بركات الصلاة
للعلامة أوريجانوس
الصلاة الآب :
اما وقد ادركنا ماهية الصلاة ، فاننا ندرك بالتبعية أن الصلاة ينبغي ان تقدم لله أبي الكل كما فعل مخلصنا نفسه وكما أوصانا ، لأنه عندما قيل له : علمنا أن نصلی(لو11: 1) يوجه نظرنا الى تقديم الصلاة للآب فنقول : ابانا الذي في السموات(مت6: 9). ومع هذا فيجب الا تقدم الصلاة للآب منفصلا عن رئيس الكهنة المعين منه بقسم(عب7: 20) كما قال الكتاب : أقسم الرب ولن يندم أنت كاهن الى الأبد على طقس ملكي صادق(عب7: 21 و مز109: 4)
في المسيح :
في صلوات الشكر التي رفعها الآباء القديسون قدموا اعترافهم في المسيح يسوع وهكذا يليق بالانسان الذي يريد أن يحافظ على طقس الصـلاة صحيحاً، ان يقدم صلاته للآب القدوس في المسيح أي باسمه وشفاعته وقد أوضح لنا المخلص هذه الحقيقة بقوله : الحق الحق أقول لكم ان كل ما طلبتم من الآب باسمى يعطيكم . الى الآن لم تطلبوا شيئا باسمي . اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً(يو16: 23-24) فهو لم يقل اطلبوا منى او اطلبوا من الآب بل أوضح لنا أن كل ما طلبتم من الآب فاياه يعطيكم باسمى . وحتى ذلك الوقت الذي نطق فيه يسوع بهذا النص لم يتقدم أحد الى الآب وصلى باسم الابن مما دعا الرب الى قوله : الى الآن لم تطلبوا شيئا باسمى ، وهو الصادق الأمين ايضا اذ يقول : اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً.
السجود :
ولا ينبغي ان يختلط علينا معنى كملة السجود[1]، لأنها تدل على العبادة كما جاء في النبوة التي قيلت عن المسيح : ولتسجد له كل ملائكة الله (تث32: 43 و مز97: 9) كما وردت بمعنى الطاعة والخضوع في النبوة التي قيلت عن الكنيسة ويسميها النبي رمزيا أورشليم التي يأتي اليها ملوك الأرض وملكاتها فيسجدون لها ويخدمونها : ها اني ارفع الى الأمم يدى والي الجزائر رایتی . فيأتون بأولادك في الأحضان ، وبناتك على الأكتاف يحملن . ويكون الملوك حاضنيك وسيداتهم مرضعاتك . بالوجوه الى الأرض يسجدون لك ويلحسون غبار رجليك فتعلمين اني انا الرب ولا تخزين(إش49: 22-23)
ينبغى اذا ان تصلى بوساطة رئيس كهنة العهد الجديد ، الشفيع القادر ان يرثى لضعفاتك اذ جرب في كل شيء مثلك ولكن بلا خطية(عب4: 15) كما يجب أن تعلم اية عطية حصلت عليها من الآب اذ اخذتم روح التبني ، ولدتم في المسيح من جديد حتى تستحقوا ان تدعوا أولاد الله وتلقبوا باخوة المسيح(رو8: 14و19و23) ولعلك قرأت ما قاله الرب على فم داود النبي في حديث موجه الى الآب :
اخبر باسمك أخوتي . في وسط الجماعة اسبحك(مز21: 22) ولذلك يجب أن نصلي الى الآب في المسيح ومعه ، يجب ان نقدم صلواتنا اليه كاله وتلجأ اليه كأب ونتضرع اليه كسيد ورب ، ونقدم اليه الشكر في هذه الاعتبارات جميعها والعلاقة التي تربط الآب بنا ليست مجرد علاقة السيد لمجرد عبد ، فالاب يمكن ان يعتبر بحق من جهة ما كسید لابنه ، وبالتالي سيد لكل الذين صاروا أبناء له بالمسيح . وكما أنه ليس اله أموات بل اله احياء(مت22: 32)، فعلى نفس القياس ليس هو سيدا لعبيد بلا كرامة ، بل سيد لعبيد قد عظم أصلهم وشرف محتدهم بعد ان كانوا أولا في طفولتهم في خوف(رو8: 15) ثم تحولت عبوديتهم بالحب الى حالة من الغبطة تسمو بما لا يقاس على تلك العبودية و هم في خوف(1يو4: 18 و عب2: 15). هناك علامات في الروح يتميز بها عبيد الله عن أبنائه ، وهذه العلامات تنكشف لفاحص القلوب(رو8: 27) وحده .
العطايا الروحية والمادية
قد يطلب المرء في صلاته أمورا ارضية وتافهة ، ولكنه ـ في ذلك – يخالف وصية الرب الذي أمرنا أن نطلب منه السمائيات لأنه لا يمنح العطايا الأرضية الصغيرة(رو2: 2و17و18) وقد يحتج البعض بأن الله قد غمر القديسين بالعطايا المادية بسبب صلواتهم ، كما يستندون في التدليل على ذلك الى كلمات الانجيل نفسه التي يستفاد منها ان الأمور الأرضية البسيطة تضاف الى ملكوت الله وبره. ولهذا أحب ان اوجه نظر هؤلاء الاخوة الي تعمق فهم هذه العطايا . اذا اعطانا انسان ما شيئاً مادياً فلا يمكنا ان نقول انه اعطانا ظل هذا الشيء ، كما لا يمكن لهذا الانسان ان يدعى أنه اعطانا شيئين ، الشيء وظله ، ولكنه يقر بأنه أعطانا هذا الشيء وأنه كان يقصد أن يعطينا هذا الشيء بذاته . ومن هذا نعلم اننا اذا اخذنا هذا الشيء فلا بد أن يتبعه ظله وعلى نفس القياس، عندما نرفع اذهاننا ونتأمل العطايا الرئيسية التي يغمرنا الله بها فلا يسعنا الا الاعتراف بأن العطايا المادية التي مُنحت للقديسين سواء للفائدة أو نتيجة لعمل الايمان او طبقا لمشيئة الواهب(رو12: 16) فما هذه العطايا الا ظلال تصاحب الهبات الروحية العظمى ، لأنه هكذا يشاء بحكمته حتى وان عجزت أذهاننا عن ادراك علة العطية وسببها الذي ادى بالواهب الى اعطائها .
وبالتالي يمكنا ان ندرك ان حنة قبل أن تحمل صموئيل في احشائها ماديا ، كانت روحها قد برئت من العقم فأثمرت روحيا ، وكذلك أنجب حزقيا أطفالا روحيين بالذهن والفهم أكثر من الذين ولدوا من صلب الجسد. استير ومردخاى والشعب كله نجوا من العدو الشرير ومن المحاربات الروحية أكثر من خلاصـهم من مكيدة هامان والضالعين معه في المؤامرة.
.واستطاعت يهوديت ان تقطع قوة أمير الظلام الذي اراد ان يذل روحهـا ويحطمها ، أكثر من النصر التي احرزته عندما قطعت رأس اليفانا. ولا نستطيع ان ننكر أن البركة التي حلت على راس عزريا ورفاقه هي نفس البركة التي حلت ومنحت لجميع القديسين كما نطق بها اسحق وهو يبارك يعقوب : الرب يعطيك ندى السماء فكان هذا الندى في جوهره اعمق بكثير من الندى الطبيعي الذي اطفا لهيب النار التي أشعلها نبوخذنصر . والأسود المكممة في حضرة دانيال النبي كانت بعينها هي تلك الأسود الخفية التي عجزت عن ايذائه روحيا فضلا عن الايذاء المادي اننا نستطيع ان نتبين هذه الحقيقة كلما قرأنا هذا الجزء من الكتاب المقدس ، ومن يستطيع ان يهرب أو ينجو من بطش الوحش الذي يبتلع كل من يهرب من وجه الله ؟ لقد بطش الوحش بیونان رجل الله اذ هرب من طاعته . ولكن شكرا لله ، لأن ربنا يسوع المسيح قد اخضع هذا الوحش
قياس العطايا :
العلاقة بين لو أن الجميع يأخذون نفس البركات على قدم المساواة ، فليس من الغريب ، أنهم – مع ذلك ـ لا يتمتعون بالظلال المادية بالتساوي ، بل قد لا يحصل البعض على شيء من هذه الظلال اطلاقا . ويستطيع أن يتفهم هذا الأمر كل من اطلع على عمل المزولة الشمسية ودرس الظل والجسم المضيء ، ففي وقت معين لا يعطى مؤشر المزولة أي ظل ، وي أوقات أخرى قد يطول الظل وقد يقصر . وهكذا لا ينبغي أن تأخذنا الدهشة اذا وجدنا هبات الله تعطى لانسان على حسب الضرورة فقط ، وان بعض الموهوبين قد لا يتبع بركاتهم الروحية أية ظلال مادية . ولا بد أن نضع في اعتبارنا أن الله بعطى وفقا لمشيئته كما أنه يهب كل شيء للمنفعة . وفي تدبيره يعمل حساب العديد من الروابط الغامضة ، والظروف والأوقات التي يختارها العطاء ، كل الأشياء يرتبها بدقة لصالح اولاده الذين يهبهم ويعطيهم . وفي بعض الأحيان تظهر بعض الظلال لبعض المواهب وليس كلها ، وفي اوقات اخرى تبدو هذه الظلال صغيرة اذا ما قورنت بالعطايا . اذا فالذي بطلب نور الشمس ويحصل عليه لا تأخذه النشوة أو يغمره الحزن سواء غاب الظل أو حضر . طال أو قصر ، لأنه اقتنى ما هو اهم اى النور . فاذا ما حصلنا على المواهب الروحية ، واستذرنا بنعمة الله . واستوعبنا هذه الهيات قنية صالحة (٢٦) فلا معنى لأن نضيع الكلام هباء في الحديث عن الأشياء التافهة لأنها مجرد ظلال . جميع الأشياء المادية والجسدية ، مهما
كانت ، لا تزيد قيمتها عن الظلال الواهنة العابرة . ولا يمكن بحال من الأحوال ان نضعها موضع المقارنة بعطايا الله المقدسة التي تقودنا الي خلاص نفوسنا . كيف تسول لنا النفس ان نقارن بين ثروة المال وبين غنى الكلمة والعلم ؟ (۲۷) هل استطيع ان أتصور انسانا يقارن بين صحة الجسد والعظام من ناحية وبين صحة العقل وقوة الروح واتزان الفكر من ناحية أخرى . فهذه النعم والمواهب الروحية ـ وقد رتبتها كلمة الله ـ لا تجعل من آلام الجسد سوی خدش طفيف او لعله أقل من ذلك .
پیس وكل من أدرك المعنى المخبوء وراء جمال العروس التي يحبها العريس كلمة الله يعلم يقينا أنها تشير الى الروح المتفتحة بجمال يفوق الأرضيات والسماويات . من تصل بصيرته الى هذا المعنى لا بد وان يخجل من نسبة هذا التعبير ( الجمال ) الى جمال الجسد سواء كان لامرأة أو طفل أو رجل ، فالجسد لا يستطيع بطبيعته أن يقتنى الجمال الحقيقي ، لأن كل جسد كعشب وكل مجده (28) فالجمال الذي نراه في النساء والأطفال يقارنه الرسول بالزهرة : كل جسد كعشب وكل جماله كزهر الحقل العشب وذيل الزهر أما كلمة الله فتثبت الى الأبد .
وكل من يتأمل في كرامة اولاد الله ومجدهم يعلم أن الجمال الحقيقي هو من خصائصهم ، ولو أن الكلمة قد ابتذلت في لغة البشر . أن الروح التي استوعبت ملكوت المسيح الذي لا يتزعزع (29) لا يسعها الا أن نحتقر كل ملك أرضى ، بل وتعتبره كلا شيء تماما وعندما تنكشف السمائيات أمام الروح البشرية ـ على قدر ما تستطيع وهي في اسر الجسد ـ ترى جيوش الملائكة (30) ورؤساء الملائكة وقوات الله من رؤساء ملائكة الى عروش وسيادات ورياسات وقوات سمائية (31) عندما تدرك هذه النفس بهاء الكرامة التي تنالها من الآب ، هل يمكنها ـ الا ان نستصغر شأن الأمور التي تروق للجهـال ، وتعتبرها ـ : بالمقارنة ـ كان لا وجود لها . حتى لو اعطيت النفس كرامات العالم جميعا ، فانها تحتقرها وترذلها ، ولا يمكن أن تفرض في المثابرة على اقتناء الرئاسة الحقيقية والقوة . مهما بلغت من ضعف الالهية .
اذا ، علينا ان نصلى ، ونطلب السمائيات الأمور الجليلة القدر التي لا غنى عنها لنا ، وتترك بين يدي الله ومشيئته ما يختص بالظلال التي تصاحب العطايا الرئيسية والجوهرية لأنه يعرف ما نحتاج اليه بسبب جسدنا المائت قبل ان نسأله
- كلمة السجود في اليونانية تشير الى الانطراح أو السجود أمام الآلهة او صورهم كما تشير الى تلك العادة الشرقية القديمة في السجود أمام الملوك . ويستخدم هذا التعبير في النصوص الكنسية تعبيرا عن اسمى اشكال العبادة لله. وهناك امثلة عديدة لاستخدام هذا اللفظ بهذا المعنى ( أي العبادة لله ) في العهد الجديد مت4: 10 و لو4: 21– 23 والعبادة للآب في 1كو14: 25 والعبادة للمسيح مت2: 2 و یو9: 38. الخ وفي التجربة على الجبل طلب الشيطان من المسيح السجود له بهذا المعنى مت4: 9 و لو4: 7 وعندما سخر الجنود من المسيح سجدوا امامه ايضا ( مر15: 19 ) ويستخدم أوريجانوس هذا التعبير عن المسيح من حيث هو في الآب والآب فيه ، ومن حيث أنه واحد مع الاب في اللاهوت وهذا ما يقصده خصوصاً عندما يقول أن الصلاة تقدم الى الآب وحده ، لأن جوهر الآب هو نفس جوهر الابن.