عماد المسيح وسر المعمودية المقدَّسة
من كتاب المعمودية: الأصول الأولى للمسيحية
للأب متى المسكين
الفصل الأول
الجزء النظري
3 – عماد المسيح وسر المعمودية المقدَّسة
معمودية المسيح كانت هي الحد الفاصل بين العهد القديم الذي وقف على قمته يوحنا المعمدان، والعهد الجديد الذي افتتحه المسيح يوم أن اعتمد، وبالتالي فمعمودية المسيح هي بداية الإنجيل. وبمسحة الروح القدس في معمودية المسيح ابتدأ الخدمة، وبمعمودية الموت والصليب افتتح المسيح للإنسان طريق الملكوت والحياة الأبدية. فالمعمودية في حياة المسيح وموته كانت بدء الانطلاق الإلهي مع الإنسان في الأرض وفي السماء لعودة الإنسان إلى أحضان الله.
ومن التعبيرات المفسِّرة لمفهوم المعمودية عامة قول المسيح للمعمدان لمَّا تمنَّع في عماده: » اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمِّل كل برٍّ «(مت 15:4). فجاء هنا البر ليعبِّر عن المعمودية نفسها وعن رسالة المسيح في استعادة وتكميل بر الإنسان لدى الله، الذي يشمل بالضرورة غفران الخطايا ومصالحة الإنسان مع الله.
أمَّا افتتاح السماء ونزول الروح القدس على المسيح فكان إيذاناً ببدء عصر “الماء والروح” أو ميلاد الإنسان من فوق، بمعنى خلقة الإنسان الجديد وعودة صورة الله للإنسان بعد غيابها. فالمسيح لم يكن يرى نفسه إلاَّ في الخطاة.
أمَّا صوت الله الآب من السماء مخاطباً المسيح – وهو في الأُردن في حالة تمثيل البشرية كمقدِّم التوبة لله – وقول الآب أنت ابني الحبيب الذي به سررت، فهي موجَّهة للبشرية في شخص المسيح.
وبناءً على معمودية المسيح في الأُردن وعلى الصليب، بدأت الكنيسة فوراً في تطبيق هذه المكتسبات. فمعمودية المسيح أعطت الكنيسة المنهج والفكر لتقديم هذه المعمودية للراجعين إليها بالإيمان، فأعطت التبني، وأعطت مسحة الروح القدس، وأعطت قوة وموهبة المصارعة مع الشيطان لإخلاء الطريق أمام الإنسان، وأعطته الانفتاح والدخول إلى حياة المسيح وفكره، وبالتالي إلى الاتحاد به وحق الدخول به إلى الملكوت.
كما أخذت الكنيسة بثقة معنى نزول الروح القدس على المسيح وهو في ماء الأُردن، أنه لتقديس الماء وتحوُّله عنصرياً إلى ماء حي ومحيي له قوة ولودة تطبيقاً عملياً لما قاله المسيح: » مولودين من الماء
والروح «كحق لدخول ملكوت الله (يو 5:3) – على غرار التحوُّل والإحياء العنصري للخبز والخمر بصلاة الاستدعاء أيضاً من أجل التحوُّل والإحياء العنصري للإنسان نفسه ليصير خليقة روحية جديدة روحانية، وبالتالي لبدء فهم التحوُّل المزمع أن يكون للمادة وللعالم كله ليقبل خلقته الروحية الجديدة في المسيح والإنسان الجديد. وبهذا يمكننا أن نفهم أن عماد المسيح في مياه الأُردن كان المدخل الإلهي الرسمي، العلني والسرِّي والمستيكي لدخول العالم والإنسان فيه إلى بدء مرحلة التغيير الروحي الكلِّي الجديد. هذا هو الذي فهمته الكنيسة لاهوتياً من قول الرب بعد القيامة وهو يرسم منهج التلمذة والعماد للعالم: » فتقدَّم يسوع وكلَّمهم قائلاً: دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض «(مت 18:28). ويعني أن كافة القوى والعناصر في السماء وعلى الأرض قد دخلت تحت خضوع سلطانه وتهيَّأت للتحوُّل المزمع أن يكون.
كان هذا بعد أن أكمل المسيح معموديته بالموت وصبغة الدم على الصليب، فأكمل معنى وعمق وامتداد معمودية الأُردن، وسلَّم الكنيسة معنى المعمودية كاملاً بشكلها الولودي وشكلها الذبائحي بالموت معاً، فأصبحت معمودية الكنيسة للحياة والموت أو بحسب ترتيب الموت والقيامة للموت والحياة، الموت للخطية والحياة لله. ولكن الموت مع المسيح والحياة مع المسيح.
وفي الحال دخلت هذه المعاني الخاصة في طقس المعمودية إلى مستواها اللاهوتي التعليمي في الكنيسة، لأن ما حدث في المعمودية كان هو أساس التعليم اللاهوتي بكل مناهجه في الكنيسة عند الرسل القديسين وعند ق. بولس وكافة الآباء. نعم، فليفهم القارئ هذا، وهو الذي دفعنا إلى كتابة هذا البحث عن المعمودية، لأن الكنيسة والشعب نسي أن ما جرى في المعمودية هو أساس اللاهوت والمعرفة اللاهوتية والروحية في الكنيسة.
فمثلاً يقول بطرس الرسول، وهو في الحقيقة يصف ما يحدث لنا في المعمودية: » فإن المسيح أيضاً تألَّم مرَّة واحدةً من أجلِ الخطايا، البارُّ مِنْ أجل الأثمةِ، لكي يقرِّبنا إلى الله، مُماتاً في الجسدِ ولكن محييً في الروحِ. «(1بط 18:3)
كما أننا نجد أن نزول الروح القدس على المسيح وهو في ماء المعمودية أثار فكر الكنيسة للرجوع إلى فلك نوح وجعله مثالاً للمعمودية كما رآه ق. بطرس: » في أيام نوحٍ، إذ كان الفُلْكُ يُبنَى، الذي فيه خَلَصَ قليلونَ، أي ثماني أنفسٍ بالماءِ. الذي مِثَالُهُ يُخلِّصُنَا نحن الآن، أي المعموديةُ «(1بط 20:3و21). ومنها وضع ق. بطرس وضعاً لاهوتياً للمعمودية أنها للخلاص!
كما يرى ق. بولس الرسول ما يحدث في المعمودية أنه حدث لاهوتي بالدرجة الأُولى: » الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته «(كو 13:1). وهي تمثيلية يُوجَّه فيها المُعمَّد إلى الاتجاه نحو الغرب رمز الظلمة وجحد الشيطان مع كل أعماله، ثمَّ الاتجاه نحو الشرق رمز النور والاعتراف بالمسيح والتعهُّد باتِّباعه.
والقديس يوحنا يعطينا في إنجيله مشاهدة عملية لخروج ماء ودم من جنب المسيح بعد أن مات على الصليب من جراء طعنة حربة بيد ضابط رئيس مائة. ويقدِّم لنا هذا الحدث باعتباره ينبوع سرّيْ المعمودية والإفخارستيا، اللذان هما السرَّان الأساسيان في الكنيسة، وبالتالي تكون الكنيسة قد خرجت ووُلِدَت من جنب المسيح كحواء التي خُلقت من جنب آدم – وهكذا سلَّمنا المسيح ماء المعمودية بموته. هذا يراه الآباء الأُول بمعنى أن معمودية المسيح بالموت وانصباغه بالدم سلَّمتنا سر معموديتنا مؤسَّسة على موت المسيح أو كشركة في موته، الذي أخذه ق. بولس وشرحه كثيراً. ومعروف أن كل العطايا والمواهب الروحية قد نالها الإنسان بموت المسيح، وأهمها غفران الخطايا، وأعظمها حق الدخول إلى ملكوت الله. كما استقرأها بولس الرسول: » إننا كل مَنْ اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدُفِنَّا معه بالمعمودية للموت. حتى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة. لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته «(رو 6: 3-5). ومنذ معمودية المسيح إن في الأُردن أو على الصليب، والماء في المعمودية أصبح يحمل معنى الموت وقوته وغلبته بآن واحد.
وبهذا نرى أن الكنيسة قد رسمت معموديتها على معمودية المسيح وعلى هذه المعطيات كلها، إنْ في معناها أو محتواها أو سلطانها وغرضها التعليمي كنبع للاهوت والليتورجيا – كما نرى اقتباس الكنيسة طقس جحد الشيطان في المعمودية من مصادمة المسيح للشيطان رسمياً وجهاراً بعد المعمودية مباشرة بتدبير الروح.
سر المعمودية وسلطان المسيح | كتب الأب متى المسكين | التسليم في تاريخ الكنيسة |
كتاب المعمودية الأصول الأولى للمسيحية | ||
المكتبة المسيحية |