داود النبي والملك

 َداود ملكاً

في مدة خيالية قصيرة للغاية استعادت إسرائيل كل قوتها بعد اليأس القاتل، وصارت أقوى دولة في فلسطين وحتى سوريا، وذلك بفضل داود النبي والملك . لقد أُقيم داود ومسح ملكاً في حبرون علـى يهوذا أولاً . والعجيب أن يكون ذلك بموافقة الفلسطينيين عن مسرة إذ كان نصيراً لهم ! وسرعان ما صار داود ملكاً على كل الأقاليم، وخضعت له كلها إما عن مسرة أو عن اضطرار :
+ «وجاء جميع أسباط إسرائيل إلى داود إلى حبرون، وتكلَّموا قائلين هوذا عظمك ولحمك نحن، ومنذ أمس وما قبله حين كان شاول ملكاً علينا قد كنت أنت تخرج وتدخل على إسـرائيل، وقد قال لك الرب أنت ترعى شعبي إسرائيل وأنت تكون رئيساً على إسرائيل . وجاء جميـع شيوخ إسرائيل إلى الملك إلى حبرون فقطع الملك داود معهم عهداً في حبرون أمـام الـرب، ومسحوا داود ملكاً على إسرائيل.» ( ٢صم  ٥ :١-٣).

وكان داود ابن ٣٠ سنة حين ملك وملك ٤٠ سنة، في حبرون ملك على يهوذا سبع سنين وستة أشهر، وفي أُورشليم ملك ثلاثاً وثلاثين سنة على جميع إسرائيل ويهوذا . وليس عجيباً أن يحوز داود على خضوع كل إسرائيل بل وكل الشعوب حوله، فقد كان روح االله عليه، بمعنى أنه كان قائـداً ملهماً يعمل الصالح دائماً وحسب مشيئة االله.

وهكذا وبلا أي منازعة أو حروب اتحد الشمال الذي كان يتبع شاول سـابقاً مـع الجنـوب، فصارت مملكة متحدة.

فاصل

داود والمعركة الفاصلة مع الفلسطينيين:

كانت المرحلة الأُولى بجوار أُورشليم، إذ عسكر الجيش الفلسطيني شمال المدينة على الجبال الـتي كانت لا يزال يسكنها الكنعانيون ولكن تحت حماية الفلسطينيين . وكان غرض الفلسطينيين واضحاً وهو قطع المواصلات مع الشمال تمهيداً لتحرير القوات الفلسطينية التي في الجنوب في يهـوذا والـتي كان قد حاصرها داود . وبالرغم من ضعف وقلة القوات الإسرائيلية التي كانت تحت يد داود إلاَّ أنه استطاع أن يصدهم ويطردهم .
ولكن أدرك داود أن حرب الدفاع سوف تجعل إسرائيل باستمرار تحت تهديد الفلسطينيين، لذلك عزم أن يغزوهم في أرضهم، وبعد تردد صمم أن يسأل الرب :
+ «وسأل داود من الرب قائلاً أأصعد إلى الفلسطينيين؟ أتدفعهم ليدي؟ فقال الرب لداود اصعد … فجاء داود إلى بعل فراصيم وضربهم داود هناك وقال قد اقتحم الرب أعـدائي أمـامي كاقتحام المياه، لذلك دعى اسم ذلك الموضع بعل فراصيم … ثم عاد الفلسطينيون فـصعدوا أيضاً وانتشروا في وادي الرفائيين . فسأل داود من الرب (عدد جيشه قليل جداً بالنسبة للعدو) فقال لا تصعد بل در من ورائهم … ففعل داود … وضرب الفلسطينيين من جبـع إلى مـدخل جازر ( ٢صم ١٩:٥-٢٥).
+ «وكانت أيضاً حرب بين الفلسطينيين وإسرائيل، فانحـدر داود وعبيـده معـه وحـاربوا الفلسطينيين، فأعيا داود . ويشبي بنوب الذي من أولاد رافا ووزن رمحه ثلاث مائة شاقل نحاس وقد تقلَّد جديداً افتكر أن يقتل داود، فأنجده أبيشاي بن صروية فضرب الفلسطيني وقتله . حينئـذ حلف رجال داود له قائلين: لا تخرج أيضاً معنا إلى الحرب ولا تطفئ سراج إسرائيل .
ثم بعد ذلك كانت أيضاً حرب في جوب مع الفلسطينيين …
ثم كانت أيضاً حرب في جوب مع الفلسطينيين …» ( ٢صم ١٥:٢١- ١٩).

وهكذا، واضح أن الفلسطينيين كانوا يهددون إسرائيل، وأن داود واجه الموت أمامهم بيد أحـد جبابرتهم، فكف عن أن يخرج في الجيش. وظل التهديد مستمراً بلا هوادة، ولكن لم يتـركهم داود أبداً حتى كلَّت قوتهم وتراجعوا أمامه وتحصنوا في الساحل، وكفوا نهائياً عن المهاجمة . فتـركهم داود بإرادته ولو شاء لقتلهم وأفناهم، ولكنه استبقاهم واستخدمهم بعد ذلك بتأجيرهم كجنود مرتزقـة للمحاربة في صفوفه.

فاصل

 أُورشليم مدينة داود وعاصمة مملكة إسرائيل

(٢٥٠٠ قدم فوق سطح البحر ):
الآن، وقد استراح داود من الأعداء في الخارج، التفت بكل عزيمة أن يجمع شمل الداخل ويقـوَّي رابطة الأسباط . ومعروف أنه بعد فترة قليلة من حكمه وهو في حبرون قام بمحاصرة معقل اليبوسيين في أُو رشليم، وبسقوطها نقل مركز إدارته إليها . وبهذه الخطوة أنهى على قوة الكنعانيين المحاصرين في وسط البلاد . وصارت أورشليم عاصمة إسرائيل بعد أن ثبت لدى داود أن حـبرون الواقعـة في جنــوب اليهوديــة لا تكفــل لــه بــسط ســلطانه علــى الــشمال وكــل مناطق الأسباط .

وبذلك وفَّرت له أُور شليم بحيادها الطبيعي – إذ لا تقع في حوزة أي من الأسـباط – المركـز الممتاز اللائق بعاصمة البلاد . لقد قوَّى داود حصونها وقلاعها وبنى فيها قصر داود . ولكن لم يسجل لنا التاريخ ولا الآثار كيف استولى داود على المدينة، ويرجح بعض العلماء اليهود أنه حاصرها ونفذ  إليها من سرداب سري معمول أصلاً ليوصل المياه من نبع جيحون إلى ما داخل سـور المدينـة ( ٢صم ٧:٥). ولكن المعروف أن داود دخلها بقواته الخاصة واستولى عليها ولذلك دُعيت عن حق مدينة داود، سقطت في يده بعد أن ظل الإسرائيليون ٢٠٠ سنة عاجزين عن أن يطرقوا أبوابها لأنها كانت أكثر البلاد حصوناً ومناعة !! فاضطر بنو يهوذا أن يساكنوهم فقط ! ولكن من المحقَّق أن داود لم يذبح اليبوسيين كالعادة ولم يطردهم أيضاً، ولكن عمل على تدفق شعب إسرائيل ليصيروا الأغلبية السكانية فيها على ممر السنين وبالأخص جداً بيت داود .

وأدرك داود أن سلطانه على الأسباط يقوم أساساً على صلته الروحية بـاالله، كمـا أدرك أنـه يستحيل على عاصمة إسرائيل أن تستمد قيمتها من ملك أو من جيش، لذلك أسرع داود ونقل إليها تابوت عهد االله من قرية يعاريم حيث بقي فيها منسياً لأكثر من جيل كامل (١صم٢:٧) وقـد قام داود بتقوية حصونها و قلاعها، وبنى فيها قصراً له استحضر له متخصصين من الفينيقيين . واشتهى داود أن يبني فيها هيكلاً للرب، ولكن االله رفض طلبه بسبب الدماء التي لوثت يديه . فلم يثنِ ذلـك داود عن عزمه، فقام باستحـضار كل ما يلزم بناء هيكل االله من جميع المواد من أماكنها البعيدة، ومن كثرة تشوقه واهتمامه بـشكل البيت أراه االله تكويناته، فأملاها على ابنه سليمان.

وتطل أُورشليم على ثلاثة أودية : وادي قدرون Kedron من الشرق، ووادي هنـوم Hinnom من الجنوب، ووادٍ في الوسط يسميه المؤرخ يوسيفوس اليهودي وادي تيروبيـون Tyropeone. ولم يحاول داود أن يوسَّع رقعة المدينة بسبب انشغاله بالحروب، ولكنه اكتفى بتقوية أسوارها وحـصونها وبنى فيها بيته الخاص ونقل إليها كل عائلته: «وأقام داود في الحصن وسمَّاه مدينة داود، وبـنى داود مستديراً من القلعة فداخلاً.» ( ٢صم ٩:٥ ).

والمدينة في وسط فلسطين تقوم على هضبة مرتفعة ٢٥٠٠ قدم فوق سطح البحـر، وقـسمها الشرقي المرتفع كان اسمه عوفل (أي الأكمة ) Ophel، أمَّا قسمها الغربي فصار اسمـه فيمـا بعـد صهيون .
ومعروف أن داود بعد حروبه المعروفة بقيت أمامه بلاد كثيرة جداً للكنعانيين وغيرهم، لم يحاربها ولكنها لمَّا كانت تحت سلطان الفلسطينيين الذين فقدوا سطوتهم وسيادتهم على البلاد، انتقلت هـذه البلاد بسهولة من ولائها للفلسطينيين إلى داود، وازدادت الرابطة جداً بينها وبـين إسـرائيل حـتى بالنهاية ذابت في نسيجها.

وبهذا، وفي أوائل عصر داود، تمَّ لإسرائيل السيادة على كل الأرض . ولكن بسبب وجود هـذه الشعوب الغر يبة، كان الاحتكاك الاجتماعي والديني وتسرُّب العادات والأخلاق والسلوك لـشعب إسرائيل فيه مضرة وإتلاف لمستقبل إسرائيل أشنع من الحروب وخسائرها.

فاصل

حروب داود خارج أرض إسرائيل

 أ – عبر الأُردن وفي الشمال والجنوب:

شاء أو أبى، كان على داود ليثبت مملكته أن يقع في حروب دامية مـع كـل مـن العمـونيين والأراميين (٢ صم ١٠)، ولكنه لم يخرج في هذه الحروب بل أوكلها لقـواده الأقويـاء . وانـضم الأراميون إلى العمونيين لتشديدهم ضد داود، ولكن، وبقيادة يوآب أخضعهم وكـسرهم، ثم عـاد وحاصرهم. وأثناء هذا الحصار وقع داود – وهو في أُورشليم وهو آمن في قصره – وقع صريعاً تحت يد الشيطان (٢ صم ٢:١١)، إذ اغتصب امرأة أحد الجنود وهو غائب في الحـرب . ثم عـاد وأسـقطه الشيطان في المعركة الثانية إذ أوصى باغتيال زوجها فاغتالوه. وهكذا سجلت عليه الـسماء نقطـة سوداء، وأبى االله إلاَّ أن يدفع داود ثمنها :
+ «أنت هو الرجل!! هكذا قال الرب إله إسرائيل، أنا مسحتك ملكاً على إسـرائيل … لمـاذا احتقرت كلام الرب لتعمل الشر في عينيه . قد قتلت أوريا الحثي بالسيف، وأخذت امرأتـه لـك امرأة، وإياه قتلت بسيف بني عمون. والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد …!!» ( ٢صـم ٧:١٢-١٠)
وتركت هذه الخطية الحزينة آثارها على تاريخ إسرائيل، وربما على تاريخ الكنيـسة إلى الأبـد، بالسلب والإيجاب، لأن داود وقع على الأرض حزيناً نادماً وهتف بمزمور التوبة الشهير : «ارحمني يـا االله حسب رحمتك ،» الذي لا يزال كل مسيحي يتلوه وتتلوه الكنيسة في أول كل صلاة على مدى اليوم وكل الأيام والسنين !!
وانكسر العمونيون ووقعوا تحت العبودية والولاء لإسرائيل كل أيامهم، وأخذ داود تاج ملـك العمونيين وصار يلبـسه دائماً ليكون لا ملكاً على  اليهودية وإسرائيل فحسب، بل وعلى العمونيين أيضاً:
+ «وكان لمَّا جاء داود إلى محنايم (بلاد عمون) أن شوبي بن ناحاش من ربة بني عمون ومـاكير بن عميئيل من لودبار وبرزلاي الجلعادي من روجليم قدَّموا فرشاً وطسوساً وآنيـة خـزف، وحنطة وشعيراً ودقيقاً وفريكاً وفولاً وعدساً وحمصاً مشوياً، وعسلاً وزبدة وضأناً وجبن بقر لداود للشعب
( ٢صم ٢٧:١٧-٢٩).

وأضاف داود إلى ملكه المنطقة الجنوبية من عبر الأُردن بغزو موآب وأدوم، وأنهى داود هـذه الحرب بموقعة حاسمة أنهى فيها على الأدوميين في العربة جنوب البحر الميت، ولكن في قسوة مريعة :
+ «وضرب الموآبيين وقاسهم بالحبل، أضجعهم على الأرض فقـاس بحـبلين للقتـل وبحبـل للاستحياء، وصار الموآبيون عبيداً لداود يقدمون هدايا.» ( ٢صم ٢:٨ ).
+ «وضرب داود هدد عزر بن رحوب ملك صوبة حين ذهب ليرد سلطته عند نهر الفرات. فأخـذ داود منه ألفاً وسبع مئة فارس وعشرين ألف راجل … فجاء أرام دمشق لنجدة هدد عـزر ملك صوبة فضرب داود من أرام اثنين وعشرين ألف رجل . وجعـل داود محـافظين في أرام دمشق وصار الأراميون لداود عبيداً يقدَّمون هدايا.» ( ٢صم ٨ :٣-٦).
+ «وحـدث لمَّــا كـان داود في أدوم عنــد صــعود يــوآب رئــيس الجــيش لــدفن القتلى، وضرب كل ذكر في أدوم، لأن يوآب وكل إسرائيل أقاموا هناك (في أدوم ) ستة أشهر حتى أفنوا كل ذكر في أدوم…» ( ١مل ١١: ١٦،١٥)
وأرسل داود جيش احتلال وحكَّاماً ليحكموا أدوم المهزوم .

ب – داود يغزو سوريا:

لم يكن حبَّا في التوسع ولا لمهاجمة سوريا (دمشق) بالذات، ولكن كان يتعقَّب ملك صوبة هدد عزر الذي أعان العمونيين وهرب منه إلى دمشق ( ٢صم ٣:٨-٨) ، وترأس هناك على جماعة مـن السوريين البدو، فانقض عليه داود بجيشه بغتة وانتزع منه انتصاراً ساحقاً، واستولى على معظـم المركبات الحديدية التي للأراميين التي كسرها ولم يستخدم منها إلاَّ بعض الخيول. وامتد داود بجيشهفي سوريا وهزم كل قوات الأراميين في دمشق، كل الذين كانوا في جيش هدد عـزر. وأبقـى في دمشق قوة وضمها لمملكة إسرائيل وأخضعها لحكمه . واستولى داود على كل النحاس الذي كـان بحوزة مملكة هدد عزر والذي كانت تنتجه مناجم النحاس في شمال سوريا في كل البلاد المذكورة في ( ٢صم ٨:٨، ١أخ ٨:١٨) وهي بيروثاي Berothai وبلدة طبحة Tebath وبلدة خون Cun و هي الواقعة بين لبنان وشمال حمص.

وتكوَّنت صداقة بين ملك حماه وداود وأعطاه هدايا . كما عمل داود معاهدة مع الملك حـيرام ملك صور ( ١مل ١:٥)، والذي كان ملكه بين سنة ٩٦٩-٩٣٦ ق.م حسب تحقيق الآثار، أي أنه يتداخل في زمن حكم داود (١٠٠٠-٩٦١ق.م)  بمقدار ثماني سنوات.

وهذه الغزوات والمعاهدات والصداقات كان لها أثر بارز جداً في اقتصاديات إسرائيل وتجارتها ومواردها، من المعادن النفيسة وغير النفيسة، والأخشاب والرخام، التي أكمل بها سـليمان هيكلـه المشهور. كما استفاد من مدنيتها ونظمها وتدريب جيوشها وعمارتها وفنونها وإدارتها، واستعان بتأجير ما فيها من قواد على أعلى مستوى من الأمانة والخبرة، واتخذ منها نظام الكتبـة في الدولـة والمسجلين (٢صم١٦:٨-١٨، ٢٣:٢٠-٢٦). فنظم شكل الحكومة الإسرائيلية التي تولى العمـل فيها قواد تحت رئاسته المباشرة دون رئيس آخر . أمَّا رئيس أركان الحرب فكـان يـوآب ضـابطاً إسرائيلياً متمرساً خاض الحروب مع داود مرات كثيرة، فأوكل إليه قيادة القوات الأجنبية التي دخلت الجيش للخدمة، وأهمها الجنود الفلسطينيون. كما عيَّن داود وزيراً للإعلام (المنادي) وبالعبري (مزكير Mazker)، كما عيَّن سكرتيراً عاماً للحكومة (صوفير Sopher)، وتعين اثنان من الكهنة للخدمـة وافتاء الشعب هما صادوق وأبياثار، ثم أضاف عليهم أبناءه الذين أقامهم كهنة (٢ صم ١٨:٨)، كما عيَّن مديراً عاماً لأعمال السخرة لتشغيل الأجانب في مؤسسات الحكومة ومعه رئيس جلادين لتوقيع العقوبات.
أمَّا خارج البلاد فقد عيَّن محافظين على مقاطعات البلاد الخاضعة للدولة ويعمل معهـم قـواد وجنود. وكان يحيط بداود فرقة حراسة مكونة من ثلاثين من القواد (كان اسمها الثلاثين وكان عددهم الفعلي سبعة وثلاثين ) هم حرس شرف مختارون من أعلى الرتب والشخصيات، وكانوا بمثابة لجنة المشورة لأمور الحرب، وقد وردت أسماؤهم في ( ٢صم ٢٤:٢٣ -٢٩).

وهكذا تأسست مملكة إسرائيل على يد داود كأعظم ما تكون الدولة، وعلى قياس أي دولـة في عـصرنا الحاضر، حتى يجوز أن نسميها امبراطوريــــة ذلك الزمان . وهي بهذا الامتداد شرقاً وشمالاً وجنوباً – وإن كانت تتضاءل جداً بجوار مملكة مصر فقد ضمت إسرائيل كل أرض فلسطين وشرق الأُردن المعروفة الآن شرقاً وغرباً من صحراء العربـة إلى البحر، وتمتد حدودها الجنوبية لتشمل كل النقب من خليج العقبة حتى وادي العريش المعـروف قديماً بنهر مصر، وشمالاً لتشمل كل مناطق جنوب سوريا وأوسطها، ومن صور حتى قادش على نهر أورنتس إلى حماة في الصحراء . وفرض داود سلطانه على الأراميين وجعلهم تحت إدارتـه وفـرض عليهم الجزية، فبلغت حدوده بواسطتهم حتى الفرات مروراً بدمشق وصوبة . فأخـضع الأدومـيين والعمونيين والأراميين (السوريين) والفلسطينيين، فارضاً عليهم أثقل الجزية، وسـخرهم لـصناعاته وتعمير دولته ومناصرته في حروبه.

وهكذا نقل داود إسرائيل من شعب أسباط منقسم ومتخاصم إلى مملكة متحـدة تحـت التـاج يُخضعها لسطانه، وإنما من تحت إلهام االله المميز فيه والمستمد من احتفاظه بتابوت عهـد االله رمـز الحضرة الإلهية ورمز وحدة الأسباط الرسمية المقدسة.

وبالنهاية، لم يكن داود ملكاً فقط بل نبيا مُلهماً، أحبه االله منذ صبوته، وسكب من روحه عليـه بغزارة، فكان شاعراً ومؤلِّفاً وموسيقياً بارعاً . واالله هو الذي اختاره ملكاً على إسرائيل، وصـموئيل عظيم الأنبياء هو الذي مسحه بقرن الدهن. لقد تكلَّم االله على فمه فنطق مزاميره بالروح القـدس، وتنبأ عن المسيح الذي جاء من نسله حسب الجسد.

لقد أورث داود لإسرائيل أعظم مملكة روحية قامت في العهد القديم، قامت على عبادة االله الواحد الحي القدوس، وأورثت إسرائيلُ بالتالي العالمَ كله هذا الإرث الغالي . كما أورث داود اسمه بل روحه لشعب إسرائيل كنبي وشفيع أمام االله في الضيق : «يا إله داود » ( ٢أخ ٣:٣٤). وكم من المرات نسمعها من االله على فم الأنبياء: «من أجل داود عبدي (أعفو) …» ( ١مل١٢:١١، ٣٢:١١ ، مز ١٠:١٣٢ ).
لقد أحب داود االله حبا يعجز عن أن يدانيه أعظم متصوفي العالم . وبالرجوع إلى مزامير داود نرى داود على حقيقته عملاقاً في الصلاة والتسبيح، يقوم لينشد مزاميره في نصف الليل وقبل الفجر وسبع مرات في النهار مع السهر والصوم. وها هي مزامير التوبة كلها بكاء ودموع وحسرة وتوجع علـى الخطية، مع رجاء لا ينقطع في رحمة االله ولطفه وإحسانه، بتواضع ملك يُخجل الأطفـال الـصغار، وتوسل منسحق لا يدانيه أخطى الخطاة .
وبالنهاية، كان داود رائداً لجيله ولأجيال كثيرة قادمة في كل شيء ! لقد سخَّر موهبته الشعرية منـذ صباه لتأليف المزامير التي صارت كنز الصلاة العالمي، وسخر موهبته الموسيقية لتسبيح القدير بالنغم مـع الكلمة إلى مستوى الإلهام! وسخر رقة حبه للتعبير عن أسمى علاقات الإنسان مع االله ! وصالح قـوة
بأسه بعمق سخائه مع أعدائه، نسى رقة طباعه أمام سيف العدالة.
وكأنما أعاد االله تشكيله لداود مرات ومرات ليلائم كل المواقف، ويتناغم ومسرة مشيئته . لقـد ألقى االله ظلَّه على داود ليرى فيه إسرائيل صورة المسيا، المخلِّص الآتي :
+ «لأن داود بعدما خدم جيله بمشورة االله رقد وانضم إلى آبائه.» ( أع ٣٦:١٣ )

فاصل

شاول الملك الخروج الملك سليمان
تاريخ العهد القديم

 

زر الذهاب إلى الأعلى