تأملات في سفر نشيد الأناشيد للبابا شنوده الثالث – الأصحاح الثالث
مَنْ هذه الطالعة من البرية؟! (نش 8: 5؛ 3: 6)
موضوع تأملنا اليوم في سفر النشيد، هو عبارة قالها الرب عن كنيسته، وردت مرتين في السفر في (نش 3: 6) (نش 8: 5):
* “مَن هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان، وكل أذرة التاجر” (نش 3: 6).
* “مَن هذه الطالعة من البرية، مستندة على حبيبها” (نش 8: 5) إنه تأمل في جمال الكنيسة، وفي جمال النفس البشرية المحبة لله. وكيف أنها طالعة من البرية، وطالعة في جمال، معطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر، كأعمدة من دخان صاعدة من المجمرة.
وسوف نتناول هذا الوصف: كأغنية تُنشد لكنيسة العهد القديم، وكأغنية تُنشد للكنيسة المنتصرة، أو كأغنية تُنشد لقديسي البرية.
1- أغنية تُنشد لكنيسة العهد القديم:
يمكن أن تؤخذ عبارة “الطالِعة من البرية” على كنيسة العهد القديم، التي طلعت من برية سيناء، واتجهت إلى كنعان، مستندة على ذراع حبيبها.
مسيرة الكنيسة في البرية، كانت مسيرة عجيبة حقًا إذ خرج الشعب بلا طعام ولا شراب، ولا ملابس كافية لتلك الرحلة الطويلة، ولا باقي الاحتياجات اللازمة، مجرد خروج على أسم الله بالإيمان وليس أكثر.
وضعوا أرجلهم في البحر، مستندين على زراع حبيبهم، الذي سندهم في عبورهم، سند المياه من هنا، وسندها من هناك. ومشت الكنيسة في البحر، مستندة على حبيبها، وعاشت في البرية.
* عاشت بالإيمان، الذي يرى ما لا يُرى..
وفي قلب كل واحد رن قول الرب “وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة في القفر. وأطعمك المن الذي لم تكن تعرفه ولا عرفه آباؤك. ثيابك لم تبل عليك، ورجلك لم تتورم هذه الأربعين سنة ” لكي يعلمك أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (تث 8: 2 – 4).
حقًا إن الإنسان الذي يحيا في الإيمان، مستندًا على الله حبيبه، يمكن أن يختبر عجائب في عمل الله معه..
يمكن أن يفجَر له الله ماء من الصخرة (خر 17: 6)، ويمكن أن يحول له الماء المر إلى ماء حلو (خر 15: 23 – 25). ويمكن أن يشق له في البحر طريقًا (خر 14: 21، 22) ويمكن لهذا المؤمن أن يختبر محبة الله له: يظلله السحاب بالنهار، ويضئ له عمود النار بالليل (خر 13: 21، 22) ويمكن أن يحميه الرب من جميع أعدائه.
وهذا كله حدث لتلك الطالعة من البرية. وانهزم أمامها سيحون ملك الأموريين (عد 21: 23 – 26)، كما انهزم أمامهم عوج ملك باشان (عدد 21: 33- 35).. حتى لكان شعوب الأرض يتأملون كل هذا ويقولون في عجب: ” مَن هذه الطالعة من البرية مستندة على حبيبها؟!
أيضًا النفس المستندة على حبيبها، يسقط عن يسارها ألوف، وعن يمينها ربوات، وبعينها تنظر وتتأمل مجازاة الأشرار (مز 91: 7، 8) الرب يظلل على يدها اليمنى، فلا تضربه الشمس بالنهار، ولا القمر بالليل (مز 121: 5، 6).
مشكلتنا في الحياة أننا لا نستند على حبيبنا!! قد تستند على مواهبنا، على قوتنا وذكائنا، على غنانا! ونستند على زراع بشري، وعلى حكمة بشرية! وربما نستند على الشيطان وكل حيله!!
وقد ننجح نجاحًا مؤقتًا، الهزيمة أفضل منه! وقد نفشل..
أما الذي يستند على الله الذي يحبه، فيمكنه -كالثلاثة فتية- أن يمشي في أتون النار ولا يحترق.. كانت النار تحيط بهم، ولم تكن لها قوة على أجسامهم، وشعرة من رؤوسهم لم تحترق. حدث ذلك لأنهم كانوا مستندين على حبيبهم، الذي كان ماشيًا معهم في وسط النار، وكان شبيهًا بابن الآلهة (دا 3: 25، 27).
لعل الملائكة في ذلك الوقت كانوا ينظرون إلى نفوس هؤلاء الفتية في النار، وهم يُغَنّون “مَن هذه الطالعة من البرية مستندة على حبيبها”؟! لقد طلعوا من النار، وكأنهم خارجون من أحد البساتين وإحدى الفراديس!
داود النبي جرب الاستناد على ذراع حبيبه حينما قال ” الرب نوري وخلاصي ممن أخاف؟! إن يحاربني جيش فلن يخاف قلبي، وإن قام علىّ قتال، ففي هذا أنا مطمئن” (مز 27: 3). وحينما قال “الرب يرعاني فلا يعوزني شيء. في مراع خضر يربضني، وإلى ماء الراحة يوردني.. أيضًا إن سرت في وادي ظل الموت، لا أخاف شرًا (مز 23). ولماذا لا أخاف؟ لأنك أنت معي نفسي مستندة على ذراع حبيبها.
وهكذا أيضًا الكنيسة في العالم، تعيش مستندة على ذراع حبيبها. لاحظوا أنه قال “مستندة على حبيبها ولم يقل مستندة على القوي الجبار.. حقًا أن حبيبها قوي جبار. ولكن عبارة حبيبها هنا لها عمقها العاطفي، ولها قوتها أيضًا، إذ يُقال في نفس النشيد “المحبة قوية كالموت. مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة” (نش 8: 6، 7) ولأنه يحب هذه النفس، ويحب هذه الكنيسة، لذلك يفعل كل شيء لأجلها، وبقوة النفس التي تستند على حبيبها، تعيش مطمئنة، في سلام..
تغني قائلة: وإن قام علىّ قتال، فأنا مطمئنة (مز 27: 3). ولماذا أنت مطمئنة أيتها النفس؟ ولماذا كانت الكنيسة كلها مطمئنة؟ لأنها مستندة على حبيبها. “شماله تحت رأسي ويمينه تعانقني” (نش 2: 6 ). رحمته تحيط بي من كل ناحية. إنها مطمئنة لأنها في حضن الله. فمهما صادمتها المشاكل والعقبات والحروب، لا تهتز ولا تضطرب. وإنما تقول في ثقة المستند على حبيبه “إن كان الله معنا، فَمَنْ علينا”..؟
هذا النشيد أيضًا هو أغنية للكنيسة المنتصرة..
2- أغنية للكنيسة المنتصرة:
يمكن أن يقال هذا النشيد في السماء، في استقبال الكنيسة التي جاهدت على الأرض وغلبت. الكنيسة التي عاشت في هذا العالم، في البرية القفرة.. في تعب وشقاء في الطريق الكرب، ودخلت إلى الفردوس من الباب الضيق (مت 7: 14) ولذلك يستقبلها الملائكة قائلين: مَن هذه الطالعة من البرية.. ؟!
العالم بالنسبة إليها كان برية، أقفرت من تنعمُّات العالم وملاذه، ومن لهوه وعبثه وضجيجه. لأنها أطاعت قول الكتاب “لا تحبوا العالم، ولا الأشياء التي في العالم.. إن العالم يمضي وشهوته معه” (1 يو 2: 15، 17). أما هي فأجابت الرب يقول المزمور لكي يزهر لك جسدي في أرض مقفرة، ومكان بلا ماء وموضع غير مسلوك (مز 63: 1).
هذه الكنيسة طالعة من البرية، لكي يختطفها الرب على السحاب، وتكون مع الرب كل حين (1تس 4: 17).
نعم: مَن هذه الطالعة من البرية، التي لم تعش في فراديس وفي جنات، كما عاش سليمان وهو يعزي نفسه بخيرات العالم قائلًا “بنيت لنفسي بيوتًا، وغرست لنفسي كرومًا. عملت لنفسي جنات وفراديس، وغرست فيها أشجارًا من كل نوع ثمر. عملت لنفسي برك مياه. قنيت لنفسي عبيدًا وجواري.. جمعت لنفسي فضة وذهبًا. اتخذت لنفسي مغنين ومغنيات وتنعُمات بني البشر.. ومهما اشتهته عيني لم أمسكه عنهما” (جا 2: 4-10).
أما الكنيسة فرفضت أن تستوفي خيراتها على الأرض (لو 16: 25).
إنما تعبت على الأرض، لكي تتمتع في السماء. عاشت على الأرض في طقس لعازر المسكين عاشت فقيرة، ولكن مستندة على حبيبها. كما قال بولس الرسول ” مكتئبين في كل شيء، لكن غير متضايقين. متحيرين لكن غير يائسين، مضطهدين لكن غير متروكين..” (2 كو 4: 8، 9).. “كحزانى ونحن دائمًا فرحون. كفقراء ونحن نغني كثيرين. كأن لا شيء لنا، ونحن نملك كل شيء” (2 كو 6: 10).
هذا النشيد يمكن أيضًا يصلح لقديسي البرية، فهو:
3- أغنية تُنشد لقديسي البرية:
هؤلاء القديسون يسبحون الرب في كل يوم تسبحه جديدة. وفي كل يوم يهمس الملائكة في آذانهم قائلين: “ها باركوا الرب يا عبيد الرب، القائمين في بيت الرب في ديار بيت إلهنا. في الليالي أرفعوا أيديكم أيها القديسون وباركوا الرب” (مز 134: 1، 2).
يستمع الملائكة إلى هذه الصلوات ” الطالعة من البرية، ويقولون للرب ” طوبى لكل السكان في بيتك، يباركونك إلى الأبد (مز 84: 4).
أهل العالم – حتى إن دخلوا الكنيسة – قد يسرحون في أمور العالم أثناء الصلاة. أما هؤلاء القديسون -فحتى إن شغلوهم بشيء من أمور العالم- فإنهم أثناءها يسرحون في الله. عاشوا في البرية القفرة، بدون أي معونة، مستندين على حبيبهم واستطاعوا أن يقدسوا البرية بصلواتهم وبحياتهم. حتى تحولت البرية إلى سماء ثانية. واجتذبت إليها طالبي الروح من أقصاء الأرض كلها..
عاشوا في طقس الصلاة الدائمة. ولقّبوهم بملائكة أرضيين وبشر سمائيين. فعندما تصعد أرواح هؤلاء القديسين إلى السماء. فلاشك ستجري الملائكة لاستقبال أرواحهم الطاهرة بهذا الهتاف “مَن هذه الطالعة من البرية”.
سليمان الحكيم -كاتب سفر النشيد- أتراه في حلم ورؤيا – أبصر جماعات السواح والمتوحدين والرهبان طالعة من البرية، فاستقبلها بهذا النشيد “مَن هذه الطالعة من البرية؟!”
يوحنا كاسيان حينما زار براري مصر، قال إن المسافر من الإسكندرية إلى طيبة (الأقصر)، لم يكن صوت التسبيح والألحان والصلوات ينقطع من أذنيه طول الطريق وذلك لكثرة الأديرة والقلالي والمغارات المنتشرة في كل مكان في البرية، يسكنها أولئك القديسون الذين أحبوا الرب فأحبوا الوحدة. وعاشوا كملائكة الله على الأرض.. كل شبر من تلك الأرض المقدسة، قد باركه القديسون ودشنوه بصلواتهم ومزاميرهم. حبّات الرمال تقدست، إذ وطئتها أقدامهم الطاهرة.
هذه الحياة المقدسة الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، صاعدة إلى عرش الله، يهتف لها سكان السماء قائلين: مَن هذه الطالعة من البرية؟!
إن الحياة التي شهدها العالم في براري مصر، في القرنين الرابع والخامس، كانت كأنها الحلم! نسمع عنها الآن، وكأنها قصة.. ! كيف عملت النعمة في نفوس أولئك القديسين بكل تلك القوة وبكل ذلك العمق؟! وكيف كانت أرواحهم في كل يوم، كأنها على سلم يعقوب صاعدة إلى السماء ونازلة منها.. وفي كل درجة تصعدها على ذلك السلم الروحاني، يصرخ السمائيون في عجب وإعجاب “مَن هذه الطالعة من البرية”؟!
