العظات الخمسون للقديس أنبا مقار
الأساس الحقيقي للصلاة
العظة السادسة من العظات الخمسون
[في أن الذين يريدون أن يرضوا الله ، ينبغي لهم أن يصنعوا صلواتهم بحكمة، في سلام وسكون ووداعة، حتى لا يعثروا الجميع باستخدامهم الصرخات . العظة تحوي أيضا سؤالين: الأول ما إن كانت الكراسي والأكاليل هي خلائق ، والثاني عن كراسي إسرائيل الاثني عشر]
[ أ ] الصلاة التي يعوزها الإفراز
1- إن الذين يتقدمون إلى الرَّبّ ينبغي لهم أن يصنعوا صلواتهم في سكون وسلام وهدوء كثير ، لا بصرخات غير لائقة أو مضطربة ، بل شاخصين بوجع قلب وأفكار منتبهة نحو الرَّبّ. فكما أنه حين يعاني إنسان آلاما ويحتاج الأمر إلى کېّ أو جراحة ، يوجد من يحتمل الألم الواقع عليه برجولةٍ وصبر ضابطاً نفسه بلا جلبة أو اضطراب، ويوجد كذلك آخرون ، رغم تعرضهم للألم ذاته عند الكيّ أو الجراحة ، يطلقون صرخات غير لائقة ، فالوجع واحد يكابده الذي يصرخ والذي لا يصرخ ، الذي يضطرب والذي لا يضطرب؛ هكذا أيضاً بينما يوجد أناس يعانون شدَّة ووجعاً ويتحملون ذلك برباطة جأشٍ ضابطين ذهنهم إزاء الأفكار بلا اضطراب، يوجد آخرون أيضاً يعانون الشدَّة عينها لكنهم يجوزوها بعدم احتمال ، فيصنعون صلواتهم بضجيج واضطراب مسببين عثرة للسامعين؛ بل إنَّه يوجد فريق ثالث كذلك لا يقاسون أيَّ وجع لكنَّهم – مدفوعين بحب الظُّهور والتَّميَّز عن الآخرين – يطلقون صرخات غير لائقة ، وكأنهم بمثل هذا يستطيعون أن يُرضوا الله!!
2- وأمَّا خادم الله ، فلا يُجديه نفعاً أن يكون في مثل هذا التشويش ، بل أن يكون في كل وداعة وحكمة ، كما قال النبي : « إلى من أنظر، إلا إلى الوديع والهادئ والمرتعد من كلامي؟» ( إش66: 2 س ). ونحن نجد في الظهور الذي صار لك من موسى وإيليا ، ورغم تلك الخدمة الكثيرة الكائنة بالأبواق والقوات قدام هيبة السيد ، أن استعلان الرب قد ظهر وسط كل هذا يكتنفه سلام وهدوء وراحة ، إذ يقول : « وإذا صوت نسيم رقيق ، وفيه كان الرب » ( 1مل19: 12 س ) ، وهذا يُبين أن راحة الرب إنما هي في السلام والهدوء. فإنه على الأساس الذي يُرسيه الإنسان ووفقاً للبداية التي يبدأها ، هكذا يلبث إلى النهاية . فإن كان من البداية يصنع صلواته بصراخ واضطراب فسوف يستمر على هذا النهج إلى النهاية ، ولأن الرب محب للبشر فقد يحدث أن يهب معونته لمثل هذا الإنسان أيضاً، ومن أجل تشجع النعمة هذا ينسج أمثال هؤلاء على هذا المنوال إلى النهاية ، ولكنَّنا نرى انَّ هذا إنما هو نصيب ضئيلي المعرفة، لأنهم يعثرون الآخرين، وهم أنفسهم يصنعون صلواتهم في اضطراب!
[ ب ] الأساس الحقيقي للصلاة :
3- أما الأساس الحقيقي للصلاة فهو هذا : الانتباه إلى الأفكار، وتتميم الصَّلاة في هدوء كثير وسلام ، فلا تكون هناك عثرة للذين في الخارج . مثل هذا الإنسان ، إذا ما قبل نعمة الله ولبث في هدوئه إلى النهاية فسوف يبني كثيرين بطريقة أفضل ، لأن « الله ليس إله تشويش بل إله سلام »[1كو14: 33] . فأولئك الذين يعمدون إلى الصرخات يشبهون عُرفاء الملاحين[1] ، لذلك لا يمكنهم أن يُصلوا في كل المواضع ، لا في كنائس ولا في قرى ، ربما فقط يمكنهم ذلك في القفار ليصلوا بحسب مشيئتهم ، وأما الذين يصلون في هدوء فإنهم يبنون الجميع في كل موضع. فالأمر اللازم إذا أن ينصب جهاد الإنسان بكامله نحو أفكاره، وأن يقطع غابة الأفكار الشريرة المحيطة به، ويهرع بنفسه نحو الله ، ولا يصنع مشيئات أفكاره ، بل يجمع – من كل صوب – هذه الأفكار الشاردة ، مميزاً الأفكار الطبيعية من الأخرى الشريرة. فالنفس الرازحة تحت الخطيئة تكون وكأنها وسط غابة كبيرة في جبل ، أو وسط قصب على نهر ، أو وسط أدغال من أشواك وآجام ، فأولئك الذين يبتغون أن يجتازوا مثل تلك الأماكن ، يتوجب عليهم أن يمدوا أيديهم ، وبقوة ومشقة يدفعون الأدغال التي تحوطهم ؛ هكذا أيضا الحال مع غابة أفكار القوة المعادية المحدقة بالنفس ، لذلك فالحاجة ماسَّة إلى الاجتهاد وانتباه العقل حتَّى يميز الإنسان الأفكار الغريبة التي من القوة المعادية.
4 – فإنه يوجد من يكون واثقاً من قدرته ويتوهم أنه من ذاته يستأصل الجبال التي تحوطه ، بينما يوجد آخر – من قبل هدوئه وتمييزه – يتدبر الأمر بعقله فيكتمل بلا تعب . وعمله أفضل من ذاك. هكذا أيضا في الصَّلوات ، فهناك قوم يطلقون صرخات غير لائقة وكأنهم يعولون على قوتهم الجسدية دون أن يعرفوا خداع أفكارهم ، ظانين أنهم بقوتهم الذاتية يحققون تمام النجاح ؛ بينما هناك آخرون ، لأنهم ينتبهون إلى أفكارهم ويصنعون جهادهم بكامله في الداخل ، يستطيعون من قبل فهمهم وإفرازهم أن ينجحوا وأن يدرأوا عنهم الأفكار التي تقوم ضدَّهم ، فيسلكون وفقاً لمشيئة الرب. ونحن نجد أن الرسول يدعو ذاك الذي يبني الآخر بأنه “أعظم” ، إذ يقول : « من يتكلم بألسنة يبني نفسه ، وأما من يتنبأ فيبني الكنيسة … لأ من يتنبأ أعظم ممن يتكلم بألسنة» (1کو14: 4 ، 5)، فسبيل كل واحد إذاً أن يُؤثر بناء الآخرين فيُحسب أهلاً لملكوت السماوات.
[ج] سؤالان عن الكراسي والأكاليل
5- سؤال : يزعم البعض أن الكراسي والأكاليل هي خلائق ( مادية ) لا أرواح ، فكيف يجب علينا أن نفهم هذا؟
الجواب: إن عقلنا هو كرسي للاَّهوت ، وأيضا اللاهوت والرُّوح القدس هما كرسي لعقلنا ؛ وبالمثل فإن الشَّيطان وقوات الظلمة ورئاساتها اتّخذت أيضاً، منذ مخالفة الوصية، من قلب آدم وذهنه وجسده کرسیاً خاصاً لها تجلس عليه. وهذا هو الذي من أجله جاء الرب ، آخذاً جسده من العذراء ، إذ لو شاء هو النزول إلينا بلاهوته مجرَّداً، فمن ذا الذي كان سيقوى على احتماله؟ ولكنه بواسطة أداة[2] الجسد كان يتكلم مع الناس. وأخيراً أنزل الرب أرواح الشر التي كانت قد قبعت في الجسد – أنزلها عن كراسي[3] الأذهان والأفكار التي كانت قد استوطنتها ، فطهر الرب الضمير[انظر عب9: 14] واتخذ هو من العقل والأفكار والجسد كرسياً له.
6- سؤال : فما هو إذا معنى قوله : « تجلسون أنتم على اثني عشر كرسياً، وتدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر؟ » ( مت19: 28) .
الجواب : هذا نجده قد صار على الأرض حينما صعد الرب إلى السماوات ، لأنه قد أرسل الروح المُعزي على الاثني عشر رسولاً، تلك القوة المقدسة التي لما أتت سكنت وجلست[4] على كراسي أذهانهم. وعندما قال الواقفون إن هؤلاء قد امتلأوا سُلافة[انظر أع2: 13] ، ابتدأ بطرس حينئذ يدينهم قائلاً عن يسوع إنه ” رجل مُقتدر في القول والآيات وأنتم صلبتموه مُعلقين إياه على خشبة [انظر أع2: 22] ، وها هو يصنع عجائب ويشق حجارة القبور ويقيم الموتى ، فإنه مكتوب : « ويكون في الأيام الأخيرة إني سأسكب من روحي على كل جسد ، فيتنبأ بنوكم وبناتكم » ( یؤ2: 28) ، ولمَّا تعلَّم كثيرون من بطرس أتوا إلى التَّوبة ، فأصبح هناك عالم جديد مختار من الله.
7- فها أنت ترى كيف لاحت بوادر الدَّينونة ، لأنَّه في ذلك الحين قد ظهر عالم جديد وأعطي للرسل سلطان ليجلسوا ههنا في هذا العالم ويدينوا ، بل إنَّهم عتيدون أيضا أن يجلسوا ويدينوا عند مجيء الرب في قيامة الأموات ، ولكن هذا يحدث ههنا أيضاً، لأن الروح القدس جالس على كراسي أذهانهم . وكذلك الأكاليل التي سوف ينالها المسيحيون في ذلك الدهر[انظر 1كو9: 25] ، ما هي بخلائق (مادية) ، والزاعمون هذا يخطئون . إنما هي تشير إلى تجلي الروح ، لأنه ماذا يقول بولس الرسول عن أورشليم السمائة « التي هي أُمُّنا جميعاً» [انظر غل4: 26] والتي نعترف من أجلها [5]؟ أما عن الحُلة التي سوف يتسربل بها المسيحيون [انظر 1كو15: 53]، فواضح أن الروح القدس نفسه هو الذي سيكسوهم في اسم الأب والابن والروح القدس إلى الدَّهور ، آمين.
- عريف الملاحين ( في زمان أنبا مقار ) هو ذاك المسؤول عن طاقم الملاحين وعن تشكيل وترتيب الأشرعة والصواري والحبال على ظهر السفينة ، لذلك فهو دائم الصُّراخ بصوت عال حتى يتسنى للجميع سماعه.
- أداة ، وهي كلمة استعملها الآباء كثيراً للتعبير عن بشرية المسيح وعن جسده ، فنجد مثلاً ق . أثناسيوس الرسولي قد استخدم هذه الكلمة خمس عشرة مرة في كتابه الشهير “تجسد الكلمة” ( وتُرجمت في الترجمة العربية للقمص مرقس داود ب”أداة ، أو آنية ” ، وفي جميع هذه المرات استخدمت للإشارة إلى جسد الكلمة. ونجدها أيضا في مواضع أخرى عديدة من كتاباته ، وكذلك عن ق . كيرلس الكبير ( أكثر من تسعين مرة).
- καθεῖλεν ἀπὸ θρόνων انظر : لو1: 52 “أنزل الأعزاء عن الكراسي”
- انظر : أع 2: 3 ، حيث الألسنة النارية « جلست ἐκάθισεν على كل واحد منهم.
- يترك أنبا مقار للقاريء أن يجيب على هذا السؤال ، ويبدو أن الإجابة التي في ذهنه هي قول إشعياء لأورشلیم : « وتكونين إكليل جمال في يد الرب وتاجاً ملوكياً في كف إلهك » ( إش 62 : 3) ، التي ينسبها لبولس الرسول ، لأن هذا الأخير قد استشهد في غل 4 : 27 ببداية أقوال إشعياء لأورشليم : « افرحي أيتها العاقر التي لم تلد .. إلخ » ( إش54: 1 ) . ( عن أحد أباء الدير- دير القديس مقار )