عظات حول التطويبات للقديس غريغوريوس النيصي

التطويبة الأولى

طوبى للمساكين بالروح

1 – من منًا يستمع إلى الكلمة ليرتفع فوق الأفكار والتمنيات الأرضية، إلى الجبل الروحي، جبل المشاهدة؟ يبرز هذا الجبل من ظلال الرذيلة التي تحيط به، فيضيء علينا من كل الجهات بأشعة النور الحقيقي الذي يتيح لنا أن نكتشف في ضياء الحقيقة كل ما يفلت من الذين يدوسون في السهل.

تعليم الجبل

إن أمور وأبعاد ما ينكشف من العلو، يعرضها الله الكلمة ذاته ، فيدعو مطوبين أولئك الذين قاموا بالصعود معه. ويبين، في شكل الأشكال، بإصبعه، من جهة ملكوت السماوات، ومن جهة أخرى، ميراث الأرض الجديدة. ثم الرحمة والبر والعزاء، وقرابة كل الله، وثمر الاضطهادات الذي يوحدنا بالسر الإلهي : كل ما تجعلنا يد الكلمة نكتشف، من القمة، حين ننظر بالرجاء من هذا من الخليقة مع المكان الرفيع.

حين صعد الرب الجبل، لنسمع إشعيا يهتف: «تعالوا نصعد إلى جبل الرب» (إش 2: 3). وإن كانت الخطيئة أعيتنا، لنقو أيدينا المرتخية كما يحثنا النبي على ذلك، ولنشدد ركبنا المترنحة (إش 33: 3).

وحين ندرك القمة، نلتقي بذاك الذي يشفي كل مرض وكل علة، الذي أخذ على عاتقه ضعفنا، الذي اهتم بآلامنا (إش 53: 4). لتسرع في الانطلاق لنصل مع إشعيا إلى قمة الرجاء، ونكتشف حوالينا الغنى الذي يكشفه الكلمة للذين تبعوه في الأعالي. ليفتح الإله الكلمة فمنا وليعلمنا ما يعنيه بالتطويبة.

الكنز المخفي

2-  نبدأ فنتأمل. نبدأ فنشرح الكلمات الأولى: «طوبى للمساكين بالروح، فإن لهم ملكوت السماوات» (مت 5 : 3). إن اكتشف إنسان طماع وثيقة تدله على مخبا كنز، ولكن الموضع المطلوب يفرض من الذين يشتهونه العرق والجهد، هل يتراجع بسبب هذه الصعوبات؟ ويتخلّى عن نعمة لامتوقعة ويعتبر أنّه من السهل أن لا يفرض على نفسه جهدا وتعبا بدلاً من أن يغتني؟ لا. ما هكذا تحدث الأمور، كما تعرفون. ولكنّه يبدأ فيدعو أصدقاءه. ويجمع من كل جهة جميع الوسائل المتاحة، ويجند كل العمال الذين يجدهم ليقتني الكنز المخفي.

يا إخوتي ، هذا هو الكنز الذي يتكلم عنه الكتاب المقدس، ولكن الغنى يختفي في الظلام. فإذا كنا نتوق إلى امتلاك الذهب اللافاسد، نضم يدينا في الصلاة لينكشف لنا الكنز. فنتقاسم الاكتشاف وكل واحد يمتلكه كله.

ونقول الشيء عينه على المشاركة في الفضيلة : فجميع الذين يطلبونها يجدونها، وكل واحد يمتلكها كلها وما من إنسان يكون محروما منها. وفي توزيع خيرات الأرض، من يعطي نفسه أكثر مما للآخرين يسيء إلى الذين يتقاسمون معه ، فتقل حصة الآخرين مما أخذه، ظلما، لنفسه.

أما الخيرات الروحية فهي مثل الشمس. هي تقسم بين جميع الذين ينظرون إليها، وتعطي ذاتها كلها لكل واحد. وبما أن كل واحد ينال من جهده ذات الفائدة، لتسند بحثنا صلاة نتلوها جميعنا.

ما هي التطويبة؟

ينبغي علينا أولاً أن نتطلع إلى التطويبة في ذاتها. ثم نبحث لنعرف بما به تقوم. فالتطويبة، في رأيي، هي مجموعة كل ما نفهم باسم الخير، بحيث لا ينقص شيء مما يمكن أن نرغب فيه.

وتحليل عكسها يمكنه أيضا أن يعطينا تحديدا للتطويبة. فالعوز هو عكس الحالة السعيدة. والشقاء هو مصير الشرور التي تنصب علينا وتؤلمنا ضد إرادتنا. فمن هذه الجهة ومن تلك ما يحصل لنا يتعاكس ويتعارض. فمن نقول عنه إنه سعيد يسعه أن يفرح ويسر بما يقدم له، والذي نقول عنه إنه تعيس لا يمكن إلا أن يشتكي ويندب يحصل له. فالله وحده يستطيع حقا أن يعلن مطوبا.

ومهما يكن من أمر، فالتطويبة تجمع حياة بدون وصمة، وتجمع الخير الذي لا يوصف والذي لا يدرك، وهي ينبوع النعمة والحكمة والقدرة والنور الحقيقي ومعين كل خير، والقوة التي تسود كل شيء. هي ما يستحق أن يحب دون أن ينحط ، وفرح يتفجر دوما، وابتهاج لا ينقطع فنستطيع أن نقول عنه كل شيء ولا علاقة بالاستحقاق. فالذهن لا يدرك واقعها. وحتى إن امتلكنا إدراكا أسمى، لا شيء يسعه أن يعبر عنها.

على صورة الله

بما أن الذي جبل الإنسان خلقه على صورة الله، نستطيع ، في شكل ثان، أن ندعو سعيدا ذاك الذي يستحق هذه التسمية بالمشاركة في التطويبة الحقيقية. ففي جمال الجسم، نحكم بالدرجة الأولى على الجمال انطلاقا من الوجه الحي والمعبّر، وبعد ذلك انطلاقا من الصورة التي تمثله.

ونقول الشيء عينه عن الطبيعة البشرية، التي هي صورة التطويبة السامية وشبهها : هي تستحق أن تدعى مطوبة وتحمل طابع الجمال السامي حين تكشف في حياتها ميزات التطويبة وتعكسها.

حين محا وسخ الخطيئة جمال الصورة، جاء ذاك الذي غسلنا في مياه تنبع وتتفجر حياة أبدية (يو 4: 14). فمحي عار خطيئتنا واستعدنا الطابع الطوباوي.

ففي الرسم مثلاً، يستطيع عارف أن يشرح للجهال بأن وجها جميل هو، إن تناسق فيه كل ما يكونه : الشعر، العينان، الشكل، الحاجبان ، طعجة الوجهين. فكل تفصيل يعمل بشكل خاص لجمال المجموع. والفنان الذي يرسم نفسنا على صورة المغبوط الوحيد، يصف في كلامه مختلف العناصر التي تكون سعادتنا. 

الفقراء بالروح

تبدأ الخطبة بهذا الكلام: «طوبى للمساكين بالروح، لأنّ لهم ملكوت السماوات».

3 – أي فائدة نستخلص من جود الله إذا كنا لا نشرح معنى هذه الكلمات؟ ففي الصيدلية أدوية كثيرة، ثمينة ونادرة، ولكنها تكون للجهال بلا استعمال ولا فائدة، إلى أن يفهمنا العلم كيف نستعملها. فما معنى «الفقر بالروح» الذي يجعلنا نمتلك ملكوت السماوات؟ 

الغنى الحقيقي والغنى الكاذب عرف الكتاب المقدس نوعين من الغنى : واحد له ثمن رفيع . والآخر يشجب. فالثمن الرفيع هو غنى الفضيلة. والمحتقر هو الغنى المادي والأرضي. واحد تمتلكه النفس، والآخر يحمل تجربة سهلة لحواسنا. لهذا يمنعنا الرب أن نكدسه، لأنه معرض لفساد السوس وسرقة السارقين (مت 6: 19). فالرب يطلب منا أن نطلب الغنى السامي الذي يفلت من الانحطاط. أما السوس والسارقون فيدلون على أعداء النفس.

الفقر الصادق والفقر الكاذب

فإذا كان الفقر يتعارض مع الغنى، فهناك، بالتوازي، فقر وفقر. واحد هو مرذول. وآخر يعلن مغبوطا. فالذي هو فقير في الاعتدال ، والذي ينقصه خير البر والحكمة والفهم وسائر الخيرات الثمينة، يشبه المعدم : إنه تعيس بسبب إملاقه وفاقته، وهو يستحق الشفقة إذ تنقصه أثمن الخيرات.

وذاك الذي هو فقير بإرادة حرة، من كل ما هو شر، الذي لا يخفي في كنزه السري بعضا من الخيرات الشيطانية، بل تحترق روحه ، فيعتني بأن يكون فقيرا تجاه كل ما يخص الشرير. فهذا يدعوه كلام الله مطوبا باندفاع لأنه فقير فيرث ملكوت السماوات.

من هم الفقراء بالروح

4- ونعود إلى كلامنا ونسأل بم يقوم الكنز، ونحاول مثل العامل في المنجم أن تظهر الخيط الثمين: «طوبى للمساكين بالروح». هذا ما سبق وقيل، ونستطيع أن نقوله ثانية : يقوم هدف الحياة الفاضلة بأن نكون مشابهين لله.

فيستحيل حقا بأن فما هو من دون أهواء وبلا فساد، يفلت من الاقتداء بالناس. تستطيع حياة خاضعة للأهواء أن تقتدي بطبيعة من هو بدون أهواء. إن كان الله وحده مطوبا، كما يقول الرسول (1 تي 1: 11؛ 6: 15)، وإن كان البشر يشاركون في طوباويته بتشبههم به، ولكن الاقتداء يكون مستحيلاً، فلا تتحقق التطويبة بالنسبة إلى الوضع البشري.

وتواضع الله

ولكن الإنسان يسعه أن يقتدي بالله ، في شكل من الأشكال : «فالفقر في الروح»، كما يبدو لي، يدل على التواضع. وأقوال الرسول تعطينا مثلاً فقر الله الذي من أجلنا صار فقيرًا وهو من كان غنيا ليجعلنا نقاسم غناه بواسطة فقره (2کو 8: 9). 

من جهة أخرى، كل ما نستطيع ، أن ندركه من الطبيعة الإلهية ، يتجاوز حدود وضعنا. ولكن التواضع يجعلنا من طبيعة واحدة. ونحن نشارك فيه مع كل الذين يعيشون على الأرض، وهم مجبولون بالتراب الذي إليه يعودون (تك ٢: 7؛ 3: 9). فإن اقتديت بالله في يوافق طبيعتك ويتجاوز إمكاناتك، ترتدي مثل معطف، شكل الله المطوب.

فلا نتخيل أنه هين وسهل أن نقتني التواضع . بل إن هذا أصعب من اقتناء أية فضيلة أخرى. لماذا؟ لأن ساعة كان يرتاح الإنسان الذي زرع البذار الجيد، زرع العدو القسم الأكبر من البذار، زؤان الكبرياء الذي جعل جذوره فينا (مت 13: 23). فمثل ذاك الذي سقط في الذنب، انجر كل الجنس البشري التعيس في السقطة عينها. فلا وجود في الواقع لكارثة أخطر لطبيعتنا من الكبرياء.

وضع العبيد

بما أن جميع البشر تقريبا مدفوعون، بشكل طبيعي، إلى التشامخ ، بدأ الرب التطويبات، فأبعد الشر الأول، أي الكبرياء، ونصحنا بأن نقتدي بالفقير (يسوع) الإرادي الذي هو، في الحقيقة، مطوب ، بحيث نقتدي به بحسب إمكاننا، بفقر إرادي لكي نشاركه في سعادته الخاصة. قال الرسول بولس: «ليكن فيكم من العواطف ما في المسيح يسوع. فمع أنه في صورة الله لم يتعلق بمساواته مع الله، فلاشى ذاته واتخذ صورة عبد» (فل 2: 5-7).

أي شيء أتعس أتعس لله من أن يأخذ وضع عبد؟ أي شيء أصغر لملك المسكونة من أن يقاسمنا وضعنا البشري؟ فملك الملوك ورب الأرباب ، وديان المسكونة يدفع الجزية لقيصر. وسيد الخليقة يعانق المسكونة ، فيدخل في مغارة ، لأنه لم يجد مكانًا في الفندق، ويلجأ إلى مذود في رفقة الحيوانات غير العاقلة. والذي هو نقي وبلا عيب اتخذ على عاتقه أوساخ الطبيعة البشرية. وبعد أن قاسمنا كل تعاستنا، راح يختبر الموت. فتأمل الإفراط في فقره الإرادي.

الحياة (يسوع) تذوق الموت. الديان يقاد أمام المحكمة. سيد حياة الجميع يخضع لحكم قاض، وملك القوى السماوية لا يتهرب من أيدي الجلادين. قال الرسول : على هذا المثال يقاس تواضعه.

انظر إلى ذاتك

5-  يبدو لي مناسبا أن أبين لامعادلة الأهواء لكي تصبح هذه التطويبة تطويبتنا، فنعتني بالتواضع بسهولة وبدون مجهود. فالأطباء المختبرون يبدأون باستبعاد أسباب المرض. عندئذ يقدرون أن يغلبوا الوجع. ونحن أيضا. نريد أولاً أن نعلم المتكبرين أن «ينفسوا» تشامخهم، فنسعى لأن نسوي الطريق السالكة التي تقود إلى التواضع . كيف نعلم بشكل أفضل بلادة الكبرياء إلا حين نعي وضعنا البشري؟ فالذي يتطلع إلى ذاته بدلاً من أن يتطلع إلى الآخرين، لا يسقط بسهولة في مثل هذا الهوى.

ما هو الإنسان؟

وما هو الإنسان؟ أتريد أن أعطي عنه تحديدا لائقا وكريما؟ فالذي يرفع طبيعتنا ويؤكد نبل أصلنا يقول إننا مجبولون من تراب. والعظمة التي بها يتكبر المتشامخ هي من ذات طبيعة اللبنات.

أتريد أن أكشف لك بشكل ملموس كيف دخلت إلى الوجود؟ ولكن لنترك هذا ولا نتكلم عنه ولا نقل كلمة واحدة. لا تكشف عار أبيك وأمك، كما تقول الشريعة (لا 18: 7). لا تشهر ما يكون من الأفضل إذا نسي وتغطى بالصمت .

أما تستحي وأنت مجبول من التراب وتعود قريبا إلى التراب أن تنتفخ كبرياء مثل فقاعة ماء، وترتضي بنفسك وتكتفي؟ أما ترى حدَّي الحياة البشرية، بدايتها ونهايتها؟

 تفتخر بشبابك. ولا ترى سوى زهرة العمر. تُسر بمواردك التي بدأت بعد استغلالها : عزم يديك ، سرعة رجليك ، شعرك النازل على الصدغين، زغب خديك. وتلبس قميصا أرجوانيا مع صدرية ما حریر تمثل مشاهد الحرب والصيد أو سائر المواضيع الغنية.

تفتخر بحذائك الأسود الملمع حيث تشع بكلات أنيقة. هذا ما تأخذه بعين الاعتبار. ولكنّك لا تنظر إلى ذاتك.

إلى المقبرة

6 – إذا، سأريك ، كما في مرآة، من أنت وكيف أنت مصنوع. أما نظرت يوما في مقبرة أسرار طبيعتنا؟ أما رأيت يوما العظام المكدسة، وكيف أن جماجم بدون لحم تنظر إليك بمحاجر مجوفة ومكشرة؟ هل رأيت الفم المكسّر وسائر الأعضاء مبعثرة هنا وهناك؟ إن كنت رأيت هذا المشهد، فهل اكتشفت ذاتك؟

أين هي علامات الشباب المزدهر: وجنتاك الورديتان، سحر شفتيك، بهاء عينيك يرفعهما حاجباك؟ أنفك الأنيق بين خدين طريين؟ أين هو شعرك الحريري الذي كان يسقط على رقبتك، وحلقتا صدغيك؟

أين هما اليدان اللتان كانتا تطلقان الرمح، والرجلان اللتان تدفعان الفرس؟ أين الأرجوان والبص؟ أين المعطف والحزام والحذاءان؟ أين هو الجواد، أين هو السباق والحيوية المفرطة؟ أين هو ما يغذي، الآن، العجرفة؟

قل لي أين تجد هنا ما يكون كبرياءك؟ وماذا نقول عن بطلان حلمك؟ أين تصورات النائمين؟ أين الخيال الهارب الذي لا تقدر أن تمسكه، الشبيه بحلم الشباب الذي يتبخر حالما يرسم؟

هذا بالنسبة إلى الذين جهال هم في شبابهم لقلّة النضوج، فما نقول عندئذ عن الذين أدركوا العمر الناضج وجمدتهم السنون، ولكنّ تصرفاتهم غير ثابتة وحيث يزداد عندهم مرض الكبرياء خطرًا، وهو مرض نستطيع أن ندعوه : الاعتداد.

كبرياء العظمة

إن المركز الرفيع الذي يتضمن القوة ينتج الكبرياء. فهي، في نوع من الأنواع، جزء من الوظيفة أو الباعث للذين يتوقون إليها. أو أيضا الاعتبارات حول وظيفة هامة توقظ مرضا اعتُبر مضى. وأي كلام يستطيع أن يسكتهم، لأن صوت المنادين الذين ينشدون ألقابهم أصاب آذانهم؟

من يستطيع أن يقنع أولئك الذين يمتلكون مثل هذه العقلية، وهم لا يتميزون أبدا عن الذين يظهرون على المسرح بانتفاخ؟ فهؤلاء أيضا يلعبون دورا، بفن، فيرتدون الأرجوان المزين بالذهب، وينطلقون في مركبات رائعة، ومع ذلك لا يصيبهم مرض التشامخ، فيحفظون نفسهم متساوية لما كانت عليه قبل أن يصعدوا على المسرح، ويلبثون هم ذاتهم في داخلهم تحت فخامة دورهم، ولا يحزنون حين ينزلون من المركبة ويخلعون ثيابهم المزينة. 

أوهام الكبار

أما الذين يزهون في مركزهم الرفيع ، على مسرح العالم، فينسون ما حصل قبل وقتهم بقليل، وما سيحصل لهم بعد وقت قليل. ينتفخون مثل فقاعات ماء، يرفعون عنقهم حين يعلن قدومهم صوت المنادي القوي فيلعبون شخصيات (المسرح) ويحولون سمات وجههم الطبيعية، ويعطون لذواتهم شكلاً مؤثرا هائلاً. ويتخذون صوتا غليظا متوحشا ليؤثروا في الذين يسمعونهم، ويرعبوهم.

هم لا يعرفون أن يقفوا في حدود الوضع البشري، بل استمدوا لنفوسهم قوة إلهية وسلطة إلهية. ويتخيلون أنهم أسياد الحياة والموت لأنّ من بين الذين يتقدمون إلى منبرهم، هم يعفون عن البعض ويحكمون على الآخرين بالإعدام. فما عادوا يعرفون من هو سيد الحياة، الذي يحدد بدايتها ونهايتها.

فلا شيء يستطيع أن يحطم هذه الكبرياء سوى التذكر بأن عددا كبيرا من هؤلاء الموظفين الكبار، في وسط عرض عظمتهم، اقتلعوا من عروشهم واقتيدوا إلى مدافنهم حيث رافقتهم مراثي المنادي.

7- فمن يحسب نفسه سيد الحياة ساعة لا يسعه أن يتصرف بحياته الخاصة؟ فإن امتلك نفس فقير، يتطلع في ذاك الذي صار بإرادته فقيرًا لأجلنا، ويتأمل في كرامة متساوية لكل شخص بشري، فلا يسمح لنفسه في ممارسة سلطانه المأسوي، أن يعامل بتشامخ واحتقار ذاك الذي يقاسمه وضعه، ولكنّه، في الحقيقة، يحسب نفسه سعيدا بأن يحتمل الذل العابر في تبادل مع ملكوت السماوات. 

أولئك الذين تركوا كل شيء

لا يحيد عن نظرنا شكل آخر من الفقر. قال الرب: «بع كل ما تملك وأعطه للمساكين. وتعال اتبعني فيكون لك كنز في السماء» (مت 19: 21). فيبدو لي أن هذا الفقر يوافق الفقر الذي يقال عنه إنه مغبوط . قال تلميذ المعلّم : «انظر! نحن تركنا كل شيء لنتبعك ، فماذا يعود لنا؟» . وما كان الجواب؟ طوبى للمساكين بالروح فإنهم يمتلكون ملكوت السماوات.

أتريد أن تعرف من هو الفقير بالروح؟ هو ذاك الذي يبادل براحة الجسد غنى النفس. من يمتلك روح الفقر؛ من يتحرر من الغنى كحمل  ثقيل ليرتفع وينطلق في طيرانه ، كما يقول الرسول، ليختطف مع اللهعلى سحب السماء (1تس 4: 16).

ثقيل هو الذهب وثقيل كل ما يعمل لكي يمنحنا الغنى. وخفيفة هي الفضيلة. فهي ترفعنا وترفعنا. فالثقل والخفة يرفض الواحد الآخر. فلا يمكن لمن استثقلته المادة أن يحس بنفسه خفيفة.

فإذا أردنا أن نرتفع ، لنتحرر مما يجتذبنا إلى أسفل لكي نستطيع الوصول إلى ذاك الذي هو في الأعالي. فالمزامير تعلّمنا كيف نصل إليه : «زرع ووزع على المساكين، فبره يدوم من جيل إلى جيل» (مز 112: 9)

فالذي يعيش في شركة مع الفقير يأخذ أيضا جانب ذاك الذي صار فقيرا من أجلنا. أخذ الرب على عاتقه الفقر وما خاف منه، لأن ذاك الذي صار فقيرا لأجلنا هو ملك الخليقة كلها.

لأجل هذا، إن جعلت نفسك فقيرا مع الفقراء، تملك مع الملوك. «طوبى للفقراء بالروح لأن لهم ملكوت السماوات.» لتكن أهلاً لذلك في المسيح يسوع ربنا الذي له المجد والقدرة إلى دهر الدهور.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى