القديس الأنبا بيشوي

الرجل الكامل

 اختيار الله لبيشوى وهو في سن الطفولة

 كان يعيش في قرية شنشنه ( بالمنوفية) رجل بار ورزقه الله أولاداً سبعة أطلق على أصغرهم اسم بيشوى . وحدث ذات ليلة أن رأت أمه في رؤى الليل ملاك الرب يقول لها : “إن الرب يطلب أحد أولادك ليخدمه مدى حياته”. فقالت الأم للملاك : “ها هم أولادى السبعة أمامك فاختر من بينهم من تشاء”، فوضع الملاك يده على رأس بيشوى أصغرهم. فقالت الأم للملاك “هذا أصغرهم سناً. وهو أضعفهم بنية، فاختر من يقوى على حسن تأدية الرسالة الالهية بعزيمة ماضية”. قال لها الملاك : “إن قوة الرب في الضعف تكمل”. قال هذا ثم توارى عن عينيها .

رهبنته ولبسه الاسكيم

 ولما بلغ بيشوى اشده قصد إلى الصحراء ليعيش العيشة النسكية في برية الأنبا مكاري الكبير، وهناك تتلمذ لشيخ قديس اسمه أنبا بيموا الذي ما أن رأه حتى فرح به فرحا عظيما وقضى بيشوى سنين عدة يخدم معلمه في دعة وامتثال ويؤدى الواجبات الموضوعة عليه بأمانة وحبور. وسر به معلمه إذ وجده متفانياً في الجهاد فالبسه الاسكيم الرهباني المقدس. وكان لبس الاسكيم حافزاً لبيشوى ليضاعف جهوده في قراءة الكتب المقدسة وفي الصلوات والتأملات وفى العمل اليدوى. وكانت عزيمة بيشوى ماضية حفزته على الجهاد رغم ضعفه الجسمى، ولقد تحنن الآب السماوى على هذا الراهب المتفاني فمنحه موهبة صنع العجائب. ومن ثم ذاع صيته فوصل إلى العائشين في العالم ودفع بالعدد العديد منهم إلى الذهاب لنيل بركته أو الحصول على الشفاء مما بهم من مرض. وقد فاضت النعمة الالهية عليه فجعلته سبباً فى اجتذاب عدد من زواره إلى الحياة النسكية فلازموه واتخذوه لهم نبراساً واقتفوا خطواته في الزهد والتواضع والقداسة.

رؤيته الملائكة الحارسين

 وفى ذات يوم بينما كان الراهب بيشوى يمشي في الصحراء رأي جمعاً من الملائكة فراعه هذا المنظر وفكر في نفسه قائلاً : ترى من يكون هؤلاء النورانيون ؟ « فقال له أحدهم :”اننا معشر الملائكة المكلفين من قبل الرب بحراسة القديسين المقيمين فى هذه البراري”. فمجد بيشوى العلى القدير الذي لا تغفل عينه عن رعاية عبيده المخلصين . وازداد تمجيدا لله حين وجد أن ملائكته ليسوا مكلفين بحراسة جماعة القديسين فحسب، بل كان لكل واحد منهم ملاك خاص يسهر عليه أيضاً . فقد حدث أن دخل مرة قلاية أحد الرهبان ليفتقده ويطمئن عليه فوجده نائماً ورأى ملاك الرب عند رأسه يحرسه . فقال بالحق أن محبة الآب السماوى تفوق الادراك.

الراهب بيفامون اناء مختار

وكان بين الذين اشتاقوا أن يزوروا الراهب بيشوى ليتتلمذوا له شاب اسمه بيفامون . وكان هذا الشاب قد ذهب إلى الأنبا بولا الطموهي ورجا منه أن يستصحبه إلى حيث يقيم بيشوى. فقال له الأنبا بولا : « انك لاتزال في سن الحداثة وأخشى أن لا تتحقق رغبتك من ذهابك إلى القديس بيشوى » . أجابه بيفامون على الفور قائلاً : اسمح لي يا سيدي أن أذهب معك . وحين نصل إلى صومعة القديس بيشوى أظل أنا خارجاً وتدخل أنت وحدك . وعند خروجك من الصومعة أبادر بتقبيلك وأنا موقن بأني التقيت بالقديس بيشوى وذلت بركته . . فرضى الأنبا بولا بهذه المشورة . وحين وصل الاثنان إلى صومعة الأنبا بيشوى دخلها الأنبا بولا وحده تاركا بيغامون خارجها . وما أن سلم الأنبا بولا على القديس حتى ابتدره بالسؤال :  لماذا لم تدخل معك بيفامون ؟، أجابه الأنبا بولا : اغفر لى يا أبي فقد رأيته حديث السن فمنعته من الوصول إليك. قال الأنبا بيشوى : ألا تعلم أن مخلصنا الصالح قال : دعوا الأولاد يأتون إلى ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السماوات؟  وهذا الشاب الذي تعده أنت صغيرا إنما هو اناء مختار وسيكون سبباً فى خلاص الكثيرين ، وما أن سمع الأنبا بولا هذه الكلمات حتى خرج من الصومعة ونادى الشاب بيفامون وأدخله إلى الداخل وقدمه إلى الأنبا بيشوى.

حكمة بيشوى في معاملة الناس .

وحدث ذات مرة بينما كان الراهب المسئول عن تعليم النساك في دير الأنبا بيشوى يفسر لهم الأسفار الالهية أن تفوه مساعده بعبارات لم يدرك الاخوة معناها تماماً ، فتسرب الشك إلى نفوسهم واعترفوا بذلك الأبيهم الروحى. فاستصحبهم إلى حيث يقيم الأنبا بيشوى وروى له ما حدث. وفي تلك الأونة حضر الشخص المشكو منه وردد العبارات التي أثارت الشكوك في نفوس الاخوة. فتجاهله الأنبا بيشوى وأدى به هذا التجاهل إلى أن يغادر المشكو منه الصومعة. وعند ذلك تجمع الاخوة حول الأنبا بيشوى يستفهمون منه عن السبب فى تجاهله لهذا الراهب. أجابهم قائلاً : “ان الشيطان واقف لهذا البائس بالمرصاد، فلو أننى وبخته لتسببت في أن يظفر الشيطان به. فاصبروا عليه وأحبوه حتى يتوب إلى رشده ويتغلب على التجارب الشيطانية” ولما بلغ الراهب المشكو منه ما قاله القديس بيشوى في شأنه بادر إلى اعلان توبته واستغفر الاخوة عما فرط منه.

 اختياره رئيسا للاخوة وتلقيبه بالرجل الكامل

ولما كان الأنبا بيشوى مداوماً على الصوم والصلاة باجتهاد عظيم فإن ملاك الرب كان يتعهده بالرعاية ليثبته في مناصبته المجرب الذي كان يستعين بشتى الوسائل للايقاع بالقديس العظيم ولما وجد الشيطان أنه عاجز عن اسقاط بيشوى فى فخاخه لجأ إلى خدعة فيها الكثير من التحايل . فقد ظهر في شكل ملاك لرجل غنى من أغنياء البلاد وقال له : “لماذا أنت جالس هنا بدلاً من أن تسعى إلى خدمة القديسين ؟ الا تعلم أن في برية شيهيت رجلاً باراً تنالك بركاته ؟ فسأل الغنى :  وما اسمه ؟ ، قال له الملاك المزيف : اسمه بیشوى. فقام الغنى لساعته وحمل جماله مختلف الهدايا وسار بها إلى برية شيهيت . وفي تلك الأثناء قال الملاك الملازم لبيشوى : و هوذا الشيطان قد نصب لك فخاً ليستميلك إلى اقتناء المال. وقد استعان في ذلك برجل غنى فجعله يحمل جماله الهدايا النفيسة وهو أت بها إليك. فقام الأنبا بيشوى وخرج من صومعته وأخذ يسير في البرية . فلم يلبث أن التقى بالرجل الغنى الذى سأله : أتعرف الرجل الكبير المقيم في هذا الجبل واسمه انبا بيشوى ؟ ، فسأله القديس : وماذا تريد منه ؟ أجابه الغنى : أريد أن أدفع له هذا الذهب وهذه الهدايا ليوزعها على الاخوة حتى تحل بركتهم على وعلى أهل بيتي. فقال الأنبا بيشوى:  ليس لسكان البرية حاجة إلى الذهب، ولن يأخذوا شيئًا منه، فلا تتعب نفسك ، فقد قبل الله صدقتك وخير ما تفعله هو أن تعود بالسلامة إلى بيتك وتوزع هذه الهبات على الفقراء والمعوزين ، والله يباركك ويبارك جميع ا أهلك . . فأطاعه الرجل الغني وعاد إلى مدينته ووزع الهدايا التي كان يحملها للأنبا بيشوى على المحتاجين والمتضايقين . وهكذا حطم الأنبا بيشوى فخاخ الشيطان بقوة الله.

وكانت منزلة الأنبا بيشوى لدى الرهبان قد ثبتت ورسخت فاختاروه ليكون لهم أبا ، وقد رأوا منه كل رعاية وعناية فأطلقوا عليه لقب : الرجل الكامل : Ilipour rearoc

 نياحته 

وبعد أن بذل الأنبا بيشوى النفس والنفيس في خدمة أخوته الرهبان الذين تولى رعايتهم ، انتقل إلى بيعة الأبكار في هدوء وسلام نفسي وكان قد قضى ما ينيف على ستين سنة في برية شيهيت ثم عاش بضع سنين في جهات مختلفة من البلاد المصرية رحل بعدها إلى عالم الخلود لينال الأجر السماوى من الله تعالى الذى خدمه طيلة حياته.

لمحة عن ديره 

ولا يزال دير الأنبا بيشوى عامراً للآن بالرهبان . ومن المعلوم أنه بنى فى حياة هذا القديس نفسه إذ يؤكد التقليد أنه شيد سنة 384 م  واستمر الدير مزدهراً حتى القرن السادس ثم دمره البربر في أواخر ذلك القرن . على أن الأنبا بنيامين ( البابا الاسكندرى الـ ۳۸) قد جدد بناءه بعد ذلك بقليل . وانقضى قرن ونصف تمتع فيه رهبان هذا الدير بالسلام والطمأنينة عاد بعده البربر إلى تخريبه كما خربوا كل الأديرة التى كانت موجودة في وادى النطرون يومذاك . ولكن الروح المصرية الوثابة دفعت بالآباء إلى اعادة بنائه فاحتفلوا في عهد الأنبا يوساب الأول ( البابا الاسكندرى الـ ٥٢) بنقل جثمان الأنبا بيشوى إلى ديره بعد أن كانوا قد أخفوه بعيداً عنه. واستمتع الآباء بعد ذلك بما يقرب من قرنين من السلام أصيب الدير بعدهما بالخراب. ورغم هذا التخريب المتوالى فقد ظل الآباء المصريون على اصرارهم في معاودة ترميم الأماكن المقدسة. وكان للأنبا بنيامين الثاني (البابا الاسكندرى الـ ۸۲) غيرة متقدة وعزم كالحديد، فذهب إلى شيهيت واشتغل بنفسه مع الرهبان والفعلة في قطع الأحجار وفى تصليح الآلات . فكان لوجوده بين الرهبان ولاشتراكه الفعلى معهم أثر عظيم إذ قد ملأ الكل عزيمة وقوة فأتموا بناء الدير وكنيسته في أقصر مدة. حتى لقد شهد المستشرق الفرنسي تيفنو سنة 1657م بأن دير الأنبا بيشوى أضخم الأديرة الأربعة في شيهيت. إلا أنه يبدو أن عدد رهبانه نقص نقصاً كبيراً فلم يزد على أربعة سنة 1712م حسب ما رواه الأب سيكار ولا يوجد به الآن غير خمسة عشر راهباً. أما المغارة التي كان يسكنها الأنبا بيشوى فتقع داخل دير السيدة العذراء الشهير بدير السريان .

ومما يجدر ذكره أن دير الأنبا بيشوى يرتبط بدير الأنبا مكاري الكبير بطريق تقوم الحجارة الكبيرة على جانبيه يطلق عليه الرهبان اسم طريق الملائكة ، لأنهم يجهلون من الذى مهده، ومن التقاليد الشائعة أن الملائكة هم الذين مهدوه .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى