هيرودس أغريباس الأول
ويُدعى هيرودس الملك (٣٧-٤٤م)
أغريباس يخلف فيلبس كرئيس ربع على المناطق الشمالية باتانيا وتراخونيتس وأورانتيس ٣٧م.
وتضاف إليه فيما بعد الأراضي التي كان يحكمها هيرودس أنتيباس في الجليل وبيريه ومناطق شرق الأُردن ٤٠م.
هيرودس أغريباس الأول هو ابن أرسطوبولس ابن هيرودس الكبير، وأُمـه هي برنيكي بنت سالومة أخت هيرودس الكبير، وقد تزوج بكيبرس بنت عمه فزائيل ابن فزائيل أخي هيرودس الكبير.
تربَّى أغريباس في روما تحت رعاية أُمه هناك، إذ أرسله جـده هـيرودس الكبير إلى هناك وهو ابن ست سنوات، فنشأ صديق الأمراء الذين اعتلوا فيمـا بعد عرش روما، ومن هنا انفتح أمامه الطريق إلى الحكم بالرغم من ظروفه السيئة.
وقد لعبت أُمه برنيكي دوراً كبيراً في حياته بسبب صـداقتها لزوجـات الأباطرة في روما، وبالأخص أنطونيا أرملة ابن أغسطس قيصر، وأنقذته مـن الموت عدة مرات. وقصة أغريباس في ذلك المضمار طويلة وكلها مغامرات.
وبموت أُمه وصلت به الحالة في بادئ الأمر إلى الاستدانة وحياة الفقر والتشرد، واشتغل في وظيفة حقيرة في بلدة طبرية عند هيرودس أنتيباس عمـه، ولكنـه اصطدم بهيرودس فترك عمله وكاد ينتحر بسبب كثرة الديون التي عليه . ونزل مع زوجته سرَّا إلى الإسكندرية واستدان من صديقه اسكندر ألابارك أخي فيلو اليهودي الفيلسوف مئتي ألف دراخمة، فاستطاع أن يسافر إلى روما.
وتودد إلى طيباريوس قيصر الذي ألقاه في السجن بسبب ديونه التي علـى خزانة الدولة، وقد توسطت أنطونيا أرملة ابن أغسطس قيصر لأنهـا كانـت صديقة لأمه ودفعت له كل ديونه، فعفا عنه طيباريوس قيصر وأطلق سـراحه.
فتصادق في القصر مع غايس المدعو كاليجولا أحد أحفاد طيباريوس قيـصر الذي صار إمبراطوراً فيما بعد. وقد سمعه سائق عربة الامبراطور يتحدث مع كاليجولا عن تمنياته بموت طيباريوس حتى يصير كاليجولا إمبراطوراً . فبلَّغ الحديث إلى طيباروس قيصر، فنزل أغريباس ضيفاً على السجن مرة أخـرى، وظل مسجوناً ستة أشهر حتى مات طيباريوس قيصر( ٣٧ م). وقُدم غايس كاليجولا إمبراطوراً بـصفته الابن الوحيد الوريث لعائلة يوليـوس قيـصر. وفي الحال فك قيود أغريباس وأهداه سلسلة من الذهب بوزن سلسلة الحديـد الـتي كـان مقيـداً بهـا، وأعطاه لقب ملك على الأراضي التي كان يحكمها فيلبُس عمه وليسانيوس أيضاً (لو ١:٣)، والتي بلغت إلى أقصى الشمال حتى حـدود لبنـان.
ولكن أغريباس تباطأ مدة سنة كاملة قضاها في روما مـستمتعاً بـصداقة كاليجولا، وفي ذهابه إلى اليهودية، عرج على الإسكندرية، وقـد بـالغ اليهود المقيمون هناك في الاحتفاء بقدومه واستقباله كملك بعد أن وافاهم سابقاً كشحات، مما أثار حفيظة اليونـانيين والإسـكندرانيين، فقامـت اضطرابات خطيرة هناك، وعند وصوله إلى اليهودية لاستلام ملكه هنـاك اندهش اليهود من الأمر، حتى أن أخته هيروديا زوجة “فيلبس وهـيرودس أنتيباس” كانت أول من لعب الحقد والحسد في قلبها، فسعت في الحـال لطلب لقب ملك لزوجها أيضاً، إذ لم يكن سوى رئيس ربع، مما أدى كما سبق وشرحنا إلى تجريدهما ونفيهما معاً هي وزوجها هـيرودس إلى ليـون بفرنسا في أواخر سنة ٣٩ م وقد ضـم كـاليجولا الأراضي التي كان هيرودس يحكمها إلى ملك أغريباس (٤٠م).
وفي أواخر عام ٤٠م، توجه أغريباس الأول إلى روما، ومن هنـاك ظـل يراقب الأحداث في اليهودية، لأن كاليجولا صمَّم أن يقام له مذبح للعبـادة باسمه في “يمنيا” على سواحل فلسطين، فامتنع اليهود بطبيعة الحال، مما أثـار غضب كاليجولا وأمر أن يقام له تمثال في هيكل أُورشليم، وأصدر أوامره إلى بترونيوس والي سوريا مما أحرج بترونيوس لعلمه باستحالة الأمر إلاَّ إذا رغب أن يكون هناك ثورة ومذبحة . وفعلاً إذ شعر اليهود بالأوامر حذَّروا بترونيوس علانية مما حدا به للكتابة إلى الإمبراطور كاليجولا، وهناك تدخل أغريباس إذ كان حاضراً في اللحظة التي وصل فيها مكتوب بترونيوس، ولم يتم مـشتهى كاليجولا لأنه في هذه الأثناء اغتيل سنة ٤١م .
هيرودس أغريباس الأول ملك على اليهودية أيضاً ( ٤١م):
بعد موت غايس كاليجولا اتجهت أنظار أغريباس نحو كلوديوس باحتمال تنصيبه إمبراطوراً، فتودد إليه وقدم له بعض المعونات والمشورات النافعـة التي أدت فعلاً إلى قبوله إمبراطوراً خلفاً لكاليجولا، ولم يتأخر كلوديوس قيصر من رد الجميل لأغريباس إذ ثبته على حدود مملكته التي منحها له كـاليجولا، وأضاف إليه إقليم اليهود بأجمعه وإقليم السامرة أيضاً، وكانا فيما قبل تحـت حكم الولاة الرومانيين مباشرة. وبهذا تكون حدود مملكة أغريباس قد بلغـت في اتساعها إلى نفْس حدود مملكة هيرودس الكبير بالإضافة إلى أراضي أقصى الشمال.
وبرجوع أغريباس إلى اليهودية بدأ في الحال في تحسين العلاقات بينه وبين شعبه بواسطة الفريسيين بصفتهم أصـحاب النفـوذ الـديني الأول والمسئولين عن توجيه سياسة الشعب وعواطفه، فقدم للهيكل بـصفة هديـة اعترافاً بفضل رحمة االله عليه السلسلة الذهبية التي أهداها له كاليجولا عـوض سلسلة الحديد التي كان مقيداً بها في السجن، وقـد علَّقهـا فـوق الخزانـة العامة. وابتدأ يدقِّق في اتباع الناموس والخضوع لكافة متطلباته العملية من تطهيرات وتقديم الذبائح اليومية التي لم يتأخر يوماً واحداً عن تقديمها في الهيكل في الميعاد ، حـتى أن اليهـود كرَّمـوه واعتـبروه سـليل المكـابيين( لحشمونيين) لأن جدته هي مريمن المكابية أم أرسطوبولس .
وقد بدأ بتقوية أسوار أُورشليم وتعليتها بدرجة فائقة جداً مما أثار شـكوك والي سوريا وجعله يتصل بكلوديوس قيصر سرَّا، والذي أمر في الحـال بمنـع استمرار أغريباس في تقوية أسوار أورشليم. وقد أقام عمـائر فخمـة في مدينة بيروت وأنشأ فيها مسارح وقاعات وحمامات، وزينها وكلَّفها تكاليف باهظة جداً وذلك شغفاً منه بفنون العمارة والتقدم. وكان ملوك كثيرون من البلاد القريبة والبعيدة يأتون عنده في اليهودية ويقضون معه أياماً برفقتـه وذلك لشهرته وحكمته واتزانه.
ومغالاة منه في استرضاء شعبه، بدأ في اضطهاد المسيحيين الأوائل الـذين كانت خدمتهم متركزة في اليهودية نفسها، كما يقرر سفر الأعمال الأصحاح الثاني عشر :
+ «وفي ذلك الوقت مد هيرودس الملك (أغريباس الأول) يديه ليسيئ إلى أناس في الكنيسة فقتل يعقوب أخا يوحنا بالسيف، وإذ رأى أن ذلـك يرضي اليهود عاد فقبض على بطرس أيضاً، وكانت أيام الفطير، ولمَّـا أمسكه وضعه في السجن مسلِّماً إياه إلى أربعة أرابـع مـن العـسكر ليحرسوه ناوياً أن يقدمه بعد الفصح إلى الشعب.» (أع١٢: ١-٤).
وواضح أن عداوة اليهود للمسيحيين بدأت تزداد بشدة من بعـد حادثـة كرنيليوس الروماني قائد المائة الذي كان في الكتيبة الإيطالية، الـتي كانـت ضمن القيادة العامة لوحدات الجيش الروماني المرابطة في قيصرية تحـت إمـرة أغريباس الملك . أمَّا ق . بطرس فدخل في بيت كرنيليوس في قيصرية وعمده هو وكل بيته، مما أثار حفيظة ليس اليهود فقط بل واليهود المتنصرين أيضاً: «ولمَّا صعد بطرس إلى أُورشليم خاصمه الذين من أهل الختان قائلين إنك دخلت إلى رجال ذوي غلفة وأكلت معهم.» (أع ١١: ٢و٣).
وقد حكم هيرودس أغريباس مدة قليلة لأنه مات سـنة ٤٤م، إذ حكـم ثلاث سنين فقط على اليهودية، وقد صك نقوداً باسمه على صـنفين، صـنف بدون صورة للتداول في أُورشليم، وصنف مصكوك عليه صـورته وصـورة كلوديوس للتداول في كافة الأنحاء كلها .
وكانت نهاية الملك هيرودس أغريبـاس الأول، كمـا يـصفها المـؤرخ يوسيفوس، طبق الأصل لمَّا جاء في وصف سفر الأعمال (٢٣ ٢١- :١٢ ).
يقول يوسيفوس :
[إنه في هاية ثلاث سنين من حكمه على اليهودية أقام أغريباس حفـلاً عظيماً في قيصرية تكريماً لكلوديوس قيصر، وقد حضر إليه جمع غفـير من علية القوم من كافة البلاد والأنحاء . وفي اليوم الثاني من العيد لـبس أغريباس حلته الملوكية التي من الفضة الخالصة والمرصعة بكافة الزينات الرائعة وأتى في الصباح والشمس تسطع على الحلة وتعكس أضواءها على الجو، فأصاب الناس شيءٌ من الإعجاب مع الخوف والهلع، وهتفوا له “هذا إله ” واستعطفوه باحتسابه أنه يفوق طبيعة النـاس المائتـة! ولكن الملك لم يبد أي اعتراض أو ندم على هذه الكلمات التي تحمـل معنى التملُّق والكفر . وفي الحال أحس بألم شديد في إمعائه، والتفت إلى أصحابه قائلاً: «أنتم تقولون إني إله وإني لا أموت، وهـا أنـا الآن أموت مغضوباً عليَّ من العناية الإلهية بسبب كلمات الكذب والنفـاق التي وصفتموني بها، ولكن عليَّ أن أتحمَّل كل ما يضعه عليَّ االله بحسب ما يرضيه، لأني لم أشق في حياتي بل عشت في البذخ والترف» واشتدعليه الألم وحملوه إلى قصره وشاع بين الشعب أنه سيموت بعد قليل، فلبس الشعب رجالاً ونساء وأطفالاً المسوح وجلسوا علـى التـراب يبكون ويتوسلون حسب الشريعة حتى ينجيه االله ويشفيه، وكان يسمع البكاء والنحيب في كل مكان، ولكنه بعد خمسة أيام مات.]
وقد عاش هيرودس أغريباس ٥٤ سنة، ومات سنة ٤٤ م بعـد أن حكـم على البلاد سبع سنين، أربع سنين تحت حكم غايس كاليجولا، وثلاث سنين تحت حكم كلوديوس قيصر.
وكان دخله السنوي من كافة البلاد ما يقدر بثلاثة أرباع الدخل السنوي لهيرودس الكبير جده، علماً بأنه كان أكثر ترفقاً في الضرائب من هيرودس الكبير، بل وأكثـر عطفاً وإصلاحاً.
وقد ترك ابناً واحداً دعاه أغريباس أيضاً وبنتين، الأُولى برنيكي التي وُلدت سنة ٢٨م والمذكورة في (أع ١٢:٢٥)، ودروسلا المولودة سـنة ٣٨م وهـي الزوجة الثالثة للوالي فيلكس المذكور في (أع ٢٤:٢٤)
المراجع:
هيرودس أنتيباس | عائلة هيرودس الكبير | أغريباس الثاني |
تاريخ العهد القديم |