لاهوت المعمودية

 من كتاب المعمودية: الأصول الأولى للمسيحية 
للأب متى المسكين

الفصل الأول
الجزء النظري
6  لاهوت المعمودية

كانت الإشارة التي ذكرها ق. لوقا في سفر الأعمال عند اختيار متياس ليكون الثاني عشر للرسل عوض الخائن يهوذا، التي تقول بالنسبة للشروط التي يختارون بها رسولاً جديداً، أن يكون قد عاصر المسيح » منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي ارتفع فيه عنَّا «(أع 22:1)، هذه الإشارة تُعد شهادة فائقة الأهمية، لأنها تكشف لحظة حرجة في تاريخ الخلاص. لأنها تشير بدورها إلى أن معمودية يوحنا للمسيح تدخل كأساس في تاريخ الفداء والخلاص. ثمَّ إذ يذكر بعدها وملتحماً فيها الصعود، يكون قد شكَّل هيكل الكرازة والمناداة بالمسيح المخلِّص. فالمعمودية والصعود هما طرفا حياة الرب، لا يمكن فصلهما. وبهذا تصبح المعمودية في نظر الرسل مؤدية إلى الصعود بالنهاية وداخلة كأساس لتاريخ الخلاص، وبآن واحد تكشف عن عمل الله الآب المقتدر في المسيح يسوع من المعمودية إلى الصعود. من هنا يبدأ لاهوت المعمودية.

وهكذا دخلت المعمودية في تعليم الرسل كأساس الكرازة Kerygma العملية، وتجذَّر طقسها في الكنيسة كبداية حياة المسيح العملية، وعليه صار فيها التشبُّه بالمسيح، وصارت المعمودية تمسك بطرف الماضي كأول الماضي وكأنه بدء سر الخلقة المسيحية الجديدة، وبطرف المستقبل في المسيح وكأنه النهاية، نهاية الخلاص والفداء وكل أعمال الله والمسيح!

وهنا يقع لاهوت المعمودية بين هذين الطرفين أو القطبين! معمودية المسيح في الأُردن وقد تكمَّلت في الموت واستُعلنت بالقيامة والصعود.

حيث تقف المعمودية كعمل إلهي فوق الطبيعة » اسمح الآن لأنه هكذا يليق بنا أن نكمِّل كل بر «(مت 15:3)، تنظر من على بُعد إلى الأخرويات التي تتوقَّف على عملها. ولكن الرب أكَّد أن هذا العمل بمواصفاته في معمودية يوحنا لن يكون هو كما هو مرَّة أخرى، ذلك بواسطة اشتراكه فيه واضعاً الحد الفاصل بين معمودية الماضي اليهودية ومعمودية المستقبل بالروح: » لأن يوحنا عمَّد بالماء وأمَّا أنتم فستتعمَّدون بالروح القدس «(أع 5:1). وهذا يعطي صورة شديدة الوضوح أن معمودية يوحنا قد بطلت وأُهملت واستُنقصت، ثمَّ صُنعت هي نفسها من جديد وبكمال فائق. فإن كانت معمودية يوحنا من السماء فالمعمودية المسيحية هي السماء: مولودين من فوق (يو 3:3).
هذا هو الكمال الذي قال عنه الرب: » يليق بنا أن نكمِّل كل برٍّ « فالمسيحية انبثقت من المعمودية بالماء، ولكن عليها الروح القدس الذي قبله المسيح لبناء المعمودية الجديدة القادمة.

ولكن ولو أن المعمودية التي جازها المسيح أخروية بمعنى الكلمة بشهادة الروح والآب وبآن واحد هي افتتاحية افتتحت سر الآتي! إلاَّ أن قول الرب: » يليق بنا أن نكمِّل كل برٍّ «كمَّله الرب على الصليب لمَّا حمل خطايا العالم، حيث أخذت المعمودية ختمها الأخير بالدم » لي صبغة (معمودية b£ptisma) أصطبغها … «(لو 50:12)، فهي ابتدأت بالماء ووضع يد النبوَّة، وانتهت بالدم ووضع يد الآب، حيث كمُل واستُعلن البرّ الذي ركَّز عليه المسيح بالنسبة للمعمودية بالماء في معمودية الموت: » ليكون باراً ويبرِّر مَنْ هو من الإيمان بيسوع «(رو 26:3). فبعد المعمودية كبداية البر كان الصليب والقيامة تكميلاً لكل برٍّ حقـًّا وفعلاً – ومن وراء الصليب والقيامة وُلِدَ الإنسان الجديد كخليقة جديدة قد عبرت الماء مع المسيح وانصبغت بالدم معه على الصليب، فتجدَّدت ولبست صورتها الأُولى الأخروية في الله. فالمعمودية بالماء للغسيل والمعمودية بالدم للتقديس، لأن الذي قُدِّم على الصليب صار ذبيحة حيَّة ناطقة للتكفير عن خطايا الشعب. فمعمودية الماء أخذت كمال صورتها السماوية وحقيقتها الإلهية بذبيحة المسيح على الصليب لتكميل قوة المعمودية وفعلها. أمَّا الانفتاح الحقيقي للإنسان المسيحي فقد تمَّ بالقيامة والصعود، ولذلك فإن المعمودية المسيحية أخذت طبيعتها الفعَّالة وإمكانياتها من صعود الرب وظهور الإنسان الجديد، لأن المعمودية هي الميلاد المسيحي الجديد للإنسان الجديد القائمة على عمل المسيح في الغفران، ولاهوتها ينبع من تاريخ المسيح وعمله ويقوم على عمل الغفران الذي أكمله المسيح ووهبه لكل مَنْ يؤمن.

فالمعمودية بناءً على ذلك تحوي فعل مغفرة الخطايا وبالتالي الدخول إلى الملكوت ونوال موهبة الروح القدس. ويجمعها كلها بولس الرسول بقوله: » إننا كل مَنْ اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدفنَّا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدَّة الحياة. «(رو 6: 3و4)

كذلك فإن غفران الخطايا في المعمودية المسيحية لا ينبع شكلاً من معمودية المسيح في الأُردن، ولكن من فعلها وجوهرها، وهما من فعل ذبيحة موته وقيامته والشركة في هذا الموت وهذه القيامة لميراث حياة جديدة.

وقد أخذ سفر الأعمال في بدايته قيمة مغفرة الخطايا في المعمودية المسيحية من مفهومها في
معمودية يوحنا التي جازها المسيح، ولكن قليلاً قليلاً استُعلن نور قيامة المسيح كبداية لحياة أبدية، فانعكس على المعمودية ليعطيها لاهوت مغفرة الخطايا بشركة الموت والقيامة مع المسيح، التي تغنَّى بها بولس الرسول في رسائله (رو 6: 3و4).

على أن معمودية يوحنا للتوبة ومغفرة الخطايا كانت في حقيقتها ومفهومها الاسخاتولوجي مدخلاً للدخول في عصر المسيَّا، وكان هذا قصد الله القدير منها. أمَّا قبول المسيح لهذه المعمودية فقد جعلها بالفعل مدخلاً إليه، وبعدها أخذت معمودية المسيح معناها من واقع استعلان بولس الرسول للدخول في العهد الجديد للمسيح والشركة والاتحاد فيه هو شخصياً بالقيامة.

أمَّا الروح القدس الذي أخذه على المعمودية فكان وكأنه نبوَّة أو إرهاصة([1]) لحلول الروح القدس على المعمودية المسيحية. فالذي أخذه المسيح على المعمودية أرسله على المعمودية! لأن كل ما أخذه المسيح أعطاه. وهكذا صار شعب الله الجديد حينما يستجيبون للإنجيل يقبلون بالتالي قوة حضور الروح القدس عندما يستجيبون لدعوة المعمودية! ولكن “كعربون” كما يقول بولس الرسول (أف 14:1)، لأن المسيح الذي أتى سيأتي ثانية.

وهكذا صار مفهوم المعمودية المسيحية وسرّها هو بعينه مفهوم سر لاهوت المسيح وشرحه من العماد حتى القيامة. وبناءً عليه أعطت الكنيسة للمعمودية سر الدخول إلى حياة الثالوث: » فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا … وأمَّا شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح «(1يو 1: 2و3). وإذ نلنا حياة وشركة مع الآب والابن صرنا بالتالي وحتمياً شركاء موت المسيح وقيامته. وهذا يعني أننا متحدون بالمسيح المصلوب والمقام في وحدة يحييها الروح القدس.

هذه الوحدة أو الاتحاد في المسيح الذي يناله المعمَّدون هي التي أعطتهم لقب “قديسين” بالاستحقاق، الذي يخاطبهم به بولس الرسول في معظم رسائله: » بولس رسول يسوع المسيح بمشيئة الله وتيموثاوس الأخ – إلى “القديسين” في كولوسي والإخوة المؤمنين في المسيح … «(كو 1:1و2)

أمَّا الاتحاد بالمسيح في المعمودية بالإيمان وتصديق الموت والقيامة والخضوع لمفاعيلها، فهذا الاتحاد نابع أصلاً، وكنتيجة له، من اتحاد ابن الله بالجسد – جسد الإنسان – اتحاداً كاملاً وكليًّا بغير
افتراق ولا امتزاج ولا تغيير. معنى هذا أنه اتحد بنا اتحاداً كليًّا، لكي بالنهاية وبعد أن نحصل على غفران خطايانا، نولد جديداً خلقة جديدة روحانية هيَّأتنا لنفس الاتحاد الذي اتحده هو بنا لكي نتحد نحن به إذ اشتركنا معه في موته وقيامته، لأن جسده هو جسدنا. علماً بأن هذا الاشتراك ليس فقط بالمعمودية، ولكنه أولاً وبالدرجة الأُولى هو اشتراك ناتج عن أنه لمَّا اتّحد بنا صرنا فيه منذ ميلاده الذي صار ميلادنا، وبعد ذلك موته الذي كان هو موتنا، ثمَّ قيامته التي كانت من أجل قيامتنا من موت الخطية لقبول حياة جديدة بحياته. فالمسيح هو الذي صنع اتحادنا فيه بنفسه وبغير إرادتنا أو استحقاقنا لأننا كنَّا أمواتاً وبلا إرادة.

وبالنهاية نقول إننا نتجاوز العقل والمعقول معاً حينما نقول إننا نتحد بجسد الرب مع أنه حاصل، ولكن هو نفسه تجاوز العقل والمعقول تماماً لما حدث أن الله الإله الرب القادر على كل شيء نزل من السماء واتحد بجسدنا. هل هذا معقول؟ وأليس هذا هو عثرة كل المعقول!! فاتحادنا بالمسيح، المسيح هو الذي صنعه أولاً لمَّا اتحد بنا! واتحادنا به الآن كغصن في كرم ولكن هناك هو كل الكرم!

وإذ نعود إلى المعمودية وهي السبب في هذه العلاقة السرِّية  الفائقة، نرى أن عمل المعمودية الإلهي السرِّي هو الذي جمعنا في جسد المسيح كأعضاء كما يقول بولس الرسول » لأننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد «(1كو 13:12)، ولكن وبالتالي يجمع المخلَّصين والمفديين جميعاً معاً فيه. وهذا هو معنى الكنيسة، المعنى السرائري الذي نمارسه في المعمودية والإفخارستيا! ويعبِّر بولس الرسول عن هذه الحقيقة بقوله: » إلى أن ننتهي جميعنا إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله. إلى إنسان كامل. إلى قياس قامة ملء المسيح! «(أف 13:4)

ولكن المعمودية وحدها لا تعطي هذا البلوغ الكامل في المسيح، ولكن هي تضع البذرة ونحن بمساعدة الروح القدس ننمِّيها لتصير شجرة هائلة، ولكن في أصلها تظل المعمودية هي البذرة الصغيرة. هذا هو لاهوت المعمودية الممتع البديع.

أمَّا وفي مستوى المعمودية لاهوتياً يبرز السؤال بخصوص عماد الأطفال: نقول إن الرجل المُعمَّد والمرأة زوجته المُعمَّدة أنجبا طفلاً فهو ملتصق بهما، فإن كانا قد صارا أعضاءً في جسد المسيح فالطفل صار نصيبه من نصيبهما. علماً بأن جسد المسيح سيتسع للطفل بالدرجة الأُولى وبالأكثر لأنه قد وُهِبَ له أن يدخل ملكوت الله، فالمعمودية تعدُّه لهذا الملكوت وتبنيه على الإيمان ليكون عكَّازه الذي يسنده في رجولته وسط هموم هذا العالم.

 

فإن كان جسد المسيح يسعه أَلاَ تسعه المعمودية؟ وإن كان المسيح سيقبله في ملكوته فهل لا تقبله الكنيسة؟

علماً بأن الطفل اليهودي يتحتَّم أن يُختتن في اليوم الثامن ليدخل في الشعب وفي عهد إبراهيم، ويكون إسرائيلياً ويرث الأرض، دون أن يعرف ما هو الختان ولا له أية إرادة فيه. فهل والمعمودية هي مثال الختانة نمنع الأطفال من الدخول في المسيح والمسيحية لميراث السموات، حتى أن أولاد الأُمم كانوا يُختَّنون ليدخلوا مع شعب إسرائيل. علماً بأننا بالإيمان بالمسيح صرنا أبناء إبراهيم ولو لم يعرفنا، وعلاقتنا بإبراهيم هي بلا نزاع من خلال مياه الأُردن التي اعتمد فيها المسيح كأنه لإبراهيم، ولا ندَّعي أن علاقتنا بإبراهيم تعطينا الفرصة أن نمارس ممارسة أبناء إسرائيل، ولكن علاقتنا بالمسيح هي التي توجب أن الأسرة كلها يلزم أن تعتمد بما فيها الأطفال ليدخلوا المسيحية وبالتالي الكنيسة، كما نقرأ ذلك بكثرة في أمثلة سفر الأعمال (أع 14:11، 15:16و33، 8:18).

فنحن نُهدي الأطفال أن تُكتب أسماؤهم في الكنيسة ليرثوا مع آبائهم حق التبني كأعضاء فيها ليكونوا أعضاءً في جسد المسيح مجَّاناً، عرفوا هذا أو لم يعرفوه. فهم حتماً سيعرفونه هنا أو هناك.

ثمَّ إن كان كما يقول النبي إرميا إن الله في العهد الجديد سيكتب فرائضه ووصاياه على قلوبنا بدل أن كانت مكتوبة على لوحي حجر، وذلك مجَّاناً؛ أفلا نكتب نحن أيضاً على قلوب أطفالنا اسم المسيح ونطبع صورته وختمه على جباههم؟ مجَّاناً!!

وإن قال المسيح: » دعوا الأولاد يأتون إليَّ ولا تمنعوهم «(مت 14:19) فهل ترفضهم الكنيسة؟ وإن كان قد وضع يديه عليهم وباركهم، ألا تضع الكنيسة يدها عليهم وتباركهم؟

إن المعمودية في كل صورها صورة دقيقة للمسيح وكل ما عمله، والدخول في المسيحية بكل تراثها إلى الكمال هو كائن ومعمول في المعمودية كبذرة تنمو، ونموها يقرِّره سلوك المُعمَّد وإرادته وأمانته للدعوة والروح القدس المتهيِّئ دائماً أن يعمل إذا طُلب. فالكنيسة بمعموديتها تعطي المعمَّد الأساس الكامل في الإيمان والعقيدة عموماً الذي يبني عليه إن كان قشًّا أو ذهباً!

([1]) إرهاصة كلمة عربية لغوية تفيد رسم المبنى على الأرض قبل تكميله.

فاصل

العلاقة بين تقليد الأسفار المقدَّسة وتقليد الكنيسة كتب الأب متى المسكين معنى “شبه موته”
كتاب المعمودية الأصول الأولى للمسيحية
المكتبة المسيحية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى