الإيمان المسيحى والعلاقات الاجتماعية والأسرية
1 – ما هو مدى علاقة المؤمن بأسرته وبإخوته فى البشرية؟
إيماننا المسيحى الخالص دعوة للتمتع بما فقدناه بسبب الخطاية، ألا وهو أن يعود فيصير أيقونة لله محب البشر. يحمل كل البشرية فى قلبه، حتى وإن كان متوحداً فى مغارة بالبرية، أو سائحاً لا يرى وجه إنسان إلى سنوات، ويترجم هذا الحب بصلواته المستمرة من أجل خلاص كل إنسان فى العالم وتمتع الكل بالسلام الداخلى السماوى، ولا يكف عن أن يمارس أصوامه ومطانياته من أجل الجميع، كما يعلن عن ذلك الحب فى سلوكه حسبما استطاع.
2 – هل من ضرورة للعلاقات الاجتماعية؟
لا يمكن للكنيسة كما للمؤمن كعضو حىّ فيها أن يأخذ موقفاً سلبياً أو اللامبالاة بإخوته، لأن الإنسان بطبعه اجتماعى، والإيمان يردّنا إلى حالتنا الأصلية كصورة لله محب البشر. فالصداقة والعمل المشترك والاهتمام بالعمل الاجتماعى، هذا كله يصدر لا على مجرد عواطف بشرية متغيرة، وإنما على أساس الحب الصادق، كعطية إلهية. فالإنسان لا يقدر أن يتمتع بأبديته وهو فى لامبالاة بإخوته. يقول القديس باسيليوس الكبير: [إنى أعرف جيداً إننى محتاج إلى مساعدة كل واحد من الإخوة أكثر مما تحتاج اليد إلى اليد الأخرى. فالرب يُعلمنا من خلال تكويننا الجسدى ضرورة الصحبة. وعندما أنظر إلى أطرافى، وأرى كل منها لا يستطيع أن يكتفى بذاته، كيف أعتبر أننى قادر على تنفيذ واجبات الحياة بنفسى (وحدى)؟ لا تستطيع إحدى القدمين أن تمشى بمفردها دون مساعدة القدم الأخرى. ولا تستطيع العين الواحدة أن ترى جيداً دون مساعدة الأخرى، التى تنظر إلى الأشياء فى اتحاد معها… يقول الرب إنه يكون فى وسط اثنتين أو ثلاثة يدعونه وهم فى اتفاق (مت18: 20) [237]].
3 – ما هى الدوافع التى لهذه العلاقات الإيجابية؟
أولاً: تقديم الحب كما للمسيح نفسه. كشف المسيحيون عن حُبهم للبشرية حتى لمضطهديهم. إيجابية الكنيسة سواء على المستوى الفردى أو الجماعى، فى خدمة الجميع، أعطاهم القدرة على كسب غير المؤمنين إلى الإيمان، وتحدّى الكثيرين للموت، حتى بالنسبة للموعوظين الذين لم يكونوا بعد قد نالوا العماد. يقول الشهيد يوستين: [نحن الذين كنا قبلاً نضع طرق اكتساب الثروة والممتلكات فوق كل اعتبار، الآن نُقدم ما لدينا لصندوق الشركة، ونشارك كل محتاج[238]]. تنبع هذه الأعمال المملوءة حباً ليس عن عواطف بشرية مجردة، بل عن عواطف مقدسة وعن قلب ملتهب بالحب الإلهى، فقدموا بكل كيانهم من أعماقهمن وارتبط ذلك بالعبادة، وحسبوها مُقدمة لله نفسه محب البشر.
ثانياً: ممارسة أعمال الحب هى تكملة للناموس. وضع السيد المسيح أساس الناموس السلوكى المسيحى: “وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تحبو بعضكم بعضاً. كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضاً بعضكم بعضاً. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذى: إن كان لكم حب بعضاً لبعض” (يو13: 34 – 35). يقول الرسول بولس: “لا تكونوا مديونين لأحد بشئ إلا بأن يحب بعضكم بعضاً، لأن من أحب غيره فقد أكمل الناموس”. (رو13: 8). لم يُقدم الرسل قوانين أخلاقية مُعينة، لكنهم قدموا الروح الذى به تُوضع القوانين، والتى تحكم السلوك المسيحى حسب الظروف القائمة. لقد ترك للكنيسة أن تُقدم تفاصيل السلوك الروحى الحى قائماً على الأسس الإنجيلية دون تقديم كثرة من القوانين: “أخيراً أيها الإخوة، كل ما هو حق، كل ما هو جليل، كل ما هو عادل، كل ما هو طاهر، كل ما هو مُسر، كل ما صيته حسن، إن كانت فضيلة، وإن كان مدح، ففى هذا افتكروا” (فى4: 8).
ثالثاً: استخدام الإمكانيات الجديدة. ففى المعمودية نتمتع بالدفن مع السيد المسيح، نموت عن الخطية، ولا يمكن لها سلطان علينا، إلا إذا قبلناها بإرادتنا، كما صارت لنا البنوة لله، والتمتع بإمكانيات الثالوث القدوس: أبوة الآب المحب للبشر، ونعمة الابن واهب الغفران، وشركة الروح القدس الذى يُقدس ويُجدد حتى نصير أيقونة للسيد المسيح. قدمت لنا الديداكية[239] كمثال، حق الخيار بين طريق الحياة وطريق الموت، لكنها لم تضع قائمة بالتفصيل عن الفضائل التى تحكمنا فى سلوكنا فى طريق الحياة، ولا قائمة كاملة بالرذائل التى تدفعنا إلى طريق الموت[240]. جاء فيها: [يوجد طريقان: أحدهما للحياة والآخرللموت. لكن الفرق بين الطريقين عظيم. طريق الحياة هو هكذا: أولاً، أحبب الله الذى خلقك (تث6: 5). ثانياً، حب قريبك كنفسك (لا19: 18؛ مت37: 39: 22). مالا تريد أن يفعله الناس بلك لا تفعله أنت بالآخرين (طو4: 15؛ مت7: 12؛ لو6: 31). إليك ما تحمله هذه الأقوال من تعليم: باركوا لاعنيكم، صلوا من أجل أعدائكم، وصوموا من أجل مضطهديكم. لأنه أى فضل لكم إن أحببتم الذين يحبونكم؟ أليس الوثنيون يفعلون ذلك؟! أما أنتم فأحبوا مبغضيكم، فلا يكون لكم عدو (مت5: 45 – 47؛ لو6: 27 – 31). ابتعدوا عن الشهوات الجسدية (1بط2: 11) الزمنية (عالمية). “من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً” (مت5: 39؛ لو6: 29). وكن كاملاً (مت5: 48)].
4 – هل يجوز الدفاع عن النفس والأسرة والوطن؟ [241]
لكى يعيش الإنسان المسيحى فى المجتمع ناجحاً ملتزماً بقوانينه وعاداته، يجب أن يكون ملماً بها جيداً، خاضعاً لها كوصية الله: “أعط ما لقيصر لقيصر” (مر12: 17). هذا وأن القوانين الوضعية التى تحكمنا نجدها غالباً ما تسير مع تعاليم الكتاب وكنيستنا، كقول الرسول بولس: “السلاطين الكائنة هى مُرتبة من الله” (رو13: 1). فالمسيحية تدعو إلى المحبة والتسامح كما تدعو إلى الشرعية حيث تحثّ المسيحى على الالتجاء إلى القانون لتدبير الأمور، فيكون على من ظُلم أو سُلب حقه أن يُطالب به عن طريق قنوات المجتمع الشرعية.
كان رفع الدعاوى مُقرراً منذ القديم فى الشريعة اليهودية (تث17: 8، 9)، وكانت الشريعة الرومانية تبيح لرعاياها أن يرفعوا دعواهم إلى الإمبراطور إذا لم يرضوا بحكم حكام الأقاليم والمقاطعات. لذلك رفع القديس بولس دعواه إلى قيصر (أع25: 11).
كما أنه فى حالات أخرى نجد المسيحى فى وضع الدفاع عن نفسه أو عن أقاربه أو وطنه، يقف أمام الخطر دون استطاعة منه أن ينتظر أجهزة الدولة حتى لا يفقد حياته أو حياة أقاربه، سايرت بعض القوانين الوضعية تعاليم الكتب السماوية فى وضع أسباب مُعينة يستطيع عندها الشخص أن يدفع الخطر عنه، دون أن تقع عليه أية مُسائلة قانونية أو دينية. بروح تقوى يقول لتلميذه: “ذكّرهم أن يخضعوا للرياسات والسلاطين، ويطيعوا، ويكونوا مستعدين لكل عمل صالح (تى3: 1).
5 – كيف سعت الشريعة الموسوية للصعود على درجات البرّ الأعظم؟
يستعرض القديس أغسطينوس فى شرحه للموعظة على الجبل تطور علاقة الإنسان بأخيه، مبتدئاً من الإنسان البدائى الذى يبدأ بالشر، وينتهى بالإنسان الكامل الذى يفرح باحتمال ضعفات الآخرين، فيقول[242]: [برّ الفريسيين الأصغر هو عدم تجاوز حدود الانتقام أى لا ينتقم الإنسان بأكثر مما أصابه. ومع ذلك فليس من السهل أن نجد شخصاً يرغب فى أن يرد الضربة بضربة واحدة، ويرد بكلمة واحدة على من أساء إليه بكلمة. فالإنسان يرغب دائماً فى الانتقام بصورة مغالى فيها جداً، وذلك بسبب الغضب والشعور بأن المسئ يجب أن يُعاقب عقاباً مصاعفاً. فالشريعة الموسوية التى جاء فيها “عين بعين وسن بسن” (خر21: 24)، تحد من الروح السابقة لأن الغضب بأن لا يزيد من مقدار الضرر الذى أصاب الشخص. هذه الشريعة هى بداية السلام، أما السلام الكامل فهو فى عدم الانتقام… فبحسب ترتيب الأزمنة حدث من الخصومة العظيمة (أى رغبة الإنسان فى الانتقام بأكثر مما أصابه) إلى اتفاق عظيم بواسطة الشريعة (أى الانتقام بقدر ما أصابه).
أ. يبدأ الإنسان البدائى بالاعتداء على أخيه.
ب. والإنسان الذى لا يبدأ بالشر، بل يقاوم الشر بشر أعظم، لم يبلغ مستوى الشريعة الموسوية.
ج. أما فى الشريعة الموسوية فقد طُلب من الإنسان ألا يتعدى انتقامه قدر الشر الذى أصابه…
د. عدم مقاومة الشر بشر أعظم أو مسار له بل أقل منه فيقابل الضربتين بضربة واحدة.
ﮪ. من يسمو على الدرجة السابقة، لا يُقابل الشر بشر، مقترباً بذلك من وصية الرب.
و. أما درجة الكمال المسيحى، ففيها يأمر رب المجد بعدم مقاومة الشر، قائلاً: “بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر” (مت5: 39)… يوصينا طبيب النفوس، الرب يسوع، بأقربائنا؟.. إنه لا يطلب منا سوى احتمال ضعفاتهم، لأجل خلاصهم. فإن شرور أقربائنا تنبع عن ضعف نفوسهم ومرضها].
6 – ما هى حدود التأديب فى العهد الجديد؟
يلزم الحكام بتأديب الأشرار والمجرمين، وكما يقول الرسول: “لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من الله، والسلاطين الكائنة هى مُرتبة من الله. حتى إن من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله، والمقاومون سيأخذون لأنفسهم دينونة. فإن الحكام ليسوا خوفاً للأعمال الصالحة بل للشريرة. أفتريد أن لا تخاف السلطان؟! افعل الصلاح فيكون لك مدح منه، لأنه خادم الله للصلاح! ولكن إن فعلت الشر فخف. لأنه لا يحمل السيف عبثاً، إذ هو خادم الله، منتقم للغضب من الذى يفعل الشر. لذلك يلزم أن يُخضع له، ليس بسبب الغضب فقط، بل أيضاً بسبب الضمير” (رو13: 1 – 5). واضح أن العهد الجديد أعطى للحاكم أو المسئولين حق تأديب الأشرار حتى إلى استخدام السيف. وقد ترك للمُشرعين أن يضعوا حدود العقوبة أو التأديب حسب ظروف العصر والدولة ومرتكب الشر وملابسات القضية.
هذا عن تأديب الجماعة للأشرار، أما بالنسبة لتأديب الأبناء فيقول الرسول: “أى ابن لا يؤدبه أبوه؟!” (عب12: 7). أما حدود هذا التأديب فهو تقديم صورة حب الله الحانى الحازم لأولاده: “لأن الذى يُحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يقبله” (عب12: 6). لم يقدم لنا العهد الجديد شرائع تفصيلية، لكنه يُقدم مبدأ أساسياً، وهو التعامل مع الأبناء كظل لتعامل الله معنا.
يتحدث العلامة أوريجينوس عن عُرف سائد يشير إلى استخدام التأديب منذ زمن بعيد. [فى كنيسة المسيح، جرى العرُف على استبعاد الممارسين لخطايا واضحة عن الصلاة المشتركة[243]].
يلزم أن يكون التأديب أكثر صرامة وحزماً طبقاً لمسئولية المؤمن فى الكنيسة ودوره دون استثناء. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [كل الخطاة فى الكنيسة… مستحقون للعقاب. لكن عقابهم يختلف تبعاً للمرتبة التى يشغلونها[244]]. ويقول العلامة أوريجينوس أنه يلزمنا ألا نتسرع بالتأديب العلنى[245].
7 – ماذا يُقصد بالخد الأيمن والآخر؟
يقول القديس أغسيطنوس[246]: [احتمل الرسول بولس اللطم على الخد الأيمن ثم الأيسر. فقد احتمل ما احتمله التلاميذ من تعيير بسبب اسم المسيح الذى دعى عليهم (أى احتمل اللطم على الخد الأيمن بعد ذلك قدّم الخد الأيسر مضحياً بأمجاده العالمية (جنسيته الرومانية – انظر أع16: 37). فعندما أعلن عن جنسيته الرومانية لم يكن يقصد بذلك الافتخار أو الانتقام ممن أساءوا إليه. بل بالعكس كان بولس يعلن عن رومانيته لتتهيأ له فرصة للحديث عن المسيح معلناً بذلك محبته لخلاص نفوس هؤلاء الذين أكرموه لأجل رومانيته وأهانوه لأجل مسيحيته].
8 – ما هو موقف القديس أمبروسيوس بخصوص الدفاع عن النفس؟
فى رأى القديس أمبروسيوس أن دفاع الإنسان عن نفسه لا يمكن قبوله لأنه حتماً يُحطم فضيلة الحب، التى تُدعى التقوى، وتوحد الإنسان مع الله، وهى أساس كل الفضائل الأخرى[247].
9 – ما هى نظرة الإيمان المسيحى للقضاة؟
كان يُسمح لليهود أن يُمارسوا الشريعة فى قضايا دينية أخلاقية كالجلد أربعين جلدة إلى واحدة[248]. لكن هل كان من حقهم أن يصدروا حكماً بالموت على شخص ما؟ (يو18: 31) انه لا يجوز لهم أن يحكموا على أحد بالموت. لكن ربما يتساءل البعض عن الزانية التى أمسكت فى الزنا وقد أمسك البعض حجارة ليرجموها، هل كان من حقهم التنفيذ؟ يرى العلامة أوريجينوس أنه كان يسمح لهم بذلك على ألا يتم علانية وان يخطروا الإمبراطور (أو من يُمثله) بذلك[249]. عندما طالب الرسول بولس بمحاكمة من أراد ان يتزوج امرأة أبيه (1كو5)، لم يطلب صدور حكم جسمانى بل حكم روحى (فرزه إلى حين). عرفة الكنيسة الأولى وجود محاكمات كنسية تحت إشراف الأسقف وإصدار تأديبات كنسية.
10 – ما هى نظرة الإيمان للحكم القضائى على المخطئين والأبرياء؟
يرى القديس أغسطينوس (354 – 430م) أنه حينما يُصدر القاضى حكماً بالإعدام منفذاً القانون فى عدالة، أو من يقوم بالتنفيذ، لا يُحسب هذا قتلاً.
كما عالج القديس أغسطينوس مشكلة القاضى المسيحى الذى يحكم على متهم فيعانى من العنف، وهو لا يدرى أنه مظلوم وأن الشهود كذبة قد أحكموا الاتهام ضده ظلماً. فإنه مادام القاضى لم يهمل، وقد بذلك كل الجهد لإدراك الحقيقة ولم تكن لديه نية شريرة ضد المتهم، فإنه لا يُلام على ذلك لن ما فعله هو ضرورى. لهذا يجب أن يصرخ دوماً لله: “خلصنى من ضروراتى” (راجع مز25: 17) [250].