المعمودية والإيمان

 من كتاب المعمودية: الأصول الأولى للمسيحية 
للأب متى المسكين

الفصل الأول
الجزء النظري
10 – المعمودية والإيمان

 

أهمية المعمودية تقوم على أمرين: الأول ماذا يحدث في المعمودية، والثاني ما هي نتائج المعمودية، الأمر الذي يستمر مدى الحياة للمُعمَّد.

والآن نضع الأساس ونسأل: ما هو دور الإيمان قبل وأثناء المعمودية؟ وما هو دور الإيمان بعد المعمودية؟

هنا نستوضح ما جاء في (1كو 1:10 إلخ):

+ » فإني لست أريد أيها الإخوة أن تجهلوا أن آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة، وجميعهم اجتازوا في البحر، وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر. وجميعهم أكلوا طعاماً واحداً روحياً، وجميعهم شربوا شراباً واحداً روحياً، لأنهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح. لكن بأكثرهم لم يُسرّ الله، لأنهم طُرحوا في القفر. وهذه الأمور حدثت مثالاً لنا، حتى لا نكون نحن مشتهين شروراً كما اشتهى أولئك: فلا تكونوا عبدة أوثان … جلس الشعب للأكل والشرب ثمَّ قاموا للعب، ولا نزنِ … ولا نجرِّب المسيح … ولا تتذمَّروا … فهذه الأمور جميعها أصابتهم مثالاً، وكُتبت لإنذارنا نحن الذين انتهت إلينا أواخر الدهور. «(1كو 10: 1-11)

فلنتمعَّن ما أصاب شعب إسرائيل في طريقهم عبر البحر الأحمر، الذي هو نموذج أصلي للمعمودية، وقد تكرَّر ذكر هذه الحادثة بالنسبة للجزء الأعظم من الشعب والنتائج المرعبة لها (انظر: عب 7:3-13)

كذلك حينما يتكلَّم العهد الجديد عن السقوط بعيداً عن نعمة المعمودية يقول:

+ » لأن الذين استنيروا مرَّة (أي تعمَّدوا)، وذاقوا الموهبة السماوية، وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوَّات الدهر الآتي (كلها عطايا وهبات المعمودية)، وسقطوا، لا يمكن تجديدهم أيضاً للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهّرونه (لأن التجديد يحتاج إلى صلب المسيح مرَّة أخرى وإشهاره). «(عب 6: 4-6)

 

وأيضاً:

+ » فإنه إن أخطأنا باختيارنا بعدما أخذنا معرفة الحق، لا تبقى بعد ذبيحة عن الخطايا، بل قبول دينونة مخيف، وغيرة نار عتيدة أن تأكل المضادين. مَنْ خالف ناموس موسى فعلى شاهدين أو ثلاثة شهود يموت بدون رأفةٍ. فكم عقاباً أشرّ تظنُّون أنه يُحسب مستحقًّا مَنْ داس ابن الله، وحسب دم العهد الذي قُدِّس به دنساً، وازدرى بروح النعمة. فإننا نعرف الذي قال: لي الانتقام، أنا أجازي، يقول الرب. وأيضاً: الرب يدين شعبه. مخيف هو الوقوع في يدي الله الحيّ. «(عب 10: 26-31)

واضح من هذا أن الذي يفقد نعمة المعمودية فهي لا تُعوَّض، وتكون حياته بعد ذلك حرجة جدًّا قياساً على ما أخذه في معموديته. وفي نفس الوقت نجد أن الذي يُعطَى في المعمودية عظيم ومهول وفائق على العقل والتصوُّر، ولا يحتاج إلى موافقة أو فهم. إنها عضوية في جسد المسيح وبالتالي مواطنة سمائية، وهذه وتلك لها خصائصها وقوتها الدافعة، وأي رجعة أو تعطيل في مسار نعمة المعمودية هذه يُحسب خيانة تماماً تماماً كما تُحسب خيانة المواطنة، وخيانة للمسيح الذي لبسه في المعمودية، وخيانة للروح القدس الذي وهبه القيامة وقوتها للحياة الجديدة.

فالمعمودية كفعل خلاص هي فقط بدء للانطلاق لحياة تعمل فيها، لذلك سُمِّيت بالميلاد الثاني. ولكن الميلاد هو بدء حياة تُحسب له وعليه، هي في ذلك كميلاد الجسد الذي له عمر سنين كحدث قائم بذاته ولكنه ممتد ومتصل بعمر المولود. فإذا انقطعت صلة حياة المولود بميلاده يموت في الحال، لأن قوة حياة ميلاده هي التي تجعله يعيش. تماماً في حالة الميلاد الثاني من الماء والروح، فبعد الميلاد يستمر المولود ثانية في حياة بالروح، ولكن إذا انقطع الإيمان انقطعت صلة المولود بقوة دفع حياة ميلاده الثاني، فيموت.

لذلك فإن المعمودية للميلاد الثاني يتحتَّم أن تُحسب أنها بداية جديدة لحياة جديدة. إنها حقيقة خلاص، وإنها حقيقة موت للخطية: » كذلك أنتم أيضاً احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية، ولكن أحياءً لله بالمسيح يسوع ربنا. «(رو 11:6)

ففي المعمودية نحن وعاء فارغ يمتلئ بهبة وعطية الله، وبعد المعمودية يتحتَّم أن نؤمن بما أخذنا ونبشِّر ونعترف ونشكر ونتمسَّك بما أخذنا. هذا توضِّحه حادثة عماد شعب إسرائيل في البحر الأحمر: العمل هو عمل الله المجاني، وعلى الشعب أن يخضع ويطيع ويستجيب لعمل الله. وباختصار
الله يعمل والشعب يستجيب – ولكن الذي حدث أن معظم الشعب لم يستجب لمعجزة الله، وهكذا لم تكفهم المعجزة بكل قوتها ورعبها حتى تجعلهم يؤمنون ويخلصون، لأنهم لم يخضعوا لها بالإيمان وعادوا إلى خطيتهم. هكذا المعمودية معجزة بحد ذاتها مجَّانية، ولكن بعد حدوثها مطلوب الإيمان بها والعمل بمكتسباتها.

وما هي المعمودية؟ هي معجزات المسيح في موته وقيامته وغفران خطايانا وإعطائنا استنارة روحية وعضوية في جسده وفي عهده ونعمة الحياة الجديدة. هذه المعجزات الفائقة الغير حسِّيَّة والباطنية الداخلية والفائقة العقل، أراد الله أن ينقلها للأفراد فرداً فرداً، ليذوقها في المعمودية كل إنسان على حدة بصورة خاصة وسريَّة. كان من الصعب أن يؤمن بها الإنسان قبل أن يأخذها، ولا يُحاسب على هذا، ولكن إن أخذها بصورتها الباطنية وذاقها وأحسَّها وعاش فيها، إن هو أنكرها بعد أن يكون قد أخذها، وتنكَّر لها بعد أن يكون قد عاشها وذاقها، تُسحب منه نعمة المعمودية وكل عطيتها ونورها وصلتها بالمسيح، ويصبح الإنسان خائناً لنعمة المعمودية، خائناً للمسيح، خائناً للدم الذي قُدِّس به مزدرياً بروح النعمة، ويكون أقل من غير المؤمن ولا يمكن تجديده مرَّة أخرى.

فالإيمان يُطلب من كل مَنْ اعتمد، وإلاَّ تُسحب منه الحياة الجديدة ويكون في حكم المائت روحياً، أي أبدياً، ولا يكون له تجديد مرَّة أخرى.

 

فاصل

المعمودية والاتحاد بجسد المسيح كتب الأب متى المسكين معمودية الماء ومعمودية الروح
كتاب المعمودية الأصول الأولى للمسيحية
المكتبة المسيحية

زر الذهاب إلى الأعلى