تفسير رسالة تيطس أصحاح ١ للقمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الأول
شروط الأسقف

 

يركز الرسول حديثه في هذا الإصحاح عن شروط الأسقف:

1. السلام الرسولي1-4:

بولس عبد الله ورسول يسوع المسيح،

لأجل إيمان مُختاري الله،

ومعرفة الحق الذي هو حسب التقوى،

على رجاء الحياة الأبدية،

التي وعد بها الله المنزه عن الكذب قبل الأزمنة الأزلي”. [1-2]

إذ يكتب الرسول إلى تلميذه الأسقف يدعو نفسه “عبد الله” وليس حرًا، إذ أحنى ظهره ليحمل نير الخدمة ليكون عبدًا له بخدمته في أولاده. إنه بحريته قبل العبودية لله والخدمة للبشر حتى يبلغ بهم إلى حرية مجد أولاد الله.

أما عمله فهو:

1. رسول يسوع المسيح، مدعو من الرب للكرازة كسفيرٍ عنه، ليكرز من أجل مُختاري الله. وفي هذا تطمئن نفس الراعي، أنه بالرغم من كل الصعوبات التي يلاقيها في الخدمة لكن نفوس كثيرة اختارها الله بسابق علمه تسمع للراعي.هكذا يليق بالأسقف تيطس ألا تضطرب نفسه بالرغم مما اتسمت به الجزيرة من الفساد.

هذا من جانب ومن جانب آخر فإنه كرسولٍ وسفيرٍ للرب، يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [متى جذب كثيرين من الإيمان لا يتكبر عالمًا أنه ليس ببره ولا بشخصه وذكائه وفلسفته بعث الإيمان في نفوسهم، بل هو هبة من الله الذي ائتمنه على الرسالة].

2. موضوع كرازته “معرفة الحق” لا بالكلام والوعظ أو الفلسفة والمنطق بل “حسب التقوى”، فهو يقدم معرفة عملية تقويه يلمسها المخدومين في حياة الراعي قبل أن يلمسوها في عظاته. 

3. غاية الكرازة “على رجاء الحياة الأبدية”، لأن الإيمان بغير رجاء ممل، يملأ النفس قنوطًا ويأسًا، أما الرجاء  فكما يقول القديس أغسطينوس: ]أنه يدفع الإنسان تجاه الأبدية نحو المستقبل، في إيمان عملي، ومثابرة مع فرحٍ وبهجةٍ وسط الآلام.]

ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [اتسمت الرسالة كلها بهذه الروح التي تحث القديس نفسه وتلاميذه على الاجتهاد أكثر. لأنه ليس شيء يفيدنا أكثر من تذكر مراحم الله الخاصة أو العامة. فإن كانت قلوبنا تفرح من تلقى معروف من أصدقائنا أو سماع كلمة طيبة منهم فكم بالأكثر يكون ([فرحنا) وحماسنا لخدمة الله عندما ندرك مقدار الأخطار التي نسقط فيها والرب ينجينا من جميعها، “واهبًا إيانا الأبدية “! ]

هذه الأبدية التي هي غاية عبادتنا وكرازتنا وموضوع خلاصنا ورجائنا ليست أمرًا جديدًا، إنما دبرها الله منذ الأزل، ولم يظهرها إلا في الوقت المعين، إذ يقول الرسول:

وإنما اظهر كلمته في أوقاتها الخاصة 

بالكرازة التي اؤتمنت عليها”. [3]

ماذا تكون هذه الكلمة الإلهية الموعود بها منذ الأزل إلا “كلمة الله الحي المحي” الذي هو بنفسه “الحياة الأبدية” الذي وعد بها البشر منذ الأزل قبل أن يُوجدوا، والذي ظهر لنا في ملء الزمان.

وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: 

[إني مؤتمن على الكرازة بالرب يسوع… ويليق بي ألا أزيد أو أنقص الأمانة. وإذ هي “بحسب أمر الله مخلصنا” ليس في سلطاني أن أهرب منها، إن الأمر ليس متروكًا لاختيارنا، فإما تنفيذه أو العقاب. وهذا واضح من قوله: “الضرورة موضوعة عليّ، فويل لي إن كنت لا أبشر“. (1 كو 9: 16).

إنني بصراحة أقول في وضوح في مشهد من الجميع أن من يؤتمن على قيادة الكنيسة وينال شرف الأسقفية يُدان إن لم يصارح الناس بما ينبغي عليهم أن يفعلوا. أما الرجل العلماني فليس تحت هذا الإلزام. ]

فما دام الله مخلصنا أمرنا بالكرازة عن الكرازة عن الخلاص، كيف نقدر أن نصمت؟

البركة الرسولية

بعد هذه المقدمة قال: 

إلى تيطس الابن الصريح حسب الإيمان المشترك،

نعمة ورحمة وسلام من الله الآب

والرب يسوع المسيح مخلصنا”. [4]

يعلق القديس يوحنا الذهبي الفم، قائلاً:

]لماذا يدعوه ابنه؟ إما رغبة في إظهار محبته له، أو بسبب تقدمه في الإنجيل، أو لإظهار أن تيطس قد استنار بواسطته.

وعلى هذا يدعو المؤمنين إخوة وأبناء. يدعوهم إخوة لأنهم وُلدوا معه في ذات الإيمان، ويدعوهم أبناء لأنهم ولدوا على يديه.[

أما قوله “الإيمان المشترك” فيحمل إليه الدعوة إلى عدم التهاون في الإيمان الواحد المشترك الذي سُلم مرة إلى القديسين، هو إيمان الكنيسة كلها. ليس لأسقف أو رئيس أساقفة أن ينحرف به”.

2. سيامة كهنة 5

 من أجل هذا تركتك في كريت،

لكي تكمل ترتيب الأمور الناقصة،

وتقيم في كل مدينة شيوخًا (كهنة) كما أوصيتك“. [5]

لقد تركه في كريت ليقوم بالأعمال الرعوية التي منها:

1. تكميل ترتيب الأمور الناقصة 

لابد وأنه كانت هناك أمور تُسلم شفاهًا من الرسل إلى تلاميذهم، ومن هؤلاء إلى خلفائهم يتسلمونها ويتشربون روحها دون أن تُسجل أو تُكتب. فالكتاب المقدس لم يسجل لنا كيفية إقامة الكهنة من أساقفة وقسوس وشمامسة ولا يسجل لنا ترتيب الصلوات الجماعية ولا خبرنا الصلوات التي تُرفع في سر الزيجة الخ. وهذا ما ندعوه “التسليم الكنسي”.

يرى القدّيس إكليمنضس السكندري أن “التسليم الكنسي”، الذي هو “قانون الكنيسة”. والتعليم الذي تسلّمته الكنيسة من الرب كتعليم إلهي ملوكي، ورسولي…

[أعطى الرب بعد قيامته المعرفة gnosis ليعقوب البار ويوحنا وبطرس، وهؤلاء سلموه للرسل الآخرين، والرسل الآخرون سلموه للسبعين تلميذًا، أحدهم برناباس.] 

[جاءت هذه المعرفة عن الرسل، وسلمت شفاها، سلمت بالتتابع إلى عدد قليل من البشر.]

2. يقيم شيوخًا

وكما يقول: القديس ايرونيموس: ]أن ترجمتها presbyters وهي تحمل الدرجة الكهنوتية من أساقفة وقسوس، إذ هما متساويان في العمل الكهنوتي، فيما خلا وضع اليد[.

وفي السريانية تشمل كلمة “قشوشًا” الأساقفة والقسوس معًا.

وفي الترجمات الدقيقة الحديثة  حتى غير الأرثوذكسية  تبرز أن كلمة “شيوخ هنا” تحمل فيها العمل الكهنوتي وليس كبر السن.

والأمر الذي هز مشاعر الآباء الأولين ذلك الحب الذي يربط بين بولس وتلاميذه، والوحدة التي تربط الشيخ بالشباب، إذ شعروا من خلالها بأهمية التلمذة في الكنيسة.

فيقول القديس ذهبي الفم: ]أن الرسول بولس في طلبته إلى تيطس لم يصدر له أوامر دكتاتورية بل أوصاه بلطف، ولم يهتم الرسول بمجده الشخصي بل بالصالح العام[.

ويقول القديس أمبروسيوس: ]جميلة هي الوحدة بين الشيوخ والأحداث. واحد يقدم شهادة (في السجن) والآخر يقدم راحة.[

إنني لا أتكلم عن لوط الذي وهو شاب ارتبط بإبراهيم (تك 12: 5) لئلا يقول أحد أن هذا الرباط كان لعامل القرابة وليس كعمل إرادي من جانبه. لكن ماذا نقول عن إيليا وأليشع (1 مل 19: 21)! وفي أعمال الرسل أخذ برنابا مرقس، وبولس سيلا (15: 29) و تيموثاوس (16: 3) وتيطس…

1. شروط الأسقف 6-16

إن كان العمل الرعوي الأول في حياة رئيس الأساقفة هو اختيار خدام للكلمة والكرازة، وتوجيه كل طاقات الكنيسة للجمع والشهادة، فإنه كان يليق بالرسول أن يسجل لنا السمات الخاصة بالمرشحين للأسقفية والقسيسية حتى لا يُقام أحد غير لائق للخدمة. هذه السمات ضرورية في حياة الأسقف، إذ هو الملح الذي يملح شعبه وكل من يلتقي منه، فإن فسد من يصلحه؟

وإن كان الذي يشفع من أجل توبة الخطاة منحلاً، فمن يصلي عنه! وإن كان القائد أعمى فمن يقوده! من أجل هذا كرز الرسول على كل جانب من جوانب حياة المرشح للخدمة حتى لا تتبدد الرعية بسببه.

هذا هو عمل الكنيسة أن تطلب رعاه يفصلون كلمة الحق باستقامة حتى لا نسمع ما يوبخ به القديس ايرونيموس قائلاً: ]في هذه الأيام، كثيرون يبنون كنائس، حوائطها وأعمدتها من رخام غال، سقفها متألق بالذهب، مذابحها محلاه بالجواهر، أما بالنسبة لاختيار خدام المسيح فلا يعطون اهتماما![

سمات الأسقف

أولاً: أن يكون بلا لوم”

الكارز الحقيقي هو الذي يسند كلماته بحياته السماوية التقية القوية. وكما يقول: القديس هيلاري أسقف بواتييه: 

]لا يكون الشخص كاهنًا صالحًا ونافعًا، لا بحياته التقية وحدها، ولا بمعرفته للكرازة وحدها، لأن الخادم الطاهر يفيد نفسه وحدها متى كان متعلمًا (دون أن يكون قادرًا على التعليم)… ويعجز عن أن يعلم إن لم يكن طاهرًا.

لذلك يتطلب الرسول في قائد الكنيسة أن يتكامل خلال ممارسته أعظم الفضائل، فتتزين حياته بتعليمه ويتحلى تعليمه بحياته. [

ويقول: القديس إيرونيموس: ]لا تجعل أعمالك تكذب أقوالك، لئلا عندما تتكلم في الكنيسة يجيبك إنسان بتعقل قائلاً: “ولماذا لا تطبق ما تصرح به؟ إنني أرى شخصًا يتلو عظة عن الصوم وهو محب للشهوات… ومعدته ممتلئة!” حقًا يليق بالكاهن أن يكون فمه وذهنه ويده واحدًا (أي ما ينطق به يفكر فيه ويعمل به! [

غير أنه يجدر بنا ألا نغالي في تفسيرنا لاتسام الأسقف بأن يكون بلا لوم، فنظن فيه أن يكون متألهًا بلا خطأ. إذ كما يقول القديس أغسطينوس: ]أن الرسول لم يطلب في الأسقف أن يكون بلا خطية وإلا استحال وجود من يستحق الأسقفية، إنما طلب أن يكون “بلا لوم”، أي سالك في طريق الحرية. قد تحرر من محبة الخطية وانفك من رباطاتها بقوة دم المسيح، والتصق بالله متمتعًا بحرية مجد أولاد الله، سالكًا فيها دون أن يبلغ إلى نهايتها. لأنه لا يبلغ الإنسان نهاية الحرية وكمالها مادام يحمل هذا الجسد الفاني، أي في حالة حرب دائمة بين الروح والجسد… وإن كان يليق به أن يتذوق قوة النصرة في هذا العالم[.

ويؤكد القديس ايرونيموس أنه ليس لنا أن نبحث عن ماضي الأسقف قبل عماده أو توبته.

ثانيًا: “بعل امرأة واحدة”: 

الزواج مقدس، والشريعة لا تمنع الزواج الثاني أو الثالث… لمن ماتت زوجته، لكنه لا يليق بالكاهن أن يكون قد تزوج بثانية وذلك لأسباب التالية:

1. يرى القديس ذهبي الفم أن هذا يجعله ملومًا وموضع انقاد.

2. يرى القديس ايرونيموس أن العلاقة بين الزوجين مقدسة وطاهرة، لكن الارتباط الزيجي له مشاغله التي تحرم الإنسان من بعض الوقت أن يكون مكرسًا للصلاة. لهذا يكفي الكاهن أن يتزوج الزوجة الأولى بحكم الطبيعة، أما إن ماتت فزواجه الثاني يعلن أنه غير ضابط لنفسه.

3. حرمت قوانين الرسل على الأسقف أو الكاهن أو الشماس أن يتزوج بعد سيامته. ولعل السبب في ذلك هو إزالة كل فرصة تشوب دخول الراعي أو الخادم بيوت شعبه. هذا والأسقف أو القس يعتبر أبًا، فكيف يتزوج بعد نواله الأبوة الروحية من ابنة له!

ثالثًا: له أولاد مؤمنون، ليسوا في شكاية الخلاعة، ولا متمردين” [6]:

من لا يعرف أن يدبر بيته حسنًا بل ينشغل بالاهتمامات المادية الزمنية عن خلاص أولاده فلا يغدق عليهم بالحب الحقيقي، كيف يؤتمن على تدبير كنيسة الله؟

أو كما يقول القديس ذهبي الفم: ]من لم يستطيع أن يرشد أولاده كيف يكون معلمًا للآخرين؟ إن كان لا يستطيع أن يحسن قيادة من هم منذ الابتداء، الذين رباهم، وله سلطان عليهم حسب الطبيعة وحكم القانون، فكيف يصد من هم ليسوا كذلك؟[

رابعًا: “غير معجب بنفسه”:

 لأنه يجب أن يكون الأسقف بلا لوم كوكيل الله غير معجب بنفسه “.

إنه كوكيل الله يكون بلا لوم غير معجب بنفسه، إذ يليق بالوكيل أن يمثل موكله “الله”. هذا الموكل غير مستبدٍ بشعبه وغنم رعيته، مع أنه صاحب السلطان الحقيقي، وله مطلق الحرية أن يفعل بنا ما يشاء. لكنه لا يتحكم فينا إلا بالعدل، وبعدما يطلب حكمنا نحن.

فلم يستبد بآدم الساقط، بل ذهب إليه بنفسه، وكان يدفعه للتوبة والاعتذار لكنه لم يشاء، وهكذا مع قايين (تك 4: 9)، ومع الشعب أيام نوح طلب عمل فلك لعلهم يرتدعون (تك 6)، ولم يحرق سدوم وعمورة قبل أن يعلن ذلك لإبراهيم (تك18: 17). إنه غير مستبد، بل يصرخ دائمًا “هلم نتحاجج” (أش1: 18). هذا ما يصنعه الله، فكم يليق بوكيله المشترك مع الشعب في الضعف، ألا يليق أن يترفق بالعبيد رفقائه دون أن يستبد برأيه؟

لهذا يقول: ذهبي الفم: ](الرئيس الروحي) الذي يحكم بالشريعة والسلطان دون أن يستشير شعبه لمعرفة رغباتهم يكون متصرفًا في كل شيء حسب هواه، فإذ لا يشرك أحدًا في المشورة يحسب حكمه مستبدًا وليس حكمًا شعبيًا[.

خامسًا: “ولا غضوب”:

يقول رئيس الأساقفة القديس ذهبي الفم: ]كيف يرشد الآخرين ويعلمهم كبح الانفعالات وضبط الغضب من لم يعلم نفسه ذلك؟ حقًا إن السلطان (عمل الأسقفية) يقود إلى تجارب عديدة تثير للغضب حتى وإن كان وديعًا… على هذا إن لم يتدرب على هذه الفضيلة يسيء إلى من هم تحت سلطانه ويهلكهم كثيرًا. [

سادسًا: “ولا مدمن الخمر ولا ضرّاب”:

لم يقل “ولا يشرب خمر“، لا ليبح للكاهن أن يشربه، إنما لكي لا تكون وصية فيلتزم بعدم استخدام الخمر في حالة المرض.

هذا ولا يليق به أن تمتد يده للضرب، إذ يقول القديس ذهبي الفم: ]إن الطبيب لا يضرب بل يشفي ويصلح المضروب. [

سابعًا: “ولا طامع في الربح القبيح. بل مضيفًا للغرباء محبًا للخير” [7-8]:

اشتهر الكريتيون بمحبة الغنى، لهذا خشي أن يتسلل أحد الطامعين لاغتصاب درجة كهنوتية بقصد الربح القبيح.

ويعرف القديس ايرونيموس الربح القبيح بالتفكير في أكثر من الحاضر، إذ يليق بالخادم أن يتشبه بالرسول مكتفيًا بالقوت والقسوة.

ولا يقف الخادم عند حدود السلبية بل يليق به أيضًا أن يكون محبًا للخير فاتحًا قلبه للناس وبيته لإضافة الغرباء، حيث كانت الفنادق مرتفعة التكاليف ووسطها مملوء بالخلاعة والفساد. 

ثامنًا: “متعقلاً بارًا ورعًا ضابطًا لنفسه” [8]:

سبق أن تحدثنا عن التعقل كسمة من سمات الراعي، إذ يلزمه أن يكون غير متسرع في كلماته وتصرفاته، وقورًا، رزينًا في إرشاداته، متعقل في كل تصرف. ويليق به أن يكون بارًا، له برّ المسيح الذي يهبه للمثابرين، ورعًا، ضابطًا لنفسه في كل شيء.

يقول القديس ايرونيموس: ]إن ضبط النفس بالنسبة للكاهن لا يقف عند حدود ضبط الشهوات والفواحش، بل يشمل حركات النفس فلا يضطرب في موقف يثير الغضب، ولا تصغر نفسه بسبب الغم أو الحزن، ولا يرفع مما يحدث من حوادث هائلة، ولا يهزه الفرح[.

تاسعًا: “ملازمًا للكلمة الصادقة التي بحسب التعليم”:

إن عمل الخادم الكرازة بكلمة الحق، الكلمة الصادقة بحسب الإيمان غير المحتاجة إلى تعليل كقول ذهبي الفم.

يقول القديس جيروم: 

]في الحقيقة إن العجز في القدرة على التعليم في رجل الكهنوت يمنعه من تقديم خير لأي إنسان، فبقدر ما يبني كنيسة المسيح بفضيلة حياته يؤذيها بعجزه عن مقاومة الراغبين في طرحها.

يقول: حجي النبي، بل بالأحرى يقول الرب على لسان حجي: أسأل الكهنة عن الشريعة ” (2: 11)، فإن جانبًا عظيمًا من عمل الكهنوت يتركز في الإجابة على السائلين من جهة الشريعة.

ونقرأ في سفر التثنية: “اسأل أباك فيخبرك وشيوخك فيقولون لك” (تث 32: 7) . ومن بين المميزات التي يسردها داود في صفة الإنسان البار الذي يشبه شجرة الحياة في الفردوس أنه “في ناموس الرب مسرته، وفي ناموسه يلهج نهارًا وليلاً “. (مز 1: 2) وفي نطاق رؤية دانيال السامية يعلن: “والفاهمون يضيؤن كضياء الجلد والذين ردوا كثيرين إلى البرّ، كالكواكب إلى أبد الدهور“. (دا 12: 3)

ها أنت ترى الفارق بين جهل البار (أي الفاهم دون أن يعرف كيف يعلم) وبين تعليم البار.]

إذن يليق بالأسقف أن يعلم وذلك، “لكي يكون قادرًا أن يعظ بالتعليم الصحيح ويوبخ المناقضين ” [9].

وكما يقول القديس ذهبي الفم: ]لكي يحتفظ بشعبه ويوبخ المناقضين، كاسبًا كل فكر إلى طاعة المسيح حتى لا يضيعهم. فمن لا يعرف أن يتغلب على كل بدعة مناقضة للعقيدة السليمة هو بعيد عن كرسي المعلم!]

أما سبب وضع هذا الشرط فهو “لأنه يوجد كثيرون متمردين، يتكلمون بالباطل، ويخدعون العقول، ولاسيما الذين من الختان، الذي يجب سد أفواههم” [10-11].

هؤلاء الكثيرون هم جماعة اليهود الذين قبلوا الإيمان المسيحي لكنهم لازالوا متمسكين بالحرف اليهودي القاتل كالختان، هؤلاء هدفهم الربح القبيح.

“فإنهم يقلبون بيوتًا بجملتها،

مُعلمين مالا يجب من أجل الربح القبيح” [11].

لا يقف الربح القبيح عند مجرد جمع الأموال، ولكن كما يقول القديس ذهبي الفم: ]يمكن أن يكون حب الظهور وطلب المديح وعمل أحزاب… هذا كله ربحًا قبيحًا. [

لهذا يليق بالمعلم أن ينازل هؤلاء ويسد أفواههم حتى لا يدمروا حياة أولاده، وكان هذا لازمًا على وجه الخصوص بالنسبة لمعلمي جزيرة كريت إذ يقول:

“قال واحد منهم وهو نبي لهم خاص،

الكريتيون دائمًا كذابون،

وحوش ردية، بطون بطالة،

هذه الشهادة صادقة،

فلهذا السبب وبخهم بصراحة

لكي يكونوا أصحاء في الإيمان،

لا يصغون إلى خرافات يهودية ووصايا أناس مرتدين عن الحق” [12-14].

اشتهر الكريتيون بالكذب، وحيث وُجد الكذب أي عدم الحق تتسلل الرذائل واحدة فواحدة، غير أن الرسول لم يرد أن يصفهم بهذا من عندياته حتى لا يكرهونه فلا ينصتون إليه، بل استند على قول أحد شعرائهم يُدعى “أبيميندس” الذي عاش في حوالي القرن السادس قبل الميلاد وكان الشعراء في نظرهم في مرتبه الأنبياء.

ويعلق القديس يوحنا ذهبي الفم على ذلك بقوله:]يحدث الرسول كل إنسانٍ حسبما يتناسب معه، إذ يقول: “صرت لليهودي كيهودي وللذين بلا ناموس كأني بلا ناموس والذين تحت الناموس كأني تحت الناموس” (1 كو 9: 20ـ21)].

كما يقول القديس إكليمنضس السكندري: ]إنك تراه كيف يستخدم حتى أنبياء اليونان وينسب إليهم بعض الحق. فلا يخجل من أن يستخدم الأشعار اليونانية لأجل بنيان البعض ولأجل توبيخ آخرين. [إنه لا يكف عن أن يستخدم كل وسيلة لأجل خير مخدوميه، فيطالب تلميذه أن يستخدم التوبيخ بصرامة، لكن لا بقصد الثورة والغضب عليهم ولا للتشفي منهم، بل “لكي يكونوا أصحاء في الإيمان“.

حسن للراعي جدًا أن يكون وديعًا، لكن يليق به أن يكون حازمًا لأجل بنيان رعيته، لكي يتركوا الخرافات اليهودية ووصايا المرتدين عن الحق.

وما هي هذه الخرافات والوصايا البعيدة عن الحق؟

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [لما دخل اليهود الإيمان المسيحي ارتبط بعضهم ببعض بالتعاليم اليهودية الخاصة بضرورة الختان المادي وتحريم بعض المأكولات.] حقًا في العهد القديم كان الله يحرم بعض المأكولات ويسميها نجسة، لا لأنها تحمل في ذاتها دنسًا ولا لأن في أكلها يرتكب الإنسان خطية، بل لأن بعضها معرض للأمراض والميكروبات أو بعضها تحمل رموزًا وظلال للخطية… فكان يمنعهم الرب تحت ستار “النجاسة” بسبب عدم نضوجهم الفكري في ذلك الوقت. أما في عهد النعمة فيلزم أن ندرك أنه ليس شيء ما نجسًا إلا الخطية وحدها.

هذا أيضًا ما قاله العلامة أوريجينوس في مقاله عن “الطاهر والدنس حسب الناموس والإنجيل” إذ قال: [أن المأكولات المحللة والمحرمة هي ظلال ورموز للعهد الجديد.]

إذن ليس شيء نجسًا، بل “كل شيء طاهر للطاهرين، وأما للنجسين وغير المؤمنين فليس شيء طاهرًا، بل قد تنجس ذهنهم أيضًا وضميرهم“. [15]

فحيث يكون الإنسان طاهرًا أي نقي القلب يرى كل شيء في خليقة الله طاهرًا.

ويعرّف القديس جيروم القلب الطاهر هو ذاك الذي يتطلع إليه الله. إذ بالله القدوس يتقدس القلب، فتصير له نظره الله الطاهرة إلى كل أحدٍ وإلى كل شيءٍ.

أما كيف تطهر فيقول القديس أغسطينوس: ]الحقيقة هي أن الكل يكون غير طاهر، أولئك الذين لم يتطهروا بواسطة الإيمان بالمسيح، وذلك كقول العبارة: “إذ طهر بالإيمان قلوبهم” (أع 15: 9).]

غير أن قول هذا القديس لا يعني أن نأكل بغير حساب وبلا تمييز في الأماكن المعثرة وموائد المستهترين، إنما كما يحذرنا القديس ايرونيموس قائلاً: ]”بالرغم من أنه “كل شيء طاهر للطاهرين”، و”لا يرفض شيء إذا أخذ مع الشكر” (1 تي 4: 4)، إلا أنه لا يليق أن نشرب كأس المسيح وفي نفس الوقت نشرب كأس الشياطين (1 كو 10: 21).

وبالرغم من أن القديس أغسطينوس كثيرًا ما استخدم هذا النص للرد على أتباع ماني الذين نادوا بدنس الزواج ونجاسة اللحوم وتحريم بعض المأكولات، إلا أنه خشي لئلا يفهم البعض أن النساك يصومون عن الأطعمة لفترات طويلة ويمتنعون عن بعضها نهائيًا بهذا القصد أي هي مأكولات نجسة يلتزم كل المسيحيين بالامتناع عنها، لهذا قال:

[مع هذا كله (أي شدة صومهم وكثرة نسكهم) يلزم على الإنسان ألا يضغط على نفسه أكثر مما يتناسب معه، فلا يُلزم إنسان بشيء قسرًا، كما لا يدينه الآخرون بسبب عجزه عن الامتثال بهم، إذ يضعون في ذهنهم كيف يربط الكتاب المقدس الجميع بالحب. إنهم يضعون في ذهنهم أن “كل شيء طاهر للطاهرين”، وأنه “ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان بل ما يخرج من الفم هو ينجس الإنسان” (مت 15: 11) لهذا فإن جهادهم ليس ازدراء ببعض الأطعمة بكونها دنسه، بل إخضاعًا للرغبة الجامحة مع تثبيت الحب الأخوي. “إنهم يذكرون أن الأطعمة للجوف والجوف للأطعمة والله سيبيد هذا وتلك” (1 كو 6: 13)، وأيضًا لأننا “إن أكلنا لا نزيد، وإن لم نأكل لا ننقص” (1كو 8: 8)].

كتب البابا اثناسيوس الرسولي إلى الأب آمون يقول: ]كل الأشياء التي صنعها الله جميلة وطاهرة، لأن كلمة الله لا يخلق شيئًا غير نافع أو دنس… لكن سهام الشياطين متنوعة وخبيثة، فهو يعمل على إقلاق أصحاب الأذهان البسيطة، محاولاً عرقلة التدابير العادية للإخوة، فيبث في داخلهم أفكار الدنس وعدم الطهارة خفية. لذلك ليتنا باختصار نبدد خطأ الشرير بواسطة نعمة المخلص ونثبت ذهن البسطاء (بأن الامتناع عن الطعام ليس عن دنس أو عدم طهارة).[

نعود إلى كلمات الرسول الذي يحذر تيطس من المضللين الذين ينجسون نظرة البسطاء إلى بعض الأطعمة فيقول:

“يعترفون بأنهم يعرفون الله،

ولكنهم بالأعمال ينكرونه،

إذ هم رجسون، غير طائعين،

ومن جهة كل عمل صالح مرفوضون”. [16]

لهم غيرة التدين ومظهره، لكنهم بأعمالهم وأفكارهم الغريبة عن عمل الله وفكره يرفضون الله… بهذا يصيرون رجسين، لأنهم مناقضون لروح الله القدوس، عاصين لفكره، رافضين كل عمل صالح.

هذا التوبيخ ينطبق ليس فقط على الهراطقة والمناقضين للرب بتعاليمه الدنسة، بل وأيضًا على مستقيمي الإيمان دون أن يسلكوا بروحه ويتجاوبوا مع النعمة الإلهية، هؤلاء الذين يقول عنهم القديس أغسطينوس: [يتكلمون بأمور في معنى معين بينما لا يعملون بها. [

وأيضًا يقول عنهم القديس أغسطينوس نقلاً عن الشهيد كبريانوس: ]أولئك الذين استمروا في داخل الكنيسة نفسها إذ هم معتمدون، لكن قلوبهم لا تتغير إلى حال أفضل، فينبذون العالم بالكلام وليس بالأعمال. 

مقدمة تيطس – 1  تفسير رسالة تيطس
تفسير العهد الجديد تفسير تيطس 2
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفاسير تيطس – 1 تفاسير رسالة تيطس تفاسير العهد الجديد

 

زر الذهاب إلى الأعلى