مصر تحت حكم الدولة العثمانية
شاهدت بابوية الأنبا يؤنس الثالث عشر نهاية دولة المماليك الشراكسة إذ قد انتصر عليهم السلطان التر کي سليم الأول. ومع أنهم كانوا رجال حرب وصدام إلا أن تحاسدم و خيانتهم لبعضهم البعض مكنت العثمانيين منهم. وحينها انتهى الحكم المملوكي و بدأ الحكم الترکی تحولت مصر من إمبراطورية مترامية الأطراف إلى بلد محكوم تابع لغيره .
ولئن كان الحكم الترکی غشوماً باطشاً سياسياً، فغشامته و بطشه في الناحية الحضارية كان مضاعفاً. لأن السلطان سليم الأول لم يستقر في القاهرة بل اكتفى بقضاء بضعة أيام فيها عاد بعدها إلى بلاده . و بذلك هبطت هذه العاصمة الكبرى وفقدت رونقها ومكانتها . وليت الأمر وقف عند هذا الحد، لأن السلطان حين قرر العودة أمر بترحيل المهرة من الصناع والحرفيين والفنانين إلى تركيا لينتفع هو بمواهبهم ومهارتهما، ويقدر بعض المؤرخين أنه أخذ معه ألفاً من هؤلاء المنتخبين بينما يرتفع البعض الآخر بالعدد إلى الف وسبعمائة ، بل واکثر. و یؤید ابن أیاس هذه الحقيقة بقوله : وفي بدء إقامة ابن عثمان في القاهرة حصل لأهلها الضرر الشامل وبطل فيها نحو خمسين صنعة وتعطلت منها أصحابها ولم يعمل بها في ايامه بمصر.
ومن المؤلم حقاً أن الجهل بهذه الوقائع دفع بالمصريين إلى الزعم بأن صناعهم وحرفييهم اعجز عن الاتقان الذي لصناع والحرفيين العثمانيين حتى انهم يعبرون عن إعجابهم بالعمل الفني بقولهم : دی صنعة اسطنبولی
ومن اكبر الشخصيات التي أخذها السلطان سليم الأول المعلم برکات کبیر کتبة ديوان الملك الأشرف ولقد استطاع هذا القبطى أن يصل إلى مكانة مرموقة لدى السلطان لأنه كان متضلعاً من العلوم الهندسية والفلكية والرياضية إلى جانب درايته بالشئون المالية . فلما راه سليم الأول عند السلطان الأشرف أعجب بذكائه و بسعة مدار که و معارفه وامره بالذهاب معه إلى القسطنطينية، فاضطر إلى ترك بلاده الحبيبة واستصحب معه أسرته. وهناك في الهجر الإضطراری و كل اليه سليم الأول تنظيم الأعمال المالية في ديوانه . فخدم تركيا بقية حياته.
وهكذا استهل الترك حكمهم بتجريد مصر من مهرة عمالها وبالتالى بقتل الصناعات والإنتاج الفني ، ومرة أخرى ليت الأمر وقف عند هذا الحد، لانهم بعد أن قتلوا الصناعة تحولوا إلى البطش بالفلاحين واحراق زراعاتهم او دوسها بحوافر خيولهم. فحيثما اتجهت أبصارنا في هذه الفترة الحالكة من تاريخنا لا تلقى غير الدمار والبوار . فلقد أجمع المؤرخون من اجانب ومصريين على ان الحكم الترکی لم يفقد مصر استقلالها فحسب بل استهدف سحق شخصيتها الخاصة فرسفت بلادنا الحبيبة مدى ثلاثة قرون في قيود من الذل السياسي والإقفار العلمى الفني والفقر المادي.
ولم يقف أذى الحكم التركي عند ترحيل الفنيين بل امتد إلى قتل تجارة مصر بتحويلها طيعاً إلى القسطنطينية ، ثم إلى ابتزاز أموال المصريين بلا هوادة . ذلك لأن الوالي الذي يعينه السلطان كان لا يأتي إلا لمدة سنة واحياناً اقل من ذلك بكثير . فكان هدفه الأوحد ملء جيوبه . وكان السلطان نفسه بفرض مبلغاً معيناً مقابل الإبقاء على الوالي الموجود أو استبداله بغيره . وبالطبع كانت هذه المبالغ المالية كلها تقتطع من شعب مصر . ذلك لان العالم ، في نظر الترك كان ينقسم إلى حكام ورعایا – وهؤلاء الأخيرون مهمتهم توفير حاجات الفئة الأولى وفقاً للمشيئة الإلهية. وكانت النتيجة العملية لهذه النظرة الشرسة أن حلت القيم المالية في كل مكان محل قيم الكفاءة القديمة فالباشا الصالح ، هو الذي يسارع في تقديم الكميات والمنقولات النوعية التي تتطلبها الخزانة الإمبراطورية … بل لقد اصبحت العادة الشائعة منح الترقيات بالحظوة والرشوة وان يطبق المزاد حتى على الوظائف القضائية والدينية.
ومع أن المماليك كانوا متعالين على الشعب المصرى إلا انهم كانوا يجوبون البلاد ويحتكون بهذا الشعب المسكين . اما ولاة الترك فكانوا يقبعون في القلعة لا يخرجون منها إطلاقا ، ورغم إقامتهم فيها باستمرار کانوا عديمي الاهتمام بالمحافظة عليه ، فكانوا أشبه بالجوارح العابرة التي لا تطير فوق منطقة إلا لتنقض على ما فيها ثم ترحل.
ولأن الوالي التركي ورجاله حددوا إقامة انفسهم بأنفسهم فقد ترکوا السلطة في ايدى المماليك ومن يلوذ بهم . فظل التنظيم المالى كما كان قبل الغزو العثماني ، كما ظل في يدى اسرة معروفة هي أسرة بني جيعان وكانت هذه الأسرة مسيحية اصلاً إلا أن عميدها أبو البقاء أشهر اسلامه أيام السلطان قايتبای فاحتفظ بمركزه العالمي وما يستتبعه من جاه . و توارث ابناؤه هذا المركز وهذا الجاه . وفاز ابو البقاء بثقة السلطان وسافر معه إلى سورية وإلى فلسطين . ثم سجل هذه الرحلة في كتاب ما زال موجوداً بعنوان “القول المستظرف في سفر مولانا الملك الأشرف”. ورغم هذه الحظوة فقد مات ابو البقاء مقتولاً.
ولتن كال خصوم مصر لها الوم ، ولتن امتلات نفوس أبناء مصر توجعاً بإزاء هذا اللوم و بازاء ما يرونه اليوم من نقص واضطراب فليتذكر هؤلاء وأولئك ان أثر القرون لا ينمحي في أيام، وأن الضرورة موضوعة على المصريين ليضاعفوا الجهد ويضاعفوا السعی کی پنجحوا في محو هذا الأثر البغيض في اقرب فرصة .