يو 4:17 أنا مجدتك على الأرض…
4أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ. 5وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ. (يو 5،4:17)
+++
تفسير القمص تادرس يعقوب ملطي
“أنا مجدتك على الأرض،
العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته”. (4)
يعلن السيد المسيح أنه قد جاء لا لكي يستريح بل ليعمل طول نهاره حتى يكمل عمل الخلاص. وإذ يحملنا فيه لا نعرف الراحة إلا في العمل المستمر، حتى نتمم خلاصنا بخوفٍ ورعدة ٍ(في 2: 12). لن نسلك بأنصاف الحلول، بل كل الوقت لحساب خلاصنا.
“أنا مجدتك“: لقد حسب ربنا يسوع أن عمله الخلاصي قد تم فعلاً، إذ أحنى رأسه لقبول الكأس بالحب ليحمل خطايانا في جسده ويقدم نفسه ذبيحة عنا، وكأنه قد تمم رسالته. يتحدث مع الآب أنه أكمل العمل الذي تسلمه من يديه، متطلعًا إلى انتشار الإنجيل في العالم، وتعرف المؤمنين على محبة الله الآب الحقيقي، والتمتع بالاتحاد معه، وتعبد المؤمنين له. لقد مجَّد الآب لأنه سرَّه وتمم عمله الكامل، وفي هذا سرور أيضًا للابن ومجد له.
لم نرَ السيد المسيح يشكو من حياته التي رافقها الصليب منذ الحبل به؛ ولا مما عاناه كابن البشر من إهانات واتهامات وآلام وتجارب، لأنه جاء إلى العمل ليمجد الآب بإعلان الحب الإلهي العملي لكل بشر. وهو في طريق الجلجثة لا يشغله إلا تحقيق إرادة الآب التي هي واحدة مع إرادته. ونحن إذ نتحد به نعبر فوق كل الأحداث وكل الآلام لنهتم بمجد الله فينا وفي اخوتنا ونكمل رسالتنا لحساب ملكوت الله. لم يأتِ السيد المسيح إلى العالم ليعبر طريقًا مفروشًا بالورود، وإنما ليجد مسرته في تحقيق كل برّ، كما يجد الآب مسرته فيه، لأنه يخبر عنه عمليًا، ويحقق خطته من نحو الإنسان. لقد تمم السيد المسيح عمل الآب وإرادته لنتمتع بالخلاص، والآن لا يزال يتممه فينا لكي يتجلى في داخلنا فنشاركه أمجاده.
بذات الروح يليق بالخدام، وهم يتمتعون بإمكانية الله لتحقيق خطته الإلهية للخلاص، أن يتطلعوا إلى البشرية بمنظار الرجاء في خلاص الكثيرين. يليق بنا نحن كأعضاء في جسد المسيح أن نمجد الآب بأن نتمم إرادته وعمله قدر استطاعتنا. نمجده على الأرض التي أعطاها لبني البشر كإعدادٍ للعبور إلى الأبدية. يليق بنا أن نثابر حتى النفس الأخير لنتمم العمل الإلهي.
v قال السيد المسيح للآب: “أنا مجدتك على الأرض”، لأنه قد تمجد في السماء، إذ له المجد في طبيعته، وملائكته ساجدون له، فهو لم يتحدث عن ذلك المجد الذي للآب في جوهره… إنما يذكر المجد القائم من عبادة الناس له…
قال: “العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته”. فإن قلت: إن كان عمل السيد المسيح لم يكن قد أكمل، فكيف يقول: “قد أكملته“؟ أجيبك: إما يعني أنه عمل ما يخصه كله من جانبه، وإما يتحدث عما سيكون كأنه قد حدث. وإما فوق هذا كله أن الكل قد أُنجز، لأن جذر البركات قد أعد، وأن الثمار حتمًا تتبعه بالضرورة، وذلك بحضوره ومساندته في هذه الأمور التي تتحقق فيما بعد. لهذا يقول مرة أخري في تنازل: “العمل الذي أعطيتني”.
v أي شيء لم تتقبله الطبيعة البشرية في الابن الوحيد؟ ألم تتقبل هذا، أنها لن تصنع شرًا بل كل خير، باتحادها بشخص الكلمة الذي به كان كل شيء؟ لكن كيف أكمل العمل المعهود إليه بينما كان قد بقي بعد دخوله في الآلام الذي به يسند الشهداء، مقدمًا نفسه مثالاً يقتدون به؟ لهذا يقول بطرس الرسول: “فإن المسيح أيضًا تألم لأجلنا تاركًا لنا مثالاً لكي تتبعوا خطواته” (١ بط ٢: ٢١). وإنما يقول أنه أكمل ما قد عرف بتأكيد تام أنه يتممه. وذلك كما استخدم سابقًا في النبوة صيغة الماضي عن أمور تحدث بعد سنوات طويلة. إذ يقول: “ثقبوا يدي رجلي، وأحصوا عظامي” (مز ٢٢: ١٦، ١٧). لم يقل: “سيثقبوا وسيحصوا”… هكذا يقول هنا كما لو أنه هو أولاً مجد الآب، ويطلب أن يتمجد. لذلك يلزمنا أن ندرك أنه استخدم كل الكلمات السابقة الخاصة بالمستقبل… وصاغها في الماضي.
“والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك،
بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم”. (5)
لأجلنا أخلى ذاته عن مجده، ولأجلنا تمجّد، نال من الآب الكرامة والمجد (1 بط 17:1)، المجد الذي كان له من قبل تأسيس العالم (يو 5:17).
يضع ربنا يسوع، ملك الملوك، التيجان الملوكية على رؤوس مؤمنيه الأتقياء بيده. ما من درجة من الكرامة مهما علت لا يمكن للَّه أن يرفعنا إليها إن أراد ذلك؛ فهو يرفع المسكين من المزبلة، ويقيمه وسط الأشراف “الملوك الروحيين” (مز 7:113-8). فقد أخذ الرب داود من بين أغنامه، وأقامه ملكًا متوجًا على أعظم عرش في المسكونة كلها في ذلك الحين. في استحقاقات الدم الثمين وهبنا ربنا يسوع المسيح روحه القدوس، الذي يشكل إنساننا الداخلي لنحمل شركة المجد والبهاء بصورة فائقة.
يحمل مجد الابن كرامات وسلطانًا وأفراح من أجل تحقيق إرادة الآب وإتمام العمل. هذا المجد الذي يسأله هو مجده من قبل تأسيس العالم:
أولاً: مجد أزلي، شريك مع الآب في المجد، فهو بهاء مجده (عب ١: ٣)؛ لا ينفصل عنه. ورد تعبير “قبل تأسيس العالم” وأمثاله في الكتاب المقدس ليعني الأزلية (يو ١٧: ٢٤؛ مز ٩٠: ٢؛ أف ١: ٤؛ يو ١: ١).
ثانيا: بتأنسه أخلى الكلمة الإلهي ذاته عن مجده، كمن يضع حجابًا يغطي به بهاءه، لكن الحجاب لم يغير من طبعه، ولم ينزع عنه حقيقة مجده الأزلي. إن كان الآب قد تمجد بالابن بتجسد الابن وتنازله حتى الصليب لتحقيق الخلاص، فإن تنازل الابن لن يفقده مجده.
ثالثًا: عاد فارتدى مجده والتحف به، ليفتح لنا طريق المجد السماوي. فباتحادنا بالسيد المسيح الممجد للآب ننعم بشركة المجد في الدهر الآتي.
يطلب الابن أن يلتحف بالمجد الذي له منذ الأزل قبل خلقة العالم، فيتمتع الناسوت الذي التحف به ببهاء القيامة من الأموات والصعود إلى السماء، إذ له سلطان أن يضع حياته بالموت ويأخذها بالقيامة، لأنه هو القيامة. يعلن الآب مجد الابن في قيامته وصعوده وجلوسه عن يمينه في الأعالي، فوق كل خليقة (في ٢: ٦-٩). هذا ما أعلنه إشعياء النبي بكل وضوح: “أما الرب فسُرَّ بأن يسحقه بالحزن؛ إن جعل نفسه ذبيحة إثم يرى نسلاً تطول أيامه ومسرة الرب بيده تنجح… لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة، من أجل أنه سكب للموت نفسه، فأُحصي مع آثمة، وهو حمل خطية كثيرين، وشفع في المذنبين” (إش ٥٣: ١٠-١٢). هكذا يُسر الآب بالصليب لأنه به تصير البشرية المؤمنة غنائم يحملها المصلوب إلى العرش الإلهي مبررة وممجدة فيه. إنه مجد الآب، وهو مجد الابن واهب البرّ، ومجد البشرية التي تشاركه مجده السماوي! لكنه إذ يحقق مشيئة الآب يقبل الألم كإرادة أبيه، ويقبل القيامة حسب مسرة أبيه.
هذا هو مجد الابن المتجسد، إنه لا ينال مجدًا من الخارج، لكن من الذي له أزليًا ينعكس على ناسوته. إنه لم يطلب أن يتمجد مع رؤساء هذا العالم وسلاطينه. فقد قدم له إبليس في التجربة ممالك العالم فرفض، حتى نستخف بالأمجاد الزمنية ونطلب ما هو سماوي. كأنه يقول: “لتعطي أمجاد العالم لمن يشتهيها، أما أنا فنصيبي في المجد هو معك في السماء على مستوى أزلي. لست أطلب أن أتمجد مع الناس بل معك!”
نصرخ مع مسيحنا لنطلب مجدنا لا على الأرض بل الذي “عند الآب“، أي في الأحضان الإلهية، فيتحقق فينا الوعد الإلهي: “من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا أيضًا، وجلست مع أبي في عرشه” (رؤ ٣: ٢٠).
v تأمل كيف لم يطلب السيد المسيح من الآب أن يمجده بالمجد الذي له على الأرض، لكنه طلب منه أن يمجده بالمجد الذي كان له عنده.
v أين هو ذاك المجد؟ إذ سمح ألا يكرم من البشر بسبب الغطاء الذي وضعه حول نفسه، فكيف يطلب أن يمجده الآب؛ ماذا يقول هنا؟ ما يقوله خاص بالتدبير، فإنه إذ لم تتمجد طبيعته الجسدية بعد، ولا نال بعد عدم الفساد، ولا شارك (جسده) العرش الملوكي. لهذا لا يقول: “على الأرض” بل “عندك”.
v وهكذا يمكنني أن أذكركم بأمور كثيرة الآن بطرق مغايرة، لكن على أي الأحوال أقدم لكم شهادة أخرى حتى تتأكدوا أن الله يدعى” أبًا البشر”في معنى غير مناسب” أي ليس بالطبيعة.
هكذا خوطب الله في إشعياء: “فإنك أنت أبونا وإن لم يعرفنا ابراهيم” (إش 16:63) و”سارة لم تتمخض بنا”.
وإذ يقول المرتل: “ليضطربوا من هيئته، أب اليتامى وقاضي الأرامل”” (مز 5:68 LXX )، أليس من الواضح للجميع أنه يدعو الله أبًا للذين فقدوا آباءهم متأخرًا، ليس لأنه ولدهم بل من أجل اهتمامه بهم وحمايته لهم؟
ولكن بينما نحن ندعو الله أبًا للبشر في معنى غير مناسب، فهو أب المسيح وحده بالطبيعة لا بالتبني.
فبالنسبة للبشر هو أب في زمان، أما للمسيح أب قبل كل زمان، إذ يقول: “والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم“.
v نفهم أن المجد الذي لناسوته من أنه وهو قابل للموت يصير خالدًا مع الآب، هذا قد تحقق بالتدبير السابق المحتم قبل وجود العالم، وقد تحقق في الوقت المعين في العالم.
تفسير القمص أنطونيوس فكري
الآيات (4-5): “أنا مجدتك على الأرض العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته. والآن مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم.”
هنا نرى معنى أن يعرفوك (آية3). فحينما أكمل المسيح عمله الذي أعطاه له الآب، إستعلنت حقيقة المسيح الإلهية وكونه واحداً مع الآب. وأن عمله أتمه بالفداء والقيامة ومازال يكمله بشفاعته الكفارية عنا في السماء. والآن= بعد أن أكملت العمل.
والمسيح في آية (1) يقول “مجد إبنك” وهنا يقول مجدني أنت. فما الفرق بينهما؟
في آية (1) كان المسيح يطلب تدخل الآب لتكميل باقي المهمة العظمى بكل ما تشمله من صلب وإهانة = “الرب عن يمينك” (مز110: 5). ثم بقيامة ومجد = مجدنى أنت أيها الآب = “إجلس عن يميني” (مز110: 1).
في آية (1) يطلب المسيح أن يسانده الآب، يساند ناسوته ليكمل عمل الصليب الذي به يتمجد الابن إذ يكمل إنتصاره على قوات الظلمة والموت. أمّا هنا في آية (5) فهو يطلب المجد المستحق عن العمل الذي سيكمله. والآب سيمجده بإعلان بنوته له واستعلان لاهوته وأنهما واحد.
ونلاحظ أن المسيح لا يطلب المجد للاهوته بل لناسوته أي الجسد الذي أخذه من الإنسان. فلاهوته لم يفارقه مجده أبداً، لكنه يطلب المجد للطبيعة البشرية. وهذا الطلب هو عمل عظيم من المسيح لحساب البشر (قارن مع آية 22). هذه هي شفاعته واستحقاق ذبيحة طاعته. هذا هو جوهر الفداء والخلاص للإنسان الذي ينتهي بالمجد (راجع أف5:2، 6 + 19:3 + في21:3 + كو12:1، 13 + كو4:3 + 2تس14:2 + 1بط10:5 + عب10:2 + رو17:8 + يو24:17) هذه شركة في المجد البنوي لله. وقوله الذي أعطيتني يشير للمجد الذي حازه المسيح كإبن الإنسان لحساب الإنسان (يو36:13) ففدائه أعطى للإنسان مجداً وحياة أبدية وهذه إرادة الآب “الذي يريد أن الجميع يخلصون” (1تي4:2). فالإبن هو الفعل، يفعل ما يريده الآب. ونلاحظ أن من له الحياة الأبدية وعرف الله فهو في مجد. وهذا ما يريده المسيح للمؤمنين.
أنا مجدتك على الأرض= باستعلانه للآب = هو أظهر محبة الآب للبشر وأبوته لهم (يو18:1) وكان ذلك بأن تمم وأكمل عمل الفداء. قد أكملته= تفيد الكمال فهو تمم العمل بكمال في طاعته للآب. وكان طعام المسيح أن يتمم ويصنع مشيئة الآب (يو34:4). عند ذاتك= “عند” يمكن ترجمتها أيضاً “مع” وتفيد معنى المجد الواحد للذات الإلهية، مجد الآب ومجد الابن فالإبن كائن مع الآب وفي الآب، في حضن الآب، وتفيد معنى الوحدة القائمة بالمجد في الله بين الآب والابن. وتفسير هذه العبارة نجده في (يو1:1، 18) فالكلمة كان عند الله وهو الابن الوحيد الذي في حضن الآب. وبعد أن أخلى الابن ذاته من مجده آن الآوان أن يدخل الابن بالجسد إلى أحضان الآب كعودة الذات لذاتها بكل المجد الذي كان له وعنده ومعه قبل كون العالم. وعند ذاتك تفهم أيضاً “في ذاتك” فالمسيح له نفس المجد الذي للآب باللاهوت. وقد صار نفس المجد للناسوت عندما “جلس عن يمين أبيه”. الابن هنا يرى ما بعد الصليب، هو يرى الصليب كأنه حدث ويرى ما سيحدث بعده من قيامة وجلوس في العرش.
بالمجد الذي كان لي= المسيح كان له المجد دائماً منذ الأزل أي أن مجد الآب هو نفس مجد الابن ولو أنه أخلى ذاته منه في أيام تجسده. وكان إخلاء المسيح لذاته يعني أنه ظهر في صورة عبد مهان (أش2:53) وهذه ليست صورة مجد، فالمهمة التي سيقوم بها فيها عار وذل ومهانة وقبول للموت. والمسيح الآن يطلب ما بعد ذلك من استعلان لاهوته ووحدته مع الآب. وهذا المجد الذي يطلبه هو ليس في احتياج إليه بل هو مجده. لكنه يطلبه لجسده أي الكنيسة. فالإخلاء يعني الإخفاء عن أعين الناس ومدارك الشيطان، والآن المسيح يطلب استعلان ما هو له عند ذات الآب. قبل كون العالم= قبل كون العالم والخليقة لم يكن هناك سوى الله. وهذه العبارة تصريح واضح بلاهوته الازلى.
مجدني= هنا الناسوت يتكلم. بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم= هذا المجد هو مجد لاهوت الابن وهو مجد أزلي. والمسيح يطلب أن الناسوت يكون له نفس مجد اللاهوت وذلك لحساب الكنيسة جسده. وهذا نراه بوضوح في آية (يو22:17).
- الإنجيل بحسب القديس يوحنا – أصحاح 17
- تفسير إنجيل يوحنا 17 للقمص تادرس يعقوب
- تفسير إنجيل يوحنا 17 للقمص متى المسكين
- تفسير إنجيل يوحنا 17 للقمص أنطونيوس فكري