إنه منظر عجيب حقًا، حينما نرى ملائكة نازلة من السماء إلى الأرض. ولكن الأعجب منه أن نرى بشرًا لهم صورة الملائكة صاعدين من الأرض إلى السماء.. ! وليس فقط فرادى قلائل، وإنما جماعات عديدة لها نفس الصورة، نفس القداسة والبر والشفافية، نفس الزهد والعفة. فيصرخ الجميع لمرآها “مَن هذه الطالعة من البرية؟!” ووجه العجب الكبير أن هؤلاء الصاعدين كالملائكة، لهم أجساد مادية، وقد سكنوا في هذا العالم في وسط شهوته. هم بشر تحت الآلام مثلنا (يع 5: 17) ولكنهم عاشوا صورة لله ومثاله.
هل دخلوا النار كالثلاثة فتية، ولم يحترقوا. أم هم قد صعدوا من النار كأعمدة من دخان، معطرة بالمُر واللبان.
هذه هي الكنيسة طالعة من البرية. الأشرار يهبطون إلى أسفل، أما الأبرار فيطلعون إلى فوق. دائمًا الكنيسة طالعة إلى فوق.
مَن هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان، وكل أذرة التاجر” (نش 3: 6).
مَنْ هذه الطالعة من البرية؟ كأعمدة من دخان معطرة بالمرّ واللبان
(نش 8: 5؛ 3: 6)
كأعمدة من دخان:
هنا يتأمل الرب كنيسته في برها, وفي عبادتها، وفي آلامها من اجله. فيقول: من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان؟!
لا شك أن عبارة “أعمدة من دخان” لا يمكن أن تعني ذلك الغزل الرخيص الذي يتهمون به سفر النشيد. فلا يمكن أن تقبل امرأة من حبيبها هذا الوصف! ثم هل يتفق هذا التعبير من قوله عن عروس أنها “جميله كالقمر, مشرقة كالشمس” (نش 6: 10).
نعم، المعنيان يتفقان في المفهوم الروحي..
إن عبارة “كأعمدة من دخان” تحمل معنى روحيًا جميلًا يليق بالنفس العابدة، في علاقتها مع الله. فكيف يكون هذا؟
تصور انك أمام المجمرة (الشورية). واتيت بحفنة من البخور وضعتها فيها. فما الذي يحدث؟ يحترق البخور من لهيب النار، ويصعد كأعمدة من دخان زكية الرائحة، وهكذا الكنيسة.
نعم تصور معي هذا المنظر الجميل: مجمرة مملوءة من النار المقدسة، التي هي الحب الإلهي. والمحبة تشبهها سفر النشيد فيقول: ” مياه كثيرة لا تستطيع أن تطفئ المحبة” (نش 8: 7).
هذه المجمرة وضعت فيها حبات من البخور، هي شخصيات القديسين.
حبة اسمها القديس انطونيوس الكبير، وحبة اسمها آبا مقار الكبير. وحبة اسمها الأنبا بيشوي, وأربعة اسمها القديس أثناسيوس الرسولي. وخامسة اسمها الشهيد مارجرجس..
وحبات أخرى كثيرة من السواح والمتوحدين والشهداء والبطاركة والأساقفة، والأبرار في كل جيل..
هذه الحبات اشتعلت بالحب، وطلعت إلى فوق كأعمدة من دخان، كرائحة بخور، تتسم منها الله رائحة الرضا (تك 8: 21).
وتنسمها الملائكة، فأعجبت برائحتها الزكية، وغنت في فرح “من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان؟!”
مُعطرة بالمرّ واللبان:
كان المرّ من العطور التي تدخل في تركيب الدهن المقدس الذي كان يُستخدم في المسحة المقدسة في العهد القديم. تلك التي مُسحت بها خيمة الاجتماع وتابوت العهد، وكل أواني الخدمة ز كما مسَحَ بها هرون رئيس الكهنة وبنوه (خر 30: 23-30).
كما كان المر واللبان من تقدمات المجوس للمسيح.
اللبان كان يرمز إلى الكهنوت.
والمر كان يرمز الآلام، وإلى رائحة الحياة الطيبة.
وبكل هذا تعطرت الكنيسة، وتعطرت النفس البشرية التي تحب المسيح.
ومن العطور المقدسة الميعة والسليخة. لذلك فإن المرتل قال للكنيسة في المزمور “المرّ والميعة والسليخة من ثيابك” (مز 45: 8).
لذلك لم يكتفِ سفر النشيد بأن يجعل العروس معطرة بالمر واللبان ْ فقط، وإنما أضاف “وبكل أذرة التاجر”، بكل العطور جميعها..
وكل أذرة التاجر:
وأنت أيها الابن المبارك -بعد عمر طويل- عندما تصعد روحك إلى فوق: هل تكون زكية الرائحة ” معطرة باللبانْ وبكل أذرة التاجر”؟ أم تفوح منها رائحة الخطية البشعة , لا سمح الله..
لأن بعض الناس حينما يموتون، تمتلئ حجراتهم برائحة بخور. وآخرون تتعفن أجسادهم بسرعة. ويحاول أقرباؤهم أن يدفنوهم قبل أن تفوح الرائحة!
والآن نسأل: ما هي أذرة التاجر التي تتعطر بها الروح؟
هي ثمار الروح التي قال عنها الرسول “وأما ثمر الروح: فهو محبة، فرح, سلام, طول أناة، لطف, صلاح, إيمان، وداعة، تعفف” (غل 5: 22، 23).. هي الطهارة والنقاوة والقداسة، وحرارة الروح، والشوق إلى الله. هي زيت العذارى الحكيمات، وشركة الروح القدس، وهي البذل والعطاء، والجهاد.. هي ثمر الإيمان، وثمر التوبة..
وَتُرَى مَنْ هو التاجِر؟
هو الذي قال عنه الرب “يُشبه ملكوت السموات إنسانًا تاجرًا يطلب لآلئ حسنة. فلما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن، مضى وباع كل ما كان له واشتراها” (متى 13: 15، 16).
هو التاجر الذي يقول الرب في اليوم الأخير ” يا سيد، خمس وزنات سلمتَني. هوذا خمس وزنات أُخر ربحتها فوقها” (متى 25: 20).
وأيضا التاجر هو كل خادم للرب يقدم للناس الروحيات، ويقول مع القديس بولص الرسول “صرت لكل شيء، لأخلص على كل حالٍ قومًا” (1 كو 9: 22).
هؤلاء التجار الحكماء ملأوا الكنيسة عطرًا ولبانًا ومرًّا، وميعة وسليخة، وقرفة وعودًا وقصب ذريرة” (خر 30: 23-25).. وكل أذرة التاجر.. كل فضيلة وبر من كل نوع..
أعمدة من دخان:
وهكذا ارتفعت الكنيسة إلى الرب ” أعمدة من دخان ” وهو:
دخان الذبائح والمحرقات:
كانت الذبائح والمحرقات توضع على المذبح، وتوقد النار فترتفع أعمدة من دخان. وقد طلب إلينا القديس بولس الرسول أن نتشبه بتلك الذبائح عندما قال “أطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم العقلية” (رو 12: 1).
فيا ليتنا نعيش على الأرض كذبيحة، كمحرقة على الذبح تلتهمها النار المقدسة.
وتصعد كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وكل أذرة التاجر.
وتقديم النفس كذبيحة أمر واضح في صلواتنا: يقول المرتل “فلتستقم صلاتي كالبخور قدامك. وليكن رفع يديّ ذبيحة مسائية” (مز 63: 4، 5). فلتستقم صلاتي كالبخور، أي كأعمدة من دخان، كذبيحة مسائية. وكما قال المرتل أيضًا “باسمك ارفع يديّ، فتشبع نفسي كما من لحم ودسم”.
أبعد هذا يقول إنسان إن سفر النشيد يعثرني!!
بل تعثرك يا أخي أفكارك الجسدانية، التي لم ترتفع بعد عن هذا المستوى الجسداني.
ولم تصعد إلى فوق، كأعمدة من دخان.
الطالعة من البرية:
عبارة ” الطالعة من البرية coming out of the wilderness قد تطلق على كنيسة العهد القديم، كما تطلق أيضا على كنيسة العد الجديد، المزينة بالفضائل، التي يعمل فيها الروح القدس بكل مواهبه، بكل أذرة التاجر.
فأنه قيل ” بالروح يعطى لواحد كلام حكمة، ولآخر كلام عِلم، ولآخر مواهب شفاء، ولآخر عمل قوات، ولآخر نبوة، ولآخر تمييز أرواح، ولآخر ترجمة ألسنة.. هذه كلها يعملها الروح الواحد، قاسمًا لكل واحد بمفرده كما يشاء (1 كو 12: 8-11).. هذه كلها من أذرة التاجر.
وعبارة الطالعة من البرية، ربما تقصد بها الصلوات.
الكنيسة ليلًا ونهارًا تصعد منها صلوات وألحان وتسابيح.. كلها تصعد إلى فوق.
فتستقبلها الملائكة بهذا النشيد “الطالعة من البرية، كأعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر.. صلوات معطرة بالحرارة، والإيمان والخشوع، والفهم, والتأمل، والشكر.. وكل أذرة التاجر..
فهل كنيستنا اليوم لا تزال -كما كانت في القديم- كنيسة صلاة؟
هل كل نفس فيها، ترتفع منها كل يوم صلوات وتسابيح، وتراتيل، ومزامير، وأغاني روحية (كو 3: 16؛ أف 5:19). أم ان الملائكة ينتظرونها بلا جدوى، وكأنها في عطلة وغفوة!! لا مرّ ولا لبان، ولا شيء من أذرة التاجر! هل كل بيت من بيوتنا تصعد منه أعمدة دخان المقدسة، كأعمدة الهيكل، معطرة بالمسحة المقدسة، بالمر واللبان..
ما أجمل أن يقول الملائكة بعضهم لبعض: هلم ننظر مصانع الروحيات في هذا البلد المقدس، تطلع منها أعمدة من دخان، معطرة بالمر واللبان، يكملون بعضهم بمزامير وتسابيح وأغاني روحية، مترنمين ومرتلين في قلوبهم للرب ” شاكرين كل حين على كل شيء (أف 5: 19، 20).
هناك أشياء مهما حاولت أن تكتمل لا تستطيع.
روائح عطرة جميلة لا يمكن أن تخفيها. لا يمكن أن تخفي مدينة كائنة على جبل (مت 5: 14). ولا يمكن أن تكتم روائح بستان مملوء بالورد والفل والريحان.. هكذا الكنيسة – العالم الآخر يتأمل جمالها العجيب، في قدسيتها وطهرها، في حرارتها وعبادتها, في محبتها لله والناس، في كل ما فيها من أذرة التاجر..
تصوروا أن الكنيسة أصبحت موضع دهشة الملائكة..
أصبحت موضع دهشة السماء، بل موضع دهشة العالم كله. ينظر إليها فينذهل: ما هذا الجمال؟ ما هذا السمو والعلو؟ ما هذا الصبر في الجهاد؟ ما هذه المثالية؟ لم نرى قبل مثل هذا.. من هذه الطالعة من البرية، كأعمدة دخان، معطرة بالمرّ واللبان. مثلما دخل المسيح أورشليم، فقالوا من هذا.. ؟! (متى 21: 10) “وارتجت المدينة كلها”.
موقف روحي يتميز به عمل ما، فينظر إليه الكل في دهشة:
ويقولون: قد رأينا اليوم إنسانًا عجيبًا، شخصية من نوع فريد! من هذا الإنسان؟ في أمانته، في دقته؟ في رقته، في أدبه، في محبته، في فهمه..؟ تُرى من تكون هذه الشخصية؟ من هذه الطالعة من البرية، معطرة بالمرّ واللبان وكل أذرة التاجر.
عبارة كل أذرة التاجر, تشير إلى كمال الكنيسة:
ليست متحلية بفضيلة واحده فقط، وإنما بالكل أذرة التاجر.. بكل بركات النعمة، بكل ثمر الروح..
كنيسة “جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي، حفظت الإيمان” (2 تي 4: 7). جمعت كل الخير، جمعت الإيمان والأعمال “تعبت من أجل الرب ولم تكلّ” (رؤ 2: 3).
أما نحن فقد دخلنا على ما لم نتعب فيه. آخرون تعبوا ونحن دخلنا على تعبهم.
أننا ننظر إلى الكنيسة الآباء في إعجاب شديد، وهي معطرة بالمرّ واللبان وكل أذرة التاجر، مستندة على حبيبها، ونقول من هذه التي طلعت من البرية؟ وكيف وصلت إلى هذه الدرجة؟!
هوّذا تخت سليمان، حوله ستون جبارًا (نش 3: 7)
هوذا تخت سليمان Solomon’s couch حوله ستون جبارًا (نش 3: 7).
نود أن يكون تأملنا اليوم في قول الوحي في سفر النشيد: تخت سليمان حوله ستون جبارا من جبابرة إسرائيل. كلهم قابضون سيوفًا ومتعلمون الحرب. كل رجل سيفه على فخذه من هول الليل (نش 3: 7, 8).
سليمان رمز المسيح:
لان كلمة (سليمان) معناه “رجل سلام”. وقد قيل عن السيد المسيح انه “رئيس السلام” (أش 9: 6) وانه هو سلامنا (أف 2: 4) وهو الذي قال “سلامي اترك لكم. سلامي أنا أعطيكم” (يو 14: 27) وهو الذي صنع سلاما بين السماء والأرض، ونقض الحائط المتوسط أي العداوة (أف 2: 14،17)
وسليمان كان يمثل الحكمة والمسيح هو أقنوم الحكمة. هو “حكمة الله وقوة الله” (1كو1: 24). سليمان هو ابن داود الباني للهيكل والمسيح هو ابن داود، وهو ابن الله الذي بنى الكنيسة هيكل الله القوس (1كو3: 16)
† عبارة ” تخت سليمان ” تعنى عرشه، ويرمز إلى عرش المسيح.
حوله ستون جبارًا من جبابرة إسرائيل. وكلمة (إسرائيل) هنا ترمز إلى الكنيسة المقدسة.
عرش الله إذن حوله الجبابرة، أي النفوس القوية.
التي حاربت حروب الرب، وانتصرت على العالم والجسد والشيطان.
أما النفوس الضعيفة التي لم تتثبت في حروبها الروحية، فليس لها نصيب حول عرش الله. الإنسان الضعيف الذي مجرد شهوة تحطم قلبه وإرادته وفكره. هذا لا يمكن أن يكون من الجبابرة المحيطين بعرش الله.
† العجيب أيها الأخوة الأحباء أن سفر العدد الذي أمر الله فيه بعد خاصته، لم يدخل في ذلك التعداد والإحصاء جميع الناس.
إنما أمر الله بإحصاء النفوس القادرة على القتال، القادرة على حمل السلاح، أي “كل خارج للحرب” (عد1: 2, 3) هؤلاء هم الجبابرة. كلهم قابضون سيوفا ومتعلمون الحرب. كل رجل سيفه على فخذه من هول الليل. من هول الظلام، من هول الأخطار. من هول الشهوات ومحبة العالم.
فان حاربك في احد الأيام فكر من الأفكار، واستسلمت له، لا تكون حينئذ جبارًا متعلمًا الحروب. بل تكون إنسانًا قد ألقى سلاحه وانطرح أمام العدو على الأرض.
† الإنسان المتعلم الحرب، هو إنسان خبير بالأفكار، خبير بحروب العدو، كما قال القديس بولس الرسول “نحن لا نجهل أفكاره” (2كو 2: 11).
بل نعرف خداع الشيطان، ونميز الأرواح (1كو 4: 1) هل هي من الله أم من العدو..
وهذه الحرب قد شرحها القديس بولس في رسالته إلى أهل أفسس فقال “إن مصارعتنا ليست مع لحم ودم.. بل مع أجناد الشر الروحية” (أف 6: 12). مع الشياطين، مع الجسد، مع كل قوة العدو.
ما أجمل قول ملاك الرب لجدعون “الرب معك يا جبار البأس” (قض 6: 12)
حقًا إن السماء لا يصل إليها فيما بعد إلا جبابرة البأس الذين انتصروا في الحروب.
الذين يرتلون مع جموع الغالبين: شكرا لله الذي يقودنا في موكب نصرته (2كو 2: 14)
سِتّون جبارًا:
لماذا اختار هذا الرقم (60)؟ والى أي شيء يرمز؟
ستون = 6 *10. والرقم 10 يرمز إلى الكمال، والى الوصايا.
والرقم 6 يرمز إلى تمام العمل. فالله قد أتم عمله في الخلق في ستة أيام. والسيد المسيح أتم عمله في الفداء في اليوم السادس. وفي الساعة السادسة. والإنسان يتمم كل عمله في ستة أيام، ويستريح في اليوم السابع حسب الوصية..
* فمادام الرقم 6 يرمز إلى أتمام العمل والرقم 10 يرمز إلى الكمال والوصايا ، إذن الرقم 60 يرمز إلى كل من تمموا عملهم في وصايا الرب في الكمال.
فان سالت وقلت: هل حول عرش الله ستون جبارا فقط؟
نجيب إنما هذا الرقم هو رقم رمزي، يرمز إلى كل جبابرة الروح الذين كملوا في الإيمان، الكاملين في قوتهم، الكاملين في جهادهم وفي انتصارهم.. لا نقصد الجبابرة في أجسادهم وفي قوتهم الجسدية، بل الجبابرة في أرواحهم، حتى لو كانوا صغارا.
*داود النبي -أمام جليات- كان جبارًا وهو فتى صغير.
كل الجيش خاف. ولكنه كان الوحيد الذي لم يخف، وتقدم لمحاربة جليات في جبروت في الوقت الذي خاف فيه شاول الملك (1صم 17: 11) وكان اطول من جميع الشعب (1 صم 10: 23).
شاول الملك الذي كان جبارًا في جسده، لم يكن جبارا في روحه “فبغته روح رديء من قبل الرب” (1صم 16: 14) وكان يصرعه. والذي كان ينقذه من ذلك الروح الردئ كان داود الصغير أحد الجبابرة الذين حول العرش. كان داود جبار بأس وفصيحا ورجلا جميلا والرب معه (1صم 16: 15) وهذه العبارة الأخيرة كانت سر جبروته.
داود الجبار كانت تخافه الشياطين. يكفى ان يضرب على عوده ويصلى مزاميره، حتى لتهرب الشياطين مرتعبة..
جبار له سلطان على الشياطين!!
* نريد في الكنيسة مجموعة من هؤلاء الجبابرة الذين تخافهم الشياطين. ليتكم تستعرضون في تاريخ الكنيسة القديسين الذين كان لهم سلطان على الشياطين.. تذكروا قصة ذلك القديس الذي أتى شيطان لمحاربته، فربطه خارج القلاية.. تذكروا القديس ايسوذورس الذي قالت له الشياطين: أما يكفيك أننا لا نستطيع أن نمر على قلايتك، ولا على القلاية التي جوارك. وأخ واحد في البرية، جعلته بصلاتك يتعدى علينا النهار والليل؟!
وأنت يا أخي أن كنت تخاف الشياطين، أتستطيع أن تحسب نفسك من الجبابرة المحيطين بالعرش الذين لهم سلطان على كل قوة العدو؟! (لو 10: 19).
هل تكون جبارًا , أم أمتلك الشيطان إرادتك وكان يقدر أن يغريك بخطية ويستولى على نفسك؟! لا تظن أن الشيطان كريما في عطائه، يعطى بلا مقابل!! كلا فهو يعطيك ما تشتهيه في مقابل أن يأخذ كل ما عندك، وأسمى ما عندك: روحك وأبديتك.. !
الشيطان لا يقبل على نفسه أن يدخل في صفقة خاسرة. انه يأخذ دائمًا أكثر مما يعطى.
أرباحه أكثر من مصروفاته.. وهكذا يفعل مع الذين يلجأون إلى السحر مثلًا..
* عجيبة هي صورة الملاك ميخائيل، وسيفه في يده، وهو يدوس على الشيطان بقدمه.. لاشك أنه أحد الجبابرة الذين حول العرش..
وأنت، أتريد أن تكون جبارًا في محاربة الشياطين؟
أنك تكون كذلك, أن لم تكن الشهوة يحاربك الشيطان بها.
إن الشيطان يتحسس حياتك الروحية، محاولًا أن يعرف نقط الضعف فيك لكي يحاربك بها. انه يختبر الأرض وصلابتها التي سيضرب فيها بمعوله. يرى أين توجد الأرض الرخوة واللينة التي يتخذها ميدانا لعمله فيشققها كما يشاء. أما الصلبة فلا يقترب منها.
- هناك جبابرة وقفوا ضد الشيطان في قتالهم لأجلالفضائل.
خذوا فضيلة العفة مثلًا. وكيف كان من جبابرتها يوسف الصديق، وسوسنة العفيفة وأمثالهما.. دانيال النبي والثلاثة فتية كانوا في قصر الملك، ورفضوا أن يأكلوا من أطيابه ومن خمر مشروبه (دا 1: 8)، بل ورفضوا معبوداته. ولم يخف دانيال من أن يلقى في جب الأسود (دا 6: 16) ولا الثلاثة فتية خافوا من إلقائهم في أتون النار (دا 3: 17).
إنهم الجبابرة لا يعرفون الخوف. كلهم قابضون سيوفًا ومتعلمون الحرب.
*الشهداء القديسون أيضًا كانوا جبابرة لا يعرفون الخوف.
وقفوا أمام الأباطرة والملوك والولاة والحكام. وقفوا أمام الحرق والشنق والعصر والجلد والتمزيق والتعذيب وكل صنوف الاضطهاد، ولم يبالوا – كان إيمانهم وثباتهم أقوى من العذاب.
هناك جبابرة آخرون في عالم النسك: في الصلاة والسهر والوحدة،في العبادة وفي التجرد، مثل سكان البرية من المتوحدين والنسك والسواح..
أرسانيوس الجبار، كان يقف متجها للشرق، والشمس وراؤه وقت الغروب.
و يظل ساهرا طول الليل حتى تظهر الشمس أمامه في أول النهار.. انه جبار. بينما آخرون لا يستطيعون أن يصمدوا في السهر، وحالما يحاربهم النوم يتركون صلاتهم. أين هؤلاء من الجبابرة الذين حول العرش, الذين مثلهم: القديس مكاريوس الإسكندراني، الجبار في سهره. الذي تحدث عن حروبه من جهة السهر فقال: حوربت مرة بالنوم ونمت. فصممت أن أقاتل النوم. وبقيت 21 يومًا لا أبق جفنا على جفن, حتى شعرت أن مخي قد نشف.
جبابرة آخرون لم يسمحوا لأية قوة أن تفصلهم عن الرب.
مثل القديس بولس الرسول الذي قال “من سيفصلنا عن محبة المسيح؟.. إنني متيقن أنه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلية،ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا (رو 8: 25-29)
إن ملكوت السموات، لا يدخله إلا جبابرة الروح.
+ ولكننا للأسف الشديد، كثيرًا ما نحاول أن نكون جبابرة على الناس، ولا نكون جبابرة في تعاملنا مع أنفسنا!!
بينما يقول الكتاب “مالك روحه خير ممن يملك مدينة” (أم 16: 32)
أنبا بولا كان جبارًا في الوحدة. قضى ثمانين سنة لا يرى فيها وجه إنسان، ولا يتعزى بكلام الناس، إنما عزاؤه بالله وحده.
* هناك أشخاص آخرون كانوا جبابرة في الصوم،منهم من عاش ثلاثين سنة لا تبصره الشمس آكلًا. ومنهم من عاش عمره كله نباتيا، لا يأكل لحمًا طول حياته ومنهم من كان يطوى الأيام لا يأكل شيئًا فيها ولا يشرب.
هكذا عاش جبابرة الصوم. أما في جيلنا هذا فما أكثر الكنائس التي خفضت الأصوام أو كادت تلغيها، بحجة الإشفاق على الناس!!
آباؤنا كانوا أيضا جبابرة في حفظ آيات الكتاب المقدس.
كانت الآيات تجرى على ألسنتهم بمنتهى السهولة. لدرجة أن احد العلماء قال: “لو ضاع الكتاب المقدس، لأمكن جمعه من كتابات الآباء”..
كانوا جبابرة في الصمود. لا يستطيع أحد أن يثيرهم …
يوجد أشخاص ضعفاء، يثارون بسرعة. تثيرهم أية كلمة يظنون أنها تجرح مشاعرهم. بل حتى كلمات المديح والإعجاب، فتحرك فيهم محبة المجد الباطل. يثيرهم أي منظر جنسي.. اقل شيء يعتبرونه عثرة!
مساكين هؤلاء – إنهم ليسو من النوع الذي يقف حول عرش الله.. ليسوا كالجبابرة الذين حول تخت سليمان.
إنني أريدكم يا أخوتي أن تكونوا جبابرة في حروب الرب.
لاشك أن الملائكة عندما تصف الكنيسة المقدسة، وما فيها من أبرار لم تهزهم مغريات العالم، ولم تتعبهم حروب الشياطين، يقف ميخائيل رئيس الملائكة، وفي يده قيثارة ذهبية وينشد مع ملائكته: “تخت سليمان حوله ستون جبارًا..”
17- جبابرة.. متعلمون الحرب.. قابضون سيوفًا..
من هول الليل (نش 3: 7، 8)
جبابرة.. متعلمون الحرب، قابضون سيوفًا.. من هول الليل (نش 3: 7-8).
جبابرة الروح:
الذين يحبون حياة الروح، ينبغي أن يكونوا جبابرة فيما يخوضونه من حروب روحية، ضد الشيطان وكل قواته الشريرة.
يخيل إلي أنه حينما يرسل الشيطان واحدا من جنوده ليحارب أحد هؤلاء الجبابرة القديسين، يصرخ ذلك الشيطان في فزع:
أتريد أن يحرقني بنار؟! لست أستطيع أن اذهب لمقاتلة هذا الإنسان الذي سيقابلني بسلاح الله الكامل.. بسيف الروح، وخوذة الخلاص، ودرع البر، وترس الإيمان.. بكلمة الله، وما يرفعه من صلاة وطلبة بكل مواظبة (أف 6: 13-18). إبعدوني عن محاربة أمثال هذا الجبار، فلست كفؤا له..
إنهم جبابرة، كلهم حاملون سيوفًا، ومتعلمون الحرب. وفي استعداد كامل ليستل كل واحد سيفه من علي فخذه من هول الليل.
وقد شرح القديس بولس الرسول هذه الحرب الروحية، ودعا إلي الاستعداد لها في رسالته إلي أفسس فقال:
أخيرا يا أخوتي، تقووا في الرب، وفي شدة قوته. ألبسوا سلاح الله الكامل، لتقدروا أن تثبتوا ضد مكايد الشيطان. فإن مصارعتنا ليست مع لحم ودم.. بل مع أجناد الشر الروحية في السماويات.. من أجل ذلك أحملوا سلاح الله الكامل، لتقدروا أن تقاوموا في اليوم الشرير. وبعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا. فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق..” (أف 6: 10- 14).
ومن أهمية هذه النصيحة الرسولية، يقرأ هذا الفصل من رسالة معلمنا بولس، في طقس رسامة الرهبان الجدد الذين يستعدون لخوض حرب روحية ضد الشيطان بكل حيله الرديئة، الماكرة والعنيفة. علي أن هذه النصيحة التي يقولها القديس بولس تصلح لجميع الناس في حياتهم الروحية.
حاملون سيوفًا:
مادام الشيطان لا يترك أولاد الله في هدوء، بسبب حسده لهم علي سلوكهم الطريق الروحي، إذن ينبغي أن يكونوا ساهرين باستمرار ومستعدين لقتاله. وهم يحملون سيوفهم الروحية. فشيطان يحاول أن يضللك، تحاربه بسيف الحكمة. وإن انتصرت عليه وحاربك بالكبرياء, تلاقيه أنت بسيف الاتضاع. وفي كل ما يقدمه لك من أفكار، تحاربها بسيف كلمة الله في إفراز، وأيضا بأقوال القديسين وخبراتهم في مقاتلة الشياطين.
عموما يمكنك أن تستخدم سيف الصلاة ففيه قوة الله. وكذلك سيف الجهاد والتغصب، ففيه رفضك للخطية ومصارعتك ضدها. وتذكر قول المزور:
“تقلد سيفك علي فخذك أيها الجبار. استله وأنجح وأملك” (مز 45: 3). وعبارة “سيفك علي فخذك” تعني الاستعداد.
ليس هو سيف معلقا في خزانة الأسلحة، وإنما هو علي فخذك، كهؤلاء الجبابرة. تستطيع أن تستله في أي وقت، وتحارب حروب الرب في يقظة دائمة واستعداد.. فمثلا كلمة الله التي ترد بها علي كل حرب روحية، ليست هي في كتبك ومكتبك، إنما هي ذهنك، وفي ذاكرتك باستمرار، تستخدمها وأنت تتذكر قول داود النبي للسيد الرب “لو لم تكن شريعتك هي تلاوتي، لهلكت حينئذ في مذلتي” (مز 119).. إنها سيف علي فخذك..
إنك لا تسمح للخطية أن تحاربك، وأنت في حالة غفلة وتهاون.
فأولاد الله: كل واحد سيفه علي فخذه، من هول الليل.
هول الليل:
والليل يشير إلي الظلام، كرمز إلي الخطية وحروبها الخفية، حيث لا نور ولا حرارة. فيكون هذا وقتًا مناسبًا لعدو الخير يهجم فيه. وقد يعني الليل وقت النوم، حيث لا يكون الإنسان منتبهًا لحرب تأتيه وهو غير منتبه لها وغير مستيقظ. هذا هو هول الليل، هول الخطايا التي تأتي في الظلام ولا تنتبه النفس لها، لأن البصيرة الروحية غير قوية.
أما أولئك الجبابرة، فهم ساهرون، متنبهون، كل واحد سيفه علي فخذه من هول الليل. كالرعاة في قصة ميلاد الرب، الذين قيل عنهم إنهم:
“يحرسون حراسات الليل علي رعيتهم” (لو 2: 8).
لذلك لا تطمئن من جهة الحرب الروحية، بل تقلد سيفك علي فخذك.
لا تهمل في احتياطاتك. لا تقل إنك الآن في حالة قوة، وقد مرت عليك أسابيع لا تسقك خلالها!! فأنت لا تعرف متى يحاربك الشيطان، وفي أية خطية، وكيف؟!
ليكن سيفك إذن علي فخذك من خوف الليل، من الحرب المجهولة في نوعها وفي موعدها. لتكن صلاتك باستمرار في قلبك وعلي لسانك. ولتكن كلمة الله في ذهنك وذاكرتك. ولتكن تداريبك الروحية سائرة في حزم كل حين. لا تلق سلاحك عنك..
بل كن قابضًا علي سيفك من هول الليل..
ليتنا نكون من هؤلاء الجبابرة، القابضين علي سيوفهم، حتى يمكن أن يقودنا الله في موكب نصرته (2 كو 2: 14) متجاوبين مع نعمته.
ليتنا نكون من أولئك الغالبين الذين طوبهم الرب وأعطاهم وعوده (رؤ 2، رؤ 3).. لا ننهزم في الحروب. وإن انهزمنا في معركة، ننتصر في المعركة التي تليها، قائلين مع النبي ” لا تشمتي بي يا عدوتي. فإني إن سقطت، أقوم” (مي 7: 8). و”الحرب للرب” (1 صم 17: 47). ” وليس عند الله مانع من أن يخلص بالكثير وبالقليل” (1 صم 14: 6).
والله قادر أن ينصرنا علي الرغم من ضعفنا..
غير أنه يجب أن تكون لنا خبرة بالحروب الروحية.
فقد قيل عن أولئك الجبابرة القابضين علي سيوفهم إنهم:
متعلمون الحرب:
أي أن لهم دراية بالحروب الروحية. لا يجهلون حيل الشيطان، بل يعرفون أفكاره (2 كو 2: 11). يعرفون من أين تأتي الخطية؟ وما وسيلة مقاومتها؟
إن حاربك الشيطان بالكسل، تقاتله بالتغصب. وإن حاربك بالمجد الباطل، ترد عليه بتذكر خطاياك وضعفاتك. وإن حاربك باليأس، تتذكر مراحم الله التي لا تحصي. وإن حاربك بصعوبة الطريق. تذكر عمل الروح القدس، والمعونة الإلهية التي تمنحها النعمة. وأنت لست وحدك.
أحد القديسين كان -إذا حاربه الشيطان بالمجد الباطل- يقول: ألعلي بلغت ما بلغه الأنبا أنطونيوس والأنبا بولا؟! إنني إنسان خاطئ مهمل في روحياتي.. وإن قال له الشيطان: “أنت إنسان خاطئ، وأجرة الخطية هي موت”.. يجيبه: “وأين مراحم الله الذي يغفر للخطاة؟!”. فكانوا يتعجبون منه قائلين: “إن رفعناك، اتضعت، وإن وضعناك ارتفعت!!”
إنه واحد من المتعلمين الحرب. يعرف نوع السلاح الصالح لاستخدامه في كل نوع من أنواع الحروب.
الإنسان المتعلم الحرب, يعرف ضربات اليمين وضربات الشمال..
يعرف متى يصمت ومتى يتكلم؟ متى يأكل ومتى يصوم؟ يعرف الطريق الوسطي التي خلصت كثيرين. ومتى يقف في موقف سليم، بين الإفراط والتفريط.
يقول القديس بولس الرسول “في كل شيء وفي جميع الأشياء، قد تدربت أن أشبع وأن أجوع. أن استفضل وأن أنقص” (في 4: 12).
هناك أشخاص ليسوا فقط متعلمين الحرب، وإنما صاروا بالأكثر قادة في الحروب. يشرحون لغيرهم الطريق، ويرشدونهم فيه.
القديس مار أوغريس له كتاب عن محاربة الأفكار، يشرح فيه أنواع الأفكار: التي من الله، والتي من النفس، والتي من الشيطان. ويشرح طريق الرد علي كل فكر خاطئ مستخدما آيات الكتاب.
وثيؤفان الناسك له كتاب عن “الحروب الروحية”. والقديس يوحنا الأسيوطي له مقالات عديدة في هذا المجال. وكذلك مار اسحق، والشيخ الروحاني لهما ميامر كثيرة تحت عنوان “رؤوس المعرفة” يشرحان فيها معرفة الطريق الروحي، ويعلمان أولادهما الحرب.
والقديس الأنبا أنطونيوس كان يعلم أولاده ” الإفراز”.
أي التمييز والمعرفة، لكي يتعلموا الحرب. و في إحدى المرات قال لتلميذه القديس بولس البسيط الذي كان يسكن بجواره “اذهب واسكن إلي بعيدا في مغارة وحدك، لكي تختبر حروب الشياطين”. والقديس يوحنا الرسول يكتب لنا ويقول “لا تصدقوا كل روح. بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله” (1 يو 4: 1). وكذلك القديس بولس الرسول نصح الناس ألا ينخدعوا بحيل الشياطين ومناظرهم. “لأن الشيطان نفسه يغير شكله إلي شبه ملاك نور.”
وكان هذا هو عمل المرشدين الروحيين وآباء الاعتراف:
يجلس معهم المبتدئ لكي يتعلم الحرب، ويميز الأرواح، ويفصل الجداء من الخراف” (مت 25: 32). ويعرف صوت الله من صوت عالي (1 صم 3: 4- 10). بل يعرف أيضًا الأحلام والرؤى: وهل هي من الله؟ أم من الشيطان؟ أم من مصدر آخر؟ ويعرف نوع السلاح الذي يستخدمه في كل حرب روحية..
الإنسان المتعلم الحرب، يتفادى السقوط. وإن سقط بسرعة. بل بسرعة يقوم. ولا يتكرر سقوطه. ويكتسب درسًا من كل سقطة.
كما قال أحد القديسين: “لا أتذكر أن الشياطين أطغوني في خطية واحدة مرتين”.. والتعلم الحرب له خبرات في الحيلة الروحية. لقد درس الطريق وعرف علاماته ومعالمه. ويستطيع أن يرشد غيره في الطريق.
الشيطان حيله كثيرة وماكرة. ولكنها مكشوفة أمام المتعلمين الحرب.
إنهم لا يجهلون حيله، بل يدركونها من بعيد مهما لبست ثياب الحملان (مت 7: 15). يعرفون وسائله وطرقه وأساليبه. ويستنتجون مواعيد هجومه. كل خططه مكشوفة أمامهم. مخابراتهم الحربية تدرك كل أعماله, وتعرف كل جنوده. هؤلاء هم المتعلمون الحرب, الذين يربطون الشيطان ويطردونه. ولا يكون له موضع فيهم.
والقديسون يتعلمون الحرب: لا بطول مدتها، وإنما بعمق خبرتها:
يتعلمون الحرب بالحرب, وبالتدقيق والحرص، وبالمعرفة والحكمة. وبما يكشفه لهم الرب. وبما يمتصونه من روح الآباء والمعلمين والمرشدين, بكثرة المشورة. وبما يأخذونه من التأمل. وبما يمنحهم الرب من حكمة نازلة من فوق (يع 3: 17).
في الليل على فراشي (نش 3: 1)
نود أن نتأمل في قول عذراء النشيد:
“في الليل على فراشي، طلبت من تحبه نفسي- طلبته فما وجدته. إني أقوم وأطوف في المدينة, في الأسواق وفي الشوارع, أطلب من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته” (نش3: 1, 2).
عبارة “في الليل” لها معنيان: إما الليل بمعناه الحرفي. وإما الليل بمعناه الرمزي, أي في الظلمة, في الحيرة وفي ظلمة القلب, في التعب الروحي الذي أنا فيه..
“وعلى فراشي” تعنى: في كسلي, في تهاوني, في رقادي, في بعدى عن الله.. في كل هذا “طلبته فما وجدته”.. أو يقصد بها معناها الحرفي.
والتي تقول هذا, إما أنها إنسانة أممية وسوداء, ليست من شعب الله. وهي نفس خاطئة كسلانة, راقدة على فراشها, لم تفتح بعد قلبها للرب, “فتحوَّل عنها وعبر”.
وهي نفس تعيش في مرحلة التخلي. لقد تخلى عنها الرب -ولو جزئيًا- لذلك هي تصرخ وتقول “طلبته فما وجدته”.
مرحلة التخلي وأسبابها:
عجيب أن إنسانًا يطلب الله فلا يجده. بينما قال الرب “أطلبوا تجدوا” (مت7: 7). وهو الواقف على الباب يقرع لنفتح نحن له! (رؤ3: 20). وأيضا هو القائل “مَنْ يقبل إليَّ, لا أخرجه خارجا” (يو6: 37). إذن لماذا هذا التخلي منه تجاه نفس تطلبه؟!
إن التخلي يأتي أما بسبب الإنسان, ولحكمة الله في التدبير.
قد يأتي بسبب قسوة الإنسان, وعناد وإصراره على الخطية, ورفضه إنذارات الله المتكررة, ورفضه عمل النعمة, كما سلك فرعون.. وبسبب عدم استسلامه للروح القدس, وعدم استجابته لنداء الله ونداء الضمير.. فيصل إلى مرحلة التخلي, التي قد تتطور إلى حالة الرفض الكامل..
وربما يتخلى الرب جزئيا ومؤقتا عن إنسان, حتى لا يرتفع قلبه في بره. فيقود هذا التخلي إلى الاتضاع.
إنسان سالك في البر. وربما يظن أنه قد وصل! فيرتفع قلبه.. ويحارب بهذا. فيتخلى الرب عنه -ولو قليلًا- لكي يعرف ضعفه.
أو قد يكون بارا. وفي عدم سقوطه, لا يشفق على الساقطين. فيتخلى عنه الرب فيسقط وحينئذ يحنو على الخطاة, إذ قد جرب حروب العدو وشدتها. ويعرف حكمة الرسول في قوله “أذكروا المقيدين أنكم مقيدين معهم. و(أذكروا) المذلين كأنكم أنتم أيضا في الجسد” (عب13: 3).
إذن ليس كل الذين يتخلى عنهم الرب أحيانًا, كانوا أشرارًا وساقطين!
من تحبه نفسي:
“في الليل على فراشي, طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته”.
إن عبارة “من تحبه نفسي”, قد تكررت هنا كثير..
وعجيب أن هذه العروس -على الرغم من كسلها وسوادها وتهاونها- لا تزال تكرر القول بأنها تحب الرب!! وكأنها تقول:
إنني أخطئ, ولكنني احبك.
المحبة موجودة “لم تسقط أبدًا” (اكو 13: 8) على الرغم من الضعف البشرى, الذي بسببه قد اسقط أحيانا. مثلما حدث للقديس بطرس الرسول الذي “أنكر الرب ثلاث مرات” (مت26: 75). ومع ذلك قال له بعد القيامة: “أنت تعلم يا رب كل شيء. أنت تعلم إني أحبك” (يو21: 17). ومثلما قال القديس بولس الرسول “الإرادة حاضرة عندي. أما أنا افعل الحسنى فلست أجد لأني لست افعل الصالح الذي أريد, بل الشر الذي لست أريده, فإياه أفعل” (رو7: 8, 19).
“أنا يا رب نائمة حقا, ولكنى أحبك. إنني أخطئ حقا ولكنى أحبك. أنا أحبك من أعماقي. ولست أفعل الخطية عن نقص في محبتي. بل عن ضعف, وتعود, وعثرة, ولشدة الحرب, ولدوافع خارجة عنى..
حقا إنني لا أعمل أعمالًا تليق بمحبتي لك. ولكنى على الرغم من ذلك أحبك. إن حبي لك يشبه بذرة حية, فيها عناصر الحياة. ولكن لها حياة كامنة لم تظهر بعد.. ربما لو توفرت لها التربة الخصبة والماء والري وكل ظروف الإنبات, لظهرت هذه الحياة في جذور وساق وفروع وأوراق أزهار وثمار.. هكذا أنا.
ولكن عدم ظهور حياة الحب في, لا يمنع أنها موجودة.. !
في الليل على فراشي:
- زكاالعشار طلب الرب في الليل, وهو على فراشه, في الظلمة الظلم (لو19). لم يترك أعمال العشارين ويطلب الرب. بل طلبه وهو رئيس العشارين. حتى أن اليهود تذمروا على السيد كيف يدخل بيت رجل خاطئ! (لو19: 7).
- واللص اليمين, طلب الرب بالليل, على فراشه علىالصليب(لو23: 42).
- أوغسطينوسطلب الله وهو في عمق الليل, في عمل الخطية والشك!
- مريم القبطية,بيلاجية, موسي الأسود.. كل أولئك طلبوا الرب في الليل!
المهم أن كل هؤلاء طلبوا الرب في الليل وعلى فراشهم فوجدوه. أما هذه العذراء فقط طلبته, ولم تجده!
وعلى الرغم من ذلك ظلت تسعى وراءه حتى وجدته (نش3: 3, 4).
هناك نوعان من الناس في طلب الله, وهم خطاة..
خاطئ يجاهد, وينتظر حتى يتطهر ويتقدس, فيجرؤ أن يتصل بالله.
وخاطئ آخر لا ينتظر ذلك, بل -في خطيئته وسقوطه- يطلب الله, لكي يطهره الله ويقدسه. وكأنه يقول للرب:
لست أنتظر حتى أتطهر فأطلبك. إنما أطلبك لكي تطهرني.
لست أنتظر حتى أصير مجتهدا وقويا في الروح ثم أطلبك, إنما وأنا كسلان, سأطلبك الآن لكي تنجيني من كسلي وتقويني.
هل أتوب أولًا ثم أطلبك؟! أم أطلبك وأقول “توبني فأتوب” (ار31: 18)
نعم, سأطلبك وأنا بعيد عنك, لكي تقربني أنت إليك.
سأطلبك وأنا على فراشي, لكي توقظني من نومي. أطلبك وأنا في الخطية, لكي تنجيني منها.. النية موجودة عندي. ولكنى لم أسر بعد في الطريق, بل أطلب نعمتك لكي تقودني.. إن الابن الضال لم يلبس الحلة الأولى وهو في كورة الخنازير, إنما ألبسه أبوه إياها (لو15: 22). وقد رجع هو إليه بثيابه المتسخة..
إن الله يريدك أن تأتى إليه كما أنت, فلا تنتظر.
لا تنتظر حتى تصل إلى الصلاة الطاهرة, ثم بعد ذلك تصلى! كلا, بل صل حتى وأنت في طياشة الفكر, وعدم الفهم وعدم القابلية! حينئذ يمنحك الله الصلاة الطاهرة, مكافأة على ثباتك وأنت في ضعفك.
“في الليل على فراشي, طلبت من تحبه نفسي”.
لو كان الذين يطلبونك يا رب هم القديسون وحدهم, لضعنا جميعًا.. ولكن الخطاة أيضا يطلبونك. وهذا يعطينا رجاء.
جميل جدا, ومعز للغاية, أن يشعر الواحد منا أن الله في وسط الليل, أوجد نجوما وكواكب تنير ظلمة الليل..
كذلك, وأنت في ظلمة الخطية, هناك أضواء تحيط بك, يكفى أنك مازلت تحب الله وتطلبه.
أنا يا رب أريد أن أكون معك, حتى وأنا في الخطية!! إن الخطية تحطم النقاوة في حياتي, ولكنها لا تحطم عواطفي نحوك. مثل ابن يخالف أباه لتحقيق شهوة ما, ولكنه لا يزال يحب أباه..
“في الليل على فراشي, طلبت من تحبه نفسي”. طلبته وأنا على فراشي. ليس في الكنيسة, ولا في أماكن العبادة, ولا في اجتماع روحي.. لذلك لا تحتقر الذين لا يحضرون الكنيسة. ربما يطلبون الله على فراشهم.
ربما كلمة (الليل)، تعنى أيضا الليل بمعناه الحرفي.
فقد لا أجد فرصة التقى فيها مع الله, خلال ضوضاء النهار, وزحمة الناس, وكثرة اللقاءات, وكثرة المشغوليات, وما يقدمه النهار من مشاكل وأحداث وأخبار, أكون في وسطها مثل التائه..
ولكنني في الليل, في هدوئه وسكونه, أجد فرصة للإنفراد بك. وهكذا “في الليل على فراشي, طلبت من تحبه نفسي” حسب قول المزمور:
في الليالي أرفعوا أيدكم أيها القديسون, وباركوا الرب (مز 134).
نعم, في الليل على فراشي. ولذلك حسنا قال الرب عن الصلاة: “أدخل إلى مخدعك” (مت6: 6). كذلك قول المرتل في المزمور “الذي تقولونه في قلوبكم, أندموا عليه في مضاجعكم” (مز4).
إذن ما معنى: طلبته في الليل, فما وجدته؟
أنا أتيت في الليل, وفكري مشغول بأحاديث وأحداث النهار, فلما طلبتك لم أطلبك بفكر مركز فيك, بل وأنا مهتم ومضطرب لأجل أمور كثيرة, “بينما الحاجة إلى واحد” (لو10: 41, 42). لهذا ما وجدتك!
أو ربما لم أجدك, لأن هناك حواجز بيني وبينك.
لهذا أنا أدعو, وأنت لا تستجيب. وأشعر أنه تقف أمامي عبارتك التي تقول فيها “حين تبسطون أيديكم, استر وجهي عنكم. وإن أكثرتم الصلاة, لا أسمع. أيديكم ملآنة دما” (اش1: 15).
توجد حواجز بيني وبينك, لأنني تركت محبتي الأولى, وفقدت الدالة التي كانت تربطني بك, وخنت عشرتك.. وأشعر في مذلة نفسي أن كلماتي لا تدخل إليك, وكأنني لست ابنك!!
أريد أن اصطلح معك, واسترجع المحبة القديمة التي كانت بيننا. أريد أن أعتذر إليك, وأطيب قلبك من جهتي. نعم أريد.
عذراء النشيد, كانت أحكم من أبينا آدم حينما أخطأ.
أبونا آدم أخطأ, فهرب من الله, واختبأ خلف الشجر (تك3: 8). أما عروس النشيد, فإنها تسعى إلى الله لكي تجده, حتى لو كانت في حالة سيئة! لكي يوجد حديث وسعى وبحث في الشوارع والأسواق عنه.
حقا يا رب إنني في مرحلة تخلى. ولكنى سأسعى وراءك بكل قوة لكي أرجع علاقتي بك. سأبحث عنك, واسأل الناس عنك, حتى أجدك..
احترس يا أخي إذن من جهة علاقتك بالله. لا تقل قد تخلى الرب عنى, سأتخلى أنا أيضا!! لا صلاة ولا كنيسة ولا اعتراف.. !
قل له: أنت لو تخليت عنى, فلن تخسر شيئًا. أما أنا فسوف أفقد كل شيء. إن تخليت عنى سأضيع. لأن فيك وجودي وحياتي ومصيري.
لو تخليت عنى, سأجرى وراءك في الشوارع والأسواق, وأقوم وأطوف في المدينة أطلب من تحبه نفسي (نش3: 2) سأفتش عليك في كل موضع, لأنني بدونك لا أستطيع شيئا (يو15: 5). وإن كنت غاضبًا منى, وغاضبًا على, سأحاول أن أصالحك وأعتذر إليك. لن أهرب منك كما فعل جدي آدم, إذ “بك نحيا ونوجد ونتحرك” (اع17: 28). وكما قال عبدك الرسول بولس “لي الحياة هي المسيح” (في1: 21).
نفسي على فراشها. ولكنها فترة مؤقتة, ستزول بعد حين.
مجرد كسل عارض, فلا تحسبه صفة العمر كله. حقا إنني تركتك يا رب بعض الوقت, وجريت وراء شهوات العالم. ولكنها مجرد شهوات وليست حُبًا. فالحب بحقيقته هو لك وحدك, الحب كله في عمقه.
أما ما يربطني بالعالم, فهو مشاعر طارئة زائلة, مجرد ملاذ وقتية لا يمكن أن ترتقي إلى مستوى الحب. لأن الحب هو عاطفة عميقة عميقة, في عمق أعماق القلب, الذي هو لك, وأنت له.
العالم بالنسبة لي كان عرضا لا جوهرا. أما الحب فهو لك, والقلب هو لك, أنت الذي تحبه نفسي, حتى إن اشتهت غيرك أحيانًا.
تقول عروس النشيد: طلبته فما وجدته. ولكن ليس معنى هذا أنني سوف لا أجده طول العمر! فإن لم أجده اليوم سأجده غدًا.
ذلك لأن نفسي لا تستطيع أن تحيا إن لم تجده, فهي لا تحيا بدونه. كما أنه- فيما أبحث عنه- هو يبحث أيضا عنى حتى يجدني. ومتى وجدني, سوف يضعني على منكبيه فرحا, كما فعل مع خروفه الضال حينما وجده (لو15: 4, 5).
إن هذه العروس تعطينا مِثالًا للنفس التي لا تيأس مهما فقدت الرب! وكما يقول الرب “بصبركم تقتنون أنفسكم” (لو21: 19).
هذا التخلي من الله كانت له فائدته, لأن النائمة قامت.
تركت فراشها, وظلت تبحث عنه. تحركت وتقدمت وطلبت (نش3: 2).
وهكذا بتخلي الله الجزئي, يجعلنا نتحرك. إذ لا يصح أن نستلقي على ظهورنا وننام, ونطلب من النعمة أن تعمل كل شيء!!
إن كان روح الله يعمل فينا, فيجب علينا أن نشترك مع روحه في العمل. فهذه هي “شركة الروح القدس” كما يذكرها الكتاب (2كو13: 14).
إنك قد قلت يا رب “من يحبني يحفظ وصاياي”.. وأنا أحبك, ولكنني لم أحفظ وصاياك بعد!! إذ لم أصل حتى الآن إلى هذه الدرجة. ومع ذلك فإنني أطلبك, لكي تعطيني القوة التي أحفظ بها وصاياك. فأحبك حينئذ بالعمل, وليس بمشاعر القلب فقط.
في الليل على فراشي طلبت مَنْ تحبه نفسي (نش 3: 1)
تقول عذراء النشيد “في الليل علي فراشي، طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته” (نش 3: 1). وقلنا ان هذا يدل علي أنها تجتاز مرحلة من التخلي. وهنا عبارة (علي فراشي). تدل علي الكسل والتهاون.
ذلك أن الحياة الروحية، ليست كلها متعة دائمة مع الله.
فقد تتخللها أحيانا فترات من الضعف والفتور، والمحاربات التي ربما يسقط فيها الإنسان، ويفقد محبته الأولي (رؤ 2: 4). وكما يقول الكتاب ” الصديق يسقط سبع مرات ويقوم ” (أم 24: 16). فالشيطان يحسد أولاد الله. وقد يحاول أن يغربلهم كالحنطة (لو 20: 31). كما فعل مع الآباء الرسل! لذلك لا تستطيع النفس البشرية أن تحتفظ بثباتها في الرب كل حين، وتقول علي الدوام ” شماله تحت رأسي، ويمينه تعانقني ” (نش 2: 6).
لعل هذا يذكرنا بما قيل في سفر التكوين “مدة كل أيام الأرض: زرع وحصاد، وبرد وحر، وصيف وشتاء، ونهار وليل، لا تزال” (تك 8: 22).. فأن وقعت في يوم برد، ومر بك ليل، لا تتضايق. بل استمر ثابتا في الرب. انتظر بعد الليل نهار، وبعد البرد حر.
كلمة (الليل) كما تشير إلي الظلام روحيًا، تشير أيضًا إلي هدوء الليل.
هدوء الليل وسكونه، وبعده عن الضوضاء وعن المشغوليات، حيث تهدأ الطبيعة بعيدا عن شغب الليل وضجيجه، ويفرغ الإنسان عن دوامة العمل، ومن دوامة الأخبار، ويخلو إلي ذاته، لكي يخلو بذلك مع الله: يتحدث معه، ويتمتع به. لذلك قال أحد الآباء “الليل مفروز لعمل الصلاة، وللعمل مع الله” أي أنه مخصص بهدوئه للعمل الروحي، إذ يصلح سكونه لذلك.
قيل عن السيد المسيح إنه كان يقضي الليل كله في الصلاة (لو 6: 12). وقيل في المزمور “في الليالي أرفعوا أياديكم أيها القديسون و باركوا الرب” (مز134). وكانوا الآباء المتوحدون ينامون قليلًا في النهار ويسهرون الليل كله في الصلاة. كما حكى عن القديس الأنبا أرسانيوس الكبير الذي كان يقف للصلاة وقت الغروب، والشمس وراءه. ويظل في صلاته حتى تطلع الشمس من أمامه..
قال أحد الروحيين: أكسبوا صداقة الليل حتى تكون لكم حياة روحية في النهار. تجترون فيها ما اختزنتم من روحيات أثناء الليل.
حتى علي الفراش ينشغل الإنسان بالله، فيصير فراشه مقدسًا..
كما قال داود النبي “كنت أذكرك علي فراشي، وفي أوقات الأسحار كنت أرتل لك” (مز 63).. أنا يا رب لك باستمرار. في ليلي وفي نهاري. كنت قائما وراكعا علي فراشي.
إن الليل قد لا يكون كله مظلما وحالكا. وداكن العتمة. فأحيانا توجد فيه بعض أضواء.. نور السماء ونور النجوم لإضاءة الليل.
و كلما نذكر أن الله افتقد الليل في ظلامه، وخلق الله القمر والنجوم لإضاءته، ولتخفيف ظلمته. حينئذ نتعزى..
مبارك أنت يا رب. إنك لست إله النهار فقط، وإنما إله الليل أيضًا. علي الرغم من ظلامه، لا تتركه رعايتك..
لولا رعايتك لليل، ما استطعت -في خطيئتي وكسلي- أن أقول “في الليل علي فراشي طلبت من تحبه نفسي”..
طلبت من تحبه نفسي:
وكأن هذه النفس -من علي فراشها- تقول للرب:
حقًا إنني في ليل. ولكنني لست بعيدة عنك. وقد تكتنفني الظلمة من الخارج. ولكن روحك لا يزال في الداخل ينير أعماقي.
أنا في الليل. ولكن هذا الليل لا بُد وراءه فجر، ووراءه نهار.
أنا في حياة الخطية والفتور والكسل. ولكني مع ذلك مازلت أطلب من تحبه نفسي.
هذا الليل لا يجلب اليأس، لأنه ليس مظلمًا كله. وحتى إن كان مظلمًا، أنت قادر يا رب أن تنيره , لأنك أنت النور الحقيقي.
إنني أحيانًا أقع في الخطية، ولكنني مع ذلك لست أحبها.
بل أحبك أنت. وينطبق علي حالتي قول القديس بولس الرسول “الشر الذي لست أريده، إياه أفعل..” (رو 7: 19، 15).
الخطية بالنسبة إلي هي عمل خارجي، وليست في داخلي. هي ضعف مني وعجز وإهمال. وأفعلها بحكم العادة، وبضغط ظروف خارجية. ولكنها لا يمكن أن تكون كراهية مني لك يا رب وخيانة!!!
إنني مهما أخطأت وسقطت، فمازلت أحبك يا رب.
ما زلت أطلبك. وأنا علي فراشي. أما الخطية فإنني أجاهد لكي أتخلص منها. وأحيانًا لا أجاهد، ومع ذلك أود من كل قلبي أن أتخلص منها. وأحيانًا لا أجاهد، ومع ذلك أود من كل قلبي أن أتخلص من كل ضعفاتي وخطاياي. وأكون سعيدًا يا رب إن انتشلتني منها مثل “شعلة منتشلة من النار” (زك 3: 2). وحينئذ اسمع منك نشيدك الحلو “اليوم حصل خلاص لهذا البيت” (لو 19: 9).
“في الليل علي فراشي طلبت من تحبه نفسي”.
قد تكون إحدى زيارات النعمة افتقدتني بها محبتك.
قد يكون عملا لروحك القدوس الذي لا تنزعه مني. قد تكون ثورة مني علي الخطية التي حطمتني، وألقتني علي فراشي..
قد يكون طلبي لك شيئًا من هذا كله وغيره، سواء بإرادتي وبتوجيه منك. نطقت أنا، ونطق روحك علي فمي. ولكن الأمر اليقين هو أنني أطلبك من كل قلبي. وكلما افتقدتك في حياتي ولم أجدك، يزداد طلبي لك، لأنك الوحيد الذي تحبه نفسي. سواء كنت أعمل في بيتك , وكنت في كسل علي فراشي.
علي أن رقادي علي فراشي، هو فترة مؤقتة ومحددة من حياتي، لابد أن تنتهي بانتهاء هذا الليل.
إنني متمرد علي هذا الفراش. وإن كنت لا أستطيع أن أقوم منه، فأنت يا رب تستطيع أم تقيمني منه. إنني حاليا راقد علي فراشي، ويرن في أذني قول المرنم “قوموا يا بني النور، لنسبح رب القوات” قومي يا نفسي، لكي تلاقي “من تحبه نفسي”.
من تحبه نفسي:
إنها نبضة القلب نحو الله. عبارة تكررت كثيرًا في سفر النشيد. تقولها عذراء النشيد في داخل نفسها، وتصرح بها أمام الناس, وهي تبحث عن الله قائلة “هل رأيتم من تحبه نفسي؟” (نش 3: 3).
إنه الله الذي تحبه النفس. فالكتاب يقول: “تحب الرب إلهك من كل قلبك، ومن كل نفسك، ومن كل قوتك” (تث 6: 5).
مسكين هو الإنسان الذي يعلِّق قلبه بغير الله. لابد سيتعب.
الله هو الكائن الوحيد، الذي إن أحببته، تجده معك في كل مكان، في كل مناسبة. فلا تشعر بالغربة عنه وبالانفصال عنه في أي وقت.
أما أي شخص آخر تحبه، وأي كائن آخر، فمن الجائز أن تنفصل عنه، بالسفر وبالموت وبالأحداث. يفصلكما المكان والزمان.
كذلك يتميز الرب عن جميع المحبين بالمحبة الكاملة الحقيقية.
كثير من الناس لا تثبت محبتهم. قد يتغيَّرون، وتبرد محبتهم وينحرفون. ويصدقون فيك الأقاويل، وتؤثر عليهم عوامل خارجية.. أما الله فثابت في محبته حتى لو تغيَّرنا نحن.
ومحبته مقدسة، تسمو بالإنسان وتهدف إلى منفعته وخلاصه.
تقول عذراء النشيد: “مَنْ تحبه نفسي”، وهي تقصد المحبة التي تملأ كل القلب والفكر، وكل محبة أخرى تكون داخلها.
فالقلب الطاهر يحب جميع الناس، دون أن تنقص محبته الكاملة لله.
سعيد هو الإنسان الذي ينادي الله دائمًا بعبارة “يا مَنْ تحبه نفسي”، دون أن يبكِّته ضميره على أنه خان هذه المحبة في شيء..
اسأل نفسك إذن: هل هل محبة الله هي الغالبة المُسَيطرة في حياتك؟ هل هي القائدة لكل تصرّفاتك وأفكارك، وكل معاملاتك..؟
طلبته فما وجدته (نش 3: 1)
تقول عذراء النشيد “في الليل علي فراشي، طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته” (نش 3: 1).
إنها عبارة مؤثرة ومتعبة للنفس، كيف أن إنسانًا يطلب الله، فلا يجده في حياته؟! كيف أن الله الذي يقول “أطلبوا تجدوا” (مت 7: 7) تقول عنه العذراء “طلبته فما وجدته” (نش 3: 1)؟! وتكررها مرة أخري (نش 3: 2).
التخلي:
نعم، هناك فترات ن التخلي تبعد فيها النعمة. والنفس تطلب الرب فلا تجده!.. الظلمة تدهمها , فتبحث عن طاقة من نور..!
فترات فيها “تكون سماؤك التي فوق رأسك نحاسًا، والأرض التي تحتك حديدا!! (تث 28: 23). لا تشعر بالدالة التي بينك وبين الله، والتي كانت بينك وبينه! ولا بالعشرة والصلة القديمة..! لا إحساس بوجود الله، ولا متعة، ولا عاطفة..
مرت عليك أوقات من قبل، كنت فيها نارا مشتعلة. والآن نبحث عن تلك النار فلا تجدها. لا حرارة في الصلاة، ولا عاطفة في القلب، ولا تعزية ولا شعور، تطلب الله ولا تجده..
هل لأنك الآن علي فراشك، بعد نهار قضيته في مشاغل كثيرة! وإذا بمشاغل النهار التي أخذتها بعمق، جعلت شاعرك الروحية تجف!
لم تخلط عملك النهاري بالله، بل كنت غريبا عنه طول النهار! فلما طلبته بالليل علي فراشك، لم تجده!
في أوقات دالتك مع الله، كان الله بالنسبة إليك، أقرب من النفس الذي يدخل صدرك ويخرج. أما الآن فأنت تدعوه وكأنك نخاطب نفسك..! كنت تقرأ الكتاب المقدس، فتجد تأملات كثيرة تملأ قلبك وفكرك، وفيضا من التعزيات يغمر نفسك. أما الآن فلا تجد!! وتردد عبارة:
“طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته”. وتفحص ذاتك فتقول:
إنني لا أجده. ولكنني مع ذلك أطلبه.
ليس هو موجودًا معي. لا أحسه في حياتي. ولكنه موجود في قلبي أحسه في رغباتي وأشواقي..
حرماني من الله، يجعلني أطلبه بالأكثر. أنا لست راضيا عن حرماني منه. لست من الذين أحبوا الظلمة أكثر من النور، “لأن أعمالهم شريرة” (يو 3: 19). فمع أنني في سقوطي، تكون أحيانًا أعمالي شريرة وتشبه ذلك، إلا أنني لست أحب الظلمة..
فلماذا تخلي النعمة يشعرني بالحرمان من الله؟!
أسباب التخلي:
* أحيانًا يكون سبب التخلي، كبرياء ارتفعت فيها النفس.
إنسان يكبر في عيني نفسه، ويظن أنه قد أصبح شيئًا. وفي هذا الظن يفقد احتراسه، علي اعتبار أن الخطية لم يعد لها سلطان عليه!! ويريد الرب أن ينقذ هذا الإنسان من كبريائه وارتفاع قلبه. فيتخلي عنه قليلا، ليشعر بضعفه فلا يرتفع قلبه. لأنه ” قريب هو الرب من المنسحقين بقلوبهم” (مز 34: 18). وبابتعاد النعمة، بالتخلي المؤقت، قد يسقط الإنسان، ويهتز قيامه ويضعف. فيعود ويحترس حتى من أقل الخطايا. ويتمسك بالرب بالأكثر.
مثل هذه العذراء التي بعد أن قالت “طلبته فما وجدته” قامت وبحثت عنه. فلما وجدته قالت “أمسكته ولم أرخه” (نش 3: 4).
* سبب آخر من أسباب التخلي، هو اهتمام الإنسان الزائد بالأمور العالمية، بحيث تبرد حرارته الروحية، ويقرع الله علي قلبه وما من مجيب!
و كأنه يقول لصوت الله في قلبه “أما الآن فاذهب. ومتى حصل لي وقت أستدعيك” (أع 24: 25). كما قال فيلكس الوالي لبولس الرسول. وقد حدث هذا لعذراء النشيد مرات عديدة، حينما سمعت صوت الحبيب يناديها فتكاسلت عن أن تفتح له، كما ورد في الإصحاح الخامس (نش 5: 3).
* حقًا إن التمركز حول الذات هو من أسباب التخلي:
ما أكثر ما يكون الإنسان متحوصلا حول نفسه. يفكر في ذاته، وليس في الله.. إذا أعمل؟ وماذا أكون؟ وكيف يكون؟ كيف أبني شخصيتي ومركزي؟ “أهدم مخازني وابني أعظم منها,.. وأفول لنفسي: لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين عديدة.. استريحي وافرحي” (لو 12: 18 , 19). وفيما الإنسان مشغول بذاته، يبحث عن الله فلا يجده!
بل قد يدخل في خدمة الله، وهو متمركز حول ذاته، وليس حول الخدمة، ولا هو متمركز في محبة الله وملكوته.. فيفكر كيف يستحوذ علي كل السلطة في الخدمة، ويوقف فلانا عند حده وكيف تصير كلمته هي الأولي، وهي الوحيدة! وكيف تسير كل الأمور حسب تدبيره هو! وحينئذ يطلب الله فلا يجده..
معني: طلبته فما وجدته:
الله موجود حقًا في كل مكان. فكيف تبحث عنه فلا تجده؟!
هو موجود حقًا. ولكن المهم هو إحساسك بوجوده والصلة به.. الإحساس بالحب والمتعة والعشرة مع الله. الإحساس بالدالة، بحرارة اللقاء، وبسكني الله داخل القلب وعمله فيه.
قد يكون الله موجودًا معك، وأنت لا تشعر ولا تدرك.
كما كلم السيد الرب مريم المجدلية بعد القيامة. ولكنها لم تشعر بوجوده. بل ظنته البستاني. وقالت له عن الرب “إن كنت قد أخذته” (يو 20: 15). بينما كان الرب بذاته هو الذي يكلمها وهي لا تدري, بل شعورها في ذلك الوقت كان “طلبته فما وجدته”..
ونفس الأمر حدث مع تلمذي عمواس. كان الرب معهما وهما لا يعلمان. بل يقولان له “هل أنت وحدك المتغرب عن أورشليم، ولم تعلم الأمور التي حدثت فيها؟!” (لو 24: 18).
تأكد أن الله لا يتركك مهما تركته. وفي نفس الوقت الذي تقول فيه: “طلبته فما وجدته” يكون هو معك، يعمل لأجلك..
لا تيأس إذا مرت عليك فترات من التخلي. لا تظن أنه تخلِّ حقيقي! ولا نظن أن التخلي مستمر..
ما أخلي قول الرب عن إحدى فترات التخلي لتلك العاقر:
“لحيظة تركتك , وبمراحم عظيمة سأجمعك” (أش 54: 7).
مناسبة أخري:
عبارة ” طلبته فما وجدته ” وردت أيضا في (نش 5: 6).
حيث تقول عروس النشيد، في مناسبة أخري، فيها تخلت عن حبيبها، فتحول عنها وعبر. فقالت “نفسي خرجت عندما أدبر. طلبته فما وجدته. دعوته فما أجابني” (نش 5: 6) والقصة تبدأ بقولها “صوت حبيبي.. هوذا آتٍ علي الجبال، قافزا علي التلال” (نش 3: 8). ثم ” صوت حبيبي قارعا: افتحي لي يا أختي يا حبيبتي، يا حمامتي يا كاملتي، لأن رأسي قد امتلأ من الطل، وقصصي من ندي الليل” (نش 5: 2). ولكن العروس تعتذر قائلا: “خلعت ثوبي، فكيف ألبسه؟! غسلت رجلي، فكيف أوسخها؟! ولم تفتح حينئذ تحول عنها وعبر، بسبب إهمالها.. فذاقت التخلي..
كانت هذه العروس مهتمة بذاتها أكثر من اهتمامها بالله وخدمته!
كانت مهتمة بزينتها الخارجية، بثوبها بنظافتها براحتها. ووسط كل ذلك تثاقلت أن تقوم وتفتح للرب.. فتركها تذوق التخلي.
لقد أنتظر الرب طويلا حتى امتلأت رأسه من الطل، وقصصه من ندي الليل. ولكنها تركته يمد يده طول النهار لقلب معاند مقاوم (رو 10: 21). وهكذا قدمت قلبا متراخيا متكاسلا أمام نداء الله!
عجيب أن تعتذر نفس عن لقاء الله، وتسرد لذلك حججًا..!
آه يا رب، أنا غير متفرغ لك الآن. عندي مشروعات أقوم بها، وخدمة وخدمات عديدة أنما منشغل بها! وخطية محبوبة تسيطر علي عواطفي وفكري! أو مقابلات كثيرة ولقاءات تستغرق نهاري كله وجزءًا من مسائي. لذلك لست أجد لك وقتًا!! أعذرني إن تركتك بعض الوقت دون أن أفتح لك. فامتلأت رأسك من الطل!!
وهكذا يتخلي الله، لا كعقاب وإنما كعلاج..
إنها نفس تزدري بالنعمة، وتهمل صوت الله داخلها، فتقع في التخلي، حتى تعود وتستيقظ، وتعرف ما ينبغي عليها أن تفعله.
ولهذا نجد أن هذه النفس قد استفادت من التخلي..
بعد أن تحول حبيبها وعبر، نراها تقول “نفسي خرجت عندما أدبر”. ولم تكتف فقط باشتعال مشاعرها من الداخل، وإنما تقول “إني أقوم أطوف في المدينة وفي الأسواق والشوارع، أطلب من تحبه نفسي”.. وفعلًا ذهبت تسأل عنه الحراس: “أرأيتم من تحبه نفسي؟” (نش 3: 3).
و بالإضافة إلي هذا البحث وهذا السعي، نري أن الله يرفع عنها ذلك التخلي، ويعود إلي النفس، فتتمسك به بالأكثر.
و تقول لما رأته “أمسكته ولم أرخه” (نش 3: 4).
إن الله يسمح أحيانًا أن نذوق مرارة البعد عنه بعض الوقت. لكي نشتاق إليه بالأكثر..
لأنه من الجائز أن محبة الله لنا، بدلًا من أن تقودنا إلي الله، نتحول بها إلي التدلل!!
فتقول “غسلت رجلي، فكيف أوسخها؟!”
لك ما شئت. ولكن أن حبيبك تحول وعبر.. فماذا أفادك التدلل؟!
إني أقوم وأطوف في المدينة (نش 3: 2)
تقول عذراء النشيد “في الليل علي فراشي، طلبت من تحبه نفسي. طلبته فما وجدته. إني أقوم وأطوف في المدينة، في الأسواق وفي الشوارع، أطلب من تحبه نفسي” (نش3: 1، 2). هذا يدل علي أن الإنسان -مهما بعد عن الله- ففي قلبه اشتياق إلي هذا الإله، حتى لو دخل في الليل، ورقد علي فراشه..!
اشتياق إلي الله:
لا يزال في القلب حنين إلي الله.. فينا نفخة إلهية تشتاق إلي مصدرها (تك2: 7). فينا روح علي صورة الله، كشبهه (تك1: 26، 27). وهذه تجعل الإنسان بطبيعته يشتاق إلي الله.
* فالاشتياق إلي الله، جزء من طبيعة الإنسان ومن فطرته..
فإن قلنا إن محبة الأم لطفلها جزء من طبيعتها يجري في دمها، وكذلك محبة الأب لابنه.. نقول كذلك إنه أمر طبيعي بالأكثر، أن الإنسان يحب الله ويشتاق إليه. وليس هذا عند الشعوب المتحضرة المتمدينة فحسب، بل حتى عند الشعوب البدائية أيضًا..
ومن الناحية الأخرى، محبة العالم شيء دخيل علي الإنسان، ليس في طبعه الأصلي. أما محبة الله فهي طبيعته الأصلية.
لذلك مهما بعد الإنسان عن الله لابد أن يعود فيشتاق إليه.
مثل عقرب البوصلة، لا بد أن يتجه إلي الشمال، مهما بعد عنه.
لهذا لا يصح أن ييأس الإنسان، مهما طال بعده عن الله.
لا تيأس، فطبيعتك بفطرتها ميالة. لذلك حتى في الليل -وأنت علي فراشك- يعود اشتياقك إليه. مثل الابن الضال: ذهب إلي كورة بعيدة، ثم عاد واشتاق إلي أبيه، ورجع إليه. ومثل أوغسطينوس: بعد متاهة طويلة في الفلسفة وفي ملاذ العالم، عاد أخيرًا ليقول للرب: تأخرت كثيرًا في حبك، أيها الجمال الذي لا يوصف..
وأنت مهما تهت وبعدت، في أعماقك بذرة محبة الله.
فلا تظنوا أن الرعاة والوعاظ والمرشدين والآباء الرسل، هم وحدهم الذين دخلت محبة الله إلي قلوبهم! كلا، فمحبته فيكم من الأصل. كل ما في الأمر، أنك تزيل ما ترسب فوقها وأخفاها.
“في الليل علي فراشي، طلبت من تحبه نفسي”
هناك لحظات تمر علي الإنسان، يجد نفسه مشتاقة إلي الله.
لا يعرف متى تأتي تلك اللحظات؟ ولا كيف؟ ولا أين؟ ولا يستطيع أن يحدد مواعيد لهذا الاشتياق. والكتاب يقول “ملكوت الله لا يأتي بمراقبة” (لو17: 20). كما قال الرب أيضًا “الريح تهب حيث تشاء، وتسمع صوتها، ولكنك لا تعلم من أين تأتي، ولا إلي أين تذهب” (يو3: 8)
إنها زيارة من زيارات النعمة، لا تأتي بمراقبة.
أنت لا تعرف متى يتحرك شعورك نحو الرب. ولكنك في وقت ما، تسمع صوتًا يناديك في داخلك، ويحركك نحو الله، مهما كنت خاطئًا، ومهما بعدت، ومهما ضللت.. زيارة النعمة هذه تثير مشاعر الحب الإلهي وتعيدها..
عدم الإحساس بوجود الله:
من العجيب أن هذه العروس تقول “طلبته فما وجدته” بينما الله في داخلها، وهو الذي حرك قلبها لكي تطلبه!
بدونه ما كان ممكنًا لها -وهي علي الفراش- أن تطلبه! هو الذي مد يده من الكوة، فأنّت عليه أحشاؤها (نش5: 4). ولكن لماذا -علي الرغم من وجوده فيها- تقول “فما وجدته”؟!
أحيانًا يكون الرب فينا، ونحن لا نشعر به!!
مثلما حدث لتلميذي عمواس، إذ كان الرب يسير معهما ويتحدث إليهما، وهما لا يعرفانه (لو24: 15، 16). ومثلما قيل في تجسد السيد الرب:
إن “النور أضاء في الظلمة، والظلمة لم تدركه” (يو1: 5). وأيضًا مثلما قال القديس أوغسطينوس للرب:
“كنت معي، ولكنني من فرط شقاوتي لم أكن معك!”
إبراهيم أبو الآباء ظهر له الرب مع ملاكين (تك18: 2، 17). ولكنه لم يدرك وجود الرب، وإلا ما كان أحضر للثلاثة لحمًا ولبنًا (تك 18: 7، 8). وهكذا قال الكتاب “لا تنسوا إضافة الغرباء، لأن بها أضاف أناس ملائكة وهم لا يدرون!” (عب13: 2).
أحيانًا يكون الله معك، وأنت غير شاعر بوجوده. وقد تظن أنه قد تخلي عنك. بينما أنت الذي ينقصك الإدراك الروحي لوجود الله معك. وقد تقول له “إلي متى يا رب تنساني؟ إلي الانقضاء! (مز13: 1).
ولا يكون الرب قد نسيك. لأنه إن نسيت الأم رضيعها لا ينساك (أش49: 15). إنما أنت الذي لم تعد تحس وجود الله فيك!
بالإيمان تستطيع أن تدرك وجوده معك. كما قال داود “تأملت فرأيت الرب أمامي في كل حين. لأنه عن يميني فلا أتزعزع” (مز16: 8). وكما قال إيليا النبي “حي هو رب الجنود الذي أنا واقف أمامه” (1مل18: 15).
البحث عن الله:
أحيانًا يخفي الله ذاته عنك، لكي تبحث عنه.. لا يسمح لك أن تراه، لكي تشتاق إلي رؤيته. يظهر حينًا، ويختفي حينًا آخر مثل النجم الذي ظهر للمجوس (مت2: 9).. لكي يتحرك القلب فيبحث ويسأل.
الله لا يريد أن تكون المحبة من طرف واحد: هو يحبك، وأنت راقد علي فراشك. يريدك أن تحبه كما يحبك، فتبحث عنه..
لهذا تجد أن العروس لما طلبته فلم تجده، قالت للتو: “إني أقوم وأطوف في المدينة، في الشوارع وفي الأسواق. أطلب من تحبه نفسي”. ولاحظوا إنها لم تقل أقوم، بل إني أقوم، كنوع من التأكيد والإصرار علي البحث. وهكذا زال تكاسل النفس، إذ شعرت بالتخلي، ولو كان شكليًا..
يا ليت كل واحد منكم يخرج من اجتماعنا هذا وهو يقوم ويطوف يبحث عمن تحبه نفسه، أعني الله الذي يحبه. كما قالت عذراء النشيد..
في الأسواق
اذهب واشتر لك زيتًا، لكي لا ينطفئ مصباحك (مت25: 9). وكما قيل في سفر الرؤيا “أشير عليك أن تشتري ذهبًا مصفي بالنار، وثيابًا بيضًا لكي تلبس، فلا يظهر خزي عريتك” (رؤ3: 18). وكما قال الرب “ومن ليس له سيف، فليبع ثوبه ويشتر سيفًا” (لو22: 36).. اذهب إذن إلي الأسواق، وادفع ثمن ما تشتريه. وابحث عن الرب هناك.
طف وأبحث أين تجد الله.. هل في الكنائس في الأديرة، في بيوت الخلوة وفي أماكن الخدمة.. أم حيث تراه..
المهم أن تنشط وتبحث، ولا تستمر راقدًا علي فراشك..
أنظر إلي طريق يوصلك إلي الله، وسر فيه: طريق التوبة، طريق الصلاة والتأمل، طريق الخدمة، طريق القراءة والاجتماعات..
الطرق المؤدية إلي الله كثيرة. اختر ما يناسبك منها.
كلمة “أقوم” تعطينا معني طيبًا. فعلي الرغم من أن الخلاص يقوم بقه الله وحده، إلا أنه لابد لك من أن تشترك معه، من جهة الاستجابة لعمله فيك: أن تشترك معه، أن تطلبه وتبحث معه.. “أقوم واذهب إلي أبي” (لو15: 18) هكذا قال الابن الضال.. أقوم وأرد أربعة أضعاف لكل من ظلمته، كما قال زكا العشار (لو19: 8).
حقًا، إننا في بعض أوقات نقول “قم أيها الرب الإله، وليتبدد جميع أعدائك” (عد10: 35). والرب نفسه يقول “من أجل شقاء المساكين وتنهد البائسين، الآن أقوم يقول الرب، اصنع الخلاص علانية” (مز12: 5).
ولكن علي الرغم من كل ذلك، لابد أن تقوم مع المسيح، وأن تعمل مع الرب: ترفع الحجر، لكي يقيم الرب لعازر (يو11: 41).
أنت تقدم الخمس خبزات، والرب يباركها ويشبع بها الألوف (يو6: 9-12). أنت ترمي الشبكة، والرب يأتي بالسمك. أنت تغرس وتسقي، والله هو الذي ينمي (1كو3: 6). المهم أن تقوم وتعمل مع الرب.
إنني حينما أعمل عملًا، إنما أبرهن علي محبتي للرب ورغبتي في الخير. فالله لا يرغمني إرغامًا علي عمل الخير، ولكني أقوم من نفسي.
علي فراشي قد أحلم بالرب. ولكني لا أجده إلا إذا قمت.
تأكدوا أن الملائكة يفرحون في السماء، وهم يرون هذه النفس تقوم وتطوف في المدينة وفي الشوارع بحثًا عن الرب (لو15: 7).
هناك أشخاص يبدلون عبارة “وعلمنا طرق الخلاص” في القداس الإلهي بعبارة “طريق الخلاص” علي الرغم أن الكلمة في القبطية (التي تعني طرق)، مفسرين ذلك بأن الخلاص طريقًا واحدًا هو الفداء.
هذا حق أنه من جهة الله هناك طريق واحد، هو الصليب وقد تم. ولكن من جهتنا لا ننال بركات الفداء إلا بطرق الإيمان والمعمودية والتوبة وحفظ الوصايا.
كما أن حياتنا الروحية اللازمة للخلاص لها طرق تؤدي إلي الله: منها الخدمة والوحدة، الزواج والبتولية، الحزم والطيبة.. والمهم أن يتخذ كل واحد نوع الطريق الذي يناسبه.. وكما قال ماراسحق: “لمعرفة الله باختلاف الطبائع البشرية، لم يجعل طريقًا واحدًا مؤديًا إلي الخلاص، لئلا يفشل من لا يستطيع السير فيه. وإنما جعل أمام الإنسان طرقًا عديدة. حتى أن الذي لا يناسبه طريق لصعوبته، يسير في الآخر لسهولته”.
ومادامت هناك طرق عديدة فلا تيأس. إن لم تجد في نفسك قابلية للصلاة، الجأ إلي القراءة والتأمل. وإن لم تجد قابلية للقراءة، رتل. وإن لم تستطع شيئًا من ذلك كله، اخرج وافتقد واخدم.
وكلن لا تيأس أبدًا. أبحث في الطرقات والشوارع والأسواق..
ولهذا لا يجوز لأب الاعتراف أن يجعل أبناءه صورة منه!
ولا يجوز أن يجعلهم كلهم صورة واحدة من بعضهم البعض!
فربما ما يناسب واحدًا منهم، لا يناسب غيره.. لاختلاف نفسياتهم.. كذلك أنت: إن أعجبك طريق في الحياة، لا تشجع كل إنسان علي السلوك فيه! ربما ما يناسبك، لا يناسبه.
عروس النشيد طافت في الطرقات، ولم تجد الرب. فلم تعتذر بذلك وتكف عن البحث. وإنما قابلت الحرس الطائف وسألتهم (نش3: 3). هؤلاء الحرس، هم حراس المبادئ والقيم. أقامهم الرب علي شريعته وعلي رعيته، يرشدون الناس إلي الطريق.. وما أن جاوزتهم قليلًا، حتى وجدت من تحبه نفسها.. لم تقل شيئًا مما قالته للحرس، ولا ما قد قالوه لها، إنها ركزت علي هدفها، وهو الوصول إلي حبيبها..
يوجد أشخاص يكفي أن تقول لهم المشكلة فتنحل..
حتى بدون إرشادات وحلول تسمعها منهم. تكفي بركتهم وصلواتهم.
الملاحظة الأخيرة، هي أن هذه العروس تعبت كثيرًا حتى وجدت من تحبه نفسها، ولم تجده من أول طلب، ولا من أول بحث. وكانت وراء ذلك حكمة إلهية. لكي تتمسك بمن تعبت لأجله.
قال القديس باسيليوس الكبير: إن الأشياء التي تحصل عليها بسهولة، قد تفقدها أيضًا بسهولة. لهذا أحيانًا لا يستجيب الله بسرعة.
ولأن هذه العروس تعبت حتى وجدت من تحبه نفسها، لذلك عندما وجدته قالت “أمسكته ولم أرخه” (نش3: 4).
تفسير سفر نشيد الأنشاد 2 | نشيد الأنشاد 3 | تفسير سفر نشيد الأنشاد | تفسير العهد القديم | تفسير سفر نشيد الأنشاد 4 |
البابا شنوده الثالث | ||||
تفاسير نشيد الأنشاد 3 | تفاسير سفر نشيد الأنشاد | تفاسير العهد القديم |