البابا أغاثون
البطريرك رقم 39
حيلة لتأدية أعماله الرعوية
لما انتقل الأنبا بنيامين إلى الأخدار السماوية كان بين الرجال الذين انتقاهم لادارة شئون الكنيسة كاهن اسمه أغاثون ممتلئا نعمة وحكمة . وكان من أهالي مريوط حيث ارتفعت قباب كنيسة مارمينا العجايبي . فنشأ في بيئة مُشبعة بالروح الدينية استثارت فيه الميل إلى التأمل في الالهيات وفي دراسة الكتب المقدسة وسير الآباء. ولما نال سر الكهنوت ازداد فيض النعمة داخله فازداد ادراكاً لعظم المسئولية الملقاة على عاتقه إذ كان – منذ البداية – يعرف أن الإنسان حارس لأخيه. وقد أرهف فيه هذا الادراك شعوره بحاجات شعبه فأحبه حباً جماً. ودفعته محبته إلى أن يرقب في اهتمام بالغ تألب الحكام واستبدادهم وأن يفكر ملياً في أحسن الوسائل التي يستطيع بواسطتها أن يخدم الشعب المصرى دون أن يعوقه هؤلاء الحكام الغاشمون. وقد أدى به التفكير إلى ضرورة الجهاد في صورة لا يدركها أولو الأمر، ومن ثم تخفي في زی نجار وحمل مستلزمات هذه المهنة جهراً وأخفى في طياتها ما يحتاجه الكاهن لخدمة الشعب. وقد جازت حيلته هذه لأن الحكام لم يفطنوا إلى أن هذا النجار هو الايغومانس أغاثون. فتم له النجاح في القيام بأعبائه الراعوية بلا مانع ولا عائق، وسعد الشعب بالحصول على الأسرار الالهية آمناً مطمئنا .
أنتخابه بطريركاً
ولما عاد الأنبا بنيامين إلى مقر كرسيه على أثر انتصار العرب أطلعه الشعب على تفاني أغاثون وحيلته. فتهلل البابا الإسكندرى حين وجد من بين أبنائه من طغت عليه النعمة الإلهية وملأته حباً في الخدمة إلى هذا الحد. ومن ثم اتخذه سكرتيراً خاصاً . وكرس أغاثون نفسه لعمله الجديد بنفس التفاني والاخلاص الذي عهده فيه الشعب من قبل . ورأى أن من أعظم الواجبات الملقاة عليه تدوين سيرة الأنبا بنيامين. وفي هذه السيرة لم يكتف أغاثون بسرد حياة باباه القديس بل وصف معها كل ما جرى من حوادث جسام ولما كانت هذه الفترة من تاريخنا العجيب مليئة بالتقلبات فإن كتاب أغاثون عن خليفة مارمرقس له أهمية عظمى لأنه يطلعنا على فصل حاسم من حياة الشعب المصرى العريق. وبذلك أدى هذا السكرتير البابوى خدمة عظيمة لوطنه ولمواطنيه الذين عاصروه والذين جاءوا من بعده. وكانت السنوات التي قضاها القس أغاثون في خدمة الأنبا بنيامين فترة تدريب وإعداد إذ قد تهيأت له الفرصة للاتصال بالشعب أكثر فأكثر، وبالتالي لمعرفة حاجات هذا الشعب ومطالبه. ومما زاد هذا التدريب قيمة أنه حين اضطر البابا الإسكندرى إلى ملازمة الفراش خلال السنتين الأخيرتين من باباويته ائتمن سكرتيره أغاثون على تصريف الأمور في الكنيسة . وكان لتفاني السكرتير البابوي في الخدمة وصبره ودعته أن الشعب قال عنه : لقد أحسن أبواه تسميته إذ جاء اسمه على مسمى بالفعل . فإن كلمة ، أغاثون، معناها الصلاح ، وهذا الكاهن صالح كل الصلاح ، . فلم يكن بمستغرب – والحالة هذه – أن يلتف الشعب حوله يحبه ويقدره فينتخبه راعيا أعلى بعد انتقال الأنبا بنيامين إلى الأخدار السماوية سنة 656 م . فأصبح البابا الإسكندری التاسع والثلاثين.
البابا أغاثون يفدي الأسرى
وحين تسلم الأنبا أغاثون مقاليد الرياسة في الكنيسة وجد مصر تزخر بعدد من الأسرى الروم والصقالية والايطاليين . ورأى أن هؤلاء الأسرى قد يسببون متاعب للمصريين إن هم تمردوا أو حاولوا الإخلال بالأمن . وفي الوقت عينه خشى أن ينكروا مسيحيتهم لينالوا العتق من أسرهم . فرأى أن يضرب عصفورين بحجر واحد فيريح مصر من مضايقتهم ويحفظ عليهم مسيحيتهم بأن دفع الفدية عن أكبر عدد منهم – إذ كان يعوزه المال اللازم لافتدائهم جميعاً. وكان – إذا ما افتدى أسيرا منهم – يعطيه حرية الاختيار بين البقاء تحت رعايته أو السفر إلى وطنه . فمن شاء منهم العودة رحله على
نفقته الخاصة ، ومن شاء أن يبقى ثبته على الايمان بمساعدته على ايجاد عمل يرتزق منه.
تجديد بناء الكنيسة المرقسية بالاسكندرية
وكان عمر بن العاص قد عاد إلى مصر ليتولى الأمر فيها في
خلافة معاوية بن أبي سفيان . وقد أتبع في هذه الفترة نفس السياسة التي كان قد اتبعها في فترة ولايته الأولى ، فمنح القبط حرية العبادة وترك الأمر بين يدي باباهم أغاثون كما كان قد تركه بين يدي البابا بنيامين من قبل . وقد وجد البابا الإسكندرى أن سياسة التسامح هذه فرصة مواتية له لاعادة بناء كنيسة القديس مرقس التي كانت قد هدمت وقت تدمير مدينة الاسكندرية عند فتحها للمرة الثانية . وبينما كان الفعلة منهمكين في بناء الكنيسة أمر الأنبا أغاثون ببناء بيت فسيح مقابلها ليجد فيه الغرباء والنزلاء مكانا يقضون فيه أيام
غربتهم كلما اضطروا إلى الذهاب للاسكندرية.
ثيئودوروس الخلقدوني
وفي أثناء هذه الأعمال الانشائية حدث أن تواطأ ثيئودورس أحد
أنصار مجمع خلقيدون المشئوم مع يزيد بن معاوية والى دمشق على أن يوليه رياسة كنيسة الاسكندرية فوافقه يزيد على ذلك بعد أن أخذ منه رشوة مغرية.
فجاء ثيودورس – على أثر ذلك – إلى الإسكندرية وأخذ يستبد بالأنبا أغاثون وبالشعب الأرثوذكسي الأمين. ولم يكتف بفرض جزية عامة عليهم بل زاد على ذلك بأن فرض على الأنبا أغاثون ستة دنانير سنوياً على كل تلميذ من تلاميذه الأخصاء ، كما استولى على المال الذي كان يدفعه البابا الإسكندری للملاحين وبحارة الأسطول المصري.
ولم يشبع كل هذا المال جشع ثيئودورس الخلقيدوني إذ كان يستولي على كل ما يرد من مال للأنبا أغاثون. ثم أعلن في قحة غريبة بأن كل من يعثر على هذا البابا الجليل له الحرية في رجمه بالحجارة حتى الموت !
عناية الله بشعبه
على أنه رغم هذه الآلام المريرة لم ينس الآب السماوی شعبه المصرى الأمين إذ كانت أديرة برية شيهيت عامرة بالنساك الأتقياء المكرسین للصوم والصلاة والتأمل في الالهيات . وكان هؤلاء القديسون يتضرعون إلى الله بلا انقطاع ليعيد السلام إلى الكنيسة. وكان كثير من المؤمنين يذهبون للتبرك بهؤلاء النساك المستنيرين بنعمة الله وكان بعض هؤلاء الزوار يقضي أياما طويلة في الصحراء لمعاونة الرهبان على بناء الصوامع الجديدة التي اقتضت بناءها ضرورة مفرحة هي تزايد عدد النساك.
وكان بين المؤمنين الذين ذهبوا إلى الصحراء لمعاونة الرهبان في عملهم رجل مؤمن اسمه يؤنس السمنودی. وحدث أنه بينما كان يؤنس منهمكا في مساعدة الرهبان على البناء أصيب بمرض أقعده عن العمل . ثم اشتدت وطأة المرض عليه حتى ظن معظم الآباء أنه لن يبرأ منه. على أن يؤنس ظل مواظباً على التوسل إلى رب الكنيسة ليتداركه بمراحمه . وفي احدى الليالي غفا يؤنس قليلاً فرأي القديس مرقس يشفع فيه أمام عرش النعمة. وفي اليوم التالي استيقظ من النوم فوجد نفسه معافی . فامتلأ قلبه عزاء وغبطة وقرر أن يكرس حياته كلها لله .
ثم خرج من برية شيهيت قاصدا أحد الأديرة الواقعة بالقرب من الفيوم . وقد صحبه يومذاك راهبان عاشا معه وتتلمذا له.
يؤنس السمنودي
وفي احدى الليالي بينما كان الأنبا أغاثون مضطراً إلى الاختباء من بطش ثيودورس الخلقيدونی ، رأى أحد القديسين في حلم يقول له : وأرسل في طلب الكاهن يؤنس السمنودي لأنه سيكون عوناً لك وسنداً كما سيكون خليفتك على السدة المرقسية . وما أن استيقظ البابا الإسكندری حتی بعث برسله إلى الأنبا مينا أسقف الفيوم طالباً إليه أن يرسل له الراهب المشار إليه. وكان الأسقف يحب هذا الراهب ويود استبقاءه إلى جانبه ، ولكنه امتثل لأمر البابا وبادر بارسال الراهب يؤنس إليه.
وحين وقعت عينا الأنبا أغاثون على يؤنس السمنودى فرح به فرحاً عظيماً ، وازداد فرحه حين تحدث إليه إذ وجده واسع الاطلاع متجملاً بكل الفضائل المسيحية . فأقامه مديراً لكنيسة القديس مرقس كما منحه السلطة للاشراف على كل كنائس الاسكندرية . ولقد تجلت حكمة يؤنس وحسن إدارته فازدادت ثقة البابا به.
وحدث أن شغرت عدة ايبارشيات في تلك الأيام ، فاقترح بعض المؤمنين على الأنبا أغاثون أن يرسم يؤنس أسقفا على احداها. ولكنه رفض جميع طلباتهم محتفظا به للباباوية تحقيقاً للحلم الذي رآه والذي عرف منه أنه سيكون البابا من بعده . وذلك لأنه كان حريصا على القوانين الكنسية وكان يعرف تمام المعرفة أن هذه القوانين نصت على أنه لا يجوز للأسقف أن يكون بابا لأن البابوية لم تخرج عن كونها أسقفية ولو أنها أسقفية العاصمة . فالبابا بمثابة الأخ الأكبر. لهذه الأسباب احتفظ الأنبا أغاثون بالراهب يؤنس واتخذه سكرتيرا خاصاً. وهذا الحرص على القوانين الكنسية جعل البابا الإسكندري يدقق كل التدقيق عند اختيار الأشخاص المطلوب رسامتهم الكل درجات الكهنوت . ولما رأى الشعب فيه هذا الحرص وهذه العناية الفائقة في التمسك بالتقاليد الرسولية زاد في تقديره ومنحه ولاءه الخالص .
الوالي مسلمه
وكان والى مصر يومذاك اسمه مسلمة الذي كان رجلا عادلا نزيها يعامل جميع المصريين معاملة واحدة فلا يفرق بين مسلم ومسيحى إلى حد أنه سمح للقبط بأن يبنوا كنيسة خلف الكوبري عند الفسطاط رغم معارضة رجال ولايته.
ثم بلغ مسامع مسلمة أن بعضا من أهالي سخا قد أشعلوا النيران في عدد من رجال الديوان هناك ، فانتدب سبعة من أساقفة الكرازة المرقسية ورجا منهم أن يذهبوا ليعالجوا الأمور في تلك المدينة بحكمتهم . فذهبوا لفورهم ونجحوا في اقرار الأمن . وقد منحتهم النعمة الالهية القدرة على شفاء من كانوا قد أصيبوا في الاعتداء كما منحتهم الحكمة في توقيع العقاب المناسب على المعتدين.
وكان في سخا قبطي اسمه اسحق من أصحاب الجاه والنفوذ وله دالة على والى مدينته . فما كاد الأساقفة السبعة ينتهون من المأمورية التي انتدبوا لأجلها حتى أخذوا يتفاوضون مع اسحق فيما يجب عليهم اتخاذه من تدابیر بازاء ثيودورس الخلقيدوني . وأشار عليهم اسحق بمقابلة الوالي فذهبوا جميعا إليه وأوضحوا له كل وسائل الاستبداد التي لجأ إليها الخلقيدوني الدخيل ضد باباهم الشرعي .
نياحته
ومن المؤلم أنه بينما كان الأساقفة والأرخن اسحق يتشاورون معا في أمر ثيودورس الخلقيدوني أصيب الأنبا أغاثون بمرض لم يمهله غير أيام قصيرة أنتقل بعدها إلى بيعة الأبكار .. وكان قد بلغ الشيخوخة وجاز الآلام والبلايا خلال باباويته .. فتنيح بسلام حافظاً الايمان الأرثوذكسي، وهو الآن متوج ينتظر البر مع جميع القديسين في دورة الأحياء إلى الأبد.
البابا بنيامين الأول | القرن السابع | عصر التراجع | البابا يوحنا الثالث |
تاريخ البطاركة | |||
تاريخ الكنيسة القبطية |