البابا كيرلس الثاني
البطريرك السابع والستون
كان حبيساً بصومعة سنجار وأسمه جرجس وهو من أهل اقلاقه بحيره انتخب للبطريركية في ۲۲ برمهات سنة ۷۹۲ ش و ۱۰۷۸ م في عهد خلافة المستنصر بقرار مجمع انعقد في الدار البطريركية مؤلف من الأساقفة وكبار الشعب.
وقوبل انتخابه بالارتياح في جميع دوائر الحكومة حتى أن عقلاء المسلمين طلبوا اليه أن يبارك قصر الخليفة فبارکه باحتفال عظيم وتفاءل الأقباط به خيراً.
وعقب رسامته بقليل تنازل سلمون ملك النوبة عن الملك لابن أخته المدعو جرجس وآثر العزلة والانفراد في دير نفريوس الواقع في البرية بين حدود مصر والنوبة ملازماً الصلاة والعبادة فحاصره أهل أسوان طمعاً في ضم الدير الى مصر وأخذوه أسيرا وأتوا به الى أمير الجيوش بدر الجمالي فقابله البطريرك وكبار الأقباط باحتفال عظيم ولقى من أمير الجيوش اكراما زائدا وخصص له قصرا لاقامته فيه و بقی به في مصر حتى توفي بعد ذلك بقليل ودفن بالاكرام بدير الخندق المعروف الآن بدير أنبا رويس خارج القاهرة.
وفي أثناء اقامة سلمون في مصر تحقق بالعيان ما كان بين القبط والنوبيين من الرابطة الدينية وتبادل البطريرك معه الزيارات واحتفى به وجهاء الطائفة وكان وجوده بينهم هذه المدة سبباً في رفع شأنهم عند أكابر الدولة وعظمائها لاسيما عند أمير الجيوش الذى لما شاهد علامات الاخاء بين الأقباط والنوبيين والحبش رغب في عقد معاهدة مع ملوك هاتين الأمتين لتسهيل طرق التجارة وامتدادها بين الديار المصرية وتلك البلاد فكاشف عظماء الأمة القبطية وعقلاءهم ما یکنه في صدره وطلب منهم بذل الجهد في مساعدته فلبوا طلبه وشرعوا في فتح باب المخابرات مع ملوك الحبشة والنوبة بواسطة البطريرك وهكذا تم الاتفاق على ما يروم امير الجيوش الذي أنعم على البطريرك بمال يستعين به على اصلاح الاديرة والكنائس المتخربة.
وجرى بعد ذلك أن شخصا أسمه کیرلس انطلق الى بلاد الحبشة وادعى أنه مطرانها وتسلط على كنائسها ولما بلغ أمره إلى البابا كيرلس حزن وقصد أن يقيم غيره اسقفاً شرعيا يدعی ساويرس و يرسله اليها فقاومه أمير الجيوش وأبی أن يرخص له بسفر المطران الا اذا وعده بان يبني في الحبشة خمسة مساجد وان يرسل له المطران كل سنة هدية فلم يسع البطريركك الا الرضوخ. وسار ساويرس إلى الحبشة فهرب من وجهه كيرلس الى بلدة ( دهلك ) من بلاد الحكومة المصرية و بلغ أمره أمير الجيوش فاستقدمه اليه وأخذ كل ثروته وقتله. ولاقى المطران ساويرس متاعب جمة لاسيما عندما شرع يبذل مجهوده في اصلاح الكنيسة الحبشية ومقاومة العادات الفاسدة الشائعة بينها وكان جل الأمراء يأخذون جملة من الجاریات فوق الزوجة الشرعية فقصد المطران أن يستأصل شأفة هذه العادة ولكن مساعيه لم تأت بفائدة تذکر لانهم كانوا يدعون انهم باقون على شريعة موسى في أمر تعدد الزوجات واعتقدوا أن ذلك ليس محرم الا على القسوس والشمامسة فقط مع اعترافهم بان ذلك مخالف لروح المسيح.
وحدث فيما بعد أن ساويرس أرسل اخاه الى امير الجيوش بهدية لم تصادف منه قبولاً لحقارتها فاشتد غيظه وأتي بالبطريرك مع عشرة أساقفة وأخذ يعنفه بشدة على تقصيره في القيام بما كل منهم وعد به فشرع البطريرك يدافع عن نفسه فقاطعه وتوعده واساقفته إن لم يكلفوا اثنين منهم بالسفر الى الحبشة ليلزما مطرانها بوفاء وعده وأن يرسل ضريبة ٥٠ سنة سلفا وان يحذر الحبش من التربص لتجار الإسلام في الدروب وأمر أن يبقى البطريرك والاساقفة تحت تصرفه وان يدفع اربعة دنانير يوميا نفقة اعالة حتى يرجع المطرانان اللذان يرسلان إلى الحبشة ولكنه فيما بعد عدل عن هذا الرأي واكتفى بتدوين أسمائهم وجعلهم تحت مراقبة الجنود وأطلق سراحهم فاقاموا في كنيسة المعلقة واتفقوا على أن يرسلوا الانبا مرقس اسقف أوسيم والانبا تادرس اسقف سنجار واحاطوا امير الجيوش بما دبروه ولكن هذا الأمر لم ينفذ بتدبير الهي وذلك أن باسيل ملك النوبة ارسل ابن الملك المتوفی الى أمير الجيوش بهدايا فاخرة طالبا منه أن يكلف البطريرك بتكريسه مطرانا على النوبة وخشی أمير الجيوش أن يظهر سخطه على البطريرك امام ابن ملك النوبة فسمح له أن يمثل أمامه هو وأخو ساويرس المطران فدفع البطريرك عن نفسه وأخبره أخو المطران أن أخاه بنی سبعة جوامع بدل أربعة ولكن الحبش هاجوا عليه واتهموه بالتحيز للمسلمين وقاموا على الجوامع وهدموها وقصدوا الفتك بالمطران حتى اضطر الى الهروب ولم يخلصه من ايديهم الا الملك الذي أمر بسجنه حينئذ ولما شعر ابن ملك النوبة بحرج حالة البطريرك والاساقفة طلب من أمير الجيوش اطلاق سراحهم فقبل وامر البطريرك بأرسال الاسقفين الى الحبشة لاعادة بناء الجوامع المتهدمة فسافر الاسقفان واخبرا ملك الحبشة بالأمر وأخبراه أن جميع كنائس القطر المصري تحت خطر الانهدام أن لم تسرع ببناء الجوامع فاستشاط الملك غيظا وارسل يقول لبدر يقول ” آن تجاسرت ومددت يدك بسوء الى كنيسة واحدة فاعلم أني اقلب مكة رأسا على عقب ولا ارضى باعادة بناء حجر واحد الا اذا اخذت وزنه ذهبا” غير أن بدر الجمالى هذا على رأي اكثر المؤرخين لم يكن مسلما بل مسيحيا وانما اظهر التحيز للاسلامية حبا في بقاء سلطانه مرفوع الشأن . وقد تجلت أخلاقه الطيبة في الحادثة التي نذكرها وهي أن الاسقف يوحنا الظالم الذي سبق واضطهد البابا خيروستوذولو بقي مصرا على تشويش راحة الأمة فصار يترقب فرصة لإظهار ما كان يخفيه في صدره فلما تقلد البابا كيرلس الرئاسة اتحد مع أربعة أساقفة وهم أخوه مرقس أسقف سمنود و يوحنا أسقف دميرة وخائيل أسقف أبي صير ومقارة أسقف القيس ومعهم الشماس أبو غالب أحد أعيان مصر المشهورين وتواطأوا على عزل البطريرك فكتبوا تقريرا بالطعن في حقه مدعين عليه بدعاو توجب عزله وقدموها لبدر الدين الجمالي بواسطة يسيب رئيس بستانه و كان قبطيا . وكان البطريرك متغيبا حينئذ في الاقاليم يزور الكنائس و يفتقد الرعية و يدشن البيع التي بنيت حديثا فلما اطلع أمير الجيوش على التقرير رأى انه ليس من شأنه أن يحكم في أمر مثل هذا من تلقاء نفسه بمجرد أقوالهم فأمر البطريرك بعقد مجمع من أساقفة الوجهين القبلي والبحرى وكبار الامة يرأسه أمير الجيوش ليبحثوا في الامور المنسوبة إليه على البطريرك ليعرف عما اذا كانت صحيحة أو غير صحيحة فحرر البطريرك كشفا بأسماء الأساقفة الذين يطلبون لحضور الاجتماع فحضر في مدة قصيرة ۲۷ أسقفا من الوجه البحرى و ۲۲ من الوجه القبلى و 3 أساقفة بابيليون والخندق والجيزة ولما تكامل عدد الحضور انعقد المجمع تحت رئاسة أمير الجيوش في قطعة أرض له خارج القاهرة . ثم وضع الكتاب المقدس في الوسط وجلس أساقفة الوجه البحرى على الكراسی فی صف وأساقفة الوجه القبلى على الكراسي في صف وأساقفة مصر وضواحيها في وصف وجلس المشتكون وأصحاب الدعوى معا . و بعد الصلاة قدم أبن الظالم تقريره الذي يتهم فيه البطريرك بتهم شنيعة فقام البابا كيرلس وفند کل تهمة تفنيدا لا يدع مجالا لمدع فاقتنع الجميع وعلى رأسهم أمير الجيوش ببراءة البطريرك ولذلك وقف أمير الجيوش في وسط المجمع ووبخ الأساقفة على هذا التنابذ قائلا لهم « كان يجدر بكم أن تكونوا أنتم المثال في المسامحة حتى يقتدي بكم الشعب الذي ترشدونه ثم حث الاساقفة على الخضوع لرئيسهم والاخلاص له وطلب منهم أن يطلبوا منه العفو فتصافح الجميع أمامه وكلف أحد رجاله بأن يسلمهم أوراق العفو . ثم أمر بقطع رأس عامل بستانه . الذي سعى بالشر ضد بطريرکه فخجل الاساقفة من تأنيب الجمالي لهم ورجعوا الی کنیسة ابي سيفين وأخذوا يتضرعون الى الله ليغفر لهم خطاياهم و بعد أسبوع كلفوا البطريرك بأن يقيم لهم صلاة القداس وتناولوا من بين يديه القربان المقدس.
ولما كان بدر الدين الجمالي أمير الجيوش أرمني الاصل تكاثر عدد الأرمن المهاجرين الى القطر المصري حتى انتخبوا لهم بطريركا يدعي غريغوری ولما كان الأرمن تابعين للكنيسة القبطية في اعتقادها بالطبيعة الواحدة فقام البابا كيرلس برسامة غريغوري بطريرك الأرمن وحرر منشورا لكافة الكنائس يخبرها فيه أن كنائس مصر والحبشة وانطاكية وأرمينية متحدة في الإيمان الأرثوذكسي المستقيم.
وبعد ذلك اشتغل البابا كيرلس بوضع قوانين جديدة للكنيسة سارت عليها إلى ما بعد وفاته بزمن . واهتم أيضا باصلاح الكنائس وافتقاد الفقراء . وكانت اللغة القبطية تتضاءل شيئا فشيئا وتحل محلها اللغة العربية حتى رأى البطريرك نفسه مضطرا الى تعلمها . و يقول المؤرخون أن البابا كيرلس هو أول من عمل الكسوة البطريركية من دیباج أزرق و بلارية من دیباج أحمر مزدانة بصور من ذهب . وبعد أن قضى 14 سنة و 6 شهور و 16 يوما قد رقد بالرب في ۱۲ بؤونة سنة 806 ش و ١٠٩٢ م
البابا خيروستوذولو | القرن الحادي عشر | العصور الوسطى | البابا ميخائيل الثاني |
تاريخ البطاركة | |||
تاريخ الكنيسة القبطية |