمكن أن يصير شيئا آخر. أيضا اهتمام الجسد، أي العمل الشرير، يتعلق بالشرور على الدوام، لأنه لا يخضع لناموس الله . إذا لو سلمت النفس والجسد إلى الصلاح، فإنك ستنتمي إلى هذا الصلاح، لكن لو سلمتهما إلى الشر، فستصبح شريكا في هذا الهلاك، ليس بسبب طبيعة النفس والجسد، بل بسبب استعدادك، لأن في مقدورك أن تختار أيا من الأمرين.

9 . ومن حيث إن هذه الأمور تحمل هذا المعنى، وإن ما قيل ليس إدانة للجسد، فإنه يستخدم أيضا هذه الكلمة (أي الجسد) . فلنفحص الأمر بدقة أكثر: ” وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح ” ماذا إذا؟ ألم يكن لهم جسد؟ أم أنهم سلكوا بلا جسد؟ وكيف يمكن أن يكون هذا الأمر؟ أرأيت أنه يشير إلى الحياة الجسدية؟ ولأي سبب لم يقل، أما أنتم فلستم خطاة؟ فعل هذا، لكي نعلم أن المسيح لا يلاشي فقط سلطان الخطية، بل أنه جعل الجسد أكثر خفة وأكثر روحانية، بل وسما به أكثر. تماما كما يحدث وتلتقي النار بالحديد، ويصير الحديد نارا ،هذا يبقى محتفظاً ومع بطبيعته، هكذا جسد المؤمنين والذي يحمل الروح أيضا، يشارك في هذه الطاقة الروحية، ويصبح كله روحيا، محلقاً مع النفس إلى أعلا ، هكذا كان جسد ذاك الذي قال هذه الأمور (أي الرسول بولس). ولذلك فقد احتقر كل متعة وشهوة، وتحمل الجوع والجلد والسجن، ولم يتألم ولم يشكو من كل هذا. ولكي يعلن ذلك قال: “لأن خفة ضيقتنا . لقد درب الجسد جيدا أن يكون في خدمة الروح. 

” إن كان روح الله ساكنا فيكم “، لفظة “إن كان”، أشار إليها في مواضع كثيرة، لا لأنه يشك، بل لأنه يؤمن بالأكثر، وبدلاً من ” إن كان “، يستخدم تعبيرات أخرى مثل ” إذ هو”، مثلما يقول: ” إذ هو عادل عند الله أن الذين يضايقونكم يجازيهم ضيقا “76”. وأيضا “أهذا المقدار احتملتم عبئا إن كان عبثاً. “لكن إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له “. لم يقل إن لم يكن لكم، لكنه ذكر الأمر المحزن أو المؤلم لأولئك (السالكين حسب الجسد). ” فذلك ليس له ” ثم يقول ” وإن كان المسيح  فيكم “. مرة أخرى يشير الصلاح الذي في هؤلاء (السالكين حسب الروح). وهو يشير إلى الشيء المحزن في عجالة وفي جملة عرضية، بينما الأمر المرغوب فيه يشير إليه من جانبين (أي من جهة الجسد ومن جهة النفس) وبأساليب كثيرة، حتى يخفي الأمر المحزن، وهو يقول هذا ، لا لكي يطلق على الروح اسم المسيح، حاشا، بل لكي يظهر أن من له الروح، ليس فقط ينتسب للمسيح، بل يكون له المسيح نفسه. لأنه ليس ممكنا عندما يكون الروح حاضرا، ألا يكون المسيح حاضرا. لأنه حيث يوجد أقنوم واحد في الثالوث، هناك يكون الثالوث كله حاضرا، طالما أنه غير منقسم، وواحد في الجوهر . وماذا سيحدث لو كان المسيح فيكم؟

فاصل

تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي

فإن الذين هم حسب الجسد فيما للجسد يهتمون،

ولكن الذين حسب الروح فيما للروح،

لأن اهتمام الجسد هو موت،

ولكن اهتمام الروح هو حياة وسلام،

لأن اهتمام الجسد هو عداوة الله،

إذ ليس هو خاضعًا لناموس الله،

لأنه أيضًا لا يستطيع،

فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله،

وأمّا أنتم فلستم في الجسد بل في الروح،

أن كان روح الله ساكنًا فيكم…” [5-9].

يلاحظ في حديث الرسول بولس عن اهتمام الروح واهتمام الجسد الآتي:

أ. لا يقارن الرسول هنا بين جوهر الجسد أي الجسم بأعضائه وبين الروح، وإنما بين اهتمام الجسد واهتمام الروح، فيقصد باهتمام الجسد شهوات الجسد واهتماماته واشتياقاته الجسدانيّة، ويقصد باهتمام الروح اشتياقات الروح واهتماماتها الروحيّة.

مرة أخرى نؤكد أن الإنسان بجسده وروحه يمثل وحدة واحدة، إن ترك لجسده العنان يتلذّذ بشهوات جسدانية، يتعدّى الجسد حدوده فيُحسب جسدانيًا، إذ يسلك الإنسان ككل بفكره ونفسه وجسده، بطريقة جسدانيّة، وكأنه قد صار جسدًا بلا روح. وعلي العكس إن سلّم حياته كلها تحت قيادة الروح القدس تتقدّس روحه الإنسانيّة، ويتقدّس جسده بكل أحاسيسه وعواطفه، فيسلك الإنسان ككل، كما لو كان روحًا بلا جسد، إذ يتصرف حتى الجسد بطريقة روحية.

خلال هذه النظرة يمكننا أن نعرف اهتمام الجسد، بمعنى ترك الإنسان الجسد على هواه ليتعدّى حدوده، فتخضع حتى النفس لتحقيق هوى الجسد، أمّا اهتمام الروح فيعني خضوع الإنسان لروح الله، فيسلك كإنسان روحي، يحقّق هوى الروح. الأول يثمر موتًا للنفس والجسد على مستوى أبدي، والثاني يهب حياة وسلاما أبديًا [6]. الأول يخلق عداوة لله [7] إذ يطلب الإنسان ملذاته على حساب صداقته مع الله، أمّا الثاني فيجد رضّا في عيني الله.

بهذا الفهم يفسّر القدّيس يوحنا ذهبي الفم العبارة: “فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله [8]، قائلاً: هل نقطع جسدنا إربًا حتى نرضي الله، هاربين من طبيعتنا البشريّة؟ هذا التفسير الحرفي غير لائق، فهو لا يقصد الجسم الإنساني ولا جوهره، إنما يعني الحياة الحيوانيّة العالميّة المستهترة التي تجعل الإنسان جسدانيًا، حتى النفس تصير جسدانية، فتتغيّر طبيعتها ويتشوّه نبلها.

وأيضًا حين نسمع: “أمّا أنتم فلستم في الجسد بل في الروح“، لا نفهم بهذا أننا خلعنا الجسم الإنساني، لكنّنا ونحن في هذا الجسم قد تركنا تيّار الشهوات الجسدانيّة، فصرنا كمن هم بلا جسد من جهة الشهوات. استخدم السيد المسيح نفسه هذا التعبير حين قال لتلاميذه: “أنتم لستم من هذا العالم”، بمعنى أنهم لا يحملون فكر العالم الأرضي وشهواته الزمنيّة بالرغم من وجودهم في العالم.

بنفس المعنى يقول القدّيس إيريناؤس: [بهذه الكلمات لا يجحد مادة الجسم، وإنما يظهر ضرورة أن يكون الروح القدس منسكبًا فيه. فهو بهذا لا يمنعهم من الحياة وهم حاملون الجسد، إذ كان الرسول نفسه في الجسد حين كتب لهم هذا، إنما كان يقطع شهوات الجسد التي تجلب الموت للإنسان.] كما يقول: [لا يتحقّق هذا بطرد الجسد وإنما بشركة الروح، لأن من يكتب إليهم ليسوا بدون جسد، إنما تقبّلوا روح الله الذي به نصرخ: “أبا الآب” (8: 15).]

ويرى القدّيس إكليمنضس السكندري أن التعبيرين “في الروح” و“ليسوا في الجسد” إنما يعني أن الغنوسيّين أي أصحاب المعرفة الروحيّة الحقّة يرتفعوا فوق أهواء الجسد: [إنهم اسمى من اللذّة، يرتفعون فوق الأهواء، يعرفون ماذا يفعلون. الغنوسيّيون أعظم من العالم.]

