شبابنا والتوازن المطلوب
لعل أهم فضيلة يجدر بشبابنا أن يتحلوا بها هى فضيلة: “التوازن”… ذلك لأن عصرنا الحالي يحفل بثنائيات كثيرة، تستدعى منا أن نتخذ موقفاً متوازناً وحكيماً.
والتوازن طبعاً هو عكس التطرف، فالتطرف هو أن يركن الإنسان إلى أحد طرفى المعادلة أوالميزان، ويتجاهل وينفى الطرف الآخر، أو الكفة الأخرى من الميزان.
كما أن التوازن هو من أهم مؤشرات الصحة النفسية، كما يقول علماء النفس…
من هنا يكون لزاماً علينا أن نتعرف على بعض ثنائيات القرن الجديد، لكى نتخذ الموقف المتوازن منها، فلا نتطرف يميناً أو يساراً.. وقديماً قالوا: “الطريق الوسطى خلصت كثيرين”… كما قال سليمان الحكيم: “لا تَكُنْ بَارًّا كَثِيرًا، وَلاَ تَكُنْ حَكِيمًا بِزِيَادَةٍ. لِمَاذَا تَخْرِبُ نَفْسَكَ؟ لاَ تَكُنْ شِرِّيرًا كَثِيرًا، وَلاَ تَكُنْ جَاهِلاً.” (جا 16:7، 17).
والثنائيات التى تحتاج منا إلى توازن ما يلى:
1- بين التراث والمعاصرة:
مع النبرة المتزايدة فى اتجاه المعاصرة، وعدم الانسحاب من تيار الحياة، والجديد في التكنولوجىا، وثورة الاتصال الحديثة، ورياح الحرية، ودواعى التجديد والتغيير، ودعاوى الليبرالية والتقدمية… وكلها أمور هامة ومفيدة، لكن يحتاج شباب هذا الجيل إلى التمسك بجذور التراث والأصالة، فبدون جذور لا ينمو الساق، ولا تظهر الأوراق، ولا تشرق الأزهار، ولا نجنى الثمار.
التراث هو بمثابة الجذور، التى نستمد فيها عصارة الحياة، فالحياة لا تبدأ من فراغ، والحاضر كان جنيناً فى رحم الماضى، كما أن المستقبل هو جنين فى رحم الحاضر.
نعم، ينبغى أن تكون لنا رؤية مستقبلية، حتى أن هناك الآن علم “المستقبل” (Futurology).. ولكن التطلع إلى المستقبل ينبغى أن يبنى على مراجعة الماضى واستيعاب دروس ومعطيات التراث، السخى والهام. ومن خلال استيعابنا للكتاب المقدس، وكتابات الآباء، وأعمال المجامع المحلية والمسكونية، ودراسة التاريخ المسيحى، الكنسى والعالمى، ومن خلال دراسة التاريخ العام، والتعرف على الجذور، والهوية القومية، والكفاح الإنسانى العام (ضد العبودية مثلاً)، والكفاح الوطنى الخاص (ضد الاستعمار مثلاً).. تراث ضخم: روحى وثقافى ونفسى واجتماعى ووطنى… يجب أن نستوعبه قبل أن نحدد لأنفسنا رؤى المستقبل ومعالم الطريق.
من هنا كان لابد لنا من معهد الدراسات القبطية، والكلية الاكليريكية، والشهادات العلمية، والبحوث المتخصصة، لكى نستزيد من تراث الماضى، تحسباً لخطوات المستقبل. ولكن دون إغراق أو تحجر عند عصر معين، وكذلك دون إلغاء لمفردات ومنجزات العصر الحديث، روحياً وفكرياً وتكنولوجيا ومعلوماتياً.. فمن خلال هذا المزيج، تتضح الرؤيا، ونضمن سلامة الخطوات.
2- بين المادة والروح:
فى العالم الآن ثقافتان، المادية والروحية، وهناك خطر التطرف فى الاتجاهين، فإذا ما سيطرت الثقافة المادية، تحول الإنسان إلى سلعة، والحياة إلى صفقات، وأنحبس البشر فى “حركة التاريخ الزمنى”، وصراعات اللقمة والبترول والموارد المادية، والأرض، ونسوا أن فى داخلنا عنصر “الروح” الذى يتطلع إلى الإلهيات، والأبديات، وما وراء المادة والطبيعة والزمن والموت!!
وبالعكس، إذا انحصر الإنسان فى الروحيات وأهمل المادة، تطرف فى اتجاه آخر مضاد، فأهمل جسده، مع أن الكتاب يقول “لم يبغض أحد جسده قط، بل يقوته ويربيه” (أف 29:5)، أو يمكن أن يهمل صرخات الفقراء والمساكين، مع أن الرب يقول” طُوبَى لِلَّذِي يَنْظُرُ إِلَى الْمَِسْكِينِ. فِي يَوْمِ الشَّرِّ يُنَجِّيهِ الرَّبُّ. ” (مز 41: 1) ويقول على لسان يعقوب الرسول: “هوذا أجرة الفعلة الذين حصدوا حقولكم المبخوسة منكم تصرخ، وصياح الحصادين قد دخل إلى أذنى رب الجنود” (يع 4:5).
وهكذا نحتاج إلى التوازن بين الثقافتين: المادية والروحية، فنهتم بإشباع الروح بكلمة الله، والصلاة، والأسرار المقدسة، والقراءات والاجتماعات الروحية والأصوام، والمناسبات والأعياد الكنسية، وخدمة الفقراء والمحتاجين والمظلومين والفئات الخاصة: كالمعوقين بديناً أو ذهينا، والمكفوفين، والصم والبكم.. الخ. وكذلك نهتم بإشباع الجسد: بالدراسة والعلم والعمل وإنماء الدخل وتكوين أسرة مقدسة مسيحىة، وحياة معيشية معقولة… كذلك بالأهتمام والالتزام بالعمل المجتمعى الوطنى والعام، فنحيا جزء من هذا الوطن، وعلينا دور، وعندنا رسالة، وأمامنا جهد مطلوب من أجل بناء الإنسان عموماً فى كل بقاع الأرض.
هذا الاهتمام المتوازن مطلوب، بين المادة والروح، فالرب الذى مكث مع الشعب ثلاثة أيام يعلمهم بكلمة الله، حينما جاع الشعب، قال للتلاميذ: “أعطوهم أنتم ليأكلوا” (مت16:14)، وهكذا اهتم بالروح والجسد معاً.
ونحن نؤمن أنه كما شارك الجسد الروح فى الخطية وفى آلام هذا الزمان، سنقوم بجسد روحانى، حتى يشترك مع الروح فى أمجاد الملكوت العتيد.
3- بين الإنسان والآلة:
مع صيحة التحديث والميكنة، هناك خطر داهم على حياة الإنسان، فسوف تقوم الماكينة بعمل مجموعة ضخمة من العمال، مما يهدد بتزايد معدلات البطالة، حتى فى العالم المتقدم صناعياً وتكنولوجياً. وهذه ملاحظة ماثلة للعيان، فالدول الصناعية المتقدمة حّدثت، صناعاتها، وهكذا استغنت عن عدد كبير من العمال، كما أنها هاجرت بماكيناتها إلى دول العالم الثالث حيث العمالة الرخيصة، فازدادت مشكلة البطالة سوءاً. وأصبحنا نسمع عن “إعادة التدريب” حتى يتعلم من كان يعمل فى صناعة ما، وسائل جديدة لصناعات أخرى مطلوبة… وكذلك بدأنا نسمع عن “المشاريع ذات العمالة الكثيفة” وعن “البعد الإنسانى فى التصنيع”… وهى كلها محاولات جيدة، ولكنها لا تلغى وجود مشكلة خطيرة، أن الآلة حلت محل الإنسان، فى مواقع كثيرة، وبأعداد كبيرة.
توازن آخر مطلوب، كيف نستمر فى التقدم التكنولوجى، ونجد فرصاً جديدة لعمالة الأجيال الصاعدة؟! لعل هناك من يبحث الآن عن مخرج لهذه المشكلة، التى بدأت تنعكس خطورتها على الفرد والأسرة والمجتمع.
4- بين الزمن والأبدية:
من أخطر مشاكل العصر الانحباس والأنحصار فى الزمن، أى فى الحياة الأرضية، بعد أن تعقدت مشاكلها، وتشعبت مسالكها، وصارت عبئا ثقيلاً على الإنسان، أنساه البعد الأبدى والأخروى فى حياته. فإن كانت حياتنا الأرضية محدودة، فحياتنا الأبدية غير محدودة، وإن كانت حياتنا تشبه كتاباً فالزمن هو المقدمة، والأبدية هى المتن!!
وما أخطر أن يركز الإنسان فى حياته الأرضية فقط، ويتجاهل أبديته اللامتناهية!! “فماذا ينتفع الإنسان، لو ربح العالم كله، وخسر نفسه” (مت 26:16)، وما الفائدة من أن يكتنز الإنسان الكثير من مقتنيات هذا الزمان، وينس اللؤلؤة كثيرة الثمن؟!
توازن آخر مطلوب من شباب هذا العصر، أن يهتموا بتكوين أنفسهم زمنياً، لكن دون أن يهملوا فى تكوين أنفسهم أخروياً!! فقلب الإنسان المثلث، لو وضعنا فيه حتى الكرة الأرضية، فستبقى زوايا المثلث فارغة، ولن يشبع قلب الإنسان المثلث، إلا الله مثلث الأقانيم.
الإنسان بئر من الرغبات – كما يقول باسكال – وهذه الرغبات المستمرة، لا يشبعها إلا غير المحدود، الله اللامتناهى!! فالإنسان فيه “عطش مطلق”، “وجوع مطلق”، ولا يشبعه ولا يرويه إلا الله غير المحدود!! وتعالوا نتذكر السامرية، وبئر يعقوب، وماء الحياة، الذى من يشرب منه “لا يعطش إلى الأبد بل الماء الذى أعطيه، يصير فيه ينبوع ماء، ينبع إلى حياة أبدية” (يو 14:4).
5- بين القداسة والعدالة الاجتماعية:
يتحدث العالم الآن عن العدالة الاجتماعية، حتى قيل أن القرن الجديد سيكون “قرن حقوق الإنسان”، وهذا شئ طيب… ومنظمات حقوق الإنسان انتشرت فى كل مكان، تراقب وتحاسب وتطالب، وتكشف نواحى الظلم والقمع والتمييز، الدينى أو الثقافى أو العرقى… وترفض أن يكون هناك سجناء رأى، وتفتش عن من يعيشون تحت خط الفقر، أو فى مجاعات أو أوبئة أو فى هجرة جماعية نتيجة الحروب أو المظالم… أو عن أطفال الشوارع، وعمالة الأطفال، أو العنف ضد المرأة، إلى غير ذلك من أمور هامة فعلاً.
لكن الخطر يكمن عند الاكتفاء بالعدالة الاجتماعية، وعدم الالتفات إلى أهمية القداسة، التى بدونها “لن ير أحد الرب” (عب 14:12). القداسة أصبحت عملة صعبة، والحديث عنها أصبح حديث الأمانى والأساطير، بينما الحقيقة أن القداسة هى الضمان الحقيقى لسعادة الإنسان: زمنياً وأبدياً، بدنياً وروحياً، شخصياً وأسرياً واجتماعياً!!
خطر كبير هذا الانحلال الخلقى، والفساد الوظيفى، وقبول الرشاوى، والانفلات الجنسى، والبلطجة، والتحايل على القانون… هذا كله خطر على الفرد، والأسرة، والمجتمع… بينما تربية ضمير حى يقظ، وإنسان روحانى مقدس، يراعى الله فى كل تصرفاته وعلاقاته وطموحاته، ويهتم بخلاص نفسه، أمر هام للغاية، سواء فى المصير الزمنى أو الأبدى.
القداسة
1- مكسب للروح… حين تشبع بالله.
2- ومكسب للذهن… حين تستنير بنوره.
3- ومكسب للنفس… حينما تنضبط غرائزها بالجهاد والنعمة.
4- ومكسب للبدن… حينما يبتعد عن التدخين والخمور والمخدرات والنجاسة بأمراضها الخطيرة…
5- ومكسب للعلاقات… حينما تنجح بالمحبة!!
بينما النجاسة تدمير شامل للإنسان، بكل مكوناته!! لذلك فهناك توازن مطلوب، بين خدمة الجسد والزمن والمادة، من خلال حقوق الإنسان والعدالة الإجتماعية، وبين خدمة الروح والخلود والأبدية، من خلال التدين السليم!!
6- بين التفرد والمرجعية:
معروف أن هناك حاجات نفسية داخل الطبيعة البشرية، لابد من إشباعها، كالحاجة إلى الحب، والأمن، والإنتماء، والتقدير، والنجاح، تحقيق الذات… ومن بين هذه الحاجات: الحاجة إلى التفرد، والحاجة إلى المرجعية. وهاتان الحاجتان تتكاملان، ومن الخطر الركون عند إحداهما وإهمال الأخرى. فالحاجة إلى التفرد تعنى حاجة كل إنسان إلى أن تكون له خصوصية إسهاماته ودوره المتميز فى الجماعة التى ينتمى إليها، فهو يرفض بطبيعته أن يكون مجرد ترس فى آلة، أو قطعة غيار فى ماكينة!! الإنسان كائن حىّ، مريد، عاقل، له مواهبه وتفرده وجوهره الخاص، وينبغى أن يعطيه المجتمع: الأسرى أو الكنسى أو العام، فرصة إظهار مواهبه وطاقاته الكامنة وخصوصيته المتميزة. ولعل هذا هو الفرق الجوهرى بين الشيوعية والاشتراكية من جهة، والرأسمالية من جهة أخرى، فبينما النظام الشمولى يقمع الإنسان لصالح الجماعة، فيصير مجرد ترس فى آلة الإنتاج الضخمة، كانت الرأسمالية تنمى. الحافز الفردى الأدبى والفكرى والدينى والاقتصادى والإبداعى والإنتاجى، مما أبرز الكثير من المواهب، وفجرَّ العديد من الطاقات.
غير أن التوازن المطلوب الآن هو بين أن نعطى الفرد فرصة الإبداع، ولكن لابد من مرجعية له، حتى لا يحدث شطط… فالفرد جزء من مجموع، وفى المسيحية الإنسان المؤمن عضو فى جسد، ولا يستطيع أن يكون فرداً مستقلاً بذاته، بل هو عضو يتكامل من خلاله الجسد، ولا حياة له خارج الجسد. وهذا ما نسميه “المرجعية”، بمعنى أنه يدرس الكتاب المقدس ويتأمل فيه، ولكن لا يصح أن يفسره من عندياته وحده، دون الرجوع إلى مراجع لا حصر لها، حتى لا يبدأ من فراغ أو يسقط فى هرطقة أو بدعة.
حتى فى الخدمة أو أى عمل دينى، لابد من أب الاعتراف، وأمين الخدمة، ورأى الجماعة التى ينتمى إليه، ومباركة القيادة الكنسية، حتى لا يكتفى بفكره الشخصى، فالمسيحية لم تبدأ به، أو تنتهى إليه، وعليه أن يراجع نفسه من خلال الجماعة.
هكذا أوصى الله بولس عملاق الكرازة بأن يعرض عمله وكرازته على بطرس ويعقوب ويوحنا، ونال منهم يمين الشركة (غل 1:2-10).
توازن مطلوب، لا يصح أن يختل، بين الفرد والجماعة، العضو والجسد، التفرد والمرجعية!!
7- بين الحرية والالتزام:
الحرية هى سمة هذه الأيام، ورياح التحرير تهب على كل مكان. والله يحب أن نكون أحراراً، وقد خلقنا كذلك، ولكنه يحب أن نحيا الحرية الحقيقية، وليس الحرية الوهمية، التى هى فى حقيقتها حضيض العبودية، لأن “كل من يعمل الخطية، هو عبد للخطية” (يو 34:8).
خلق الله الإنسان حراً، وترك له فرصة الاختيار بين أن يتبع الله أو يتبع الشيطان واختار الإنسان الخطية والعصيان، فحلت عليه عقوبة “موتاً تموت” (تك 17:2)، “لأن أجرة الخطية هى موت” (رو 23:6)، لكن الرب هو الذى احتمل العقوبة، ودفع الدين عنا، ومات فداءً لنا. إن حرية الإنسان كلفت الله الكثير، والكثير جداً، فقد تجسد، ورفض من شعبه، وتألم كثيراً، ثم صلب عنا، وقام لتبريرنا، وصعد كباكورة لنا، لنصعد معه وإليه فى النهاية، ونقضى – بمحض اختيارنا – الأبدية السعيدة معه.
غير أنه لا توجد حرية مطلقة، فهذا وهم مدمر، وكما يقولون: “حريتك تنتهى عند طرف أنفك”، أى أنها تنتهى عندما تبدأ حرية غيرك، وعليك ن لا تتدخل فى حريته. أنت حرّ أن تقتنى سيارة، وأن تتحرك بها، لكن لابد أن تلتزم بقواعد وقوانين المرور، إلا تعرضت للخطر، وعرضت الآخرين معك. وأنت حرّ أن تزور صديقك، ولكنك لست حراً أن تتلصص على محتويات أدراج مكتبه، بدعوى أن هذه غريزة الاستطلاع. كذلك أنت حرّ أن تأكل، ولكن دون أن تؤذى نفسك بكمية أو أنواع الأطعمة التى تأكلها.
لذلك يجب الموازنة بين الحرية والالتزام!! وها نحن نرى أمامنا نتيجة انفلات الحرية الجنسية فى الغرب، وكيف أدمنوا الخطيئة والدنس، فلم يستطيعوا أن يتحرروا من ذلك بعد الزواج، فكانت الزيجات المتعثرة، والأسر المفككة، والأولاد المشردين المتعبين نفسياً!!
إن الحرية المنفلتة نحو الجنس، قادهم إلى الإدمان، ثم إلى المخدرات، ثم إلى الجريمة.. لكن “أن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً” (يو 36:8).
لهذا لابد من حرية ملتزمة لها ضوابطها مثل:
1- الله.. النور الأعظم والخير اللانهائى.
2- الإنجيل.. حيث الوصايا ودستور الحياة اليومية.
3- الضمير.. صوت الله داخل الإنسان.
4- أب الاعتراف.. حيث الحلّ من الخطايا والحلّ للمشاكل.
5- قوانين الدولة.. حيث أوصانا الكتاب بطاعتها، مهما تغيَّرت من آن لآخر .
8- بين العلم والإيمان:
لا تعارض بين العلم الكامل والإيمان الحقيقى.. وحينما سألوا اسحق نيوتن، بعد اكتشافاته المذهلة لقوانين الطبيعة، قال لهم: “كنت كطفل صغير، يلهو على شاطئ محيط ضخم”.. أما اينشتاين، صاحب النظرية النسبية، فقال: “كلما ازددت علماً، ازددت إحساساً بالجهالة”.. ذلك لأنه إن درس شيئاً وأدرك تفصيلاته، فوجئ بجديد يحتاج إلى بحث!!
إن جسم الإنسان يحتوى على 60 مليار خلية، وكل خلية عليها الشفرة الوراثية الخاصة بالشخص، وتحتوى على 100.000 عنصر وراثى.
وها نحن نتعرف على الفيمتو/ثانية وهو جزء من مليون بليون من الثانية، حسب تحديد واكتشاف د. أحمد زويل، فى بحثه حول أشعة الليزر.
وهناك كوكب جديد يتم اكتشافه حالياً ضمن المجموعة الشمسية، حجمه جبار، لم يصلنا ضوؤه سوى هذه الأيام.
نعم.. العلم الحقيقى يمجد الله، سواء فى سماء الفلك، أو محيط الطيور والحيوانات والكائنات البحرية، أو عالم النبات.. فكم بالحرى عالم الإنسان، تاج الخليقة وكاهنها؟!
لهذا فهناك توازن مطلوب بين العلم والإيمان، فالعلم يبحث فى دائرة الحسَّيات، والإيمان يبحث فى دائرة الماورائيات.. ماذا وراء المادة؟ والطبيعة؟ والحياة؟ والكون؟ والموت؟
ومشكلة بعض الباحثين سرعة القفز إلى نتائج غير سليمة، مثلما حدث فى نظرية دارون “النشوء والارتقاء.. والانتخاب الطبيعى”، وكيف وجد دارون نفسه أمام سؤالين غاية فى الصعوبة هما:
1- كيف جاءت الخلية الأولى الحية؟ 2- ماذا عن الفجوة الجبارة بين الغوريلا والإنسان؟
لم يستطع دارون الإجابة، ولكننا “بالإيمان نفهم أن العالمين أتقنت بكلمة الله، حتى لم يتكون ما يرى مما هو ظاهر” (عب 3:11).
نعم بالإيمان نفهم:
1- أن الله هو أصل الوجود وواهب الحياة للخلية الأولى ولكل الكائنات الحية.
2- أن الله صنع الإنسان على صورته ومثاله، ونفخ فيه روحاً عاقلة، ليست موجودة فى الحيوانات. وإن تشابهت الأعضاء الجسمية بين الإنسان والحيوان فهذا دليل آخر على وحدة الصانع، الذى خلقهما معاً، وترك بصمة فى كل منهما. لماذا لا نتشابه فى بعض الأجهزة الدورية والعصبية والجنسية.. الخ، ما دامت الوظائف متشابهة، والخالق واحد؟!
لكن هناك فرق شاسع بين الإنسان صاحب الروح العاقلة، والمتجاوز لذاته والمتطلع إلى المطلق واللانهائى، والذى سيخضع للثواب والعقاب بسبب صوت الله فى داخله، والروح العاقلة التى يتميز بها.. فرق شاسع بينه وبين الحيوان الذى نفسه فى دمه، يموت فينتهى كل شئ!!
إن كانت العين المجردة ترى لمسافة محدودة، وتحتاج إلى التلسكوب لترى الأجسام البعيدة.. كذلك لعقل الإنسانى المحدود، يدرك المحدودات، ويحتاج إلى الإيمان، عطية الله، ليتعرف على غير المحدود.
“الإنسان الطبيعى لا يقبل ما لروح الله، لأنه عنده جهالة.. أما الروحى فيحكم فى كل شئ” (1كو 14:2،15).
9- بين الانتماء العولمة:
هناك توازن مطلوب فى هذا المجال، فالعولمة – رغم كل ما ستحمله لنا من سلبيات – فيها إيجابيات كثيرة وهامة. والإنسان المسيحى، شعاره المستمر هو “امتحنوا كل شئ، وتمسكوا بالحسن”.
العولمة معناها ببساطة أن العالم كله أصبح كتلة واحدة أو سبيكة واحدة، من حيث ثورة المعلومات والاتصال، فلم يعد ما يحدث فى قرية صغيرة فى أى دولة، خافياً عن الأعلام العالمى. لذلك أصبحنا نسمع الآن عن “القرية العالمية”، أو عن “الحجرة العالمية” بمعنى أن العالم أصبح مثل قرية صغيرة، أو حتى حجرة صغيرة، تستطيع أن تحّس بكل ما يجرى فيها، فى ثوان معدودات، ليس فقط بعد أن يقع الحدث، ولكن فى أثناء وقوعه فى كثير من الأحيان.
العولمة (Globalisation) – إذن – هى التأثير والتأثر المتبادلان بين أصغر بقعة فى العالم، والعالم كله، سواء على المستوى السياسى أو الاقتصادى أو الثقافى. أى حادث إرهابى فى قرية، سيذاع فوراً على شبكات الاتصال التليفزيونى (CNN) أو شبكة الانترنيت، ويمكن أن تكون له ردود فعل على مسطح العالم كله. لذلك سوف يستحيل على أى دولة أو جزء من دولة أن تتخذ أى قرار سياسى بمعزل عن التأثيرات العالمية المصاحبة والتابعة لهذا القرار. ذلك ما شاهدناه فى كوسوفو وتيمور الشرقية.
وعلى المستوى الاقتصادى هناك اتفاقية الجات، التى ستفتح الحدود بين الدول، وتلغى حواجز الجمارك، بحيث سنضطر أن نفتح الباب لسلع مستوردة، عندنا مثيل لها، لكن الشركات الدولية العملاقة، سوف تستطيع إغراق الأسواق المحلية، بمنتجاتها الأفضل والأرخص – ولو مؤقتاً – مما سيدمر الناتج المحلى.. وبعد ذلك ترتفع الأسعار فى احتكار خطير!! ماذا عن مصانعنا؟ وعمالنا؟ ومنتجاتنا؟ وتصديرنا؟… أمور ستصبح عسيرة، وفيها سوف نجد التحدى الواضح، الذى يجبرنا على تحسين منتجاتنا، وضبط أسعارها بحكمة، وإلا أكلها أخطبوط الجات.
وعلى المجال الثقافى، سوف تسود “ثقافة كوكبية”، من خلال شبكات البث والانترنيت، وتحمل إلينا ملامح أسلوب الحياة الأمريكية، الذى كثيراً ما يختلف عن أسلوب حياتنا، وتقاليدنا، ومبادئنا.. سواء من جهة الأخلاق أو حتى من جهة المأكولات والمشروبات والملابس…
وحتى على المجال القومى والوطنى، هناك خطر ذوبان الهوية الوطنية،داخل فيضان الهويات الأخرى، أو الأسلوب الغربى.. فلا يعود شبابنا معتداً بمصريته، فخوراً بتاريخه وحضارته وجذوره، ويذوب فى أساليب وأنماط الحياة الغربية.
نعم.. هناك مخاطر.. مما يستدعى تأصيل أجيالنا الشابة روحياً، ودينياً، وعقائدياً، وسلوكياً، ووطنياً، حتى نواجه هذا الوافد الطاغى. وبالطبع لا نقصد أن نصم آذاننا عما يحدث حولنا، أو نحاول فرض القيود على شبكات البث، فهذا ضرب من المستحيل، بل علينا أن نعود شبابنا بعد أن نؤصله روحياً وثقافياً – أن يختار الصالح من كل منجزات التكنولوجيا والاتصال، ويرفض الردئ فيها.
وما أكثر الصالح فى التكنولوجيا، وها نحن نرى الكومبيوتر يدخل إلى مدارسنا وكنائسنا وبيوتنا، ويستحيل أن نتخلف عن هذه الثورة، لنحيا فى عزلة عن العالم، بل المطلوب هو التوازن والتفاعل مع الثورة الجديدة، وتربية ضمائر شبابنا ليختار الصالح، ويرفض الشرير.
10- بين الأنا والآخر:
توازن آخر نختتم به هذه السلسلة، بين الأنا والآخر. فما دام العالم قد صار قرية صغيرة، والتداخل والتواصل والتفاعل والتكامل، أموراً لابد من معايشتها، إذن، فهناك ضرورة للتعامل مع الآخر بروح طيبة.. ونقصد بالآخر المختلف عنا دينياً أو ثقافياً أو اجتماعياً.. ليس فقط بسبب التداخل العالمى، ولكن بسبب الفهم السليم للدين والحياة.
والآخر ليس عدواً، بل هو أخى فى الإنسانية.. فنحن جميعاً أسرة إنسانية واحدة، جاءت من أب واحد هو آدم، وأم واحدة هى حواء. وجميع البشر خلقوا على صورة الله ومثاله، وفيهم بصمة القدير، وصوت الضمير، وأشواق الخير.
المسيحى يرى فى نفسه:
نوراً.. يجب أن ينتشر فى العالم،
وملحاً.. يجب أن يملح الأرض بالطهارة،
وسفيراً.. ينقل صورة المسيح للكل،
ورسالة.. يقرأها جميع الناس،
ورائحة ذكية.. يسعد بها الآخرون،
وخميرة صغيرة.. تخمر العجين كله.
والمسيحى يرى فى الآخر:
أنه أخ فى الإنسانية،
أو أخ فى الوطن،
أو أخ فى الحياة اليومية،
أو مسيح صغير.. فالكل خلقوا على صورة الله…
والكل مدعون إلى العودة إلى الصورة الإلهية التى خلقوا عليها، وذلك من خلال عمل الفداء والروح القدس.
ففى أعماق كل إنسان، هناك نور داخلى، أو قبس إلهى، يحتاج أن نزيح عنه السواد، ليشرق من جديد.
والصحة النفسية، لها مؤشرات كثيرة، من ضمنها: قبول الذات، وقبول الآخر.. بمعنى أن يقنع الإنسان بعطايا الله له، ويطلب المزيد.. وأن يحب الآخر مهما كانت ضعفاته، لأنه هو أيضاً غير خالٍ من الضعفات.
المسيحية تعلمنا تفاعل الحب، ونشر الخير، وتقديم الخدمة، وتوصينا: “ليكون تقدمك ظاهراً فى كل شئ” (1تى 15:4)، “ليروا (الناس) أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذى فى السموات” (مت 16:5).
فليعطنا الرب نعمة ومعونة لنحيا هذه التوازنات المطلوبة فى القرن الجديد، شهادة لمسيحنا، واهتماماً بخلاصنا، وصولاً إلى أبديتنا السعيدة المرتجاه.