الإيمان المسيحى والثقافات البشرية

1 – ما هو دور الفكر الاجتماعى فى الكنيسة الأولى؟

الكنيسة وإن كانت لا تتدخل فى الشئون السياسية والقوانين المدنية والعسكرية والاقتصادية والمنظمات الاجتماعية، لكنها تحمل أمومة صادقة نحوكل إنسان وكل أسرة بل وكل المجتمع، وتشتهى أن تتحول الأرض إلى سماء متهللة ليست فى عوز، كما لا تحتمل أن ترى إنساناً مظلوماً أو متألماً. تود أن ترى كل إنسان فى العالم يحمل ثقة فى نفسه بالرب، له دوره الحىّ فى البشرية، يحمل فى داخله روح القيادة الجادة الملتزمة بتواضع داخلى، فى غير خمول أو شعور بالنقص.

جاء الخط الاجتماعى فى الكنيسة الأولى ليس وليد دراسات جافة وجدال عقلانى بحت، لكنه وليد تقدير حىّ للفكر الإنسانى، واعتزاز بالثقافات البشرية وتقديسها، وشركة حية مع الله محب كل البشرية. فكل أب، وكل عضو فى الكنيسة، يشتهى أن يرى العالم كله سماء جديدة متهللة، لا ينقصها شئ، وليس للظلم الاجتماعى أو الجهل الفكرى أو الأنانية وحب السلطة موضع فيه! فالخط الاجتماعى المسيحى هو حياة إنجيلية كنسية تمسّ أعماق الفكر والحواس، وتُترجم خلال السلوك والمعاملات اليومية.

2 – ما هى سمات الخط الاجتماعى فى الكتاب المقدس؟

ليس ما يشغل الناموس فى العهد القديم مثل العدالة والبرّ، فالعدالة فى الناموس تمسّ معاملات الإنسان مع الله ومع الإنسان أخيه، بل ومع الحيوانات والطيور، حتى الجمادات. إنها قوانين تفصيلية قُدمت للإنسان فى بدء حياته الروحية لتكون ناموساً له، لا يحيد عنه يميناً ولا يساراً. بدونها ليس من قبول لذبائحه وصلواته وأصوامه وعطاياه وكل عبادته. حين تحدث الأنبياء عن الفساد الذى حلّ بالإنسان لمحاربته والتوبة عنه يبدأون بالحديث عن التحرر من الآلم والعنف مع الاهتمام بالمحتاجين والضعفاء والذين ليس لهم من يسأل عنهم. ثم يخلطون هذا التحرر خلال التوبة بالعبادة الطاهرة النقية.

أما فى العهد الجديد فلا نجد شرائع تفصيلية خاصة بالخط الاجتماعى، لكن الله يتعامل مع المؤمن كإنسان ناضج، يهبه الفكر الحىّ والحياة الداخلية النقية، لكى يتم الأمل الاجتماعى حسب احتياج كل عصر بروح إيمانى عملى واقعى. من هنا نجد فى كتابات الآباء الأولين منذ عصر الآباء الرسوليين تطوراً فى العمل الاجتماعى، لكن بفكر إيمانى واضح غير مُتغير. فالفكر حى وثابت، لكنه يتكيف تطوراً فى العمل الاجتماعى، لكن بفكر إيمانى واضح غير مُتغير. فالفكر حىّ وثابت، لكنه يتكيف حسب احتياجات العصر.

يصعب علينا ان نُحدد الخط الاجتماعى للكنيسة الأولى كما لو كان فى معزل عن الخط الروحى أو الثقافى أو غيره. إنما هو خط واحد متكامل، وخبرة حياة مُعاشة. لقد جاءت كتابات الكنيسة الأولى المُبكرة تكشف عن هذه الوحدة فى الحياة، فليس من فصل بين الحياة الروحية الشخصية الخفية والحياة الكنسية الجماعية الملتهبة بالروح. وليس من فصل بين علاقة المسيحى مع الله علاقته بإخوته بنى البشر عامة والمؤمنين خاصة. وليس من عزل بين نموه الروحى واهتمامه بنموه الدراسى، ولا بين تقديس النفس وتقديس العقل، وأيضاً الجسد والحواس والعواطف! لهذا عندما نحاول تسجيل الخط الاجتماعى عند آباء الكنيسة الأولى يليق بنا ألا نعزله عن بقية جوانب الحياة ككل!

3 – ما هو منهج الكنيسة الأولى وثلاثية trilogyالقديس إكليمنضس السكندرى؟

يُعرف القديس إكليمنضس بثالوثه المشهور أو أعماله الكتابية الثلاثة الرئيسية، وهى: نصح لليونانيين Protrepticus، والمُعلم أو المربى Paedagogus، والمتفرقات Stromata. يكشف هذا الثالوث عن منهج الدراسة فى مدرسة الإسكندرية الأولى. وكما يقول Osborn: إن مشكلة العلاقة بين هذه الأعمال الثلاثة الكبرى قد جذبت الانتباه بطريقة ملحوظة فى الخمسين سنة الأخيرة[98]. ويقول Swete: “ربما ليس فى كل الأدب الأولى أكثر جاذبية للقارئ الحديث مثل ثالوث (إكليمنضس) العظيم فى تدريج التعليم فى حياة المسيحية… ومفهوم إكليمنضس للمسيحية فى علاقتها بكل ميادين الفكر البشرى، الأمر الذى له قيمته فى أيامنا… ونفعه متزايد فى العصر الحاضر[99].

يرى القديس إكليمنضس أن خطة الله نحو البشرية تأخذ ثلاث مراحل وهى تطابق كتبه الثلاثة[100]:

أولاً: يدعو اللوغوس “كلمة الله” البشرية للخلاص من براثن الوثنية خلال الإيمان… هذا يطابق الكتاب الأول “نصح لليونانيين”. وكما يقول يوسابيوس: إنه كان مناسباً جداً لإكليمنضس أن يُوضح خسة الوثنية فقد عبّر هو خلالها لكنه هرب من وبائها.

ثانياً: تصالح حياتهم بالوصايا الأخلاقية… هذه المرحلة تُطابق كتاب “المُربى” الذى يهتم بالكثير من الوصايا السلوكية غايتها “التشبه بالله الكلمة أو المُعلم الإلهى نفسه”.

ثالثاً: فى كتابه “المتفرقات” يرفعهم إلى المعرفة الكاملة للإلهيات ليتمتعوا بالغنوسية المسيحية.

هذا العمل الثلاثى هو نصح وتقديم مشورة ثم تدريب وتقوية وأخيراً شفاء وتعليم. وكما يقول Jay: “يسعى فى ثالوثه أن يظهر كلمة الله الذى قدم استنارة لإسرائيل القديم لليونانيين أنه قد جاء الآن فى المسيح يسوع بطريقة جديدة ليُقدم معرفة الله الخلاصية لكل البشرية. إنه يناشد قارئيه أن يأخذوا المسيح مُعلماً لهم. ففى البداية ينصحهم، وبعد اهتدائهم يُدربهم بنظام مفيد ويقودهم إلى مبادئ التهذيب من الخوف إلى الرجاء، إلى الحب النزيه والمعرفة التى تطلب الآن كغاية فى ذاتها، أى معرفة الله[101]. ومن كلمات القديس نفسه [إذ يريد اللوغوس خلاصنا خطوة خطوة، يستخدم وسيلة ممتازة: أنه فى البداية يهدى، ثم يصلح، وأخيراً يُعلم[102]]. تكشف لنا كتابات القديس إكليمنضس السكندرى عن حرص الكنيسة الأولى منذ عصر مبكر على الاهتمام بكل الجوانب للحياة البشرية، سواء الخلاص من فساد الوثنية، أو التمتع بالشركة فى الحياة الجديدة العملية، كأيقونة للمُهذّب الإلهى، أو التمتع بالنمو فى معرفة الأسرار الإلهية. فالحياة وحدة واحدة، ليس من فصل بين العقيدة والعبادة والسلوك والعلم والمعرفة. بهذا لا نعزل الفكر الكنسى الاجتماعى عن كل جوانب الحياة.

4 – ما هى نظرة الإيمان المسيحى للثقافات البشرية المتباينة؟

جوهر الإيمان المسيحى كله أن الله ليس فى معزل فى السماء، خلق العالم وحركه ثم تركه للقوانين التى وضعها له كما قال أرسطو، إنما الله محب البشر. يحتل الإنسان مركزاً خاصاً فى قلبه، إن صحّ التعبير. وكما قيل بالنبى: “الرب إلهك فى وسطك… يبتهج بك فرحاً… يبتهج بك بترنم” (صف3: 17). إنه أشبه بالآم التى تحتضن طفلها الوحيد، وتُعبر عن فرحها به بالتهليل والأغانى!

تجسد كلمة الله وحلوله فى عالمنا كواحد منا، قدس أرضنا وأعمالنا وعقولنا وعواطفنا ومواهبنا وإمكانياتنا. فلا نعجب أن بظهوره بدأ التطور السريع فى التقدم، وصارت بعض الأديرة ورجال الدين علماء، يشغفون بالتقدّم المستمر دون انتظار لمكافأة. جاء مسيحنا ليُقدس العقل كما العواطف، فلا يتوقف الإنسان عن البحث والعمل، وحتى اقتحم عالم الفضاء، والتقدم التكنولوجى السريع. وسيبقى هذا التقدم مادام كلمة الله نفسه نزل ليُقدس ويُنمى، دون الاستخفاف بالحياة البشرية والفكر الإنسانى.

والآن فى اختصار شديد نُقدم صورة حية لموقف الكنيسة الأولى من الفكر الاجتماعى، وإن كان قد وُجد قلة قليلة ذات فكر ضيق أخذوا موقفاً مضاداً، لكن الكنيسة بفكرها الإنجيلى الحىّ لا تكف عن مساندة العالم فيما هو حق وللبنيان!

5 – ما هى نظرة الإيمان المسيحى للعقل البشرى؟

يُحدثنا العلامة أوريجينوس عميد مدرس الإسكندرية عن دور العقل فى حياة المؤمن، قائلاً: [كما أن العين بطبيعتها تطلب النور والبصر، والجسد برغباته الطبيعية يطلب الطعام والشراب، هكذا العقل له رغبته الطبيعية أن يعرف حق الله، ويبحث فى علل الأشياء، هذه الرغبة هى من عند الله[103]].

جاء السيد المسيح ليُقدم للعالم الخلاص، فيرفع المؤمنين إلى المجد السماوى الأبدى، فإن كان لم يلتحق بمدارس فلسفية وعلمية، لكنه قدم نظرة جديدة للإنسان، مكرماً إياه فوق كل العالم، وقدس كل ما للإنسان لكى يعمل بروح القدس والتقدم والتمتع بالحياة الفضلى. بهذا دفع البشرية نحو الاهتمام بالتقدم والمعرفة والعلم. وجاءت كنيسته تدفع العالم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة للتقدم.

لم يدخل السيد المسيح فى حوارات فلسفية (كان العلم جزء من الفلسفة)، لكنه فتح الطريق للكل كى يدرسوا ويتعلموا. على سبيل المثال كان أتباع أرسطو يرون أنه لا يمكن أن يكون الإنسان سعيداً متى كان فقيراً أو بلا شهرة أو مريضاً أو عبداً. وكانت نظرة المجتمع إلى التعليم أنه حق خاص بالشخص الحُر الغنى صاحب الجاه والقوى البنية وحده. وجاءت الكنيسة تنادى أنه ليس عبد ولا حر فى المسيح يسوع (غل3: 28)، تقدم الطوبى للمساكين والحزانى والمتألمين. جاء الإيمان المسيحى دعوة للعالم كله لكى يتمتع بالمعرفة، بل ويتشكل ويتجدد بروح الله المقدم بلا محاباة، ليصير الإنسان على صورة خالقه. بهذا قدّم التعليم المسيحى للجميع لكى يختبر المؤمن الحياة الجديدة المقدمة فى الرب، ويتمتع كل يوم بخبرة حية فى علاقته مع خالقه ومُخلّصه. لقد انفتح باب التعليم أمام الجميع، يقول العلامة أوريجينوس إن كل أسقفية صارت مدرسة.

احتل التعليم مركز الصدارة فى حياة الكنيسة جنباً إلى جنب مع الإيمان فى كتابات الكثير من آباء الكنيسة، خاصة القديس إكليمنضس السكندرى من رجال القرن الثانى. لقد سجل لنا عمله المشهورPaedagogusأى المهذب، ويعنى به السيد المسيح، الذى يبقى يُهذّب ويُدرك تلاميذه ليصيروا أيقونة له. كانت الكنيسة فى نظرة هى المدرسة، والمُربى هو السيد المسيح، الذى يرعانا ويُهذب نفوسنا. إذ يقول: [من هو المربى؟ إنه يُدعى يسوع، وأحياناً يقول عن نفسه إنه راعٍ، قائلاً: “أنا هو الراعى الصالح” (يو10: 11)… الذى يقود الأطفال إلى الخلاص، يُدعى بحق المُعلم… والتقوى التعليم، إذ هى دراسة خدمة الله، وهى المشورة الصحيحة التى تقود إلى السماء[104]]. [نتعلم منه التواضع والتدبير، وكل ما يتصف بحب الحق والصدق، ومحبة البشر، ومحبة التفوق والتقدم… يوجد طريق سخى وكريم يناسب ذلك الاختيار الذى تفرضه عذوبة الأخلاق الفاضلة، والنابعة من تعليم المسيح[105]].

6 – كيف هيأت الكنيسة العالم لفتح التعلم لكل إنسان؟

أولاً: فتح باب التعليم والخدمة للجميع. اهتم أغلب الكتاب المسيحيين بالدفاع عن تقديس حرية الإنسان. يقول العلامة أوريجينوس: [كل نفس عاقلة تمنح إرادة حُرة والقوة للاختيار[106]] كما يقول: بتوجد حرية معيبة، وعبودية تستحق المديح]، فإنه يمكننا أن نتحرر من التسيب أو نُستعبد للعدالة والحكمة والرحمة الخ[107]. فهو ينادى بالحرية الملتزمة الجادة، وكما يقول الرسول بولس: “لا تصيروا الحرية فرصة للجسد، بل بالمحبة اخدموا بعضكم بعضاً” (غل5: 13). فالحب العامل حتى للإخوة يعطى عذوبة للعبودية والخدمة وقبول الآخرين وتقديمهم فى الكرامة. يقول عن هذه العبودية: فإنى إذ كنت حراً من الجميع استعبدت نفسى للجميع لأريح الأكثرين “(1كو9: 19).

ثانياً: بث روح الفرح الداخلى الذى يُهيئ للتعلم. الدراسة والبحث والعمل المُتجدد الخلاق يحتاج إلى نفوس سوية، لا يُحطمها اليأس، ولا يفسدها الشعور بالقلق، ولا يعطلها ثقل الهم الذى يفسد بصيرة الإنسان، فيرى كل شئ من منظار مظلم، فيفقد حيويته ويحطم قدراته ومواهبه. ركز الآباء على الحياة المسبحة المُفرحة، فقد كان العالم فى حيرة إلى خبرة الفرح السماوى. جاء السيد المسيح يبث روح الفرح الداخلى فى المؤمنين به. يقول القديس إكليمنضس السكندرى: [لنأخذ نموذج حياة مخلصنا مثالاً كمنهج لأجل خلاصنا، متأملين ذلك النموذج السماوى للحياة، نهتدى به، ونتقدس، وندهن رؤوسنا، ونعطر أنفسنا بطيب الفرح الدائم الأبدى[108]].

ثالثاً: رفع نفسية الإنسان واعتزازه بقدراته فى الرب. يحتاج الإنسان إلى من يرفع من نفسه بأن الحق فى متناول يده. جاءه الحق ذاته إلى أرضه وإلى بيته، بل وإلى قلبه ليصير بالحق عاملاً للتمتع بالمعرفة فى هذا العالم والعالم العتيد. هذه الرغبة فى المعرفة والتعلم لا تتوقف قط، بل تبقى ملتهبة فى داخله، تسكب عليه بهجة داخلية دائمة. يعمل حسب موهبته وفى الحدود اللائقة بإمكانياته وظروفه، دون فصل بين جهاده فى معرفته للزمنيات وتلك التى للأبديات. إنه إنسان الله الحى الذى يصبو نحو التأمل فى الله، وإظهار الأعمال المقدسة فى إصرار لا يكل ولا ينقطع[109]]. طكت يقول: [يُعين الله الإنسان الفاضل مكرماً إياه بعنايته الفائقة… يبث فيه إذ هو موطد العزم أن يسلك الحياة الصالحة، القوة ليتمتع بالخلاص… وكما أن الطبيب يشفى الذين يتعاونون معه لاسترداد صحتهم، هكذا يهب الله الخلاص الأبدى لمن يتعاون معه لينال المعرفة والأعمال الصالحة[110]].

رابعاً: بث روح الرجاء وتحدّى المرض والشيخوخة والموت. جاء السيد المسيح إلى العالم ليهب الإنسان روح القوة لا روح الفشل (2تى1: 7). بهذا الروح يعمل الإنسان بقوة وفى تحد لكل الظروف القاسية. هذا الروح ضرورى فى حياة الراغب الحقيقى فى التعلم والتقدم والمساهمة فى العمل الخلاق يقول القديس إكليمنضس السكندرى: [لا تخف من المرض الذى يُهددك، ولا من الشيخوخة التى تجلبها السنوات عليك. فإنه حتى المرض يبطل إن تممنا إرادة الله بكل قلوبنا. إذ تعرف ذلك، عِد نفسك أن تكون قوية ضد المرض. كن شجاعاً كمحارب قوى فى الإستاد، حتى تغلب متاعبك بثبات لا يُقهر. لا تسمح لنفسك أن تكتئب بالحزن، لا بسبب مرض أو بسبب أية كارثة تحل بك[111]]. كما يقول: [يقف (الغنوصى أو صاحب المعرفة الحقيقية) ضد كل خوف وكل خطر، وليس فقط ضد الموت، بل وضد الفقر والمرض والعار[112]].

خامساً: الاعتدال فى كل سلوك. دعوة المسيحية للحياة المعتدلة فى كل شئ خاصة الأكل والشرب والملبس والمرح تسحب الإنسان من الاستعباد لهذه الأمور ليدرك سمو رسالته. فيتفرغ فكره وقلبه للعمل، فى اعتزاز بالعمل لحساب البشرية كلها، ولأجل المجد المُنتظر فى السماء! يقول القديس إكليمنضس السكندرى: [كما ان الاعتدال والبُعد عن الإسراف هما ابنا القناعة عادة، فإذا اعتاد إنسان أن يستغنى عن كل ما هو كمالى وغير ضرورى، لا يوجد انحراف أو سقوط فى الإغراءات[113]].

7 – ما هو موقف كنيسة العهد الجديد من الفلسفة والمعرفة؟

وُلدت كنيسة العهد الجديد فى عصر يمكن تلقيبه “عصر الفلسفة”. كانت كلمة “فلسفة” فى القرون الأولى تُعادل “التقدم الصناعى” فى العصور الوسطى بأوروبا، والتقدم العلمى فى القرن العشرين، والتقدم التكنولوجى فى عصرنا الحالى. فكان الحكام والقضاة وأصحاب المراكز القيادية يفتخرون بأنهم فلاسفة أو عشاق الفلسفة ورجالها، وأنهم أصحاب ثقافة عالية. أوضح الرسول بولس أن الصليب عند اليونانيين (الفلاسفة) جهالة (1كو2: 14)، لكنه فى حقيقته فلسفة إلهية فائقة. “لأن جهالة الله أحكم من الناس! وضعف الله أقوى من الناس!” (1كو1: 25). يحسبونه جهالة بسبب عجز هؤلاء الفلاسفة عن إدراك سرّ حكمة الله وفلسفته.

لم تسفه الكنيسة الفلسفة ولا المعرفة، فكثيراً ما استخدم الرسل كلمة “يعرف” ومشتقاتها فى العهد الجديد! المعرفة لا تقف فى تضاد مع الإيمان، إنما هما أختان متلازمتان، مادامت المعرفة صادقة (الحق) والإيمان حقيقى غير مُزيف.

تبقى مدرسة الإسكندرية المسيحية– أول معهد مسيحى علمى فى العالم – شاهداً عملياً فى نظرة الكنيسة الأولى المتسعة نحو الثقافة فى المجتمع:

أولاً: يشهد العلامة أوريجينوس (185 – 254) أن القديس بنتينوس مدير المدرسة (تنيح حوالى عام 190م) كسب كثيراً من الفلاسفة للإيمان المسيحى باستخدامه للفلسفة.

ثانياً: يُعتبر القديس إكليمنضس السكندرى (150 – 215) أول كاتب مسيحى قام بتزويج الإيمان مع الفلسفة، بكونهما هبة من الله، وإن كان بعض الفلاسفة أدخلوا عليها ما هو باطل. وكان القديس يلبس بلين الفلاسفة وهو يُدرس فى مدرسة إسكندرية المسيحية. آمن أنه لا توجد عداوة بين المسيحية والفلسفة. وتتلخص نظرته إلى الفلسفة فى النقاط التالية[114]:

أ. أن الفلسفة ليست عملاً من أعمال الظلمة، بل كل مذهب من مذابها يشرق عليها شعاع نور[115] من اللوغوس… ففى بداية كتابة “المتفرقات Stromata” انتقد القائلين بأن الفلسفة شرّ، ووعد أنه سيوضح خلال هذا العمل، أنها من جانب هى “عمل التدبير الإلهى[116]”. فى رأيه أن غاية الفلاسفة فى كل المدارس الفلسفية هى ذات غاية المسيحية، ألا وهى الحياة السامية، ولكن الفارق هو أن الفلاسفة لم يتمتعوا إلا بقليل من الحق، أما المسيحية فأعلنت الحق كاملاً فى المسيح[117]. الفلسفة، فى رأيه، أقل من الحق[118]، لكنها ليست بلا قيمة[119]. لهذا يرى الفلاسفة أطفالاً بقوا هكذا حتى جعلهم السيد المسيح رجالاً.

ب. لقد قال: “أقصد بالفلسفة ولا المذهب الرواقى أو الأفلاطونى أو الأبيقورى أو الأرسطاطلى، بل ما قد قيل بحق فى كل المذاهب ويُعلم مع العلم التقوى.

ج. يرى أن عناية الله لم تتجاهل أى شعب. فكما اعد الله العبرانيين بالناموس ليقودهما للسيد المسيح، هكذا استخدم الفلاسفة بالنسبة لليونانيين للبلوغ بهم إلى ذات. فى هذا يقول: [قبل مجئ الرب الإعدادى للذين ينالون الإيمان خلال البرهان… لقد أعطيت الفلسفة اليونانية مباشرة، وبطريقة بدائية إلى أن يدعوهم الرب. وكما يقول الناموس العبرانيين للمسيح (غل3: 24)، هكذا كانت الفلسفة إعداداً، تهيئ الطريق الذين يتكلمون فى المسيح[120] “].

د. أكد القديس بأمثلة عديدة أن اليونانيين قد استعاروا الكثير من العهد القديم[121]. قال إن أفلاطون انتحل آراء موسى والأنبياء، ولو أنه لم يُقدمها بطريقة صادقة. كما شبه الفلسفة اليونانية بالشريعة الموسوية، ومع ذلك فكثيراص ما أكد أن الإيمان هو أساس كل المعرفة[122]، وأعظم منها وهو الحكم عليها [123]، كما دافع عن الإيمان ضد الفلاسفة[124].

ه. إذ عرف القديس العالم بجانبيه الوثنى والمسيحى، عرف الكتابات اليونانية الكلاسيكية واللاهوت المسيحى. لهذا اعتقد أنه ليس من واجب الكنيسة ان تثبط همة الموعوظين عن متابعة دراستهم الفلسفية، إنما تستطيع الكنيسة أن تعطى مسحة مسيحية للفلسفة بثقافتها وتعليمها.

ثالثاً: قيل فى القرن الثانى وبدء القرن الثالث صار الفلاسفة مسيحيين، والمسيحيون فلاسفة، حيث كان الفلاسفة على علاقة وثيقة بعمداء مدرسة إسكندرية المسيحية وأساتذتها[125].

رابعاً: لا نعجب أن مدرسة الإسكندرية منذ بدء نشأتها، لا يقف منهجها عند الدراسات الدينية، بل تدرس علوماً كثيرة encyclopedic. هذا الموقف المشرف من قادة الفكر المسيحى فى الكنيسة الأولى يكشف كيف واجهت الكنيسة المجتمع بثقافاته وقدراته وإمكانياته، لا لتأخذ موقف المواجهة ضد المجتمع، بل تقديس ونمو وتطور كل ما هو للبنيان.

خامساً: القديس إكليمنضس السكندرى فى محاولاته لإرساء “غنوسية” مسيحية حقيقية وأصيلة وعملية، يستخدم بصفة مستمرة، مصطلح “غنوسى Gnostic” بمعنى “المؤمن الروحانى”. فهو لا يفصل بين المعرفة Gnosisوالروحانية.

فى حديث الشهيد يوستين (100 – 165م) عن الفلسفة والفلاسفة يقول: [إن كل ما علموه من حقائق يخصنا نحن المسيحيين، وذلك لأن “اللوغوس” الذى نعبده ونحبّه، والمولود من الآب، والمتجسد لأجلنا ولأجل شفائنا من آثامنا بتحمله العذابات والآلام، هو ذاته الذى أوحى إليهم بتلك الحقائق. لقد عرفوا الحقيقة، لأن اللوغوس نفسه وضع فيهم زرعه. ولكن الفارق كبير بين الحصول على هذا الزرع وبين المشاركة فيه. لهذا فإن جميع المبادئ الصحيحة التى اكتشفها الفلاسفة والمُشرعون وعبّروا عنها تعود إلى أنهم وجدوها وتأملوها جزئياً فى اللوغوس. وعندما كانوا يخطئون، فيعود ذلك إلى أنهم لم يعرفوا اللوغوس بالكلية، الذى هو المسيح. أما نحن فعرفناه وأخذنا عنه الحقيقة كاملة[126]].

8 – هل كان المسيحيون شعباً منعزلاً عن المجتمع؟

لم يكن المسيحيون شعباً منعزلاً عن المجتمع، لكنهم عاشوا فى المجتمع لهم خلفية ثقافية مُعينة، وتعليم مُعين وأصدقاء وأقرباء وجيران، لم ينفصلوا عن الثقافة التى وُلدوا فيها، والمجتمع بكل ما فيه. لقد كانوا فى العالم، لكنهم ليسوا من العالم. لهم دعووة خاصة لتقديس العالم بعمل الله بهم وفيهم. “لأن الله لم يدعنا للنجاسة، بل فى القداسة” (1تس4: 7). “بل نظير القدوس الذى دعاكم، كونوا أنتم أيضاً قديسين فى كل سيرة، لأنه مكتوب: كونوا قديسين لأنى أنا قدوس” (1بط1: 15 – 16).

جاء فى الرسالة إلى ديوغينيتس The Epistle to Diognetus والتى تُعتبر من كتابات الآباء الرسوليين، أن المسيحيين ليسوا، كما يتخيل ديوغنيتس، شعباً متقوقعاً حول ذاته، يُقيم من ذاته دولة لها لغتها الخاصة وعاداتها المستقلة، إنما الإيمان المسيحى هو انفتاح على البشرية، على خلاف اليهود. [لا وطن، ولا لغة، ولا عادات، تُميز المسيحيين عن سائر البشر. فهم لا يقطنون مدناً خاصة بهم، ولا ينفردون بلهجة مُعينة…] وأن علاقة الكنيسة بالعالم كعلاقة الروح بالجسد، مصدر حياتهم، إنها خميرة المجتمع البشرى، والنور الذى يهديه سواء السبيل. [يقيم المسيحيون فى العالم كما تقيم الروح فى الجسد. الروح منتشرة فى أعضاء الجسد انتشار المسيحيين فى مدن العالم. الروح تقيم فى الجسد، إلا أنها ليست من الجسد المنظور… الجسد يكره الروح ويقاومها، وإن لم ينله منها أذى، سوى أنها تحول دون انغماسه فى حمأة اللذات. والعالم يكره المسيحيين، لا لأنهم أساءوا إليه، بل بكونهم يتصدّون لما فيه من شهوات منحرفة فاسدة. تحب الروح الجسد الذى يبغضها، كما يحب المسيحيّون مبغضيهم. الروح سجينة الجسد، ولولاها لما كان للجسد من حياة، والمسيحيون موثقون فى سجن العالم، لولاها لا قيام ولا حياة للعالم].

9 – هل دور الإيمان نقد الثقافات أم تقديسها؟

أوضح العلامة أوريجينوس أن المسيحية لا تدين الثقافة فى المجتمع، بل تقدسها. إذ يقول: [الثقافة ليست شراً، بل بالحقيقة هى طريق للفضيلة… إنها لا تعوق معرفة الله[127]]. [يلزم توبيخ أولئك المسيحيين الذين يجدون راحتهم فى جهلهم[128]] [الحكمة الحقيقية لا تأثم، بل الجهل يخطئ. الأمر الوحيد المستقر بين كل الموجودات هى المعرفة والحق، هذا وذاك ينبعان عن الحكمة[129]].

يفضل العلامة أوريجينوس أصحاب العقول الأكثر تعقلاً وذكاءً لاستخراج أسرار الكتاب المقدس والبحث بعمق فى غوامض الإيمان[130]. تعلم القديس غريغوريوس العجائبى (213 – 270) الذى يدرس فى مدرسة أوريجينوس أن المعرفة تقود إلى الإيمان، والجهل إلى العمى، وأن من لا يدرس الفلسفة لا يقدر أن يكون تقياً[131].

لقد كسب أوريجينوس القديس غريغوريوس العجائبى وأخاه أثنيودورس Athenodorusللمسيحية من خلال ثقافة مُعلمهم وقدرته الفكرية. كان مُعلمهم يُوجه تلاميذه نحو دراسة نظريات الفلاسفة اليونانيين، أياً كانوا، ماعدا الملحدين. لم يسمح لتلاميذه أن يجهلوا الأفكار البشرية، وقد درّبهم أن يُميزوا الحق من الباطل خلال الغابات الكثيفة المملوءة أشواكاً[132].

فى عظاته على سفر الخروج يقول العلامة أوريجينوس أنه يليق بالمسيحيين أن يستخدموا الفلسفات لبناء الصرح الإيمانى، كما استخدم العبرانيون ذهب المصريين فى إنشاء خيمة الاجتماع.

فى حديث للشباب لم يمنع القديس باسيليوس الكبير القراءة للشعراء والمؤرخين والخطباء مادامت هذه القراءات نافعة. يكمل حديثه لهم قائلاً: [علينا أن نبتدئ بقراءة الفكر الدنيوى لنرتفع بعده إلى المقدسات وأسرار الإيمان… فإذا كان هناك من موافقة بين هذه الثقافة وعقائدنا، كانت معرفتها من الإفادة بمكان كبير، وإلا فالمقارنة فى الحالة العكسية من شانها ان تثبت اعتقاداتنا الصحيحة[133]].

10 – هل قامت المسيحية فى عصر الآباء الأولين على الإبداع الأدبى؟

لم يقم الإيمان المسيحى على الإبداع الأدبى، لكنه يُقدّس كل ما هو مُبدع. شجع القادة والشعب على استخدام موهبة الإبداع الأدبى. كمثال الشهيد كبريانوس الذى كان قبل الإيمان خطيباً فصيحاً لم يُحطم ما تمتع به من بلاغة، لكن الإيمان أعطى لبلاغته عذوبة خاصة سندته فى رعايته للشعب سواء خلال الكلمة المقولة أو المكتوبة. لقد اقتدت الكنيسة بالأنبياء والرسل الذين كتبوا بلغة عصرهم، غير مُستخفّين بالثقافة التى كانت تسود فى أيام كل واحد منهم[134].

ما قلناه بخصوص الإبداع الأدبى واللغوى وتقديسه لحساب بنيان الجماعة فى تناغم وتناسق مع الإيمان الحى العملى، نقوله أيضاً بخصوص الفنون. لقد نجحت الكنيسة الأولى فى تقديس الفنون للعمل معاً على التهاب القلب بالحب الإلهى وطلب السماويات فى غير استخفاف بالفنون. وُجدت فى مصر ورقة بردى تحوى لحنا مسيحياً بموسيقى[135]. كما نعرف عن الأسقف المصرى نيبوس Neposأنه وضع الكثير من التسابيح والمزامير التى كان المؤمنون يتغنون بها بلذة فى أيام البابا ديونسيوس السكندرى (190 – 265).

11 – ما هو موقف الكنيسة الأولى من المسارح والملاعب واستخدام أكاليل الزهور؟

كانت المسارح والملاعب تُستخدم عادة للاحتفالات الخاصة بالآلهة الوثنية أو بالإمبراطور كإله، وكان لها طقوسها الخاصة، مثل إنارة مشاعل ووضع أكاليل من الزهور على رؤوسهم. وقد اضطر البعض، بسبب البسطاء أو الضعفاء فى الإيمان، رفض استخدام الزهور، ليس لأنها دنسة، ولكن لأنها ارتبطت بعبادة الشيطان والأوثان. مع هذا يقول الشهيد يوستين (110 – 165): [كل شئ يُولد كعطية الله التى لا تُنتهك حرمتها، لا يُمكن انتهاكها بعمل بشرى (حتى وإن استخدمت فى طقوس وثنية). على أى الأحوال، نحن نمتنع عن استخدامها حتى لا يعتقد أحد اننا نخضع للشياطين الذى من أجلهم يُشرب الخمر، أو أننا نخجل من يانتنا. بالتأكيد زهور الربيع مُبهجة لنا، فإننا نختار وردة الربيع والسوسنة وغيرها من الزهور ذات الألوان المُبهجة للغاية والرائحة الذكية، ونستخدمها سواء كل منها بمفردها أو ننثر أوراقها أو ننسجها معاً كأكاليل نُزين بها رقابنا[136]].

يقول القديس إكليمنضس السكندرى: [الذين تعلّموا بواسطة اللوغوس يمتنعون عن ارتداء أكاليل (الزهور). إذ يحسبون أنه ليس من الضرورى أن يُقيدوا أذهانهم التى فى رؤوسهم، ليس لأن الإكاليل رمز لحياة السكر الجامحة، وإنما لأنها ترتبط بالوثنية[137]]. ويؤكد العلامة ترتليان (160 – 225) أن كل ما فى العالم صالح فى ذاته، حتى حجارة المسارح، وصوت المغنى والسيف والأعشاب. إنما إساءة استخدامها سواء فى المسارح وللغناء الفاحش أو القتل أو للسم هو شر[138].

كثيراً ما هاجم العلامة ترتليان فى مقاله De Spectaculis المسارح والملاعب للأسباب التالية:

1 – تُقدم فيها ذبائح بشرية استرضاء للموتى (ف12).

2 – يُقدم فيها أمور مخزية، وينطقون بألفاظ مشينة (ف22).

3 – تتم فيها جرائم قتل تحت شعار الرياضة. بهذا تُكسر وصية إلهية أساسية: لا تقتل (ف2).

4 – ممارسة العبادة الوثنية فيها (ف10).

5 – ما تدينه القوانين خارج المسارح يتم كأمر طبيعى فى المسارح (ف17).

6 – ما يتم فى المسارح لا يخنق العين كعضو للنظر فحسب، وإنما له تأثيره على الفكر، حيث يتعلم الشخص التسيب والحسد والغضب. إنه يثير العواطف ويفسدها (ف17).

يقول العلامة ترتليان إن المسيحيين “كهنة السلام”، فإن كانوا يدانون خارج المسارح، فإنهم يُدانون أيضاً داخلها، إن لم يكونوا أمناء فى دورهم كرجال سلام (ف16).

مع تحليله الأسباب التى لأجلها يرفض المسيحيون الذهاب إلى المسارح والملاعب، يقول العلامة ترتليان بأنه يجب تذكر “إن المواضع فى ذاتها لا تدنسنا، وإنما ما يُمارس فيها” (ف8).

فاصل

من كتاب: كاتيكيزم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية – جـ6 – المفاهيم المسيحية والحياة اليومية – القمص تادرس يعقوب و الشماس بيشوي بشرى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى