البابا متى المسكين

البطريرك رقم 87

خصب الكنيسة القبطية

عملاق من عمالقة الكنيسة القبطية، رجل بلغ ذروة القداسة وزروة الكمال في الفضائل المسيحية. فهو جدير بأن يقف جنباً إلى جنب مع أثناسيوس الرسولي وكيرلس عمود الدين وديسقورس الشهيد بغیر سفك دم ، وأن ينتظم ضمن السلسلة المجيدة التي كان مارمرقس ناظر الإلهيات أول حلقة فيها وما زالت متدة الى الآن بقوة النعمة الإلهية .

والقديس العملاق الذي نقف أمامه الآن هو الأنبا متاؤس الأول الملقب بالمسكين . وقد شابه أثناسيوس الرسولي في أنه كان ولوعاً بأن يلعب الشعائر الدينية فيتخذ دور الأسقف ويجعل من التلاميذ زملائه كهنة وشمامسة وشعباً ، كما شابه شنودة رئيس المتوحدين في أنه اشتغل برعي الأغنام وفی توزیع طعامه على الرعاة وانصرافه إلى الصلاة. وقضى في رعاية الغنم أربع سنوات من سن العاشرة إلى الرابع عشرة. ومع صغر سنه كان ذا شجاعة نادرة يحمي قطعانه من الذئاب والضبعان فكانت هذه الوحوش تهرب حالما تراه أو تسمع صوته.

رهبنته

 ولما بلغ الرابع عشرة قصد إلى دير بالصعيد حيث ترهب، ولو أنه ظل يشتغل راعياً للغنم. وبدأ يدرب نفسه على الصوم حتى أنه كان في الصيف يأكل مرة كل يومين وفي الشتاء مرة كل ثلاثة أيام. وكان أسقف المنطقة يرقبه باهتمام بالغ فأمسك به وهو لايزال في الثامنة عشرة من عمره وكرسه قساً. ودهش الأب الروحاني القمص ابراهیم ( الذي كان ملازما للأسقف ) لهذا التكريس وعبر عن دهشته للأسقف الذي وصف له مزایا مدارس وانتهى إلى القول بأنه مستحق لأن يكون بطريركاً . فمجد الأب الروحاني الله العجيب في قديسيه.
 وحالما سمع متاؤس بهذا الحديث بين رجلى الله ترك المكان الذي هو فيه في خفية وذهب إلى دير الأنبا أنطوني أبي الرهبان . ولم يصرح الأحد هناك برتبته الكهنوتية مكتفياً بالخدمة کشماس . إلا أن الله الذي يتمجد في قديسيه شاء أن يبين حقيقة ما سيكون. فعرفوا أنه كاهن.

 وحدث أن قام الفرنجة بحملة على مدينة الاسكندرية فنهبوا وسلبوا ثم سبوا عددا من النسوة وهربوا ، ولما كان هؤلاء الفرنجة يحملون شارة الصليب على صدورهم فقد أوغروا صدور الأمير يلبغا ورجاله ضد القبط كالمعتاد ، وكان هذا الأمير متولياً أمر مصر من قبل السلطان وقتذاك فأمر بالتضييق على القبط إلى حد أنه لم يكتف بالتنكيل بساکنی المدن والقرى بل تعداهم إلى ساكني الصحراء أيضا. وصب جام غضبه بصفة خاصة على رهبان الدير الأنطونى إذ قد بلغه أن به ذخائر ذات قيمة عظمی , فألقي القبض على متاؤس الذي كان رئيسا وقتذاك وعلى عدد من الآباء منهم شيخ اشتهر بقداسته اسمه مرقس الأنطونی وساقهم أمامه ليذهب بهم إلى القاهرة . وكان يوسعهم ضرباً ورمياً على الأرض أثناء السفر . ومنع عنهم الطعام والشراب . وقد استعطفوه ليسمح لهم بقليل من الماء راضين بالجوع ولكنه رفض طلبهم في قسوة وتشامخ. وبينما هم يستعطفون وهو يزداد صلفاً هطل المطر بغزارة إلى حد أنه اضطر المسافرين إلى البقاء مكانهم تجنبا للسيل الجارف الذي فاجأهم في الصيف فشرب الجميع وارتووا من يد الله تعالى . ثم كمل الله مراحمه لأنهم حين وصلوا إلى اطفيح صدر الأمر من السلطان بالسماح لهم بالعودة إلى ديرهم في هدوء واطمئنان. فعادوا وهم يسبحون الآب السماوي على عظيم عنايته بهم.

في الدير المحرق

ثم أستأذن متاؤس في مغادرة دیر کوکب البرية وذهب إلى الدير المحرق. وهناك كان ينقل الرماد على رأسه ويغسل قدور الطعام وأواني الطبخ، ويخدم الشيوخ والمرضى ويقوم بواجب الضيافة نحو زوار الدير وضيوفه. ولشدة تقشفه لم تكن له قلاية خاصة . ولم يكن له غير الثوب الذي على جسمه. وكان يقضي معظم لياليه في مغارة خارج الدير وفي تلك الفترة شابه الأنبا أنطوني فيما أصابه من التجارب الشيطانية إذ كان يأتيه عدو الخير في زمرة من أعوانه في أشكال وحوش کاسرة. ولكن هذه الكواسر الخيالية كانت تهرب منه كما سبق أن هربت منه الكواسر الواقعية وهو يرعي الأغنام. بل أن بعضاً من الأمهات الضارية الواقعية حين كانت لا تجد قوتاً لصغارها تأتي بها إليه فيعطيها خبزه. كذلك كانت هذه الوحوش حين تراه سائرا وحده في الجبل تسير إلى جنبه للائتناس به .

ومن أرق ما حدث بينه وبين هذه الوحوش الكاسرة التي لاصلة بينها وبين الناس غير الفتك بهم، أن ضبعة وجدته متوغلاً في الصحراء فحملت ملابسه في فمها وسارت أمامه. فتبعها ليعرف ما حاجتها ، ومشت الضبعة إلى أن وصلت إلى صخرة تضم مغارة في داخلها . ودخلت الضبعة إلى المغارة فدخل معها . ووجد أن بالمغارة فجوة عميقة قد سقط في أسفلها جرو الضبعة وعجز عن الصعود منها. فنزل بنفسه وحمل الجرو على كتفه وأصعده إلى أمه التي أخذت تلعق قدميه في شكر وخشوع.

أنتخابه بطريركاً

 ثم خلت السدة المرقسية. وبعد مرور ثلاثة شهور على خلوها قام الأراخنة بالتشاور مع الأساقفة بحثاً عمن يرغبون في اختياره لرعايتهم . واستقر قرارهم على متاؤس . وحين سمع بذلك هرب من الدير وركب مركباً اختفى في أسفله. إلا أن الآب السماوي الساهر على كنيسته أنطق ولداً صغيراً ضمن راكبي المركب فأرشدهم إلى مكانه. فلما وجد أنهم أمسكوا به حاول أن يهرب من رغبتهم في رسامته لكنه عجز عن الافلات. وعندها رجا ممن جاءوه أن يسمحوا له بالذهاب إلى دير الأنبا أنطوني لاستشارة الشيوخ المقيمين به فقبلوا طلبه ولكنهم صحبوه إلى هناك خشية أن يهرب منهم. فلما وصل إلى الدير أشار عليه الآباء الروحانيون بأن يقبل هذه الكرامة العظمی خضوعاً لإرادة الله . فأطاعهم وعاد معهم إلى الشعب .

فساروا به لساعتهم إلى الكاتدرائية المرقسية بالاسكندرية. وتمت الشعائر المقدسة فأصبح البابا متاؤس الأول الملقب بالمسكين : البابا الإسكندرى السابع و الثمانين ، وكان ذلك في السادس عشر من شهر مسرى المبارك الذي هو عيد تذکار كلية الطهر والدة الإله . وهي كانت شفيعته وحارسته من بدء حياته وظل محتميا في حصن صلواتها طيلة حياته.

تواضع مع نسك

وحين استقر بالدار البابوية لم يغير من تواضعه ونسکه وسهره وصلواته. ووضع في منارة القلاية البطريركية بكنيسة السيدة العذراء بحارة زويلة جرساً من النحاس لينبه به المؤمنين إلى مواعيد الصلاة. فكان كل من يسمع رنين هذا الجرس ينهض مسرعاً إلى الكنيسة .

 كذلك كان عطوفاً رحيماً يحمل الطعام والشراب بنفسه إلى المنقطعين والمستورين . ويتفقد الرهبان ويولي الراهبات عناية خاصة .

وكان حنانه قوياً إلى حد أنه كان يوزع ملابسه الخاصة وحتى الملابس الكهنوتية فيكتفي ببدلة واحدة منها ليلبسها ساعة تأدية الشعائر المقدسة.

 وحياة البابا متى المسكين صورة مُثلى للفضائل المسيحية فلم يكن عطفه على شعبه قاصراً على توزيعه المال والملابس والطعام بل امتد إلى معاونتهم في أعمالهم. فكان يعجن مع العجانين ويحمل ادوات البناء مع البنائين، بل إنه كان ينزح المراحيض مع العمال. ومع ذلك فقد كان ذا هيبه ووقار حتى أنه حين كان يقف أمام المذبح ليؤدي الشعائر المقدسة يسطع وجهه بنور سماوی وتلمع عيناه ببریق روحانی، وكان يقف طوال فترة القداس لأنه كان يرى ابن الله قائما عن يمين المذبح.

وكما أن الأب السماوي كان يستمع لصلوات هذا القديس فيما يتعلق بأنقياء القلب كذلك كان يصغي إليه حين يغضب على المرائين. فقد حدث أن شماساً سرق حجة بستان خاص بأطفال يتامى وأخفاها. فسأله عنها فأنكر أنه أخذها وأضاف : كلمتك تقطعني يا أبي ، فغضب البابا البار وقال له : « من فمك يكون لك ، وانصرف الشماس إلى بيته وما أن دخل الباب حتى سقط ميتاً. وعندها أعيدت الحجة التي كان قد سرقها إلى أصحابها .

 ولفاعلية الروح القدس الحال فيه كان الناس يأتون إليه بقضاياهم وشكاواهم العديدة . فكان يطلب إلى الجميع أن يصلوا الصلاة الربانية. وبعد أن يدعو باسم الآب والابن والروح القدس يقول : “الخلاص للرب” ، معلنا بذلك اتكاله التام على ارشاد الروح القدس وتوجيهاته في كل ما يصدر من أحكام، فذاع صيته حتى أن الملوك والولاة إذا ما واجهتهم مشكلة عسرة الحل أو قضية شائكة أرسلوا يطلبون إليه الفصل فيها . وكانوا يقبلون ما يحكم به لساعتهم.

السلطان برقوق

ولقد بلغت ثقة برقوق في قداسة هذا البابا في أنه لم يقبل السلطنة إلا بعد استشارته . فقرر البابا متى أن يذهب إلى دير الأنبا أنطونی لیستشیر شیوخه في هذا الموضوع . وحين علم الآباء الرهبان باقترابه خرجوا للقائه حاملين الصلبان والأناجيل والشموع والمجامر الممتلئة بخورا متصاعدة نحو السماء. وقد صحب البابا من القاهرة ثمانون شخصاً – انتظموا ضمن موكب الرهبان فألفوا مركبا رائعا لأبيهم الروحي. وامتلا الجميع فرحاً وتهليلاً وبخاصة لأن الزيارة كانت قبيل أسبوع الآلام المحيية التي لمخلصنا الصالح. وأول ما قام به البابا في الدير كان تکریس الكنيسة التي كان الآباء قد اكملوا بناها باسم الفتية الثلاثة. ثم احتفل الجميع بأسبوع البسخة الكريمة وانتهوا إلى ذروة القيامة المجيدة فامتلأت القلوب نعمة وسلامة . وقبل أن يغادر الدير رجا من القمص مرقس الأب الروحاني للدير أن يذكره في صلواته وعرض عليه موضوع برقرق . قال له رجل الله : “اذهب بسلام يا أبانا ولا تخف لأن الرب في رحمته بك قد جعل أمامك السماء أرضا والأرض سماء . وانصح برقوق بقبول السلطنة”. فعاد الأنبا متاؤس إلى القاهرة وذاق هو وشعبه أياما من الرخاء . ولقد حفظ السلطان برقوق له الود وأكرمه ورفض أن يقبل أية سعاية أو وشاية فيه .

 وقد رغب السلطان برقرق في المحافظة على صلات الصداقة بين مصر والحبشة فرجا من البابا أن يكتب خطابا إلى ملكها “ویدم أصغر” ، الذي كان عاتياً شريراً. فلما جلس البابا ليكتب الرسالة الى هذا الملك الظالم نطق الروح القدس على لسانه فوجهها إلى أخيه داود. وعارضه الرسل الذين كانوا سيحملون رسالته خوفاً من بطش ویدم أصغر ولكنه أصر على أن تظل الرسالة باسم أخيه داود. فخضعوا لإصراره وحملوها قاصدين إلى الحبشة. ولما قربوا من حدود تلك البلاد حدث أن قام بعض المسئولين على ویدم أصغر وعزلوه وأجلسوا أخاه داود على كرسي المملكة عوضاً عنه .

فلما وصل رسل البابا كان المُلك قد آل إلى الشخص الذي وجه إليه البابا رسالته . فلما فك الملك داود ختم الرسالة ووجدها باسمه فرح فرحاً عظيماً وطلب إلى الرسل أن يعطوه الصليب والمنديل المرسلين هدية من البابا إليه. ودهش حاملوا الرسالة وسألوا الملك من أين علم بالهدايا وهم لم يخبروه بها. فأخبرهم بأن البابا نفسه هو الذي أعلمه بأمرها. ثم دعا وزراء وجنوده وأخته المباركة وقال أمام الجميع : “من قبل أن تجلسوني ملكاً أبصرت هذا الأب البطريرك في رؤيا وقد أقام أخي من على الكرسي وأجلسني عوضاً عنه وقال ” هكذا ينزع الله الملك ممن لا يسير بالاستقامة … وبعد ذلك أعطاني هذا الصليب بیدی ودعا لي لكي يثبت الله کرسی مثل داود أبينا لأقضى بين الشعوب بالعدل . ثم بارکنی وانصرف . وكنت أود أن أعلن هذه الرؤيا منذ أن شاهدتها ولكن أختى المباركة خافت على من بطش أخي ويدم أصغر ، وحين سمع الجميع هذه الكلمات مجدوا الله الذي يظهر عجائبه في قديسيه، وقد اعلم الخليفة المرقسي وهو في مصر بما سيحدث في الحبشة قبل أن یکون .
وبعد أن قضى رسل البابا بضعة أيام في ضيافة الملك داود عادوا إلى
مصر وذهبوا لساعتهم فأخبروا السلطان برقرق بكل ما رأوا وما سمعوا فازداد اكراماً له ومحبة فيه .

الراهب إبراهيم

 وكان في أيامه راهب أسمه ابراهيم من دير السريان، أغواه الشيطان فترك الدير وتنكر للمسيحية وانضم الى الجيش إذ أصبح جندياً فيه. ثم أمعن في زيغه وأخذ يعاند البابا. وكان يعلم أن بعض الرهبان كانوا قد حادوا عن الإيمان ثم ندموا وتابوا إلا أنهم مع توبتهم صاروا يوصفون بالمجروحين . وإمعانا في النكاية بالبابا عاد هذا الجاحد إلى البرية مستهدفاً أن يجر هؤلاء الرهبان المجروحين إلى الولاة لكي يقتلوهم . ولكنه لم يجد غير اثنين فقط فجرهما على الرغم منهما وأتي بهما إلى القاهرة.
وبالفعل نال هذان الرهبان إكليل الشهادة فضج الشعب من معاندة هذا الجاحد وطلب إلى البابا أن يدعو عليه ليخلصوا منه أجاب : « لایا أولادي، أنا لا أدعو عليه بل أدعو له لكي يرده الله إلى الإيمان ويمنحه أن ينال إكليل الشهادة » . ولم تنقض بضعة أسابيع على هذا الحديث إلا وامتلا قلب ذلك الرجل ندماً وحسرة . وطغى عليه ندمه إلى حد جعله يذهب إلى الوالی لساعته ويعلن توبته وعودته إلى السيد المسيح . فما كان من الوالي إلا أن أمر بقتله وهكذا نال إكليل الشهادة بصلاة البابا البار.

بعض الاشرار يعيثون فساداً

وبما أن الأنبا متى المسكين كان شديد الشغف بتفقد الرهبان فقد كان يزورهم كثيراً. وقصد ذات مرة إلى برية شيهيت للسؤال عن نساكها وللاستجمام الروحي أيضاً. وانتهز بعض الاشرار فرصة غيابه عن القاهرة لأنهم كانوا يخافونه فقصدوا إلى كنيسة السيدة العذراء ( الشهيرة بالمعلقة ) مستهدفين احراقها. وسمع السلطان برقوق بالأمر فأرسل لهم قضاة الاسلام الاربعة ليحققوا في دعوتهم بأن هناك تجديدا في تلك البيعة.
وقد أثبت القضاة الأربعة بهتان هذه الدعوى وحكموا على الأشرار بالانصراف. ولحدة غيظهم من هذا الحكم رموا بجمرة متقدة على أساس الكنيسة قبل أنصرافهم. إلا أن تلاميذ البابا الذين كانوا قد سارعوا إلى المكان وعملوا على اطفائها . وبينما هم منشغلون باطفائها من أسفل أنزل رب الكنيسة المطر عليها فأطفأها من فوق في الحال. فامتلأ الجميع فرحاً وسبحوا الله على عنايته الأبوية.

بسالة البابا متاؤس

 فلما فشل المعاندون في احراق كنيسة السيدة العذراء وجهوا سمومهم إلى دير شهران. وكان البابا قد وصل إلى القاهرة فسارع إلى الدير ووقف بمفرده في مواجهة جمهرة الأشرار وقال لهم : “من منكم له سلطان فليجرد سيفه ويقتلني أولاً لأني لن أسمح لأحد أن يمس الدير وأنا حي”. وتراجع الكل أمام هذه الشجاعة . وخلال هذا التراجع ذهب البابا الباسل إلى السلطان وأطلعه على حقيقة الموقف . فما كان منه إلا أن أرسل قضاة الإسلام الأربعة إلى دير شهران كما كان قد أرسلهم الى الكنيسة المعلقة. فحكموا بوجوب ترك الدير ورهبانه في أمان. وهكذا فشلت المحاولة الآثمة الثانية كما فشلت الأولى.

سلسلة من الإضطهادات

 ولكن حدث أن قام مملوكان هما الأمير منطاش والأمير يلبغا السالمي على السلطان برقوق وقاوماه وخلعاه ونفياه إلى قلعة الكرك بسوريا. ولما أصبح زمام الأمور في أيديهما بدأ سلسلة من الاضطهادات. وبالطبع كان البابا الشخص الأول الذي صبا عليه جام شرهما. فلقد سمع منطاش بأن لدي رجل الله ذخائر وأموالا طائلة فأرسل إليه وعذبه ولكنه لم يجد لديه شيئا بالمرة كما أنه واجه شجاعة نادرة في شخصه فأحس بالخجل وأطلقه. أما يلبغا فقد وجد من البابا مقاومة عنيفة حين كان يحاول اضطهاد الشعب فاحتدم غيظاً عليه وسجنه ثم جرد عليه سيفه يريد قتله فمد له رجل الله عنقه في هدوء وثبات وقال له : « أضرب سریعاً، فذهل يلبغا إلى حد أنه أطلقه أيضاً. إلا أن هذا التهجم على الأنبا متاؤس كان له ثمرته : فإن المملوك الذي نصب يلبغا أمیراً غضب عليه وسجنه في أحد سجون الاسكندرية وأوقع به آلاما مبرحة . وكان بعض من القبط يبدون مخاوفهم أحيانا لئلا يتمكن يلبغا من الأفلات من سجنه واستعادة سطوته والبطش بهم من جديد فكان رجل الله يطمئنهم قائلاً : « لا تخافوا البته یا أولادي فلن يخرج من السجن ولن يمس شعرة من رؤوسكم. وقد تحققت كلماته بالفعل إذ ظل يلبغا مسجوناً إلى أن مات.

عودة السلطان برقوق

ثم شاء الله في شامل رحمته أن يرسخ السلام مرة أخرى في بلادنا فتهيأت الفرصة أمام السلطان برقوق لأن يعود إلى الحكم إذ قد عاد إلى مصر ظافراً وابتهج الشعب كله بعودته فخرج القبط بانجيلهم واليهود بتوراتهم وحمل الجميع الشموع وساروا في الموكب الذي ألفه المسلمون لاستقبال السلطان. ولقد أثبت السلطان برقرق جدارته بهذا التقدير الشعبي الشامل لأنه لم حرص فقط على معاملة الجميع بالانصاف بل عمل على حفظ صلات المودة بينه وبين جيرانه من الدول : فكانت صلاته مع اليمن والحبشة صلات من يستهدف تثبيت السلام. بل أنه حين أنتهز داود بن أرعد ملك الحبشة الفرصة من تطاحن بعض الأمراء وأغار على أسوان لم يجبه برقرق بحد السيف بل رجا من الأنبا متاؤس أن يرسل له خطابا مع رسول خاص يطالبه فيه بالعودة إلى بلاده . وقد استجاب البابا الإسكندري لهذا الرجاء على الفور وبعث برسالته مع أسقف صحبة رسول السلطان وقد استجاب ملك الحبشة على هذه الرسالة بخطاب بعث به إلى السلطان وهدية حملها واحد وعشرون جملاً. 

وحدث في تلك الفترة عينها أن قصد إلى الحبشة أحد الأراخنة القبط اسمه فخر الدولة فعهد إليه الملك اسحق بن داود بن سيف أرعد بترتيب أمور الدولة فنظم له طريقة تحصيل الضرائب وأنشأ له دیواناً ووضع مختلف القوانين المنظمة لأنشطة الحكومة .كذلك وضع فخر الدولة هذا تصميماً لملابس الملك الرسمية التي يتميز بها عن سائر أمرائه ورجاله. وكان ملوك الحبشة يخرجون عرايا قبل ذلك.

الله يتمجد في قديسيه

 ولما كانت مواعيد الله ثابتة من جيل إلى جيل ، ولما كان قد أعلن أنه يتمجد في قديسيه ويكرم الذين يكرمونه فقد بدا مجده وتکریمه بصورة باهرة في شخص البابا الكبير رغم لقبه بالمسكين . فمنحه مواهب عديدة من مواهب الروح القدس . فقد رأينا كيف أنه عرف بالروح عن خلع ویدم أصغر وقيام أخيه داود بدلاً عنه ملكاً على الحبشة . لكنه كان ذا مواهب متنوعة الى جانب موهبة التنبؤ هذه. فلقد أجرى الله بصلاته الآيات العديدة من اخراج الأرواح الشريرة وشفاء المرضى واقامة الموتى.

 على أن الناس في كل مكان وكل جيل كثيراً ما ينسون القوى الروحية الخفية لكونها غير مرئية ويميلون إلى الأرتكان على المال زعماً منهم أنه أقوى فعلاً في النفوس ، ومع أن الشعب رأي في باباه النموذج الأمثل للروحانية وللتسامي على الماديات إلا أنه حدث على الرغم من هذا أن جاءه أحد كتبة ديوان السلطان وهو قلق مضطرب وقدم له خمسمائة دینار قائلا له : «يا رجل الله تقبل مني هذا المال وصلی من أجلي ، لأن السلطان برقوق يريد قتلى اليوم ولا أجد مخرجاً أمامي من هذه الورطة » أجابه البابا العفيف : “احتفظ بذهبك لنفسك لأن الصلاة التي بالذهب لا قيمة لها . وإن أردت أن تخلص أعد الذهب إلى مكانه وخذ صلیبی ومندیلی معك ، وأدخل بهما إلى حضرة السلطان ” . ثم قام وصلى على رأس الرجل وأعطاه الصليب والمنديل وأطاع الكاتب أمر البابا وذهب إلى السلطان الذي كان في حدة الغضب ولكن ما أن وقعت عيناه على كاتبه حتى هدأت نفسه وأصغى إليه وكأن كلمات الكاتب كانت كالندى على أذنيه وفرح الكاتب بهذا التحول العجيب، وخرج بعد ذلك وأذاع ما حدث بين جمیع عارفیه. فمجدوا الله على رحمته وعلى تقبله صلوات قدیسه الأنبا متاؤس .

استبداد الأمير سودون

 إلا أن دوام الحال من المحال فانقضت فترة السلام التي رسخها السلطان برقرق بموته وتولى ابنه الناصر فرج السلطنة من بعده واتبع خطة أبيه في انصاف الرعية. إلا أن الأمير سودون ما لبث أن تغلب عليه وأستأثر بالحكم . وكان عاتية فأخذ يبطش بالرعية. وتأمر ذات يوم مع بعض أعوانه على الفتك بالقبط مستهدفة القضاء عليهم جميعاً. وعرف الأنبا متاؤس بالروح عن هذه المؤامرة فقام لساعته وذهب الى كنيسة القديس مرقوريوس ( أبي السيفين ) بمصر القديمة حيث حبس نفسه سبعة أيام متوالية وهو يصلي ناسياً الأكل والشرب والنوم وكل مطالب الجسد في سبيل الذود عن شعبه . وبعد هذا الصراع الروحي المتواصل ظهرت له السيدة العذراء وسط نور ساطع وقالت له : ” لقد قبل الله طلبتك وأبطل مؤامرة المعاندین مخلصاً شعبه من أيديهم ” . حينئذ ابتهج قلبه وخرج من البيعة ووجهه يسطع كوجه ملاك . وبتدبير من الله أرسل الأمير سودون إلى البابا يدعوه للحضور عنده. فلما ذهب إليه اعترف له ما كان ينوبه ضد الشعب القبطي فوبخه البابا الباسل توبیخاً قارصاً وأعلن له أن الله هو الحصن الحصين لشعبه وأن السلطان الأرضي مهما علا نفوذه لن ينال منهم الا بالقدر الذي يسمح به الله. وقد امتلأ قلب الأمير سودون خوفاً من هذه الكلمات كما امتلأ دهشة من شجاعة رجل الله فأطلقه في سلام . وذهب هو وشعبه إلى كنيسة السيدة العذراء حيث قدموا الشكر للأب السماوي وعملوا تمجيدا للسيدة والدة الإله معينة الملتجئين إليها.

 ولقد اشتد الضغط على القبط من أعوان سودون أيضا فقام أحدهم واسمه أوزبك وبطش بهم فسجن من سجن وقتل من قتل . واحتد غضب البابا على هذا الأمير الذي لم يلن قلبه لأية ضراعة . فقصد إلى كنيسة الملاك ميخائيل وحبس نفسه فيها ستة أيام بلياليها وهو يصلي ويتوسل إلى الله ويستشفع بالملاك لكي يسارع إلى نجدة الشعب المعذب، وبعد الأيام الستة أرسل أحد تلاميذه ليستطلع الأمور ، ولما وصل التلميذ إلى باب قصر ذلك الأمير وجده محمولا على نعشه ميتاً.فذهب وأخبر البابا، الذي قام لساعته وعمل تمجيدا لرئيس الملائكة ميخائيل الذي أعانه من غير امهال.

 وضاق عدو الخبر ذرعاً بهذا القديس الذي استضاءت روحه بالأنوار السمائية وانعكس وهجها على الشعب كله، فاستشار عليه أولاً بعضاً من أولاده الذين ساروا في طريق اللهو والعبث ورفضوا أن يصغوا لتعاليمه وتوجيهاته. وكان هو يبكي على غلاظة قلوبهم ويداوم على الصلاة من أجلهم . ولكنهم تمادوا في غيهم وغرورهم ولم يزدادوا إلا تشامخا.

 وفي وسط هذه الضيقة التي أقلقت نفس البابا على المعاندين له من شعبه استثار الشيطان أميرا من المماليك اسمه جمال الدين ، فأخذ هذا الأمير يعذب ويسجن ويقتل كل من استطاع القبض عليه من القبط . وزاد على ذلك بأن أرسل رسلاً إلى الحجاز واليمن خلسة يشيرون على حكامها بأن يكتبوا إلى السلطان خطابات يوجهون فيها إلى الأنبا متاؤس تهمة زور مؤداها أنه يحرض ملك الحبشة على تخريب مكة. ولقد كشف الله هذه السعاية للبابا إذ أعلمه مقدماً بها قبل أن تصل الرسائل المملوءة بالشکوی ضدة إلى مصر . وأصيب البابا بحمى شديدة اضطرته إلى ملازمة الفراش . وحين سمع الأمير جمال الدين بمرضه هدأت حدته قليلا . فسكت عنه بعض السكوت ولكنه استمر يعذب الشعب ثم أرسل يطالب البابا بخمسمائة ألف درهم ويتوعده بالتعذيب رغم مرضه إن لم يرسلها له ، وقد جمع الشعب هذا المبلغ حباً في باباه ورغبة منه في حمايته من ذلك الأمير العاتی . إلا أن الأمير ازداد صلفاً بعد أن قبض المال الذي أراده. وأرسل رسله يشدد على البابا بالحضور إليه . فطيب البابا خاطر الرسل ورجا منهم أن يمهلوه إلى اليوم التالي فقط – الذي كان يوم الأحد . أما هو فكان قد علم بالروح أن ساعته قد حانت وأن الآب السماوی سینقله إلى فردوسه قبل أن يتمكن الأمير الظالم من أذيته . وفعلا حين وصل الرسل في اليوم التالي وجدوا أنه قد أصبح في مأمن من غدر أميرهم إذ قد فاضت روحه إلى خالقها في الهجعة الأولى من ليلة الاثنين وذهل الأمير وأعوانه ما حدث.

نياحته

وكان الأنبا متاؤس قد أرسل إلى تلاميذه ليحضروا اليه فأعلمهم بقرب انتقاله إلى الفردوس وأعطاهم وصيته فيما يتعلق بتكفينه. وطلب إليهم أن يدفنوه بدير الخندق ليكون بين أولاده حتى بعد انتقاله وبعد أن أنتهى من وصيته التف بأزاره واستودع روحه بين يدي الآب السماوی .

فاصل

البابا غبريال الرابعالقرن الرابع عشرالعصور الوسطىالبابا غبريال الخامس 
تاريخ البطاركة
تاريخ الكنيسة القبطية

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى