سليمان الملك

 

 سليمان يرث المُلك ويبني الهيكل (٩٦١- ٩٢٢ق.م) 

ثالث ملك على إسرائيل، ولكن أول ملك بالميراث، وهو ابن داود من بثـشبع، وقـد مـسحه صادوق الكاهن مع ناثان النبي على عين جيحون وأركبه بغلة الملك داود وأعلن جلوسه على العرش ( ١ مل ٣٣:١). ويسميه الوحي الإلهي بفم ناثان النبي يديـديا Jadidia أي محبـوب االله ( ٢صـم٢٥:١٢)، واسمه بالعبري يُنطق هكذا سيلوموه Selomoh ويعني سلامي أو ابن السلام . لم يظهـر اسمه في الكتاب في كل روايات داود إلاَّ في أواخر أيام داود مع أنه وُلد في بدء حكم أبيـه، لـذلك ظلت شخصيته غير واضحة تماماً في الكتاب.

لقد تولَّى سليمان المملكة من أبيه وهي شبه موحَّدة بين إسرائيل في الشمال ويهوذا في الجنوب . ولكن كان بعض الشعب المحافظين غير راضين عن هذا الأسلوب في ضم الأسباط وتوحيد المملكة، إذ اعتبروا هذا خروجاً عن النص الإلهي الذي كان قد حدده االله بحكم الأسباط كل سـبط يحكـم نفسه، إذ وجدوا في ذلك معنى للحرية والأصالة. كما رأوا أن توحيدهم يكون بوجود االله كمـدبر بواسطة مجرَّد قائد مثل موسى وليس ملك يحكم عوض االله … فكان سليمان غـير محبـوب مـن التقليديين كما كان داود أبوه، وخاصة من بني إسرائيل في الشمال الذين هم غرباء عن سبط يهوذا المتملِّك. ولم يكن هذا الفكر إلاَّ ترديداً لصوت االله بفم صموئيل النبي ( ١صم ١٠:٨-١٧).

وهكذا لم يجد داود ولا سليمان القبول الكلي من الشعب، وذلك بالرغم من الحكمة التي وهبها االله لسليمان بسخاء( ١مل١٢:٣)

ولاية العرش:

اعتلى سليمان العرش بناء على وصية داود كوريث للتاج، ولكنه لم يجلس على كرسي المملكـة إلاَّ بصعوبة وبعد تصفيات جسدية ودموية من الذين كانوا يطالبون بالعرش عن أحقية كابن داود الأكبر، أو عن طموح مثل قواد الجيش: أبنير.
 فأبشالوم ثالث ابن لداود كان أول طامح للعرش في عز صولجان أبيه، وقام بثورة وانقلاب ضد أبيه وهو حي، فهرب داود من وجهه وترك المملكة وأُورشليم وعبر الأُردن لا خوفاً منه ولكن ابقـاءً على حياته . ولكنه مات بيد االله ومن سهم مرق في وسط قلبه على يد يوآب قائد قوات داود.

وكذلك أبنير قائد قوات شاول إذ كان يطلب المُلك بحسب رؤية يوآب، فاغتاظ يوآب عليـه وقتله: «أنت تعلم أبنير بن نير أنه إنما جاء ليملِّقك وليعلم خروجك ودخولك وليعلم كل ما تصنع. ولمَّا رجع أبنير إلى حبرون مال به يوآب إلى وسط الباب ليكلِّمه سراً، وضربه هناك في بطنـه فمات (  ٢صم٣ :٢٧-٢٥ ).

كذلك أدونيا الابن الرابع لداود حاول اغتصاب المُلك: «ثم إن أدونيا بن حجيـث (زوجـة داود) ترفَّع قائلاً: أنا أملك» ( ١مل ٥:١). واستعان بيوآب قائد قوات جـيش داود وأبياثـار الكاهن، ولكن باءت محاولته بالفشل.

أما الملك سليمان فبعد أن استوى على عرشه، وبعد أن هادن أدونيا مدة، عاد أدونيا وخان العهد «فأرسل الملك سليمان بيد بناياهو بن يهوياداع فبطش به فمات.» ( ١مل ٢٥:٢ )
ثم جاء الدور على يوآب بن صرويه القائد السابق على جيش داود – وهو ابن أخت داود الملك الذي أوصى داود بقتله لأنه قتل ابنه أبشالوم وقتل أبنير رئيس جيش شاول وعماسا رئيس جـيش يهوذا، وكذلك حاول أن يُسقط داود عن عرشه .
أمَّا أبياثار الكاهن الذي أوصى أيضاً داود بقتله فيظهر ذلك في الحديث الساخر الذي تمَّ بين سـليمان وبثشبع أُمه، وهي تتشفَّع لأدونيا أخي سليمان: «فأجاب الملك سليمان وقال لأُمه: ولماذا أنت تـسألين أبيشج الشونمية لأدونيا . فاسألي له المُلك؟ لأنه أخي الأكبر مني؟؟؟ له ولأبياثار الكـاهن وليـوآب بـن صرويه!!» (١ مل ٢٢:٢). «فهرب يوآب إلى خيمة الرب وتمسَّك بقرون المذبح … فأرسـل سـليمان بناياهو بن يهوياداع … فصعد وبطش به وقتله.» (١ مل  ٢ : ٢٨ ،٣٤). وورث بناياهو رئاسة قيادة الجيش على إسرائيل خلفاً له .
أمَّا أبياثار الكاهن فاكتفى سليمان بإسقاطه من درجته الكهنوتية ونفيـه إلى منطقـة نائيـة لا يتخطَّاها: «وقال الملك لأبياثار الكاهن اذهب إلى عناثوث إلى حقولك لأنك مـستوجب المـوت ولست أقتلك في هذا اليوم.» (١ مل ٢٦:٢ )
ويقول الكتاب في نهاية هذه التصفية الجسدية لكل الأشخاص الذين كانوا يتهددون الملك هكذا : «وتثبت المُلك بيد سليمان.» ( ١مل ٤٦:٢ )

السياسة الخارجية لسليمان:

(أ) علاقة مصاهرة بين مصر الفرعونية وإسرائيل:

لم يكن يشغل بال سليمان شيء في الداخل بعد أن صفَّى المقاومين لولايته على إسرائيل، ولا حتى من الخارج، فقد ترك له داود أفضل وأقوى العلاقات مع الدول الصديقة وحتى الأعداء، إذ كـانوا يدفعون الجزية ويعملون لحساب أمن إسرائيل ونموها . وهكذا اتجه سليمان إلى تأمين مملكته بتكـوين علاقات رسمية بالمصاهرة مع نبيلات الأسر المالكة فيما حوله. وأول ما التفت سـليمان التفـت إلى مصر الجارة القوية التي كان يطمع أن يصادقها وينقل عنها ما كان ينقصه في نظام الدولة ووسـائل النهوض بها. فصاهر فرعون مصر، وهو على ما يُظن سيامون Siamun الذي جاء بعـد الأسـرة الحادية والعشرين الضعيفة . وقد أكرم سليمان ابنته جداً فبنى لها بيتاً (رواقاً) خاصاً بها (١ مل ٨:٧).

كما أراد أبوها الفرعون أن يهديها هدية في عرسها: «فصعد فرعون ملك مـصر وأخـذ جـازر وأحرقها بالنار وقتل الكنعانيين الساكنين في المدينة وأعطاها مهراً لابنته امـرأة سـليمان .» ( ١مـل١٦:٩).

( ب ) معاهدة صداقة مع حيرام ملك صور وصفقة تجارية ضخمة: 

هذه من محاسن التركة التي تركها داود لسليمان ابنه :
+ «وأرسل حيرام ملك صور عبيده إلى سليمان لأنه سمع أنهم مسحوه ملكاً مكان أبيـه، لأن حيرام كان محباً لداود كل الأيام . فأرسل سليمان إلى حيرام يقول … وهأنذا قائل (قد نويت) على بناء بيت لاسم الرب إلهي كما كلَّم الرب داود أبي … والآن فأمر أن يقطعـوا لي أرزاً من لبنان ويكون عبيدي مع عبيدك … فلما سمع حيرام … أرسل قا ئلاً … أنا أفعـل كـل مسرتك في خشب الأرز وخشب السرو … وأعطى سليمان حيرام عشرين ألف كرُ حنطـة طعاماً لبيته وعشرين كرُ زيت رض … سنة فسنة . وكان صلح بين حيرام وسليمان وقطعـا كلاهما عهداً”( ١ مل٥ :١-١٢).

أمَّا مدينة صور فكانت عاصمة فينيقية – أي لبنان – وكان تأسيسها علـى يـد الـصيدونيين واللبنانيين سنة ٢٠٠٠ ق.م.
كذلك ترك داود لسليمان ذخيرة آدمية هائلة من العبيد الذين أخضعهم من كافة الأجناس فكانوا تحت السخرة أي العمل المجاني نظير الأكل فقط :
+ «وسـخَّر الملـك سـليمان مـن جميـع إسـرائيل وكانـت الـسُّخر ثلاثـين ألـف  رجل، فأرسلهم إلى لبنان عشرة آلاف في الشهر بالنوبة، يكونون شهراً في لبنان وشهرين في بيوتهم، وكان أدونيرام على التسخير . وكان لسليمان سبعون ألفاً يحملون أحمالاً وثمانون ألفاً يقطعون في الجبل ما عدا رؤساء الوكلاء لسليمان الذين على العمل ثلاثة آلاف وثلا ث مئـة المتسلطين على الشعب العاملين العمل …» (١ مل٥ : ١٣- ١٦)
ويلاحظ هنا أن سليمان لمَّا وجد نقصاً في العمالة من الذين تحت السخرة من الأجانـب بـدأ بتسخير شعب إسرائيل، فكانت نقطة سوداء في تاريخ سليمان لاستعباده الإسرائيليين الأحرار الذين قد منع الرب استعبادهم لبعض بأي صورة .
وهكذا وبواسطة هذه المعاهدة فتح سليمان طريق التجارة وتبادل السلع والمحاصـيل إلى خـارج البلاد، واستيراد المعادن والأخشاب .
وبرع سليمان في التجارة واختص في تجارة المركبات الحديدية وتربية الخيول، فكان يشتريها من مصر وكيليكية من شمال أسيا الصغرى حيث تربى أحسن الجياد، حيث ثمن الحصان مائة وخمـسون شاقل فضة . واشترى أيضاً المركبات الحديدية من مصر وكان ثمن المركبة ستمائة شاقل فضة، وكان يبيعها لملوك الحثيين وملوك أرام في دمشق ( ١مل ١٠: ٢٩،٢٨ ).
وقد بنى سليمان بمساعدة الفينيقيين أسطولاً بحرياً كبيراً على البحر الأبيض، وهو أسـطول ترشيش مع أسطول حيرام، وآخر للبحر الأحمر قاعدته مدينة عصيون جابر في خلـيج العقبـة. فكانـت الحملات البحرية تُبحـر إلى اليمن وأوفير (الصومال) وسبا (عدن) وأثيوبيا مرة كل ثلاث سنوات لاستحضار الذهب والفضة والنحاس والبخور والعاج والقرود والطواويس (١ مل ٢٢:١٠،٢٦:٩ ).

وكان من الضروري أن يقوم سليمان بتأسيس مدن بأكملها للمخازن، واسطبلات للخيول، لأنه تمادى جداً في اقتنائها، فكان له ألف وأربعمائة مركبة، واثنا عشر ألف فارس، وكانوا يقيمون في مدن المراكب ومع الملك في أُورشليم .
وأسس سليمان نظام الضرائب على شعب إسرائيل، بالإضافة إلى الجزية التي كانت تأتيه من المدن والشعوب الخاضعة لسلطانه .
وقسم شمال إسرائيل (لم يذكر يهوذا ) إلى اثني عشر محافظة أو إقليم أقام عليها اثني عشر وكيلاً، كل وكيل كان عليه تقديم كل تموينات ومستلزمات الملك وكل بيته شهراً . وهكذا على مدار السنة تغطِّي الميزانية للصرف من كافة الوجوه (١ مل ٧:٤و٢٣،٢٢ ).
وقد وحَّد سليمان البلاد تحت مظلة الاكتفاء الاقتصادي بل والغنى حتى عمَّ  الفرح البلاد كلها (١ مل٢٠:٤ )

وقد اكتُشف حديثاً نظام التدبير أو الاقتصاد المركزي للبلاد – بحسب ما وُجد في بيت شمس التي كانت من نصيب سبط دان – إذ اكتُشف فيها مقر المدبر أو القائد أو الوكيل العام الـذي كـان موكَّلاً عليها واسمـه “ابـن ديكر” أو دِقَر. وبجوار مركزه وجد مبنى ضخم عبارة عن دهاليز سميكة الحوائط وأسقف عالية هي عبـارة عن المخازن التي يُجمع فيها المحاصيل، وهي عينة من مدن المخازن التي جاءت في الكتاب، كما وجد في لاخيش نفس الطراز .
ولكن باستطلاع زمن هذه المخازن من الشقافة والحفائر وُجد أنها من زمن داود . ومن هذا ندرك تماماً لماذا جاء في تاريخ سليمان أنه قام ببناء مدن المخازن في الشمال أي في إسـرائيل ولم يـذكر يهوذا، هذا لأن داود كان قد استكمل بناء هذه المخازن في أيامه.
وقد تقدَّم سليمان في التنظيمات الإدارية عن داود أبيه، فقد اعتنى جداً بالتسجيلات واستحـضر الكتبة المتخصصين لذلك، وخصَّص عملهم بدقة (١ مل ٤١:١١). وللأسف ضاعت هذه السجلات كلها.

وهذا التقدم الحضاري الهائل طفر بالشعب الإسرائيلي طفرة كبرى وضعته في مستوى حضارات الدول القديمة، وصار للشعب أدب خاص به، ولكنه يغلب عليه الطابع التاريخي التمجيـدي الـذي يحمل إحساسهم المتفوق في العبادة والحروب بما يفوق فعلاً مثيلات إسرائيل من الأُمم الحـضارية في هذا الزمان. 
كما طوَّر سليمان أعمال الموسيقى وتأليف التسابيح داخل الهيكل، وأضاف وحسن في نوعيات آلاتها( ١ مل ١٢:١٠). وكان لتأثير الفنون الفينيقية نتيجة كبيرة في الارتفاع بمستوى الموسيقى.
ويلاحظ أنه لمَّا ارتفعت مصاريف سليمان الملك لسبب اتساع أعماله، أنه اضطر إلى رفع الجزية والضرائب بصورة عنيفة، مما دعا الجزء الشمالي للبلاد – إسرائيل – أن يطالب رحبعام بن سليمان الذي ورث الملك بعد أبيه – أن يخفض الجزية، فرفض . فكانت بداية انهيار المملكة المتحدة إلى مملكة
منقسمة، في الشمال إسرائيل وفي الجنوب يهوذا 
ولمَّا ساءت الحالة المالية بالأكثر اضطر سليمان أن يبيع من أرض مملكة إسرائيل بعض المدن لملك حيرام  ( ١ مل ١١:٩-١٤)

فاصل

هيكل سليمان

لقد بلغ سليمان القمة في الغنى وفاضت البلاد بالخيرات المحلية والمستوردة، ونشطت التجارة لتعم معظم المنطقة شرقاً وشمالاً وجنوباً وغرباً . وعمَّ السلام والأمان والكفاية بدرجة مدهشة لم تبلغهـا إسرائيل قبلاً ولن تبلُغها بعد!! واتسعت أُورشليم جداً عمَّا كانت عليه . وأقام سليمان العديد مـن البلاد والمباني في كل إسرائيل. وهكذا جاء بناء الهيكل كتاج على قمة حضارة البلاد المعمارية.
أمَّا المكان الذي أُقيم عليه الهيكل فهو أصلاً من اختيار االله، وهو جبل المُريَّا: «فقال له: إبراهيم. فقال هأنذا ! فقال: خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحق واذهب إلى أرض المُريَّا واصعده هناك محرقة على أحد الجبال الذي أقول لك … وفي اليوم الثالث رفع عينيه وأبصر الموضع من بعيد» (تك ٢٢ :١-٤ ). وهذا الموقـع عينه امتلكه أحد أبناء اليبوسيين فيما بعد، وعمل فيه جرن (بيدر) للحصاد، وقد اشـتراه منـه داود وبنى فيه مذبحاً ( ٢صم ٢٤: ١٨،١٦)
وقد سمَّي هذا المرتفع فيما بعد “صهيون .”
لقد ابتدأ بناء الهيكل في السنة الرابعة لملك سليمان سنة ٩٥٩ ق.م، وأكمل بناءه بعد سـبع سنوات على أيدي المهندسين الفينيقيين (اللبنانيين) (١ مل ١٤:٦). ودشَّنه سليمان بنفسه باحتفال مهيب، وتمَّم الهيكل غرضين هامين للغاية : الأول وحدة الأسباط أي شعب إسرائيل وخاصـة بـين يهوذا في الجنوب وإسرائيل في الشمال، بالإضافة إلى أنه رمز الملوكية في علاقتها بالله ! لذلك فالكاهن الأعظم كان يعينه الملك فيصير في الحال عضواً في حكومته.
أمَّا طقوس العبادة داخل الهيكل فهي إسرائيلية صرف. وصارت العبادة في الهيكل الميراث الـثمين الذي احتفظ به الشعب اليهودي في عمق أعماق كيانه الروحي والنفسي إلى مدى الأجيال.
وكان الهيكل مقراً دائماً لخزائن الملك والدولة وجميع مقتنياتها الذهبية والفضية الثمينة.
لقد صار هيكل سليمان عجيبة من عجائب الدنيا في عظمة مبناه ومعناه: «بيت االله» و «بيـت الصلاة» وكان أهم ما فيه بالنسبة للعالم هو رواق الأمم!! فكل أُمم العالم مدعوة أن ترى وتـسمع من بعيد العبادة والصلاة الله . وكان هذا الرواق آخر ما فيه والأقل أهمية في نظر إسرائيل، ولكنه كان هو أهم ما فيه بالنسبة لله . وكأن االله أقام الهيكل بواسطة اليهود ليرثه العالم كله، لا من حيث شكله وهندسته ومبناه، ولكن من حيث هدفه وجوهر رسالته كبيت االله للصلاة .
لقد ضاعت كل معالم هندسة الهيكل، واندثرت مع اندثاره كل آثاره، ولم يستطع أعظم عظماء المهندسين والمنقبين أن يستردوا أي شكل من أشكاله، إلاَّ ما بقي من أوصافه المدونـة في الكتـاب المقدس. ولم يكن هذا مصادفة؛ بل عن قصد إلهي محكم ومبيَّت حتى لا يكون لبيت االله شـكلٌ محـدد يستعبد له الإنسان .
لقد أدرك سليمان ذلك تماماً، إذ حسب أن هذا الهيكل بكل عظمته وكل أسراره وأسمائه وصفاته ومشتملاته لا علاقة له بسكنى االله شخصياً فيه، وحاشا جداً الله ساكن السموات العُلا أن يسكن في بيت مصنوع بالأيادي : «والآن يا إله إسرائيل، فليتحقَّق كلامك الذي كلَّمت به عبدك داود أبي. لأنه هل يسكن االله حقـا على الأرض . هوذا السموات وسماء السموات لا تسعك، فكم بالأق ل هذا البيت الذي بنيت. فالتفت إلى صلاة عبدك وإلى تضرعه أيها الرب إلهي واسمع الصراخ والـصلاة الـتي يصليها عبدك أمامك اليوم . لتكون عيناك مفتوحتين على هذا البيت ليلاً ونهاراً، على الموضع الذي قلت إن اسمي يكون فيه لتسمع الصلاة التي يصليها عبدك في هذا الموضع . واسمع تضرع عبدك وشعبك إسرائيل الذين يصلون في هذا الموضع، واسمع أنـت في موضـع سـكناك في الـسماء، وإذا سمعت فاغفر.» ( ١مل ٢٦:٨-٣٠)
أي أن الذي يوجد في هيكل االله حقـا وبالفعل هو “اسم االله ،” لا في المكان إنما في أفواه الناس وقلوبهم!! أمَّا الكلمة التي حيَّرت وأضلت كثيراً من الناس فهي كلمة “يسكن” بمعنى أن االله يقـيم شخصياً في الهيكل – كما يقيم الصنم جالساً في هيكله – حاشا – فهي كلمة مفهومة خطأ، وهي مشتقة أصلاً من كلمة shakan شاكان، أي يسكن، ومنها اشتقَّت كلمة “شاكيناه” و “سكينة” أي حضرة االله، والهدوء والسلام الذي يتأتى من حضرة االله . هذه الكلمة العبرية هـي واردة أصـلاً في استخدام البدو الرحل غير المقيمين بمعنى “خيمة” و “يخيم .” وهنا يقتصر المفهوم على الوجود المؤقَّت مثل الوارد في مفهوم “خيمة الاجتماع”، أي وجود االله المؤقت مع الناس وليس الإقامـة الدائمـة .
فبمجرد ذ كر اسم االله في الصلاة بالعبادة القلبية الصادقة والمخلصة، فاالله يتراءى ويوجد، أو بالحري وبالأصح يتجلَّى، بمعنى أن االله الموجود في كل الوجود يعلن وجوده، أو يعلن نفسه للمصلِّي الذي ينادي ويدعو باسم االله.

ولقد أضفى الهيكل على أُورشليم بالتالي مسحة المدينة المقدسة بكل معنى وبكل مـا يمكـن أن يتصوره العقل، حتى صارت أُورشليم بحجارتها ومبانيها وشوارعها وأسوارها مقدسـة في إحـساس الأجيال كلها . لقد اختصت أُورشليم وحدها دون كافة بلاد إسرائيل بذبيحة الـشكر أو الـسرور وبذبح خروف الفصح . فلا يحل ولا يصلح أن يذبح الفصح إلاَّ داخل أسوار أُورشليم . يأتيها العابد من كل مدن فلسطين، وبنو إسرائيل من كل أنحاء العالم ليذبحوا الفصح في أُورشليم . ومـن أجـل كرامة ذبح الخروف للفصح تفتح البيوت كلها في العيد لكل الآتين من بعيد، من البلاد والـسائحين من خارج البلاد، ليستريحوا ويجدوا المأوى والضيا فة والترحاب ومكاناً للذبح – فالمنازل في أُورشليم لم يكن يسمح بتأجيرها فهي ملك الجميع !
ولم يكن يوجد في أُورشليم شيء نجس ولا يسمح لجثة الميت أن تمكث فيها بعد الغروب، ولم يكـن فيها قبور إلاَّ مقبرة بيت داود ومقبرة خلدة النبية . ولم يكن يسمح فيها بتربية الحيوانات ولا الطيـور، ولا إقامة الحدائق لئلاَّ تؤدي نفايات الأرض والعفن من الزرع إلى نجاسة الهواء. ولم يسمح بإقامة الأفران فيها لئلاَّ يلوث دخانها الهواء !! لذلك بقدر ما يتصورها الآن شعب بني إسرائيل وهي أمامهم خربة، بقدر مـا يسحُّون الدموع ويبلُّون أحجارها والأسوار.
ومن أقوال الربيين العجيبة والغريبة : [إن الشاكيناه بقيت ثلاث سنين ونصف على جبل الزيتون تنتظر توبة إسرائيل، يتردد صداها اطلبوا الرب مادام يوجد ادعوه فهو قريب، وعندما وجـدت أن ذلك كله بلا فائدة عادت الشاكيناه إلى مقرها ]. لقد عادت الشاكيناه (حضرة االله ) إلى مكانهـا وقد كان، فسقطت المدينة العظيمة أُورشليم ومعها الهيكل العجيب المهيـب حـتى الأرض وحـتى التراب !!
أمَّا الرد المسيحي ومعه القول الصحيح فكان في فم المسيح: «لأنك لم تعرفي زمان افتقـادك » (لـو٤٤:١٩). وكان المسيح أول الباكين على خرابها وخراب الهيكل!! «وفيما هو يقترب نظر إلى المدينـة وبكى عليها.» (لو ٤١:١٩ ).

ولم ينج هذا الهيكل بكل قداسته المظهرية، المضفاة عليه من أفكار وتـصورات الـربيين، مـن التخريب والنهب على ممر العصور. وكانت أول غارة عليه للنهب في أيام رحبعام بن سليمان سـنة ٩٢٢-٩١٥ ق.م على يد شيشق فرعون مصر (١مل ٢٦:١٤). كما نُهب على يد ملوك إسرائيل أنفـسهم لشراء أعوان أو دفع جزية . أمَّا آخر غارة نهب وسلب فكانت على يد نبوخذنصر سـنة ٥٨٧ ق.م حيث تخرَّب الهيكل أيضاً ونُهب كل ما فيه مع كل المسبيين من سكان البلاد إلى بابل، ولكن عنـد عودة المسبيين أعطاهم كورش ملك با بل أمراً ملكياً بالبناء سنة ٥٣٧ ق.م تقريباً، وأعطاهم جميـع آنية الهيكل ولكن بدون تابوت عهد االله الذي ضاع ولم يوجد له أثر. وهكذا كان بناء الهيكل الثاني الذي دام أكثر من ٥٠٠ سنة ! ولكن تمَّ تخريب الهيكل مرَّة أخرى على يد أنطيوخس السلوقي ملك سوريا وهو أنطيوخس إبيفانس (١٧٥-١٦٣ ق.م) الذي نهب كل ذخائره وأقـام فيـه رجـسة الخراب، أي بنى فيه مذبحاً للأوثان في ١٥ ديسمبر ١٦٧ ق.م ولكن عاد المكابيون وأعادوا تطهيره والعبادة فيه سنة ١٦٤  ق.م، وقوَّوا حصونه جداً . وأعاد هيرودس الملك (الأدومي) بناء الهيكـل في ضعف حجمه الأول وزينه بالرخام الكورنثي والحجارة الثمنية والتحـف سـنة ١٩ ق.م، وتمَّـت العمليات الكبرى فيه سنة ٩ ق.م، أمَّا العمليات الدقيقة والتجميل فتمَّت بعد ٤٦ سنة من البداية ثم أُعيد تخريبه ودَّكت أساساته حتى التراب على يد القائد الروماني تيطس سنة٧٠م
ويقول المنقبون من علماء الآثار إنه يلزم الحفر حتى ١٢٥ قدم بين أكوام الحطام حتى نـصل إلى الأرضية الأصلية للمدينة

فاصل
السوس ينخر في عظام المملكة المتحدة، لذلك فسقوطها وشيك:

لقد تنكَّر الملك سليمان للشروط الأساسية التي وضعها االله لما ينبغي أن تكون عليه المملكة لكـي تظل محسوبة لله ويظل االله يدبَّرها، أن :
١ – لا يكثر لنفسه الخيل .
٢ – لا يكثر لنفسه النساء .
٣ – لا يكثر لنفسه الذهب والفضة .
٤ – يكتب لنفسه نسخة من الشريعة في كتاب من عند الكهنة واللاويين ليقرأ فيه كـل أيـام حياته، لكي يتعلَّم أن يتقي االله .
٥ – يحفظ كلام الشريعة والفرائض ليعمل بها .
خمسة شروط هي أساس المُلك: (تث ١٤:١٧-٢٠)

لكن سليمان غيَّر منذ البدء كل السمات التي كان االله يحكم بها الشعب والأسباط ، وكل ما حذَّر االله عنه تمادى سليمان في ممارسته بلا تحفُّظ : ( ١مـل٢٧،٢٦:١٠)،(١مل ١:١١-٦)
هكذا بدأ ينخر السوس في مملكة إسرائيل وهي في أوج عزها ومجدها وسلطانها . وهكـذا تقبَّل سليمان من االله إنذاراً ثم قراراً نهائياً بتمزيق المملكة :
+ «فقال الرب لسليمان: من أجل أن ذلك (العصيان) عندك ولم تحفظ عهدي وفرائضي الـتي أوصيتك بها، فإني أمزق المملكة عنك تمزيقاً وأعطيها لعبدك . إلاَّ إني لا أفعل ذلك في أيامك من أجل داود أبيك، بل من يد ابنك أمزقها … وأعطي سبطاً واحداً لابنك …» ( ١مل ١١:١١- ١٣)
ومات الملك سليمان سنة ٩٢٢ق.م «ثم اضطجع سليمان مع آبائه ودُفن في مدينة داود أبيه وملك رحبعام ابنه عوضاً عنه.» ( ١مل ٤٣:١١).

فاصل

المراجع:

  1. تاريخ بني إسرائيل – الأب متى المسكين

فاصل

داود النبي والملك الخروج رحبعام إبن سليمان
تاريخ العهد القديم

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى