دانيال قمص شهيت
الرهبان يخدمون ويعلمون
كانت الأديرة في القرن السادس تزخر بالرهبان الممتلئين نعمة حتى لقد ملأ شذاهم الأرجاء كالبخور الزكي وهكذا تتابعت سنو الفيض واحدة تلو الأخرى. وكان النظام في الأديرة الباخومية متبعاً بدقة إلى حد أن جموع الرهبان كانوا مقسمين إلى فرق – لكل فرقة منهم عملها الخاص. فالبعض منهم كان يعتني بالمرضى والمصابين بأرواح شريرة، والبعض ينظم الخدمات بين الفقراء والمعوزين، والبعض يشرف على المستشفيات – بل لقد كان عدد منهم مسئولاً عن أقسام خاصة من هذه المستشفيات تبعاً لاختصاصه، وجميعاً كانوا منشغلين بكرم الضيافة والعناية بالغرباء. وهذه الأعمال تبين إلى أى حد عاش الرهبان مسيحيتهم. ولم تقف خدمات الرهبان عند هذا الحد بل تجاوزتها إلى التعليم، لأن الأديرة كانت قد أصبحت محاريب العلوم الدينية والمدنية، فكان لها أبعد الأثر في تاريخ المجتمع القبطى وكنيسته وفي تاريخ الديار المصرية أيضاً[1]. ويرجع الفضل فى هذا الأثر البارز إلى أن الرهبان لم يستأثروا بما أحرزوا من علوم بل دأبوا على نشرها بين أفراد الشعب. ولغيرتهم على اخوتهم – أبناء الكنيسة المصرية – قسموا مدارسهم إلى نوعين : النوع الأول هو المدارس التي افتتحوها داخل الأديرة ووقفوا التعليم فيها على الرهبان، والنوع الثاني هو المدارس التي افتتحوها في القرى المجاورة للدير حيث كان رئيس الدير ينتدب من يراه صالحاً من الرهبان لتلقين الأطفال القراءة والكتابة والحساب ومبادئ الدين.
رياسة القمص دانيال تشمل الرجال والنساء
وكان يقوم بالتعليم فى داخل الأديرة الشيوخ من الرهبان الذين اشتهروا بالعلم والتقوى لأن برامج الدراسة كانت واسعة تهدف إلى اعداد الرهبان لحسن تأدية رسالتهم. وبين هؤلاء الشيوخ الحكماء دانيال قمص شيهيت الذي خدم بلاده أعظم خدمة بأن قدم للكنيسة أساقفة أعلام ، وليس ذلك فحسب بل أن رعايته شملت المتبتلات أيضاً فرعاهن أحسن رعاية.
الشريفة انستاسيا ضمن من تتلمذوا له
وبين العذارى اللواتي تنسكن تحت رعاية دانيال الشريفة أنستاسيا. فقد جاءته ذات يوم متخفية فى زى الرجال وأعلمته بحقيقة أمرها، كما أنبأته بأنها فرت من وجه امبراطور القسطنطينية الذي أراد التزوج منها. وحين عرف منها قصتها أرشدها إلى مغارة قريبة من ديره عاشت فيها. وكان أحد تلاميذ القمص دانيال يحمل إليها الخبز والماء مرة أسبوعياً ويتركهما عند باب مغارتها ويمضى لحال سبيله. وكانت – كلما ساورتها الهواجس والهموم وصفت جميع ما خالجها من مشاعر بكتابته على حجر وتركت هذا الحجر عند باب المغارة. فإذا ما جاء تلميذ دانيال بالخبز والماء ووجد هذا الحجر حمله إلى معلمه . فكان دانيال يكتب لها بدوره ويبعث بالرد مع تلميذه فتهدأ هواجس انستاسيا. ولما كانت تكتب باليونانية، ولما كان دانيال قد اختار رسوله إليها ممن يجهلون هذه اللغة فقد كانت اعترافاتها سراً مكتوماً. وقد ظلت على هذه الحال ثمانى وعشرين سنة ولم يسمع أحد بها إلا بعد نياحتها.
دانيال وقاطع الأحجار.
ولقد حدث ذات يوم أن ذهب القمص دانيال إلى المدينة ليبيع السلال التي صنعها بيديه فالتقى برجل يدعى أو لوجيوس كان مضيفاً للغرباء معيناً للفقراء. وكان هذا الرجل يعمل طيلة يومه بما يساوى أوقية من الذهب فكان لا ينفق مما يربحه فى يوم إلا ما يكفي لسد رمقه ويوزع الباقي على المحتاجين ثم يلقى بالفضلات إلى الكلاب. فلما رأى القمص دانيال ما يبذله أولوجيوس من احسان صلى إلى الله بحرارة ليجود عليه بما يعينه على مضاعفة احسانه. ولم تمض على هذه الصلوات الحارة غير أيام معدودات حتى عثر أولوجيوس على كنز ثمين فلعب المال برأسه ودفعه إلى أن يهجر مدينته ويرحل إلى القسطنطينية. وهناك استعان بالمال الذي معه ليبلغ منصب الوزارة. وحين تحقق طموحه نسى الفقراء والمعوزين.
وفي تلك الآونة رأى القمص دانيال أولوجيوس في حلم – رأه وهو يتقلب على فراش النعيم مغفلاً أعمال البر التي كان يعملها أيام أن كان فقيراً ثم رأى السيد المسيح جالساً على عرش القضاء يطالبه هو – دانيال – بنفس أولوجيوس التي حجرها الغنى . فلما استيقظ القمص دانيال من نومه وذكر ما رآه في الحلم ارتاع وأخذ يبتهل إلى الله بلجاجة أن يعيد أولوجيوس إلى ما كان عليه وأن يغفر له ما سبق أن طلبه لأجله بصفاء سريرة . ولم ينقض على ذلك زمن طويل حتى مات الامبراطور وخلفه على عرش القسطنطينية امبراطور جديد عزل أولوجيوس عن منصبه الوزارى. وخشي أو لوجيوس بطش الامبراطور به فعاد إلى مدينته تاركاً خلفه كل مظاهر العظمة، وعاود عمله السابق الوضيع – وهو قطع الأحجار – كما عاود احسانه إلى ذوى الحاجة . وسمع دانیال بعودة أولوجيوس فتهلل قلبه ، ثم ذهب إليه وروى له كل ما رآه في منامه بشأنه وحمد الله الذي أعاده إلى ما كان عليه . فانضم أولوجيوس إليه في حمد الله وتسبيحه ، وقضى ما بقى من حياته في عمل البر والاحسان.
وصية القمص دانيال ونياحته
ولقد عاش دانيال قمص شيهيت أربعين سنة ونصف في الصحاري مداوماً على الصوم والصلاة ، مهتماً بتعليم الرهبان والراهبات الخاضعين لرئاسته وعندما دنت ساعة انتقاله من هذا العالم أعلمه بها ملاك الرب ، فجمع حوله الرهبان والراهبات وأوصاهم بأن يظلوا محافظين على المحبة التي هي رباط الكمال ، متمسكين بايمانهم الأرثوذكسي الذي ارتضى جدودهم أن يبذلوا فى سبيله أرواحهم ثم استودع روحه يدى الآب السماوى وانتقل إلى بيعة الأبكار بسلام.
- التربية في مصر في العصر المسيحي وبين القبط (بالانجليزية) مقال للدكتور جورجي صبحی نشره في مجلة الآثار القبطية العدد التاسع سنة 1943 ص 113، وأن من يدرس الوصية الموجهة إلى الراهب ( أو الراهبة) يستنتج منها انشغاله بخدمات مختلفة . فمثلاً ورد في المخطوط العربي سنة 405 طقس المحفوظ بمكتبة المتحف القبطي في الجزء المتعلق بقسمة الراهبات ما يلى : لا تختصى عن اخواتك الراهبات بشئ دونهن ، وافتقدى المرضى زورى المحبوسين عزى المتضايقين ادرسى الكتب الإلهية وداومى على قراءتها لتضئ نفسك بنعمة الروح القدس ، وكونى مثالاً صالحاً للذين ينظرونك ، . وقد وردت هذه الوصية بعينها في المخطوط القبطى سنة 71 المقيد في الكشف تحت رقم 112 والمحفوظ بالمكتبة الأهلية بباريس. ويتضح منها استنهاض همة المختارة للرهبنة لأن تخدم الناس – كلا حسب حاجته .