ب. إن اهتمام الروح ليس من عنديّاتنا، إنما هو ثمر سكنى السيد المسيح فينا، الذي بسكناه يُميت الحياة الجسدانيّة الطائشة، فيحيا الإنسان بكلّيّته، جسمًا ونفسًا، في انسجام كعضو في جسد المسيح، إذ يقول الرسول: “وإن كان المسيح فيكم، فالجسد ميّت بسبب الخطيّة، وأمّا الروح فحياة بسبب البرّ [10]

السالك بالروح القدس إنما ينعم بالمسيح أيضًا ساكنًا فيه، إذ يقول الرسول: “وإن كان المسيح فيكم…” وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [ينطق (الرسول) بهذا لا ليؤكّد أن الروح هو نفسه المسيح، حاشا، وإنما ليُظهر أن من له روح المسيح، يكون له المسيح نفسه. فإنه لا يمكن إلا حيث يوجد الروح يوجد المسيح أيضًا، لأنه حيث يوجد أحد الأقانيم الثلاثة يكون الثالوث القدوس حالاً، لأن الثالوث غير منقسم على ذاته، بل له وحدة فائقة للغاية… الآن تأمّل عظمة البركات التي ننعم بها بنوالنا الروح: بكونه روح المسيح، يكون لنا المسيح نفسه، ونصير مناظرين للملائكة، وننعم بالحياة الخالدة، ونتمسّك بعربون القيامة، ونركض بسهولة في سباق الفضيلة.]

يكمل القدّيس الذهبي الفم تعليقه على العبارة الرسولية مظهرًا أن الجسد الذي لم يكن خاملاً فحسب بسبب الخطيّة بل كان ميتًا، ها هو بالمسيح الساكن فينا صار رشيقًا يركض بسهولة في ميدان الفضيلة لينال الجعالة… الجسد بذاته ميّت بالخطيّة لكن بالله الروح تمتّع بالحياة التي لا تنحلّ، وصار له برّ المسيح.

هكذا إذ يتحدّث عن سكنى المسيح فينا يُعلن عن “برّ المسيح” الذي لا يقف عند إماتة الحياة الشهوانيّة الجسدانيّة وإنما ينعم بتجلّي الحياة بحسب الروح [10]… يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم أن الرسول بولس يشجّع السامع معلنًا عن البرّ كمصدر للحياة، لأنه حيث لا توجد خطيّة لا يوجد الموت، وحيث لا موت تكون الحياة غير قابلة للانحلال.

رابعًا: التمتّع بالقيامة

إن كان ناموس الخطيّة قانونه الموت الأبدي، فإن ناموس الروح الذي يهبه لنا المسيح قانونه القيامة من الأموات، على مستوى أبدي. يهبنا السيد المسيح روحه القدوس ساكنًا فينا، الروح الذي أقام السيد المسيح من الأموات، إذ هو قادر أن يقيم طبيعتنا الساقطة، فينزع عنها ناموس الخطيّة أو الحياة الجسدانيّة الشهوانيّة ليهبنا الطبيعة الجديدة، الطبيعة المُقامة في المسيح يسوع، يسودها ناموس القيامة والحياة. هذا ما أعلنه الرسول بقوله: “وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح من الأموات، سيُحيي أجسادكم المائتة أيضًا بروحه الساكن فيكم” [11].

فاصل

تفسير القمص أنطونيوس فكري

آية (9): “وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح إن كان روح الله ساكنا فيكم ولكن إن كان أحد ليس له روح المسيح فذلك ليس له.”

هم إعْتَمَدوا وحل عليهم الروح القدسالميرون) فإبتعدوا عن تيار الشهوات. والذين تركوا تيار الشهوات العالمية يصيرون كروح بلا جسد وَأَمَّا أَنْتُمْ… فِي الرُّوحِ = وهؤلاء يهتمون اهتمامات روحية وبهذا يضرمون الروح القدس فيهم ويمتلئون منه (2تي6:1) وبهذا يصيروا خاضعين للروح القدس، والروح القدس يقودهم.

ولكن من المهم أن يسأل كل إنسان نفسه، هل أنا بإهتماماتي الجسدية أطفئ الروح، أم هل أنا بإهتماماتي الروحية أضرمه، فالخداع الشيطاني محيط بنا والارتداد للجسد سهل. ومن يضرم الروح يسكن فيه الروح ويقوده. ولكن كيف نعلم هل نحن في الجسد أم الروح؟ من هو في الروح يكون مملوءًا من الروح القدس، وهذا يكون له شكل المسيح وتصرفات المسيح = إِنْ كَانَ أَحَدٌ لَهُ رُوحُ الْمَسِيحِ = فهدف الروح القدس أن يجعلنا نلبس المسيح وأن يتصَوَّر المسيح فينا (غل19:4+ رو14:13) فمن له صفات المسيح من محبة ووداعة وتواضع.. (هذا معنى روح المسيح) فهذا إنسان يسكن فيه روح الله.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى