بولس (الواضح) بن الرجاء

 

 وثمة صورة ساطعة تلمع أمامنا من وراء القرون عن هذه الفترة التي سادها السلام والطمأنينة : هي صورة الواضح بن الرجاء . فلقد شابه هذا الرجل شاول الطرسوسی حین وقف شاهداً على رجم استفانوس أول شهيد. إذ وقف الواضح شاهداً ومشاركا في قتل أحد المؤمنين من المسيحيين ، ثم شابهه حينما أصبح بولس إذ آمن بالمسيح ولذلك اختار أن يتخذ لنفسه اسم بولس أيضا .

وتتلخص سيرته في انه بعدما اشترك في قتل المسيحي ذهب ليحج . وكان السفر للحج قديماً شاقاً محفوفة بالمخاطر إذ كان يضطر الحجاج الى قطع الصحراء الشاسعة على ظهور الجمال . وحدث عند العودة من الحج أن نزل القوم في ذات مساء ليشربوا ويسقوا جمالهم . فضل عنهم الواضح وخاصة لأن الظلام كان قد أسدل أستاره . وفيما هو قلق ومتحیر ماذا يعمل لينجو بنفسه من هذا القفر المترامي الذي غطاه الظلام إذا بفارس يرتدی الملابس الرسمية ويمتطى صهوة جواده يقف أمامه ويسأله : « ماذا حدث لك ؟ » فلما أخبره بما هو فيه من مأزق قال له الفارس: «مادمت قد فقدت جملك وضللت عن القافلة التي كنت معها فاركب خلفي على جوادی » . وتنفس الواضح الصعداء وركب خلف الفارس . ولم يعرف من هو ولا ماذا فعل به، ولكنه وجد نفسه بعد دقائق داخل بناء فسيح . وكان البناء هو کنیسة أبي السيفين ببابلون ولو انه لم يعرفها طبعاً. ولكنه رأى القناديل موقدة ورأى على ضوئها أيقونات القديسين فأدرك أنه داخل كنيسة ما.

ونام مطمئناً إلى الصباح . وعندما دخل بواب الكنيسة كعادته لينظفها ورآه ظن أنه لص وكاد يستغيث ولكن الواضح أشار إليه بالسكوت وروى له كل ما أصابه. ولم يصدقه البواب فعاد الواضح يسأل عن القديس شفيع الكنيسة التي هو بها فاعلمه أنه أبو السيفين . فرجا منه أن يريه صورته إذا كان ذلك ممكناً . وحينما وقف أمام الأيقونة هتف : « حقاً أن هذا هو الفارس الذي أنقذني من الموت في الصحراء . فهذا لباسه وهذه منطقته وهذا حصانه وهذان سيفاه ! ، وذهل البواب رزعم أن الرجل قد جن. ولكن الواضح طلب إليه أن يأخذه الى قمص شيخ يفهم الحقائق الروحية فأجابه الى طلبه . وحينما سمع الرجل الروحاني بما جرى صدقه ولبي طلب الواضح في أن يقرأ الكتاب المقدس وكتب الآباء. وأكب الواضح على القراءة وتفتح قلبه، فرجا من القمص أن يعمده . وتردد القمص في بادئ الأمر واقترح عليه أن يذهب الى برية شيهيت کي يكون بعيداً عن أهله ومعارفه . ولكن الواضح ألح عليه قائلا : « أن الطريق بعيد وقد يفترسنی وحش أو أموت بسبب من الأسباب قبل أن أصل إلى الوادي المقدس وأنال نعمة المعمودية. وعندها صبغه القمص بالصبغة المقدسة باسم بولس. ثم عاد يطلب اليه أن يذهب الى البرية فلبي طلبه وترك كنيسة ابی السيفين التي ظل مقيما بها منذ أن أحضره شفيعها اليها .

ووصلت القافلة التي كان الواضح أحد أعضائها . وذهب صديق أبي الرجاء ليعلمه أن ابنه ضل عنهم ولم يقفوا له على أثر فظنت العائلة أنه توفي وعملت عليه مناحة.

على أن الرهبان قالوا للواضح بأن معموديته لا تدعمها غير شهادته أمام عارفيه فترك البرية وعاد الى كنيسة أبي السيفين . ورآه أحد عارفیه فذهب الى أسرته يقول : ( لقد رأيت اليوم شابا نصرانياً شديد الشبه بابنكم. فذهب اخوته الى منطقة الكنيسة يراقبونه عن بعد فلما رأوه تيقنوا أنه هو فأمسكوا به وأخذوه الى البيت واشتد معه أبوه وأساء معاملته فقبلها في رضي . واشتكى أمره للخليفة العزيز فلما استوضح الخليفة الحقيقة أمر بترکه حرأ وهيأ له فرصة للمناظرة الدينية في قصره أمام المسلمين والقبط . فاستمتع بولس إذ ذاك بالحرية . على أنه لما آل الحكم الى الحاكم بأمر الله عاد أبو الواضح ، الى التضييق عليه فحبسه واستبد به ومنع عنه الطعام والشراب عدة أيام . ثم أخرجه فوجده في صحة ونضرة ولم يكن يدرى أن الأنبا مكاري الكبير ظهر له في الحبس وقواه وأطعمه . وعند ذاك ضاعف استبداد، وأخيرا ذهب يشتكي منه الى الحاكم بأمر الله . ولكن شاءت المراحم الإلهية أن تكون هذه الشكوى في فترة من فترات الصفاء . فأمر الحاكم بأن يأتي المشتكون والمشتکی علیه أمامه . فلما مثلوا بين يديه أمرهم أن يتحاجوا أمامه. وبعد أن استمع إلى الطرفين أعجبه كلام الواضح فأمر بتركه وشأنه. فلما أخلى سبيله للمرة الثانية ذهب الى البرية حيث ترهب بدير الأنبا مكاری الكبير . وفي تلك الأثناء تعرف بالأنبا ساويرس أسقف الأشمونين ووضع نفسه تحت خدمته بأن جمع له كل السير التي وجدها في الدير. كذلك وضع كتابين سمى أحدهما « الواضح ، لأنه ضمنه توضيحا صريحاً للعقيدة التي اعتنقها، أما الكتاب الثاني فدعاه نوادر المفسرين، فلما رأی الرهبان ما تحلى به من الفضل والعلم أمسكوا به قسراً وقدموه إلى الأب البطريرك الذي كان يزور البرية آنذاك فرسمه قساً ، فتعرض بهذه الرسامة لغضب العربان المقيمين بتلك الجهات وخاف عليه الرهبان من القتل فقالوا به : « لقد شهدت لإيمانك وسط العالم فلا تعرض نفسك للموت الآن بل أمض إلى الريف  وعش هناك ، . فمضى إلى بلدة صندفا حيث صار قيما لكنيسة الشهيد ثيئودورس يخدمها ليلا ونهارا مدة سنتين . واتفق أن جاء شماس من أهل منوف اسمه تيدرا پن مینا الى هذه الكنيسة فوجد هذا القديس محموما . ولقد قال له بولس حين رآه : « مطانوه أن لا تفارقني لأني لم يبق لي غير يومين على هذه الأرض . فمتى أسترد الآب السماوی ودیعته فادفني قبل أن يعلم أحد ، . لما تنيح هذا الرجل البار تحیر الشماس في أمره قليلا اذ كان بعض الغوغاء قد سمعوا بالخبر رغم الحرص الذي أبداه الشماس . فبدأوا يتجمعون حول الكنيسة . وفيما هو بروح ويغدو في داخلها مصلياً مفكرا انزلقت رجله تحت العتبة واذا به يجد مطمورة حسنة نظيفة فأنزل بها جسد القديس وردم فوقها وأصلح موضع العتبة . ثم فتح باب الكنيسة . فلما دخلها الغوغاء لم يجدوا شيئا فتركوا الكنيسة لأصحابها في سلام .

____

من كتاب قصة الكنيسة القبطيةج03-الأستاذة إيريس حبيب المصري

زر الذهاب إلى الأعلى