العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

درجات الكمال

‏‏العظة الثامنة من العظات الخمسون

[عن الأمور التي تعرض للمسيحيين أثناء الصلاة ، وعن درجات الكمال ، أي  أفي مُكنة المسيحيين أن يبلغوا درجة الكمال]

[ أ ] النفس عروس للرب

1- يتفق أن إنساناً يدخل ( للصلاة ) ويحني ركبتيه فيمتلئ قلبه بالقوة الإلهية ، وتفرح نفسه بالرب كفرح عروس بعريسها ، كما قال إشعياء النبي : « گفرح عريس بعروس ، هكذا سيفرح بك إلهك » ( إش62: 5 س ) . فقد يحدث أن يكون الإنسان منشغلاً اليوم كله ، ولكنه في ساعة واحدة يعطي فيها نفسه للصلاة يخطف إنسانه الداخلي في حلاوة عظيمة ، بواسطة صلاته تلك ، إلى أعماق ذلك الدهر الآخر التي لا يُسبر غورها ، حتى إن ذهنه يتغرب بكامله عن ههنا ويكون مرفوعاً ومخطوفاً هناك ، وحتى إنه في ذلك الوقت ينحل من أفكار الاهتمامات الأرضية وتمتلي أفكاره بالأمور الإلهية والسماوية وتُسبى بها ، تلك الأمور التي لا نهاية لها والتي لا يمكن إدراكها – أمور عجيبة لا سبيل إلى شرحها بفم بشري ، حتى إنه ليصلي في مثل تلك الساعة ويقول : ” ألا ليت نفسي تنطلق مع صلاتي ! “.

[ب] النعمة تدبر الإنسان كيفما تشاء

۲ – سؤال : هل في كل حين يختبر الإنسان مثل تلك الأمور؟

الجواب : إن النعمة حاضرة مع الإنسان بلا انقطاع ، وقد تأصلت فيه ولا تفتأ تعتمل فيه منذ حداثته وكأنها خميرة ، حتى أضحت أشبه بشئ طبيعي مُلتحم بالإنسان كما لو كانا طبيعة واحدة ، ولكن رغم ذلك ، فإنها تدبر الإنسان بطرق شتی ، بحسب مشيئتها « للمنفعة »[1كو12: 7] ؛ فتارة تشتعل نارها بشدة وتتوقد ، وطوراً تكون وكأنها أكثر هدوءاً وأكثر دعة ؛ وكذلك النور نفسه ، آناً يكون متوهجاً بزيادة ومضيئاً، وآونة يخفت ويخبو. ولكن في كل هذا ، ما ينفك المصباح ذاته موقداً على الدوام ومضيئاً، سواء حين يتوهج بنشوة[حرفياً ἐν μέθη = بسُكر] محبة الله فيزداد لمعاناً، أو حين يختفي في الداخل ، بحسب تدبير النعمة ، فيخبو ضياؤه ، مع كونه لا يزال موجوداً.

3 – فقد يحدث  للبعض أن تتراءى لهم علامة الصليب کنور ، ثم تستقر في إنسانهم الداخلي . وأحياناً أخرى يصير الإنسان في صلاته كمن هو خارج عن نفسه[1] ، فيجد نفسه وكأنه واقف أمام مذبح في كنيسة وقد قُدمت إليه ثلاث خبزات كأنها مختمرة بزيت ، وكلما كان يأكل منها أكثر كانت تنمو وتتضاعف. وأحيانا أخرى كذلك يظهر للإنسان مثل لباس منير لا نظير له على الأرض في هذا العالم ، ولا تقدر أياد بشرية أن تصنع مثله ، بل هو على غرار ثیاب الرب التي أحالها وجعلها تلمع مثل البرق[2] حين صعد مع يوحنا وبطرس إلى الجبل ، ولهذا فإن الإنسان الذي يلبسه يأخذه العجب والهول. وأيضا في أوقات أخرى يحدث أن النور نفسه الذي يضيء في القلب يُميط اللثام عن نور آخر خفي أشد غوراً وأكثر عمقاً، حتى إن الإنسان بكليته – إذ يكون غارقاً في لجة تلك الحلاوة والتأمل – لا يضبط نفسه بعد ، بل يصبح كمجنون وأجنبي عن هذا العالم لأجل المحبة والحلاوة الفائقتين ، ولأجل الأسرار الخفية ، حتى إنه في مثل تلك الأوقات ، حين يتحرر الإنسان يرتقي درجات الكمال ويغدو نقياً ومعتوقاً من الخطيئة . ولكن بعد هذه الأمور تنحسر النعمة وينسدل حجاب القوة المعادية ، ورغم هذا فالنعمة لا تزال تظهر جزئياً ، وأما الإنسان فإنه يقف عند درجة من الكمال أقل مما كان عندها من قبل .

4 – فإن قلنا إنه على الإنسان أن يجتاز اثنتي عشرة درجة لكيما يبلغ الكمال ، ويحدث في وقت ما أنه يرتقي حتى يدرك تلك الدرجة ويبلغ الكمال ، فإنه بعد هذا تخفت النعمة ويهبط درجة فيمسي عند الدرجة الحادية عشر. لأن الذي يكون غنياً في النعمة على الدوام ، مرتقياً درجات الكمال ليل نهار ، يصير معتوقاً ونقياً ومسبياً في كل حين ومرفوعاً إلى فوق . والآن ، فالإنسان الذي أُظهرت له تلك العجائب واختبرها ، إن هي لازمته كل حين ، فلن يمكنه إذ ذاك أن يدبر خدمة الكلمة أو أن ينهض بأي أعباء ، ولن يطيق صبراً أن يستمع لآخرين ، بل ولا يمكنه أيضا أن يهتم حتى بنفسه أو بغده ، بل فقط ينزوي هكذا في ركن ، مرفوعاً فوق الأرض وثملاً . لأجل هذا فإن درجة الكمال لا تُعطى للإنسان ، وذلك حتى يتسنى له أن يلتفت إلى الاهتمام بإخوته وإلى خدمة الكلمة . إلا أن حائط السياج المتوسط قد نُقض[انظر أف2: 14] ، والموت قد غُلب .

5 – فإن الأمر يشبه وكأنما قوة ما مُعتمة قد نُشرت أمام مصباح فحجبته قليلاً وكأنها غشاوة كثيفة ، رغم أن المصباح لا يبرح موقداً ومضيئاً على الدوام ، هكذا يحدث مع مصباح النعمة وكأن ستاراً قد أسدل على نوره . من أجل ذلك فإن مثل هذا الإنسان يقر بأنه ليس كاملاً بعد ولا حراً بالتمام من الخطيئة . من ثم فإنه يعترف بأن حائط السياج المتوسط – وإن نُقض وتهدَّم – لكن ليس بالتمام ولا في كل آن ، فبينما يوجد وقت يتوهج فيه ويتعزَّى ويجد نیاحاً ، يوجد وقت آخر كذلك ينحسر فيه ويغتم ، وذلك حسبما تدبر النعمة لمنفعة الإنسان. فمن ذا الذي بلغ في وقت ما تلك القامة الكاملة وذاق ذلك العالم وأختبره ؟ فإني حتى الآن لم أر ولا مسیحياً واحداً كاملًا أو حراً . لكن وإن كان هناك من هو في راحة بفعل النعمة وقد دخل إلى الأسرار والإعلانات والحلاوة العظيمة التي للنعمة ، إلا أن الخطيئة لا تزال حتى الآن كائنة فيه . فإن هؤلاء الذين – من أجل النعمة الفائقة والنور الذي فيهم – يتوهمون أنهم أحرار وکاملون ، إنما هم يزلون  بسبب عدم خبرتهم ، مع کونهم حاصلين على فعل النعمة . فإني حتى الآن ما رأيت ولا واحداً معتوقاً كلية ، فلقد دخلت أنا نفسي ، جزئياً ، وفي أوقات معينة ، إلى تلك الدرجة ، وأعلم بالخيرة أن ليس إنسان كاملا[3]

6 – سؤال : أخبرنا في أية درجة أنت ؟

الجواب : الآن ، بعد ( اختبار ) علامة الصليب [4] ، تعمل النعمة فيَّ هكذا : فهي تُشیع سلاماً في كل الأعضاء وفي القلب ، حتى لتبدو النفس – من فرط الفرح – وكأنها طفل بلا شر، ولا يعود الإنسان بعد يحكم على أحد ، يونانياً كان أم يهودياً ، خاطئاً أم دنيوياً ، بل عوضاً عن هذا ينظر الإنسان الداخلي بعين طاهرة للجميع ، ويفرح الإنسان بكل العالم ، ويود لو أنه يسجد للجميع ويحبهم ، يهوداً كانوا أم يونانيين . وفي أوقات أخرى ، يثق الإنسان بابن الله كأب له وثوق ابن ملك بأبيه[5] ، وتنفتح دونه أبواب فيدخل إلى داخل ، إلى « منازل گثيرة » [يو14: 2] ، وكلما يدخل أكثر تنفتح له أبواب جديدة ، ويمتد – إن جاز القول – من مائة منزل إلى مائة أخرى ، ويغتني ، وكلما اغتني أكثر تظهر له عجائب جديدة أخرى ، ويؤتمن کابن ووارث على أمور لا يمكن لطبيعة بشرية أن تعبر عنها ، ولا لفم ولسان أن ينطق بها . والمجد لله ، آمین . 

 

  1. ἐν ἐκστἀσει أي في حالة دهش ecstasy ؛ ويذكر باللديوس في كتابه ” التاريخ اللوزياكي ” عن أنبا مقار أنه كان مشهوراً بكونه في حالة دهش ecstasy بلا انقطاع ، وبأنه كان يصرف وقتاً مع الله أكثر جدا مما مع أي شيء آخر تحت السماء . 
  2. فعل  ἐξαστράπτω ورد مرة واحدة فقط في كل العهد الجديد ، في لو9: 29 ، واستخدم لوصف ثياب الرب في حادثة التجلي ومعناه “يلمع مثل البرق”
  3. هذا التعليم لأنبا مقار نراه مُبلوراً بكل جلاء ووضوح في قصته مع ذلك الشيخ الذي توهم أنه قتل ثلاثة أعداء : الزنى، وحب المال ، والسبح الباطل . فذهب إليه أنبا مقار ووعظه وأعلمه أن أوجاعه لم تمت بعد بل مازالت حية ولكنها مربوطة ( انظر : بستان الرهبان – قول رقم 49 )
  4. يشير القديس هنا ، على ما يبدو ، إلى خبرته التي اجتازها أول حياته ، حينما صلبه الشاروبيم [قيل عن أنبا مقار إنه لما تقدم في الفضيلة وقبل إليه النعمة بصبر عظيم ، أرسل إليه رب المجد کاروباً يتقدمه ويرشده إلى هذا الجبل ، وأنه وضع يده على قلبه كمثل میزان . فقال له أنبا مقار : ما هذا ؟ فقال له الشاروبيم : قد وزنت قلبك … ولما قال له الشاروبيم هذا صلبه ، وقال له : قد صلبت نفسك مع المسيح ، فاصلب أنت نفسك معه في زينة الفضائل ورائحتها العطرة . وسوف يبلغ صيت أعمالك إلى أربعة أركان الأرض وتخلص أقواماً كثيرين كانوا غارقين في وحل الخطيئة ، فيصيرون مجاهدين وجنوداً في خدمة المسيح ، فصار أنبا مقار يصلب جسده ويكتمل باجتهاد كل ما خاطبه به الشاروبيم. 
  5. رغم أن المسيح هو ابن الله ، وهو « بكر بين إخوة گثيرين » ( رو 8 : 29) ، إلا أن أحد ألقابه أيضا أنه : « أب أبدي » ( إش9: 6) ، وكان يخاطب تلاميذه : « يا أولادي … » ( یو13: 33). 
  6. يو 14: 2 . 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى