كيف أتخذ قراراً؟

 
 
هذا الموضوع هو محاولة للإجابة عن سؤال طالما يسأله الشباب وهو: كيف نتخذ قراراً؟”
وهو بلاشك سؤال هام، فالقرارات في حياة الإنسان، وخصوصاً في مرحلة الشباب، كثيراً ما تكون مصيرية، وذات أثر خطير في خلاص، أو سعادة، أو بنيان صاحبها.
كما أن القرار يتأثر بقوى كثيرة: روحية وعقلية وعاطفية واجتماعية، بحيث لابد من تناغم وتناسق بين هذه القوى، كل قدر حجمها وخطرها، ليخرج القرار سليماً ونافعاً وناضجاً.


اولاً: أهمية اتخاذ القرار

1- الإنسان كائن حر:

 خلق الله الإنسان كائناً حراً مريداً، والعطاء فرصة دائمة لاتخاذ القرار، دون إلغاء لمشيئته، بل في حرية كاملة، كان الله قادراً أن يسلبها منه وما يزال، لكن إلهنا المحب لا يريد أن يكون أولاده وسكان ملكوته الأبدي، مجرد دمي أو قطع شطرنج، بل يريدهم أحراراً في قراراتهم، صادقين في إختياراتهم، جاءوا إلى شركته عن إقتناع دون ضغط، وسلموا إرادتهم له في حب ورضي كامل. لهذا دعيت مشيئة اللهمرضية“، أي مقبولة بفرح كامل من جانب الإنسان.


2- هل نلغي مشيئتنا ؟

والإنسان في هذا المجال، لا يلغي مشيئته، أو يقهرها أو حتى يتحايل عليها ليصنع مشيئة الله عن خوف، ولكنه – بالعكس تماما – يجعل مشيئته ومشيئة الله شيئا واحداً، في رضي وقناعة وحب. إنها ليست استقالة إنسانية ولكنها تسليم واثق.. فهو لا يتنازل عن مشيئته وتفكيره، وكل قدراته البشرية في روح المستسلم المقهور أو في روح المستقبل المرغم، ولكنه بالعكس، يوحد مشيئته بمشيئة الله، وفكره بفكر المسيحأما نحن فلنا فكر المسيح” (1كو2: 16).
مستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح (2كو 5:10). حيث أسر الأفكار البشرية هنا، يعني الاقتناع بأنها كثيراً ما تنحرف “القلب أخذع من كل شيء وهو نجيس, من يعرفه؟“(إر 9:17)، وكثيراً ما تكون خادعة “تُوجذ طريق تظهر للإنسان مستقيمة، وعاقبتها طرق الموت” (أم 12:14 )، وكثيراً ما تكون ناقصة “لا تكن حكيماً في عيني نفسك” (أم 7:3)، “غريب أنا في الأرض. لا تخف عني وصاياك” (مز 19:119 ).
وهكذا يحس الإنسان بفرحة غامرة، إذ يجعل مشئته توافق مع مشيئة الله، الكلى الحكمة والقدرة: “يا لعمق غني الله وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامة عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء؛ لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيرًا” (رو 33:11 – 34). لهذا قال الرسول :” إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدّهر فليصر جاهلا لكي تصير حكيماً!” (1كو 3: 18 ). أي لابد أن يتخلي الإنسان عن حكمته البشرية المحدودة، ليقتنى حكمه الرب الإلهيه غير المحدودة.
 

ثانياً: سمات الحكمة الإلهية

يحدد لنا معلمنا يعقوب سمات الحكمة الإلهية فيقول: “وَأَمَّا الْحِكْمَةُ الَّتِي مِنْ فَوْقُ فَهِيَ أَوَّلاً طَاهِرَةٌ، ثُمَّ مُسَالِمَةٌ، مُتَرَفِّقَةٌ، مُذْعِنَةٌ، مَمْلُوَّةٌ رَحْمَةً وَأَثْمَارًا صَالِحَةً، عَدِيمَةُ الرَّيْبِ وَالرِّيَاءِ. ” (يع 17:3 ). إذاً، فالحكمة الإلهية تتسم بما يلي:

  1. طاهرة : أي نقية من كل خطية، بعكس الحكمة البشرية الملوثة بالضعف البشرى والطمع والأغراض الشخصية.
  2.  مسالمة : أي فيها روح الوداعة والهدوء والسلام، بينما الاتكال على الفكر البشري المجرد يعني العجرفة والكبرياء، ويقود إلى الغضب والانفعال، ثم إلى المخاصمات والمهاترات…
  3. مترفقة : أي أنها طويلة الأناة، طويلة البال، تجعلك تحاور في هدوء وصبر حتى تربح الآخرين وتريح نفسك، دون تسرع أو تعسف أو ثورة.
  4. مذعنة : أي تجعلك قابلاً لتصحيح موقفك، فاتحاً صدرك للرأي الآخر، مهما بدا مضايقاً أو مناقضا لك، فهي تعلمك أن تذعن للحق، والحق هو الله، وكتلميذ للرب تتفاهم في هدوء عارضاً رأيك في وداعة، منتظراً أراء الآخرين ونقدهم، مستعداً للتنازل عنه حين يبدو لك ضعف الرأي أو خطأه.
  5.  مملؤة رحمة : أي أنها حانية رقيقة غير متكبرة على الآخرين، بل تحس بأحاسيسهم، وتحترم مشاعرهم، وتحنو عليهم حتى في أخطائهم أو ضعفائهم، كي تقودهم إلى فكر المسيح.
  6.  و أثماراً صالحة : وما هي أثمار الحكمة الإلهية إلا ثمر الروح من مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ ،وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ” (غل 22:5-23).
    7- عديمة الريب والرياء : أي خالية من التشكك والوسوسة، إذ يكون الإنسان واثقاً من فكر الله، وقادراً على تمييز مشيئته “كي يُعْطِيَكُمْ إِلهُ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَبُو الْمَجْدِ، رُوحَ الْحِكْمَةِ وَالإِعْلاَنِ فِي مَعْرِفَتِهِ، مُسْتَنِيرَةً عُيُونُ أَذْهَانِكُمْ (أف 17:1-18). “من أجل ذلك لا تكونوا أغبياء بل فاهمين ما هي مشيئة الرب” (أف 17:5)
    وَهذَا أُصَلِّيهِ: أَنْ تَزْدَادَ مَحَبَّتُكُمْ أَيْضًا أَكْثَرَ فَأَكْثَرَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَفِي كُلِّ فَهْمٍ، حَتَّى تُمَيِّزُوا الأُمُورَ الْمُتَخَالِفَةَ، لِكَيْ تَكُونُوا مُخْلِصِينَ وَبِلاَ عَثْرَةٍ إِلَى يَوْمِ الْمَسِيحِ” (في1: 9، 10)

وهي أيضاً حكمة عديمة الرياء، ليس فيها كذب ولا إلتواء، ولا يظهر الإنسان فيها ما لا يبطن، بل بالحري يكون واضحاً ومستقيماً ونقياً، أمام الله والناس، في السر والعلانية.

هذه هي سمات الحكمة الإلهية، وهي عكس الحكمة البشرية، التي لوثتها الخطية فصارت سبب غيرة مرة وتحزب، وتشويش، وكل أمر ردئ.. ذلك لأنها أرضية (أي نابعة من العمل الترابي المهتم بالترابيات)، نفسانية (أي نابعة من الانفعالات والغرائز والعواطف والعادات والإتجاهات الخاطئة التي تموج بها النفس)، وشيطانية (أي مقودة بروح إبليس، العامل في أبناء المعصية)… (اقرأ يعقوب l6-13:3 ).

ثالثا: خطورة الحكمة البشرية

من هنا كان لابد للإنسان أن يتخذ قراراته في الحياة اليومية حسب مشيئة الله وفكر المسيح، ومن خلال قنوات محددة نستعرضها في الفصول التالية. وهذا أمر في غاية الأهمية، فلاشك أن استسلام الإنسان لفكره أو شهواته أو حكمته المحدودة، أمر خطير، يورد
الإنسان موارد التهلكة، لأنه “توجد طريق تظهر للإنسان مستقيمة وعاقبتها طرق الموت(أم 25:16 )، فلا تكن إذن “حكيماً في عيني نفسك” (أم 7:3)، وذلك:.
1- لأنك محدود في إمكانيات الفكرية…
2- ومحدود في قدراتك التنفيذية، فقد تقتنع بشيء ما، ولكنك لا تستطيع الوصول إليه.
3- ومحدود في معرفة ما هو لصالحك، فالحياة مليئة بالمنعطفات والمتاهات.
– ومحدود في معرفة المستقبل والغيب، فقد تختار ما تراه صالحاً الآن، ثم يثبت أنه غير صالح في المستقبل، مثالاً لذلك قد تختار شريكة حياة معينة وتتشبث بها، ولا تعرف ماذا قد يصيبها في المستقبل .. لهذا فالأفضل أن تعترف بضعفك ومحدوديتك، وتتفاهم مع الله طالباً منه أن يقود سفينة حياتك فهو
1- الأب الحنون الذي يحبك، صانع الخيرات..
2- وهو القادر على كل شيء، ضابط الكل..
3- وهو العالم بمسار حياتك، وحياة غيرك، حتى النفس الأخير، بل حتى الأبدية.
ومن هذا المنطلق الثلاثي: الحنان، الاقتدار . والعلم، يسلم الإنسان نفسه في ثقة ورضي واقتناع، ليختبر كل يوم عجباً من فيض حنان الرب.
 

رابعا: القوى الإنسانية المشتركة في إتخاذ القرار

هناك قوى عديدة، لكل منها وطأتها وضغطها ودفعاتها وتأثيرها الخاص، ومن حصيلة هذا كله يصدر القرار . إنها “مراكز صنع القرار ” إذا أستعرنا التعبير الذي تستعمله الدول وهي تتخذ قراراتها المصيرية والهامة. فما هي مراكز صنع القرار في حياة الإنسان؟
  1.  الروح : وهي ذلك العنصر الإلهي الذي يقود الإنسان إلى التأمل في الله، والغوص في بحار ما وراء الطبيعة والمادة والموت، عنصر الخلود، والإيمانيات، والتعرف على أمور الحياة الأخرى والعالم السماوي.
  2.  الضمير : وهو ذلك الصوت القادم من السماء ، حيث الله الخير والحب والجمال المطلق. إنه صوت يهز أعماقنا في الداخل، مرة يباركنا حينما نصيب، ومرة يوبخنا حينما
    نخطئ. وهو بالقطع ليس نتاج المجتمع أو التربية أو القيم السائدة، بدليل أنه يحرمنا من النوم، لا من أجل خطا علنى، بل من أجل خطيئة سرية، بين الإنسان والله فقط.
  3.  العقل : وهو الطاقة المفكرة في الإنسان، والتي تجعله يناقش، ويدرس ويحلل، ويستنبط، ويربط، ويستدل، ويستنتج… إنه التفكير البشري – المحدود طبعاً – الذي
    يميز الإنسان (مع القوتين السابقتين) عن الحيوان والنبات.
  4.  النفس : وهي ذلك الجهاز الإنساني الذي يحوي الكثير من مكونات الشخصية الإنسانية مثل:
    أ- الغرائز : أي الدوافع الأساسية في الإنسان، والتي ولد بها، من أجل حفط الحياة، والنوع البشرى. كغريزة الجوع والعطش والجنس وحب الحياة والتملك والخوف.. الخ.
    ب- العادات : التي اكتسبها الإنسان أثناء مسيرته في الحياة، سواء كانت نافعة: كالصلاة ، ودراسة كلمة الله، والتردد المنتظم على الكنيسة، والتناول ، والتعامل الراقي في
    الكلام والتصرف، أو كانت هدامة: مثل إدمان المخدرات أو الخمور أو التدخين أو …..
    ج- الإتجاهات : هي الخطوط الرئيسية التي يسير فيها قلب الإنسان وشهواته، فهذا يتجه نحو جمع المال، وذلك نحو خطايا الجسد، بينما الثالث يتجه نحو الدراسة والتفوق
    العلمي، أو نحو تكريس القلب والحياة لله وللخدمة..
    د- العواطف : هي المشاعر التي تتكون وتثبت نتيجة انفعال متكرر تجاه شخص ما او شيء ما، فهذا نحبه، وذاك لا نحبه، من الأشخاص والفضائل والرذائل المختلفة…
     
  5.  الجسم : ولاشك أن له وطأة خاصة في اتخاذ القرار سواء من جهة الضعف والقوة او الجمال والقبح، أو الطول والقصر.. فالشباب يختار العمل المناسب لطاقته الجسمانية، ويختار شريك الحياة واضعاً في الإعتبار الملامح الجسمية وهكذا…
  6. المجتمع ، لأن الإنسان اجتماعي بطبعه، ولا يستطيع أن يحيا في جزيرة منعزلة عن الواقع المجتمعي المحيط به، بما يسوده من قيم وتقاليد وعرف. لهذا فقد يفشل زواج ما لأنه لم يراع الفوارق الاجتماعية بين العروسين، أو قد يفشل مشروع ما بسبب عدم مراعاته لظروف المجتمع وتقاليده.
 
وهكذا … ومن هذا الخضم الهائل من القوى، يصنع القرار. حقيقة ان قوة قد تبرز لتأخذ مكان الصدارة، وتنقاد لها باقي القوي، ولكن – على العموم – هناك دور ما لكل من تلك القوى.
 
مثال : إنسان يريد أن يختار شريك حياته، نجد أنه:
 
  1.  يصلي طالباً من الرب أن يقوده ويوفقه.
  2.  يسأل ضميره باستمرار : هل أخطأ أم أصاب، سواء في الاختيار ، أو في السلوك.
  3. يفكر بإمعان في إمكانية إتمام هذا المشروع، من جهة موافقة الأسرتين ، والامكانيات المادية، ومكان المعيشة، ونوع العمل، والمشاركة في الأعباء المنزلية… وهكذا
  4. يتحسس راحته العاطفية من نحو هذه الشخصية، وهل هو مُستريح نفسياً لها، ويحس أنها ستساعده في تحقيق اتجاهاته و تتوافق مع ميوله وعاداته، وستكون سبب سعاده له..
  5.  ينظر … هل هناك فيمن اختاره قدر مناسب من الجمال، دون مغالاة أو تطرف …
  6.  يدرس … هل يتفق قراره مع التقاليد والقيم السائدة في المجتمع الذي يعيش فيه…..

وهكذا تكون هذه القوى سيمفونية متناسقة و مترابطه. وليس فيها نشاز. والنشاز هنا هو ان تنفرد قوة أو تبرز بحيث تتوارى خلفها باقي القوة . .

 
 
مثال:
  1. يهتم الإنسان بالجانب الروحى في شريك الحياة، ويتناسي بقية الجوانب، فقد يكبره سناً، او يكون هناك عدم إرتياح في المشاعر، أو عدم إمكانية تنفيذ عمل للمشروع.
  2.  او ان يهتم الإنسان بالمشاعر فقط فيولع بمن يختارها بطريقة متطرفة تعمي عينيه عن امور اجتماعية او روحية او عملية، فيدخل في صراع مع الأسرة، أو مخالفة روحية، أو يكتشف بعد ذلك صعوبة الاستمرار العملي في الحياة، خصوصاً بعد ان تخبو نار العاطفة المتأججة، لتحل محلها المسئولية العاقلة.
  3.  او ان يركز الشاب على زاوية الجمال الجسدي متجاهلاً جمال الروح، فيسقط في غيبوية عقلية وروحية، إذ يتوقف العقل عن التفكير ، والروح عن العمل. وربما ينسي الشاب
    أن الجمال الصارخ كثيرا ما يخفي وراءه غروراً خطيراً، او بلاهة عقلية، نتيجة التركيز على الحسيات دون المعنويات. بل كثيراً ما يكون الجمال الصارخ سبب غيرة وتشكك لدى الزوج،يحول الحياة إلى جحيم.
  4.  او قد يهتم الشاب بنسب الأسرة ومالها، وما يمكن أن يحصل عليه من مقابل مادي في هذا الزواج، فيتحول الزوج إلى صفقة تجارية سرعان ما تنفض عنها غبار العواطف
    التمثيلية، ليبقى منها الصراع على التراب والنقود.

وإن كنا قد ركزنا الأسئلة في إطار اختيار شريك الحياة – من الطرفين طبعاً – إلا أن هذا ينطبق قطعاً على كل قرارات الحياة.. مثال:
+ إختيار نوع الدراسة: يحتاج إلى صلاة، وتفكير، وسؤال آخرين قادرين على إعطاء المشورة، ودراسة للإمكانيات العقلية والنفسية وظروف المجتمع…
+ اختيار نوع العمل واختيار خط الحياة: بتولية أو زواج؟ نفس القوي تشترك في هذا الأمر أيضاً.
وهكذا تتناغم تلك القوي، لنحصل في النهاية على ترنيمة عذبة وقرار مريح.


مظلة الصلاة :

إن كل ما مضى من قوى، هي قوة بشرية محضة، ومحدوده، عاجزة عن إسعاد الانسان أو إنارة الطريق، ما لم تكن جميعها تحت مظلة الصلاة، أي أن يكون الانسان في روح صلاة مستمرة قبل وأثناء وبعد المشروع، وأن يكون أيضاً في روح تسليم مستمرة طوال المشوار، تاركاً للرب ان يقول كلمته في أي مرحلة، ومهما كانت، بالموافقة أو بالرفض، أو بالتأجيل، في ثقة كاملة إنه أكثر حناناً، وأكثر قدرة، وأكثر علماً… لذلك فهو يلح على الله باستمرار أن يكون سائراً في طريقه، وأن تكون مشيئته منسقة ومتحده مع “ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ.” (رو 12 :2 ). ومن خلال الصلاة والتسليم، يتدخل الله، ويتمم مشيئته المقدسة، ويعلن رأيه في الأمر، ورأيه هو الرأي البناء والكامل والمريح
إن خير شعار ينبغي أن يرفعه الإنسان هو قول الكتاب:”تَوَكَّلْ عَلَى الرَّبِّ بِكُلِّ قَلْبِكَ، وَعَلَى فَهْمِكَ لاَ تَعْتَمِدْ.(أم 5:3).


خامساً: ضوابط اتخاذ القرار

إن أي قرار نتخذه في حياتنا له – بالضرورة – الأثر البعيد، إما إيجابياً أو سلبياً. لذلك كان لا بد من ضوابط تساعدنا على الوصول إلى القرار الصحيح، وخصوصا إذا تذكرنا محدودية الإنسان: عقله وقدراته، ورؤيته، وعدم قدرته على معرفة ما يحمله المستقبل من مفاجأت، والمصادمات اليومية في الحياة مع النفس، ومع الأخرين، الأكبر والأصغر منا…

  1. الروح القدس: العامل في الضمير، ذلك الصوت الإلهي، الذي يأتينا من عند الله والذي يزداد إرهافاً وحساسية بسكنى روح الله فينا. فالروح القدس غير الضمير، وغير الروح الإنسانية. إنه الأقنوم الثالث في إلهنا الواحد، الأقنوم الذي يعمل فينا، وينقل إلينا بركات الفداء ، ويضئ لنا الطريق: يبكتنا كلما أخطأنا، ويشجعنا كلما أصبنا ، ويسكب النور في قلوبنا، فنميز الأمور المتخالفة، كما يغرس طريقنا بالنور فنعرف كيف نسير وفي أي طريق نتجه. وهكذا … “الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أبناء الي لله“(رو8: 14). والإنسان الذي يحب أن يضبط مساره، ويتأكد من صحة قراره، عليه أن يصلي في إلحاح، وبروح كلها إخلاص في طلب معرفة مشيئة الله، وفي تسليم صادق لارادة الله وتفكيره.. وهكذا.. إذ يشعر براحة ضمير، واستقرار و سلام نفسي ، دون انعال أو تشنج، يحس أن روح الله مستريح فيه لهذا القرار أو ذاك. وبالطبع فلابد أن يكون القرار متفقاً
    مع معطيات الإنجيل وطريق القداسة.

علينا إذن أن نصلي باستمرار كلما تحيرنا، طالبين من الرب ان يكشف لنا مشيئته وسوف نستريح إلى اتجاه معين، يشهد الكتاب المقدس على صحته وسلامته، فنتحرك في هذا الإتجاه في روح الصلاة والتسليم، تاركين للرب ان يكمل الطريق أو يلغيه، كاشفاً لنا مشيئته التى سنستقبلها بكل فرح.

وليكن شعارنا قول المرنم: “تَمَسَّكَتْ خُطُوَاتِي بِآثارِكَ فَمَا زَلَّتْ قَدَمَايَ.” (مز 17: 5).
ولنسمع في كل حين وعد الرب: “أُعَلِّمُكَ وَأُرْشِدُكَ الطَّرِيقَ الَّتِي تَسْلُكُهَا. أَنْصَحُكَ. عَيْنِي عَلَيْكَ.“(مز 32: 8)
 

2- الأب الروحي : وهذا ضابط آخر غاية في الأهمية، ذلك عملاً بقول القديسين: الذين بلا مرشد، هم كاوراق الخريف سريعاً يسقطون. وتنبع أهمية أب الاعتراف في القرارات المصيرية من عدة منطلقات:
  1. الأب الحاني المحب، الذي يهمه أمري، ويحب أن يطمئن إلى كل خطوات مساري.
  2.  وهو وكيل السر، الذي يصلي معي أثناء الاعتراف طالباً من الرب أن يرشده ويرشدني لما فيه خير حياتي .
  3.  وهو الأكثر خبرة، بسبب المواقف الكثيرة التي عاشها شخصياً، أو من خلال الخدمة.
  4.  وهو الأنضج سناً بحيث يرفعني من انفعالات واندفاعات الشباب المبكر ، وينبهني إلى خطورتها.. إن مجرد “فضح” النفس وكشفها أمام أب روحي، كفيل بأن أعيد تقييم الأمور ، إذ أفرغ شحنتي الإنفعالية فلا تتحكم نفسي في ولا عواطفي، ولا انفعالاتي، بل يتحكم روح الله، والعقل المستنير بالروح والإنجيل، في مسار حياتي.
    وهكذا يكون دور أب الاعتراف غاية في الأهمية في ضبط المسار واتخاذ القرار، وبالذات في الأمور المصيرية. خصوصاً إذا أضفنا إلى ذلك عنصر إخلاص الأب لإبنه الروحي وصلواته من أجله، وكتمانه أسرار حياته.
    لذلك ليتك تعرض أفكارك يا أخي الحبيب على أبيك الروحي، ويجب أن يكون واحداً ثابتاً لا يتغير، ما لم تكن هناك ضروره قصوة، حتى يكون شاعراً بمسار حياتك من مرحلة إلى مرحلة، وبظروفك الفردية والعائلية والعامة، ومن هنا يقدم لك المشورة المناسبة مسترشدا بروح الله القدوس.

 

 3- الحوار : وهذا هو الضابط الثالث في الحياة، فما اخطر أن يعتمد الإنسان على فكره الخاص، ويرفض أن يتحاور مع غيره حتى في أموره الخاصة.
إن فكرك الخاص هو بالقطع فكر محدد، معرض للصواب والخطا. كما أن تفكيرك بمفردك يسقطك في “شرك نفسي“، هو التفكير الانفعالي المقود بالعاطفة، وأحياناً بالغريزة. كما انك
بمفردك ستركز على زاوية في الموضوع ناسياً أو متناسيا زوايا اخرى هامة. اما خروجك من هذه القوقعة الذاتية إلى شركة المحبة، مع الأسرة، أو الأصدقاء البنائين، او خادمك في
الكنيسة، او ابيك في الاعتراف… هذا كله يغمر موضوعك بالضوء، ويساعدك على اكتشاف نفسك، ودوافك، وزوايا الخطأ والصواب في الأمر، والمسار المطلوب والبناء، وطريقة
الوصول إليه وتنفيذه.. وهكذا. فقديماً قال الأباء: “لا تكشف نفسك إلا أمام من يمكنه أن يساعدك لخلاص نفسك”. فالكلام هنا ينطبق على الأسرة والأصدقاء البنائين، والخادم الكنسي واب الاعتراف … ولكنه بالقطع لا ينسحب إلى الشلة، أو الأصدقاء المنحرفين، الذين هم في حاجة إلى من يرشدهم. فلا تكن مثل رحبعام بن سليمان الملك، الذي ترك مشورة الشيوخ بان يخفف على شعبه ويعاملهمم بحب  وأتضاع، وانساق إلى مشورة الشبان الذين نصحوه بان يقسو على الشعب، فتمزقت المملكة، واستمرت هكذا لمئات السنين. ولنذكر كلمات الحكيم: “المساير الحكماء يصير حكيماً، ورفيق الجهال يُضر” (أم 20:13 ).


سادسا: كيف أميز مشيئة الله؟

والأن بعد أن أدركنا

  1. ضعفنا البشري ومحدودية معرفتنا بالحاضر، وجهلنا بما يخبؤه المستقبل.
  2. ضرورة توافق مشيئتنا مع مشيئة الله المحب، القادر على كل شئ، صانع الخيرات…
    مع قناعة كاملة، وثقة في حنان الله وحكمته.
  3.  ضرورة الإحتماء بمظلة الصلاة وروح التسليم طوال مسيرتنا، ونحن نناقش موضوعاً معيناً، لنستطيع أن نضمن التدخل الإلهي بالصورة المناسبة وفي اللحظة المناسبة.
  4.  ضرورة أن تتناغم كل قوى النفس، وتعمل معاً، بقيادة روح الله القدوس، فيأخذ كل من: الضمير والعقل والنفس والجسم والمجتمع، الدور المناسب، بالحجم المناسب.
  5. أهمية سؤال الله باستمرار، والتشاور مع أب الاعتراف، والدخول في حوار هادئ وهادف، دون تشبث أو عناد، بل في إحساس بالضعف والقصور، والحاجة إلى مشورة بناءه.

بعد كل ذلك.. كيف أميز مشيئة الله؟ هل هناك علامات معينة أستطيع بها أن أتأكد أن ما أستقر عليه الرأي هو مشيئة الله؟
أ- العلامات : يتصور البعض ضرورة أن يعطينا الرب علامات معجزية او محدودة، نتعرف بها على مشيئة الله، كأن نحلم بشئ أو يحدث شئ محدد، أو نسمع كلمة معينة من شخص ما… إلخ. ولكن هذا الأسلوب غير سليم لأسباب: 

  1. أن الله أعطانا روحة القدوس ليرشدنا إلى جميع الحق، فلا يصح أن نتعامل مع الله من باب الخرافات والتخمين والرؤى والأحلام، لأنه حاضر معنا، وعامل فينا وقادر على إرشادناه.
  2.  سهولة تدخل عدو الخير في هذه الأمور، إذ يعرف إلحاحنا عليها واهتمامنا بها، وهكذا يصور لنا هذه العلامة أو تلك ليسقطنا في حفرة…
  3.  احتمالات الخداع النفساني، فلاشك أن الأحلام مرآة لشهوات واهتمامات النفس، فإذا اشتهيت أمراً ما – حتى إذا كان سلبياً – فمن الممكن أن يدخل في أحلامي، ويحدث .. الإرتباك.. وحتى الإنحراف!.
وهكذا.. فالإنسان المؤمن لا يعلق نفسه بأمور غريبة، فكم أضاعت الرؤى والأحلام قديسين، فقدوا الأفراز أو الإتضاع، انساقوا وراء إيحاءات عدو الخير، هناك باب في بستان الرهبان مخصص لهذا الخطر. كما أن القديس أنطونيوس الكبير يعتبر فضيلة الإفراز أهم
الفضائل، وبدونها تتحول الفضائل إلى رذائل. فهذا يصلي دون إفراز لدوافعه، فيطيل في صلاته طالباً مديح الناس، فتحسب صلاته عليه ولا تبني حياته إطلاقاً، بل بالحرى تضخم من ذاته فيسقط في الكبرياء … وهكذا.
لذلك لا يصح أن ننتظر علامات غريبة لنعرف مشيئة الله في أمر ما، بل هناك روح الله القدوس، وهناك التفكير الإنساني، وأب الإعتراف، والأسرة والأحباء والمشيرين… الخ.

ب- القرعة الهيكلية: يلجأ البعض إلى هذا الأسلوب لكي يتعرف على مشيئة الله، ولكن هذا الأسلوب غالباً ما لا يكون مناسباً… والحالة الوحيدة التي يكون فيها مناسباً تستلزم شروطاً صعبة التنفيذ وهي:
 
1- أن يكون الإنسان مخلصاً تماماً في التعرف على مشيئة الله، وتاركا النتيجة بصفة نهائية وحاسمة لله
2- أن يكون الإختيار بين أمرين متساوياً تماماً، بحيث إستحال على الإنسان أن يختار هذا ويترك ذاك. .
3- ألا يتردد الإنسان بعد خروج النتيجة، بل يعتبرها نهائية.
وعموماً، هذه الأمور صعبة التواجد في الحياة اليومية، إذ لابد أن يجد الإنسان – بروح الله، وبالتفكير، وبالمشورة – ما يجعله يرجح كفة على الأخرى. وما نلاحظه عموماً أن الإنسان بعد خروج النتيجة يتضح أنه:
1- إما كان يشتاق إليها فيستريح، وقد يكون اشتياقه على أساس خاطئ .
2- وإما أنه كان ينتظر الرفض مثلاً فتأتي النتيجة بالإيجاب (أو العكس)، فيطلب تكرار القرعة.
. 3- وإما أنه أقتنع فيما بعد بإختيار لم تفرزه القرعة فيتشكك… أنه خالف المذبح.
لهذا فيستحسن عدم اللجوء إلى القرعة الهيكلية عموماً، ما لم تتوافر الشروط التي ذكرناها قبلاً. وإذا ما تحير الإنسان فعليه أن يلجأ إلى المزيد من الصلاة والتفكير والتشاور، والرب
سيحسم الأمر لأولاده سلباً أو إيجاباً بآلاف الوسائل.

إن الآباء الرسل لم يلجأوا إلى القرعة إلا:
1- قبل حلول الروح القدس
2- في حالة تساوي الاختيارات، فالشروط توافرت بالتساوي بين متياس ويوسف (أع21:1 -26).. فنصلي من عمق القلب طالبين تدخل الرب، وإرشاده، وحسمه للأمور، وقطعاً سيتخل، ويوضح كل شئ.

إذاً، كيف أعرف ؟ إن مشيئة الله، حينما تتضح لنا من خلال الصلاة المتواترة التي تلح على روح الله، والتسليم الصادق لمشيئة الله عن ثقة واقتناع، والتفكير الهادي الرزين، والحوار البناء مع آخرين… تحمل معها علامات معينة:
  1.  السلام الداخلي : إذ يحس الإنسان بصفاء نفسي وسلام داخلي نحو القرار الذي اتخذه، مع ضمير مستريح أنه ترك للرب أن يحدد ما يختاره بحكم علمه الواسع، وحنانه
    الدافق، وقدرته اللانهائية.
  2. موافقة الكتاب المقدس : إذ يستحيل أن يتعارض الإختيار الإلهي مع وصايا الكتاب، فمكان العمل المعثر والذي يسبب نكوصاً على الأعقاب ليس من الله، وشريكة الحياة البعيدة عن روح المسيح ليست من الله، والقرار المادي الذي تفوح منه رائحة الطمع أو استخدام وسائل غير مشروعة ليس من الله.. وهكذا.
  3. سير الظروف : إذ يتحرك الإنسان تحت حمى مظلة الصلاة، تاركاً للرب أن يتدخل بالصورة التي يراها، بحيث تسود مشيئته كل مشيئة. حينئذ سوف يتدخل الله قطعاً، إما إيجاباً أو سلباً أو تأجيلاً.. وسوف يكون الإنسان في قمة الراحة لأي اختيار إلهي من هذه الثلاثة.. 
 
وهكذا يتحرك الإنسان في الطريق دون توتر، ودون شهوة ذاتية أو مشيئة خاصة، وصرخة قلبه المستمرة: “لتَكُن مشيئتُك” 
من حقه أن يطلب، حسب وصية الرب: ” سألوا تعطوا. اطلُبُوا تجذوا. اقرَعُوا يُفتَح لَكُم(مت 7:7)، لا تهتَمُوا بشيء ، بل في كل شيء بالصلاةِ وَالدُعَاء مع الشكر، لِتَعْلَمُ
طلباتكُمْ لَدَى الله” (في 6:4)، ولكنه يسلم كل شئ لله، تاركاً له تحديد المسار والنتيجة النهائية.
وقديماً قال الآباء: سوف يأتي وقت فيه نشكر الله على الصلوات غير المستجابة أكثر من الصلوات المستجابة”.
ونحن كثيراً ما نطلب دون أن نأخذ، لأننا حسب تعبير الرسول: تطلُبُونَ وَلَستم تاخذون، لأنكُمْ تُطلَبُونَ رَدِيًا لِكَي تُنفِقُوا فِي لَذاتِكُم” (يع 3:4). “اطلبوا أولاً مَلَكُوتُ اللهِ وَبِرَهُ، وَهَذِهِ كُلَّهَا تُزادُ لَكُم” (مت 33:6 ).
فليعطنا الرب القلب المرتبط به، الحياة السالكة فيه، والأذن الواعية لصوته، لنتعرف على مشيئته المقدسة، ونصنعها بفرح .

والآن أتركك يا أخي الشاب لتراجع ما قلناه، وإذ تقف متحيراً: ماذا أفعل؟ تسمع الصوت الإلهي: “سر أمامي وكن كاملاً” (تك 1:17)، “أجَرَك كثير جدًا” (تك 1:15).
الرب مع روحك

زر الذهاب إلى الأعلى