تفسير المزمور 8 للقديس أغسطينوس

عظة في المزمور
الثامن معصرة الكنيسة

يحتوي عنقود العنب على الخمر والثفل : والثفل المتكوّن من قشرة حبة العنب ضروري لتخمير العصير والمعصرة تفصل الخمر عن القشرة التي تغلّف اللبّ. ذاك هو عمل الكنيسة التي تغذي الأطفال بلبن العقيدة إلى أن يختمروا ويشبّوا ويتمكنوا من تناول طعام الكاملين القاسي .

للغاية، مزمور لداود، حول المعاصر[1]

1– مضمون المزمور لا يُتيح لنا بأن نرى شيئًا يختص بالمعاصر التي يذكرها العنوان، وهذا ما يُبيّن لنا أنّ الكتاب غالبًا ما يُظهر لنا الشيء نفسه بأشكال مختلفة ومتعدّدة بوسعنا، إذًا، من خلال عنوان «المعصرة» الذي يطلع به علينا أن نفهم أنه يعني الكنيسة، للسبب إياه الذي صوّرها لنا بصورة بيدر ؛ فالبيدر أو المعصرة غايتهما فصل القمح أو الخمر عن ذلك الغلاف الذي كان ضروريا لهما لكي ينبتا وينموا وينضجا إلى حين الحصاد والقطاف. وهذا الغلاف أو الحضن الذي يحمل القمح ويقيه، هو القش الذي يُفصل عنه على البيدر، وهو العنقود والقشر الذي يحمل عصير الخمر ويحفظه في حبوب العنب، إلى أن يُفصل عنه في المعصرة. كذاك هي الحال في الكنيسة. الأخيار مختلطون جماعة الأرضيين، في خليط لا يستطيعون من دونه أن يولدوا، ولا أن يُصبحوا قادرين على تقبل كلام الله ؛ وخدام الكنيسة يعملون على فصلهم عن جمهور الناس بالحُبّ الروحي . هكذا يتصرف اليوم الأخيار الذين يضعون فاصلا لا في المكان، بل في الحبّ، بينهم وبين الأشرار، على الرغم من كونهم، بحسب الجسد، موجودين معهم في الكنائس نفسها . ويأتي يومٌ تُفصلُ فيه الحنطة إلى الأهراء، والخمر إلى أقبية الآب السماوي، على ما جاء في الإنجيل: «الذي بيده المذرى، يُنقي بيدره ويجمع القمح إلى أهرائه ويُحرق التبن بنارٍ لا تُطفأ “(لو 3: 17) . يُمكن التعبير عن الفكرة نفسها بالمقارنة التالية : يحفظ خمره في أقبيته ويطرح النفل للحيوانات. وبطون الحيوانات تمثل ، في هذه الحال، لجة الجحيم.

2- بوسعنا أيضًا أن نفهم المعصرة بطريقة أخرى، لكن من خلال نظرتنا إليها ، دائما ، كصورة للكنيسة فنرمز للكلمة الإلهي بالعنب لأننا نرى في ذلك العنقود المعلّق بخشب الجفنة الذي كان أنبياء إسرائيل يحملونه من أرض الميعاد (عد 13: 24)، صورة ليسوع المصلوب. فعندما يكون الكلمة الإلهي بحاجة إلى استعارة نبرة الصوت ليصل إلى آذان سامعيه، فإن فهم الكلمة، بالنسبة إلى النبرة، أشبه بالخمر الطيبة بالنسبة للتفل الذي فيها ؛ وهذا العنقود المقدس يصل إلى آذاننا كما لو كان يُسحق تحت ثقل المعصرة. وهناك يُعصر . ونبرة الصوت تضرب طبلة الأذن، فيما المعنى يصل إلى ذاكرة السامعين وصوله إلى خزّان، ليُسكَب بعدها في قواعد الأخلاق وفي خلجات نفسنا، كما تُسكب الخمر من أوعية المعصرة لتحفظ في الأقبية، حيثُ تُعلّق لتطيب، إن لم تُهمل فتصير خلا. لأنّ خمر اليهود استحالت خلا جرّعوه الربَّ (يو 19: 29). وعلى العكس، فإنّه يطيب ويفخرُ عصير كرمة العهد الجديد السرّيّة التي سيشرب منها الربّ مع مختاريه في ملكوت أبيه (راجع لو 22: 18)

3- كما أن المعصرة غالبًا ما تعني الشهادة. ذاك أنّ رفات الموتى الذين بذلوا حياتهم لأجل يسوع المسيح، بعد أن مرّت تحت حجر معصرة الإضطهادات، تُطرح في الأرض مثل التفل، فيما تنطلق الأرواح إلى مساكن الراحة الأبدية. لكنّ هذا المعنى التصويري ليس ببعيد عن الثمار التي تحملها الكنيسة. إنّ عنوان المعصرة الذي يتصدّر هذا المزمور يُحيلنا، إذًا، إلى تأسيس الكنيسة، يوم قام الرب من القبر لكي يصعد إلى السماء، ويُرسل الروح القدس الذي حلّ على الرسل فملأهم وطافوا يبشرون بكلمة الله بكل ثقة وأمانة، وأسسوا الكنائس.

4 – لهذا قال النبي بحق : أيها الربّ إلهنا، ما أعظم اسمك في كل الأرض (8: 2) لكن كيف يكون اسم الربّ عظيما في الأرض كلها ؟ يُجيب النبي: «فقد رفعت جلالك فوق السموات». فيكون المعنى ايها الرّب يا من أنت إلهنا، لقد أذهلت بني الأرض! لأنك باتضاعك في هذا العالم، سطع جلال مجدك فوق السموات : فالذين رأوك صاعدًا إلى السماء، والذين آمنوا بصعودِك، تيقنوا بأي قدرة سبق أن انحدرت منها .

5 – “بأفواه الأطفال والرضع أسست لك عزة تامة في مواجهة أعدائك” ( 8: 3) بهؤلاء الأطفال والرُضّع لا يُمكن أن نفهم إلا الذين قال عنهم الرسول : مثل أطفال في المسيح غذوتكم لبنا، لا لحما قاسيا» (1كو 3: 2). شُبّهوا بأولئك الأطفال الذين ساروا أمام المسيح يسوع مرنّمين بالتهاليل، والذين من أجلهم أورد يسوع هذا المقطع جوابًا مُفحِمًا لليهود الذين أرادوا أن يُحرجوه، فقال: «أما قرأتم قط هذا الكلام بأفواه الأطفال والرضع هيأت تسبيحا كاملا ؛؟» (مت 21: 16). محقِّ هو في أنّه لم يقل : «أسست عزّتك»، بل قال : «أسست لك عزة تامة، لأنّ في الكنيسة مؤمنين تخلّوا عن اللبن ليغتذوا طعاما قاسيا، وعنهم يتكلّم القديس بولس عندما يقول: «إنّي أبشر الكاملين بالحكمة الإلهية (1كو 2: 6)، لكنهم لا يُشكلون الكنيسة لوحدهم، لأنّهم لو كانوا لوحدهم، لتخلّى الله عن الضعفاء. غير أنه بسبب عطفه على الضعفاء، يُريد أن يُغذي العاجزين عن فهم الأمور الروحية والأبديّة، بقوت الإيمان التاريخي لكل ما تم عبر الزمان، منذ عهد الآباء والأنبياء على يد من هو حكمة الله وقدرته الفائقة، وخاصةً في سرّ التجسّد. فمن سلك درب الإيمان سيجد الخلاص عندما ينقاد إلى ذلك السلطان، ويخضع للوصايا التي تعصمه، ويترسّخ في المحبّة، ويُصبح قادرا على السير مع القديسين، لا كالطفل المحتاج إلى اللبن بل كالشاب الذي يأكل طعاما قاسيًا، ويستطيع أن يفهم الطول والعرض والعلوّ والعمق، ويعرف محبّة المسيح لنا، التي تفوق كلّ معرفة” (أف 3: 18، 19). بأفواه الأطفال والرّضَّع أسست لك عزة تامة لأجل أعدائك». بكلمة «أعداء» يسوع ، وما صنعه يسوع المصلوب، علينا أن نفهم، في العموم، جميع الذين يمنعوننا من الإيمان بما نجهل، ويعدوننا بمعرفة واضحة. ذاك هو سلوك الهراطقة وكل الذين دعوا فلاسفة بسبب اوهامهم الوثنيةز ولا نقصد ان الوعد بالمعرفة شر، لكنهم يُريدون أن يُقصونا عن الإيمان الذي هو سُلّم خلاص ضرورية، ترفعنا إلى حقيقة أكيدة يستحيل أن تكون غايتها إلا ما هو أبديّ. إنّ إهمال وسيلة بمثل هذه الفائدة والضرورة، تبين وحدها أنّهم لا يملكون العلم الموعود، وأنّهم غير مبالين بالإيمان. إذًا، «من أفواه الأطفال والرضع أسست لك يا ربُّ، عزّة تامة إذ قلتَ على فم النبي: «وأنتم إن لم تؤمنوا فلن تفهموا (إش 7: 9  بحسب السبعينية)، وإذ قلت أنت نفسك : طوبى لمن لم يروا وآمنوا”(يو 20: 29). «لأجل أعدائك»، أي لأجل أولئك الذين قلت بشأنهم: «أشكرك يا إله السماء والأرض لأنك أخفيت هذه الأسرار عن الحكماء، وكشفتها للصغار» (مت 11: 25). يدعوهم الربّ حكماء، لا لأنهم حكماء حقا، بل لأنهم يعتقدون أنهم حكماء. لتُهلك العدوّ والمدافع» (8: 3). ومن يكون العدو سوى الهرطوقي الذي هو في آن معا، عدو الإيمان المسيحي والمدافع عنه من حيث أنّه ينقض عليه متظاهرا بالدفاع عنه؟ وبوسعنا أيضًا أن نقول عن فلاسفة الدهر أنهم الأعداء والمدافعون، لأنّ ابن الله هو قوة الله ، وحكمته وهو يُنير كل الذين جعلتهم الحقيقة حكماء والحال، فإنّ هؤلاء الفلاسفة الذين دعوا بهذا الاسم لأنهم يُحبّون الحكمة ويُعلّمونَها ، يتظاهرون بالدفاع عنها، على الرغم من أنهم أعداؤها، من حيث أنهم لا يكفون يبشرون بأوهام خطرة، ويدفعون الناس إلى عبادة عناصر الكون. 

7- “إني أرى سمواتِك عمل أصابعك” (8: 4). نقرأ أنّ الله كتب الوصايا بإصبعه وأعطاها لموسى، صفيه وخادمه الأمين (خر 31: 18)، ويرى شُرّاح كثيرون أنّ إصبع الله هو الروح القدس. فإذا كان بوسعنا أن نفهم بإصبع الله أيضًا خدّام الله الذين امتلأوا من الروح القدس، لأنه هو الذي يعمل فيهم لكونهم هم الذين وضعوا الكتب الإلهية، فبوسعنا أيضًا أن نفهم بالسموات أسفار العهدين القديم والجديد. قيل أيضًا عن موسى إن سحرة فرعون، إذ رأوا أنه يتفوّق عليهم، صاحوا : «هذه إصبع الله (خر 8: 19). وعلى الرغم من أن عبارة أشعيا : والسموات تُطوى كدِرْج» (إش 34: 4)، تنطبق على السماء الأثيرية فإنّه يُمكننا بكل ثقة أن نفهمها أيضًا بالمعنى المجازي، أي الكتب المقدّسة. إنّي أرى سمواتِك، عمل يديك»، أي إني سأقرأ وأفهم تلك الكتب التي كتبتها بواسطة خدامك بتوجيه من الروح القدس.

8 – بوسعنا ، إذًا ، أن نرى أيضًا الكتب المقدسة في تلك السموات التي قال عنها سابقا : رفعت جلالك فوق السموات»، ما يعني: لأنّ جلالك أرفع من السموات وأسمى من جميع كلام الكتب؛ وها أنت تهيئ لك، بفم الأطفال والرضع التسبيح الأسمى، بإرغامك الذين يرغبون في بلوغ معرفة جلالِك، أن يبدأوا فيؤمنوا بالكتب المقدّسة، لكونها أرقى من جميع صيغ اللغة وتعابيرها . شاء الله، إذًا، أن يُخفض الكتب إلى مستوى الأطفال والرضع كما جاء في مزمور آخر: «طأطأ السموات ونزل» (مز 18: 9) وصنع ذلك لأجل أعدائه الذين يكرهون صليب يسوع المسيح والذين لا تستطيع خُطبهم المتعالية، حتى ولو نطقوا بالحق أن تصلح للأطفال والرضع. هكذا يُقضى على العدوّ والمدافع الذي يريد تارةً أن يُدافع عن الحكمة، وتارة عن اسم المسيح، فيما ينقض على الحقيقة التي يدّعي ضمان فهمها الفوري، حيث أنه من خلال تقويضه الإيمان الذي هو السلّم المصعد إليها، يؤكد أنه يجهل طريقها . فإن كنا نريد أن تُدمّر ذاك المتهوّر المجترئ، وذاك الأعمى الذي يَعِدُ بالحقيقة، وهو في آن معا عدوّها ونصيرها، علينا أن ننظر إلى السموات، التي هي صنع أصابع الله، أي أن نفهم  الكتب المقدّسة التي تنخفض إلى مستوى بطء فهم الأطفال الذين تغذوهم أولاً بالأيمان البسيط بالأحداث التاريخية التي حصلت لأجل خلاصنا، ثم تقوّيهم إلى حين ترفعهم إلى درجة الفهم الأسمى للحقائق الأبدية. إنّ هذه السموات، إذًا ، أو الكتب المقدّسة، صنع أصابع الله، من حيثُ أنّها وُضعت بوحي من الروح القدس الذي كان يُضرم القديسين ويعمل فيهم. أما أولئك الذين طلبوا مجدهم عوَضًا عن خلاص البشر، فقد نطقوا بأفواههم لا بالروح القدس الذي يحمل في ذاته أحشاء الرحمة الإلهية .

9 -” فأرى سمواتِك صنع أصابعك، والقمر والكواكب التي كونتها” (8: 4) في السماء وضعت القمر والنجوم، لأنّ الكنيسة الجامعة، التي يُشار إليها غالبًا ،بالقمر والكنائس الخاصة بكلّ جماعة، التي يُشار إليها برأيي بالنجوم، جميعها مؤسسة على الكتب المقدسة التي تمثل السموات. وفي مزمورٍ آخر، سوف نرى المزيد بهذا الخصوص، فنشرح كيف أنّ القمر يُقابل الكنيسة الجامعة، من خلال شرح هذه الآية:« شدَّ المنافقون القوس وفوّقوا سهمهم على الوتر ليرموا في الديجور المستقيمي القلوب» (مز 11: 2).

10 – “ما الإنسان حتى تذكره أو ابن الإنسان حتى تفتقده؟” (8: 5) . لنا أن نتساءل ما الفرق بين الإنسان وبين ابن الإنسان، لأنه إن لم يكن ثمة فرق، لما ميّز النبي فقال : «الإنسان، أو ابن الإنسان». فلو أنّ النبي قال : ما الإنسان حتى تذكره وابن الإنسان حتى تفتقده؟»، لكان في قوله تكرار لكلمة «إنسان». لكنّه بقوله «الإنسان أو ابن الإنسان» يُبين لنا أنه يُميز بين الإثنين لنُذَكَّر أولا بأنّ كلّ ابن إنسان هو إنسان، على الرغم من أنّ كلّ إنسان ليس حتما ابن إنسان؛ فآدم إنسان وما هو بابن إنسان. وعليه فمن الفائدة بمكان أن نلاحظ هنا، الفرق بين الإنسان وبين ابن الإنسان فالذين يحملون صورة الإنسان الأرضي (معنی لفظة آدم) الذي ما هو قط بابن إنسان، يُدرجون تحت اسم بشر»، فيما ندعو ابن الإنسان ذاك الذي يحمل صورة الإنسان السماوي (المسيح) (راجع 1كو 15: 49). الإنسان الأرضي هو الإنسان العتيق، فيما الإنسان الجديد هو الإنسان السماوي (أف 4: 22). لكن الإنسان الجديد آتٍ من الإنسان العتيق، من حيث أنّ الولادة الروحية لا تتم إلا من خلال تغيير حياتنا الأرضية الدنيوية، وهذا ما يمنحه اسم ابن الإنسان. هنا، إذًا، الإنسان أرضي وابن الإنسان سماوي. الأوّل بعيد عن الله، فيما الثاني في حضرة الله . ولهذا يذكر الله الأوّل البعيد، ويفتقد الآخر ويُضيء عليه بنور وجهه. لأنّ «الخلاص بعيد من المنافقين» (مز 118: 155)، ونحن موسومون بنور وجهك ! (4: 7) . كذلك ، أيضًا في مزمورٍ آخر، يجمع النبي بين البشر والبهائم، ويقول إنّ الله يُخلّص البشر والبهائم، لا بالإضاءة، بالطبع، بنوره الداخليّ على البهائم، بل ببسط حنانه ورحمته حتى على أدنى الخلائق : لأنّ الله يُخلّص البشر مثلما يُخلّص البهائم، لكنه يفصل بني الإنسان عن أولئك الناس الذين وحد بينهم وبين البهائم. يُطوّبهم ويُعليهم عن الآخرين بفعل الحقيقة التي تنيرهم، وينبوع الحياة الذي يفيض فيهم . فيقول : «يا ربّ أنت تُخلّص البشر والبهائم، أللهم ما أجلَّ رحمتك. إنّ بني البشر بظل جناحيك يعتصمون، يرتوون من فيض بيتك ومن نهر لذاتك تُسقيهم، لأنّ عندك ينبوع حياة، وبنورك نُعاينُ النور . أبسط رحمتك على الذين يعرفونك» (مز35: 6-10) هكذا يذكر الربّ الإنسان برحمته، كما يذكر البهائم، لأن رحمته تمتد حتى على البعيدين ، لكنه يفتقد ابن الإنسان عندما يبسط عليه رحمته ليحتضنه تحت جناحيه، إذ يُضيء عليه بنوره ويُسقيه من نهر لذاته، ويُرويه من فيض بيته، ويُنسيه مآسي حياته الغابرة ومتاهاتها . إبن الإنسان هذا، أو هذا الإنسان الجديد الذي تتمخض فيه توبة الإنسان العتيق بالنحيب والآلام، هو إنسان لحمي مع أنه جدید، لكونه يغتذي باللبن. يقول الرسول: «لم أستطع أن أكلمكم كروحيين بل كجسديين». ولكي يُبين لهم أنهم ولدوا مجددا في المسيح، يُضيف: «عاملتكم كأطفال في المسيح، فغذوتكم باللبن، لا بالطعام القاسي» (1كو 3: 1-2). إنّ ما يحدثُ في الغالب لهذا الإنسان الجديد، العائد إلى حياته الأولى، هو أنه يواجه اللوم لكونه إنسانًا . يقول القديس بولس : ألستم بشرًا، وتسلكون تماما كبشر؟» (1كو 3: 3).

11 – افتقد ابن الإنسان أوّلاً في شخص ذلك الإنسان-الإله المولود من مريم العذراء. إنّ مذلات الآلام التي لحقت بذلك الجسد الضعيف الذي تواضعت الحكمة الإلهية فلبسته، دفعت النبي إلى أن يقول : «نقصته قليلاً عن الملائكة” (8: 6) ، ثمّ ليُسارع فيُركّز على مجد قيامته وصعوده: «وكللته بالمجد والكرامة، وعلى أعمال يديك سلطته»(8: 6-7) . بما أنّ الملائكة هم أيضًا صنع يد الله، فإنّنا نؤمن أن ابن الله الوحيد أرفع من الملائكة، كما نؤمن بأنه أدنى قليلا من الملائكة لناحية ولادته الزمنية الوضيعة وآلامه المخزية. 

12- “أخضعت كلّ شيءٍ تحت قدميه” (8: 8)، «كلّ شيء»، يقول النبي، بلا استثناء ؛ ولئلا نفهم كلماته هذه على غير معنى، يُريد الرسول أن يقبلها المؤمن على هذا النحو حين يقول: «من الواضح أنه يستثني الذي أخضع له كلّ شيء» (1كو 15: 27). ويستند في الرسالة إلى العبرانيين على شهادة هذا المزمور، عندما نؤمن يوصينا بأنّ كلّ شيء، بلا استثناء، أخضع ليسوع المسيح (عب 2: 8). ولا يبدو أنّ النبي أضاف الكثير ، إذ يُعدّد “الغنم والبقر كلّها وبهائم الصحراء، وطير السماء وسمك البحر السائر في سبل البحار” (8: 8- 9) بدا أنه يتغاضى عن الجنود والقوّات وجيوش الملائكة، ولا يذكر البشر، مكتفيا بإخضاع الحيوانات ليسوع المسيح، أللهم إلا إذا كنا نفهم بالغنم والبقر النفوس البارّة، التي تُعطي ثمار البراءة، أو تعمل على إخصاب الأرض، أي على إنتاج ولادة جديدة لبشر أرضيين يعملون للخيور الروحية بهذه الأنفس البارّة علينا أن نفهم، لا البشر فحسب، بل الملائكة أيضًا، إذا كنا راغبين في أن نستنتج من هذه الآية أن كل شيء أخضع للمسيح يسوع ربنا . لأنه إذا كانت رئاسات الأرواح أخضعت له، فلن يكون بعد شيءٌ لم يُخضَع. لكن كيف تُثبت أننا نفهم بالغنم كلّ من سما في القداسة، لا من البشر فقط، بل أيضًا من الأرواح الملائكية؟ ألأنّ المخلّص يقول لنا إنه ترك الخراف التسعة والتسعين في الجبال أو في أعالي السموات، لينزل من أجل نعجة ضالة واحدة؟ (راجع مت 18: 12). إذا كنا نفهم بالنعجة الضالة الطبيعة البشرية التي زلّت في آدم، لأنّ حوّاء أُخِذت من جنبه (تك 2: 22)، وهذا ما لا وقت لدينا الآن لبحثه ومعالجته بطريقة روحية، فلم يعد يبقى للخراف التسعة والتسعين سوى طبائع ملائكية، لا أرواح بشرية. أما البقر، فمن السهل أن نفهم فيها ملائكة، لأنه إذا كانت الكتب تُشير إلى البشر عندما تقول : لا تكم فم الثور في دياسه الحَبّ» (تث 25: 4) ، فذاك أنّ البشر إذ يحملون كلمة الله هم رسل مثل الملائكة، فكم يكون أسهل علينا أن نمثل البقر بالملائكة أنفسهم؟ إذا ، «أخضعت له الغنم والبقر كلّها أي جميع الخلائق الروحية؛ وبهذا  نفهم أيضًا جميع الناس الذين يعيشون القداسة في الكنيسة أو تحت حجارة المعاصر، والذين يُشار إليهم الآن بالقمر والنجوم.

13 – “وبهائم الصحراء أيضًا” كلمة “أيضًا” ليست هنا من غير فائدة. أوّلا لأن قطعان البراري هذه يُمكن أن تكون من الغنم أو من البقر، لأنه إذا كانت الماعز بهائم الصخور والمنحدرات، فإنّ الغنم والبقر بهائم الحقول. إذًا، بعد أن عدد النبي الغنم والبقر وبهائم الحقول، لنا كامل الحق في أن نتساءل ما هي بهائم الحقول تلك، ما دامت الغنم والبقر بهائم حقول . لكنّ كلمة «أيضًا» تُرغمنا على أن نجد فيها تمييزا ما ؛ وكلمة «أيضًا» تشمل، لا بهائم الحقول فقط، بل أيضًا طير السماء، وسمك البحر السائر في سبل اللجج. فأين هو التمييز؟ لنتذكر المعاصر حيث الخمر ممزوجة بالتفل، والبيدر الذي يجمع القش إلى الحنطة، والشباك التي تجمع السمك من كل جنس، جيده ورديئه (مت 13: 47)، وفلك نوح الذي أوى البهائم الطاهرة والنجسة (تك 7: 8)؛ وسوف نرى أنّ كنيسة العالم، إلى أن يحين يوم القضاء، ستضم في صفوفها ، لا غنمًا وبقرًا فقط، أي قديسين علمانيين وقديسين خدّامًا ، بل أيضًا بهائم الحقول وطير السماء وسمك البحر السائر في سبل اللجج . إنّ بهائم الحقول هذه تمثل أفضل تمثيل البشر الذين يجعلون فرحهم في شهوات الجسد، ولا يجدون أمامهم أي جرفٍ يعانون المشقة ليتسلّقوه. بوسعنا أن ندعو بريّة تلك الطريق الرحبة التي تؤدّي إلى الهلاك (مت 7: 12)؛ ففي بريّة قُتِل هابيل (تك 4: 8). كذلك علينا أن نخاف من أن نقع فريسة الشيطان، ونحن ننزل من جبال العدالة الإلهية تلك التي قال النبي عنها : «عدلك، يا الله، مثل الجبال (35: 7)، لكي نستمرئ التمرّغ في أقذار شهوات الجسد. والآن، لنر في طير السماء المتكبرين الذين قيل عنهم: «يجعلون أفواههم في السماء» (مز 73: 9)  ” لنرهُم يرتفعون إلى الأعالي على جناح الريح، ألئك الذين يقولون : نُمجّد أقوالنا، إنّ شفاهنا لنا، فمن يسود علينا” (مز 11: 5) . ولنر أيضًا في سمك البحر، أولئك الفضوليين الذين لا ينفكون يسيرون في سبل اللجج، أو الذين يطلبون، في أعماق الدهر، الخيور الزمنية، وهي خيور زائلة تفنى وتتلاشى مثلما تتلاشى السبل التي تُخَطّ في البحار ، عندما تعود الأمواه فتتلاقي بعد أن يكون المركب، أو أي سبّاح ، قد شقّ طريقه وعبر . لا يقول النبي فقط إن السمك يسير في سبل البحار تلك، بل إنّه لا ينفكُ يسير فيها بلا انقطاع، وذلك لكي يُظهر لنا إصرارها الدؤوب في طلب الأمور الزائلة الفانية. إنّ العيوب الرئيسية الثلاثة الشهوة الجسدية والكبرياء، والغرور، تتضمن كل الخطايا. يبدو لي أن القديس يوحنّا يُعدّدها فيقول: «لا تحبّوا العالم لأنّ كلّ ما في العالم شهوة الجسد وشهوة العين وطمع الحياة ( 1يو 2: 15-16). فالعين يسود عليها الغرور، ومن السهل أن نرى دوافع الشهوة الأخرى. تلك كانت التجربة التي خضع لها الإنسان الإله عندما جاع فجربه الشيطان في البرية في جوعه الذي هو شهوة الجسد حين قال له : «مر أن تصير هذه الحجارة خُبزًا (مت 4: 3) ؛ ثمّ جرّبه بالمجد الباطل، عندما أخذه إلى جبل عال جدا ، وأراه جميع ممالك الأرض، ووعده بأن يُعطيها له كلّها إن سجدَ له ؛ كما جرّبه بالغرور عندما حرّضه على أن يُلقي بنفسه من أعلى الهيكل، ليرى إذا كانت ملائكة الله تأتي فتحمله على أيديها . ولما كان هذا العدوّ قد فشل في إغراءاته كلّها، يقول الإنجيل إن إبليس أتم كل تجاربه (راجع لو 4: 13). بمعنى المعاصر، كلّ شيء يوضع تحت قدمي يسوع المسيح، لا الخمر فقط، بل التفل أيضًا؛ لا الغنم والبقر فقط، أي نفوس المؤمنين الأبرار، شعباً مسحيًّا كانوا أم  أنفسنا خداما، بل أيضًا بهائم الشهوة وطيور الكبرياء، وأسماك الغرور . والحال، فإن هذا النوع من الخطأة، ونحن شهود على ذلك، يختلطون، في الكنيسة مع الأبرار والقديسين. أما نحنُ، فلنجتهد لنكون خمرًا ممتازة تُحصى بين الغنم والبقر؛ لكن لا ندع تحصى لا في تفل العنب، ولا بين بهائم الصحراء، ولا بين طير السماء ولا بين سمك البحر السائر أبدا في سبل اللجج. على أنّ تلك البهائم ليس لها معنى واحد فقط، ويُمكن أن تعني خلاف ذلك؛ والأمر يتعلّق بالمكان الذي توجد فيه، وإذا كانت في غير مكان، كان لها معنى آخر . جرت العادة، بالنسبة للرموز، أن يُدقَّق جيدا في معنى الصورة من خلال فكرة النص. كذاك بالنسبة لتعليم المسيح والرسل. فلنعد، إذا قراءة الآية الأخيرة التي سبق أن بدأ بها النبي ولنقل: «أيها الرب إلهنا ، ما أعظم اسمك في كلّ الأرض!» لأنه بعد عرض نص المزمور، من المفيد إعادة الآية الأولى التي تتضمن الفكرة كلّها .

  1.  في العبرية : … أي: لإمام المغنين، على الجتية، مزمور لداود. وكلمة  جتيت إسم آلة موسيقية على شكل جرن أو هاون (لعلها المهباج)؛ وكلمة  تعني معصرة وجمعها جتوت. وفي الفولغاتا : in finem protorcularibus psalmus David أي للغاية لأجل المعاصر، مزمور لداود. في سائر الترجمات : لإمام الغناء على الجتية، مزمور لداود.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى