اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره
“اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره، وهذه كلها تُزاد لكم” (مت6: 33)
ملكوت الله وبرَّه هو أهم ما يعوز الإنسان على الأرض .
المسيح هنا يخاطب العائشين تحت سلطان العالم والمنشغلين بهم الدنيا . والقضية هنا لا تحتمل اختيار بين حاجات الإنسان في العالم التي تشغله عن أهم هدف لحياته الحاضرة والمستقبلة ، أي ملكوت الله .
علماً بأن كل حاجات الإنسان في العالم تشترى بالغالي والرخيص ، إلا ملكوت السماء فلا يُشترى ، إنما يغتصبه الإنسان لنفسه بكل ما أوتي له من قوة روحية وتمسك بالله والمسيح ، ووسيلته الوحيدة هي الصلاة والإنجيل والصوم.
ملكوت السموات يُغتصب ، والغاصبون وضعوا في قلوبهم أن هذا الملكوت هو غايتهم النهائية يختطفونه اختطافاً ، فهو لا يباع أو يشترى ، ولا يمكن أن تساويه أية عطية أخرى ، ذلك لأنه أعظم عطية في الوجود ، وخسارته هي الجحيم بعينه .
وعندما تذكر الآية كلمة ” بره” ، فهذا معناه أن نفساً غير بارة لا تطأه ، فالبر ملاصق للملكوت . والبر أصلاً يليق بالله والمسيح ، والأبرار من المختارين يضيئون كالجلد في ملكوت أبيهم . والإنسان البار هو إنسان متعاظم في القداسة يعبد الله نهاراً وليلاً .
أما “ملكوت الله” فهو بيت الله يضم أهل الله القديسين . والعائشون في بيت الله الذي هو الملكوت يُسبحون الله ويمجدونه ويعطونه كل ما يليق من السجود والعبادة . لذلك فأبناء ملكوت الله أبناء الله ، وحياتهم الجديدة مستترة مع المسيح في الله .
لم يكف المسيح قط ، بطول حياته على الأرض ، عن الكرازة بملكوت الله ، فكانت هي الهدف الذي ركز عليه كل تعليمه . وهنا يعطي النصيحة الإلهية للذين يسمعونه : “اطلبوا ملكوت الله” ، وأما هذه الأشياء التي في العالم فهي تُزاد لكم ، من أكل وشرب ولباس ومأوى . فابن الإنسان لم يكن له ” أين يسند رأسه” ( مت8: 20) ، كان يقضي الليالي في العراء يصلَّي ، وبالنهار يطوف البلاد يكرز بملكوت الله . فكان همه الأول والأخير ، أن يتعرف الناس على وطنهم السماوي عند الآب .
في الحقيقة إننا حينما نطلب ملكوت الله ونسعى إليه ونكرز به نكون قد أكملنا رسالتنا المسيحية في العالم .
إن سبب وسر وجودنا في العالم ، وستر الله لنا في هذا الزمان ، هو لإعطائنا فرصة طلب ملكوت الله . فإن كنا قد أعددنا أنفسنا لدخول ملكوت الله ، نكون قد أكملنا رسالة وجودنا في العالم .
اطلبوا ملكوت الله وهذه كلها تُزاد لكم ، هذا هو وعد إلهي من رب السماء والأرض ، قادر أن ينفذه بالحرف الواحد . فالمسيح عندما يعد الذين يطلبون ملكوته ، أنه يزيد لنا كل ما نحتاج إليه ؛ فهو من عنده يعطينا ، ومن خيراته الروحية والزمانية يفيض كما قال ، حتى نقول : كفى كفى .
وحينما يقول المسيح ” اطلبوا ملكوت الله ” ، فهو يدعونا إلى ملكه في السموات ، لا لكي نحيا فيه كما على الأرض ، بل إن مدعوي المسيح لملكه السعيد هم مدعوون بالحقيقة لكي يكونوا “ملوكاً وكهنة لله أبيه ” ( رو1: 6 ).
أرجو أن لا يستهين أحد بقول المسيح ” اطلبوا ملكوت الله ” ، لأنه يدعونا حقاً للحياة معه ومع الآب ، كمختارين ومحبوبين ومُنعم علينا . فميراث ملكوت الله هو غاية ما أعده لنا المسيح ، وغاية ما يمكن أن يحظى به الإنسان . علماً أننا حينما نطلب ملكوت الله ، يفتح المسيح ذهننا لندرك قيمة هذا الطلب ، فهو أفخر عطايا الله لأخصائه ومحبيه . وبمجرد أن يكون ملكوت الله هو هدف حياتنا على الأرض ، وغاية ما نرجوه ونتمناه ، يصبح ملكوت الله فرحنا ومجدنا ، وعزاءنا وسرورنا . فليس في كل عطايا الله ما يضاهي ملكوته السعيد الأبدي.
والسر الذي أبقاه المسيح لأخصائه ، هو أنه بمجرد أن ننشغل بملكوت الله ، ويصبح هدفنا الذي نسعى إليه ، يتولى المسيح باقي احتياجاتنا دون أن نحمل همها . وهذا يدخل في قوله : ” احملوا نيري عليكم..لأن نيري هين وحملي خفيف ” ( مت11: 30 ) .
فنير المسيح هو السعي في إثر ملكوت السموات . والحمل هو تحمل أقواله بقلب مفتوح . وفي هذا وذاك لا يتركنا المسيح وحدنا ، بل يشترك معنا كتفاً بكتف .
بقدر ما نجاهد ؛ هو يُسهل ويعين . وعندما نتبع المسيح نشعر أنه قريب منا . وعندما نحمل هو يحمل معنا . وكل من خار تحت صعوبة عقبات الطريق ، تولى هو بنفسه رفع كل عقبة ، ليصبح الطريق ممهداً فهو القائل : ” أنا هو الطريق ” ( يو6:14 ) .
أخيراً، نحن حينما نصمم على السير في طريق الملكوت نكون قد القينا كل حملنا عليه ، وانتظرنا الختام على يديه ، لا كمن يسيره معنا ، بل يسير بنا ، ولا كمن يعين فحسب ، بل كمن يحمل ويسير .