البابا يؤنس (يوحنا) السابع عشر

البطريرك رقم 105

ظلم الأتراك 

وعاد الضيق يجثم على صدر مصر عامة والكنيسة القبطية خاصة . فقد عاود المماليك الفتن والقلاقل ضد الترك الذين اعتبروهم أغراباً عن مصر ، حتى لكأن المماليك اصبحوا من المصريين في خصومتهم مع الأتراك على الرغم من ان الجميع استهدفوا مصالحهم الشخصية إلا أن مصالح المماليك كانت أقرب إلى مصلحة مصر من مصالح ولاة الباب العالي. وقد اشتد هؤلاء الولاه في المطالبة بالاموال و ضاعفوا طلباتهم . وبطبيعة الحال ضاعفوا الجوالي ، التي لم تكن مفروضة إلا على غير المسلمين . ولم يكتفوا مضاعفتها على الأغنياء بل ضاعفوها حتى على الفقراء وامتدوا في تعسفهم إلى المعدمين. كذلك فرضوها آنذاك على الأساقفة والكهنة والرهبان الذين كانوا معفيين من الضرائب – بل لقد أعفوا من الجزية في فترات عديدة . ولكن في هذه الفترة لم يكن من القبط شخص واحد صانته کرامته من تعديات الترك. وما زاد الطين بلة أن حياة الجوالى لم يكونوا عملاء الوالى المتسلم زمام الحكم في مصر ، بل كانوا جماعة معينين من السلطان لهذه المهمة بالذات، يحضرون لإستلام المال و يعودون به إلى الأستانة لساعتهم.

رسامة البابا يوحنا

 و على الرغم من هذا الضيق فقد نجح الأساقفة والأراخنة في الإلتقاء  مع بعضهم البعض . وقد شاءت رحمة الله أن يجمعوا على راهب من دير القديس البار أنبا بولا اسمه عبد السيد. وكان هذا الراهب من أهالى ملوى ، ثم استجابت روحه لنداء الله فاندفع بقوة هذه الاستجابة إلى ترك أهل بيته والانضمام إلى مجمع رهبان الانبا انطوني ثم اختاره الانبا يؤنس السادس عشر ضمن الأربعة الذين شاء لهم أن يعمروا دير الأنبا بولا . فقضى بينهم بضعة سنين في تعبد و في سعی روحي متواصل حتى أن الانبا بطرس السادس البسه الأسكيم ورسمه قسا . لذلك اتجهت إليه الأنظار حين خلت السدة المرقسية. وتمت رسامته في كنيسة الشهيد العظيم القديس مرقوريوس ( اي السيفين ) بمصر القديمة بأسم يونس السابع عشر ، فأصبح البابا الإسكندرى الخامس بعد المئة وكان ذلك بعد نياحة الأنبا بطرس السادس بما يقرب من ستة شهور.

نظام الأمتيازات

ولم یکن القبط آنذاك يرزحون تحت عبء الضرائب والجوالی ووسائل البطش لابتزازها فقط ، بل كان الأجانب الذين يفدون على بلادنا يعيشون تحت النظام المعروف بنظام الامتيازات . ومعنى هذا النظام أن الأجنبي يعيش في بلادنا متنعماً بحرية عجيبة ، فلايدفع ضريبة للحكومة المحلية حتى إن اكتسب الالاف من الجنيهات في هذه الأرض الطيبة. ولا هو يخضع للمحاكم المحلية حتى إن اقترف جريمة القتل في وضح النهار! فهويستغل الأرض وأهلها بل وحكومتها أيضاً دون أي التزام من جانبه نحو هذا البلد واهله.

فكان موقف هؤلاء القوم موقف الانسان الغني الحر الطليق الغير مقيد بقانون ولا مسئولية أمام المصرى الفقير المكبل بالقيود . والقبطي إذ ذاك كان مكبلاً بقيود مواطنيه بالاضافة إلى القيود الضاغطة عليه بصفته الشخصية. 

 ومن عجب أن سرت بين الناس آنذاك شائعات بأن القيامة ستقوم . فأثرت هذه الشائعات عليهم تأثيرا متبايناً : فالبعض لجأ إلى الصوم والصلاة واسترحام الله ، بينما خرج البعض الآخر إلى المنتزهات والحقول مرددين لبعضهم البعض “دعونا نعمل حظ ونودع الدنيا قبل أن تقوم القيامة”.

قائد مستميت

وما يجب ذكره بالاعتزاز ان الانبا يؤنس السابع عشر جاهد جهاد الأبطال ليحفظ أولاده داخل حظيرة امهم القبطية الأرثوذكسية . فلم يتفقد شعبه بزياراته ورسائله فقط بل وضع عدداً من الكتب دفاعاً عن العقيدة الأرثوذكسية . فكان قائداً خاض المعركة بنفسه ووقف فيها في الصف الأول. مع أنه لم ينتصر انتصاراً حاسماً، ولكنه على المرء أن يسعى إلى الخير جهده ، وليس عليه أن تتم المقاصد فهو قد جاهد الجهاد الحسين طيلة أيام بابويته. وإن تذكرنا أنه كان مكبلاً بالقيود المفروضة عليه من الولاة العثمانيين، و إن تذكرنا أنه عاش في فترة كلها قلاقل سياسية حتى لقد تبدل عليه ثلاثة من الولاة غير الذين فروا هاربين خوفاً على حياتهم ، وإن تذكرنا أن الشعب القبطي آنذاك عاني الفقر والتعسف – إن تذكرنا هذا كله أدركنا عنف الجهاد الذي جاهده الانبا يؤنس السابع عشر ، وأدر کنا أنه جدير بالوقوف إلى جانب اسلافة العظام من باباوات الاسكندرية الذين قضوا حياتهم في الذود عن العقيدة الأرثوذكسية . فكانت كنيستنا القبطية آنذاك شبيهة بسيدها وربما يوم أن قال لرسله : و هوذا يد الذي يسلمني هي معي على المائدة ، ولو انها لم تتشبه به تعالى في هذا الموقف فقط ، بل طالما تشبهت به خلال الأجيال في تقبلها الاضطهادات وفي مواجهتها لصنوف المحن وفي بقائها ثم في انتصارها على كل هذه الظروف والملابسات في النهاية .

ذود الراعي

ومن الأدلة على عناية هذا البابا بنشر التعاليم الأرثوذكسية أنه توجد مخطوطة مكتوبة بغاية الدقة ، يحيط بكل صفحة منها اطار من اللون الاحمر و تتزين صفحتها الأولى بزخارف متنوعة وهي تتضمن :

۱- مزامير الأجبية تتبعها توسلات مار أفرام السرياني .

۲- تجميعات الأرقام القبطية و العربية وتوجيهات وجداول لتسهيل تحويل التاريخ القبطی إلى العربي.

۴- موضوعات مختلفة جديرة بتزيين الذاكرة كالوصايا العشر والاسرار السبعة والنصائح الإنجيلية وأعمال الرحمة.

4- توضيح العقيدة المسيحية والصلاة الربية. 

 

يوم من الفزع

 ومن عجب ان الطبيعة أيضا ساهمت في إزعاج المصريين فقد حدث في يوم من أيام الخميس (سنة 1735 م) أن قامت الدنيا واصفرت السماء إلى حد جعل الناس يزعمون أن القيامة ستقوم . وملأهم هذا الزعم خوفاً قتركوا القاهرة ولجأوا إلى الريف آملين أن يجدوا في رحابته شيئا من الوقاية . وودع كل منهم اهله واصحابه ، واندفع يصلى ويضرع. ومر يوم الجمعة كما تمر الأيام . وإذا بهم يرون الشمس تشرق يوم السبت . فعاد الفارون وهم ينكتون على ما أصابهم من ذعر وما اكتنفهم من غباء.

ثم حدث مساء عيد القيامة سنة ۱۷۲۸م أن شب حريق في كنيسة السيدة العذراء بحارة الروم ، وفي صباح الاثنين (شم النسيم ) شاع خبر هذا الحريق. فركب الوالى وجنوده خيولهم وذهبوا لمعاينة المكان . ثم احضروا السقايين و الفعلة ليطفئوها إلى أن نجحوا في ذلك ولقد احترق الشيء الكثير منها ومن محتوياتها.

كما أن الحريق هيأ الفرصة للراع لكي ينهبوا ما يستطيعون وضع اليد عليه.

الجنود خلف القائد

ومن نعمة الله أن الولاة وكبار المسلمين آنذاك قد جعلوا القبط موضع ثقتهم إلى حد انهم سلموهم إدارة مصالحهم والاشراف على حساباتهم ، وخلال التعامل المتبادل بينهم توثقت الرابطة الوطنية التي تجمعهم . فأنس المسلمون إلى إخوانهم القبط وأودعوهم اسرارهم واعتادوا أن يستعيروهم في بعض امورهم الهامة . ولقد استجاب القبط لهذه الثقة فبرز منهم عدد من الأراخنة ممتلئين محبة مسيحية خادمین وطنهم وكنيستهم معاً. ومن هؤلاء الأراخنة :المعلم جرجس السروجي الذي أنفق من ماله الخاص على بناء بيعة في دير الأنبا بولا، ثم المعلم فیروز والمعلم رزق الله البدرى والمعلم بانوب الرفتاری الذين قيل عنهم في المخطوطات انهم كانوا يشترون الفقراء شراوی من حبس الجوال ويخلصونهم (فادوا مسئوليتهم في صمت عملاً بقول رب المجد , متی صنعت صدقة فلا تصوت قدامك بالبوق. 

نياحته

 وبعد الجهاد العنيف في سبيل عقيدة الآباء والأجداد، وبعد الصمود المستميت في وجه الضيق والبطش دخل الأنبا بولس السابع عشر إلى فرح سيده – وقد قاد دفة الكنيسة خلال ثماني عشرة سنة وثلاثة شهور.

 

____

من كتاب قصة الكنيسة القبطية – إيريس حبيب المصري

فاصل

البابا بطرس السادس  القرن الثامن عشر العصور الوسطى البابا مرقس السابع 
تاريخ البطاركة
تاريخ الكنيسة القبطية

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى