كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي - القمص متى المسكين

دخول التقليد في عصر المجامع

وتحديد أصوله بقوانين ثابتة
ΔΟΓΜΑ

مقدمة

[ وبما أن كثيرين ممن يعترفون بالإيمان بالمسيح يختلفون الواحد عن الآخر ليس في الأمور البسيطة فقط بل وفي المواضيع ذات الأهمية العظمى، لذلك يبدو بناء على ذلك أنه ينبغي بالضرورة أن تُقرّر حدود ثابتة وتوضع قاعدة لا تقبل الخطأ بالنسبة لكل من هذه الأمور (الإيمانية)… حسب تعاليم الكنيسة المسلمة لنا بالتتابع الطقسي من الرسل والتي حفظت في الكنائس حتى هذا اليوم. فالتعاليم التي لا تختلف عن التقليد الكنسي الرسولي هي وحدها التي تقبل باعتبارها أنها حق.]

وكأنما بهذه الأقوال كان أوريجانوس يتنبأ بقيام عصر المجامع وتقنين كل نصوص الإيمان. ولكن ما يقوله أوريجانس كان من واقع الحاجة الملموسة إلى سلطان الكنيسة في أمور الإيمان الذي بدأت الحاجة ماسة إليه جداً منذ القرن الثاني.

أما أقوال القديس فنسنت الذي من ليرين[1]، فهو يصف قيمة التقليد الكنسي:
[ وهنا ربما يسأل إنسان : إن كانت الأسفار المقدسة قد تحددت قانونياً وهي كاملة الآن وكافية في ذاتها لكل شيء بل وأكثر من كافية أيضاً، فما الحاجة أن نضيف إليها سلطان الكنيسة من جهة تفسيرها؟
والرد على ذلك هو إنه بسبب عمق الأسفار المقدسة صار مستحيلاً أن يفهمها الجميع وأن يقبلها الكل بمعنى واحد ، فواحد يفهم الكلمات بطريقة والآخر بطريقة أخرى حتى بدت وكأنها قابلة أن تُشرح بطرق تساوي عدد الشراح أنفسهم. فنوفاتيان (المبتدع ) يشرحها بطريقة، وسابيليوس بطريقة أخرى، وهكذا دوناتوس وأريوس وإينوميوس ومقدونيوس وفوتينوس وأبوليناريوس و بريسكليان وإيقونيان و بـيـلـاجـيـوس وسيلستيوس وأخيراً نسطوريوس. لهذا أصبح من الضرورة المحتمة هذه الإنحرافات الخطيرة المشوشة أن يفرض قانون يحدد شرح وفهم الأنبياء والرسل في إطار التفسيرات الكنسية الأصيلة الجامعة. على أن تتخذ كافة الإجراءات والإحتياطات لكي نتمسك بالإيمان الذي ساد على مدى الزمن، وقبله
الجميع، في كل مكان، فهذا حقاً يكون الإيمان الكنسي الجامع» بالمعنى الدقيق.] 

 

التقليد الرسولي لقانون الإيمان وتفسيره
يدخل أدواره الحاسمة في المجامع المسكونية
ليصير عقيدة رسمية للكنيسة كلها

لقد تسبب صراع الكنيسة مع كافة الهرطقات قبل مجمع نيقية (عام 325 م)، في رفع التقليد الرسولي من جهة الثالوث القدوس والتجسد الإلهي إلى مستوى الحرارة والنور، وقد كانت قيادة الله وعنايته الفائقة ضابطة لكل الرياح العاتية والأمواج المخيفة التي كانت تلاطم سفينة الكنيسة، خصوصاً وأن معظم هجمات الهراطقة التي عانتها الكنيسة فيما قبل مجمع نيقية كانت تعضدها سلطة الدولة الوثنية. ولكن كان الحق يقود الكنيسة بقوة وحكمة لا تقاوم.

وبمجرد دخول الدولة الرومانية في صف المسيحية، دخلت كافة المنازعات اللاهوتية دورها الحاسم، فلم يعد الصراع مفتوحاً للهراطقة كأقلية يمكنها أن تعكر صفو الكنيسة وتلوث إيمانها كيفما تشاء وإلى متى تشاء، فالكنيسة يمكنها أن تجتمع في رعاية السلطة الحكومية وتقرر قرارها بالإجماع فيما يختص بالإيمان، وحينئذ ينفّذ بسلطة الإمبراطور.

ولكن لم يسمح الله لهذه السلطة الحكومية أن تقف في صف الكنيسة، إلا بعد أن استقرت الكنيسة تماماً على إيمانها ولاهوتها وعقيدتها تمام الإستقرار. فلم يشرق فجر القرن الرابع و يبدأ عصر المجامع المؤازر بسلطان الإمبراطور إلا وكانت الكنيسة قد حددت قانون أسفار العهد الجديد، واستبعدت وحرمت كافة الكتب المزيفة التي زيفها الهراطقة منذ القرن الثاني تحت أسماء الرسل والآباء العظام والتي بثوا فيها كل سموم عقائدهم، معتمدة في ذلك على وعيها الإيماني الناضج بسبب التقليد. وبذلك دخلت الكنيسة في دائرة القضاء الكنسي ( والمدني) وهي معتمدة فقط على وثائقها المقدسة الطاهرة الإلهية.

كما أن الكنيسة في صراعها، الذي دام ثلاثة قرون مع الهراطقة من كل صنف، كانت قد تثبتت من قانون إيمانها الذي تسلمته من الرسل كأغلى وديعة وسلاح للإيمان، فصار بسبب المران المتواصل واضحاً ساطعاً لامعاً من كل ناحية وفي كل كلمة ومن جهة كل فكر. وهكذا اكتمل قانون أسفار العهد الجديد، أي تحديد أسمائها وعددها ، مع قانون الإيمان الشفاهي التقليدي. على أن التقليد هو المفتاح الحق الذي يفتح مغاليق الأسفار المقدسة و يشرحها و يوضحها ويحرسها و يغلقها في وجه الهراطقة !

هرطقة آريوس ومجمع نيقية :

و بقيام هرطقة آريوس الإسكندري (318-320 م) التي فيها ينكر لاهوت المسيح معتبراً إياه مخلوقاً، معتمداً في ذلك على بعض أقوال للأسقف لوسيان الأنطاكي الذي كان يميل إلى تعاليم بولس السمساطي (عدو الثالوث)، ومعتمداً أيضاً على أقوال لأوريجانس تقول بأن الإبن مخلوق وليس إلهاً . وهكذا اعتبرت هرطقة آريوس موجهة ضد الثالوث وبالتالي ضد التقليد الرسولي للإيمان . وقد كانت هرطقته ذات جذور في كل كنيسة ، لأن بذار الشيطان أينما حطت يبقى لها بقية مهما اقتلعت كالحشائش الضارة في الأرض الجيدة.

لذلك نجد أنه قد انحاز لآريوس علناً في مجمع نيقية عشرون أسقفاً !! بقيادة يوسابيوس أسقف نيقوميديا ! (الذي رجع عن تحيزه لآريوس وصار أسقفاً للقسطنطينية ثم بدأ يحارب مرة أخرى مقررات مجمع نيقية).

ولكن كل الذين انحازوا إلى آريوس علناً أو خفية كان تمسكهم منضباً على الأسفار المقدسة فقط ولم يأخذوا بالتقليد الرسولي «قانون الحق» كما استلموه من الرسل، فأثبتوا بذلك أنهم خائنون للوديعة المقدسة، خائنون لليد الرسولية، خائنون لأسقفياتهم ! وأنهم ضلوا الطريق وتاهوا في مجاهل الهراطقة وأنكروا لاهوت المسيح !! أما ألكسندروس بابا الإسكندرية فهتف أمام المجمع: «إن العقيدة الرسولية نحن نموت من أجلها.»

ووقف الثلثمائة والثمانية عشر أسقفاً الأطهار الأمناء على الوديعة الرسولية وأعلنوا بصوت الرسل و بصوت واحد أن المسيح مساو للآب في الجوهر، إله حق من إله حق ، نور من نور، مولود غير مخلوق !! وحكم على آريوس وعلى من تحيز له كعدو للمسيح وأحرقت جميع كتبه ونُفي مع جماعته.

و بذلك اعتبرت الكنيسة أن مجمع نيقية هو الثاني والمساوي لمجمع الرسل في أورشليم ( أع 15). وقد أسماه القديس أثناسيوس: «وثيقة حقيقية وشهادة للنصرة فوق كل هرطقة »؛ كما أسماه القديس إيسيذور المصري الذي من بليوزيوم ( تنيح عام 450 م، وله 2000 مصنف في النسك واللاهوت ومن أعاظم النساك) قال: «المجمع المسكوني النيقاوي هو تعبير عن إلهام الله في الكنيسة.»

وكان القديس أثناسيوس الرسولي في كل دفاعه عن الإيمان ملتزماً حدود التقليد الرسولي الذي اختزنه في قلبه الكبير. وفي رسالته إلى سيرابيون يشرح له هذه الحقيقة بصورة أمينة :
[ وعلينا أن نعتبر هذا التقليد الذي هو تعليم وإيمان الكنيسة الجامعة، الذي منذ البدء، الذي أعطاه الرب، وكرز به الرسل، وحفظه الآباء، والذي عليه تأسست الكنيسة وقامت . ] – الرسالة الأولى .

وفي رسالته الثانية لسيرابيون يشرح له كيف ولماذا خرج أريوس ومن معه عن فهم الأسفار حسب الحق : [ إن الآريوسيين فقدوا الرؤية العامة للأسفار الإلهية.]

وهنا كلمة «الرؤية العامة » يرادفها عند القديس إير ينيئوس كلمة النظرية العامة.

أي أن الإنسان الذي يريد أن يفحص عن الحق في الأسفار المقدسة يلزم أن يكون قد بلغ أولاً إلى الرؤية العامة لها في مجموعها الكلي ، كتعبير القديس أثناسيوس ؛ أو أن يكون قد حصل على الفكرة أو النظرية العامة الشاملة التي تقوم عليها الأسفار المقدسة، كتعبير القديس إير ينيئوس ، حتى لا يخطىء في الحكم أو في تأويل الآيات المفردة. وهذا هو ما يقدمه التقليد لكل من يعيش مخلصاً للكنيسة ولآبائها أباً عن أب. أما الهراطقة والذين ينبذون عنهم تقليدها الأبوي فإنهم يفقدون الرؤيا الشاملة للأسفار كما يطبعها التقليد على البصيرة الروحية . ثم يعود القديس أثناسيوس و يوضح كيف سار في المعركة ضد أريوس ومن معه متمسكاً بالتقليد: [ إنه حسب الإيمان الرسولي المسلَّم إلينا بالتقليد من الآباء قدمت هذا التقليد دون أن أسـتـحـدث عـليه شيئاً من الخارج، فما تعلمته فهذا قد كتبته مطابقاً للأسفار المقدسة.] الرسالة الأولى.

و بإصدار المجمع الملتئم قانون الإيمان في صورته المفسرة الجديدة، انتقل قانون الإيمان الرسولي من وضعه التقليدي الحر ودخل في وضعه التقليدي العقائدي الملزم محتـويـاً في نـصـه على الأصل الرسولي مفسراً النواحي التي هوجم فيها من الهراطقة وصار وثيقة الكنيسة الحية للإيمان التي تحمل صوت الرسل مع صوت آباء كثيرين مع دماء شهداء ؛ التي بعد أن استكملت صورتها في مجمع القسطنطينية ومجمع أفسس أصبحت القانون الذي ينظم فكر الكنيسة ونشاطها وتطورها إلى مدى الأجيال !

ولكن ليس معنى ذلك أن يكف الهراطقة عن نشاطهم ، فالشيطان قد تعاهد الكنيسة بالمحن حتى النهاية، إذ إن الأساقفة الذين تظاهروا بقبولهم مقررات مجمع نـيـقـيـة بدأوا هجومهم المنظم بعد ذلك، مستخدمين نفس الوسيلة التي خذلتهم وهي سلطان الإمبراطور الذي أمر بنفي القديس أثناسيوس، وعاد وأفرج عن آريوس وسـانـد الآريوسيين ، [ لأن السلطان الزمني هو أقرب دائمـاً لـيــد الـشـيـطان وفـكـره.] … ولكن الله سارع فساند الكنيسة. وقبل أن يتخذ قسطنطين الملك أي إجراء رسمي بإعادة آريوس مات آریوس، ومات قسطنطين ( الأول مات سنة 336، والثاني سنة 337). وكان قسطنطين قد تعمد لتوه من يد يوسابيوس النيقوميدي الآريوسي!!

وأفرج أبـنـه الإمبراطور الجديد قسطنطين الثاني سنة 338 م عن القديس أثناسيوس فاستقبل كأعظم من إمبراطور. ولكن عاد قسطنطيوس الذي كان آريوسياً عنيفاً هو وكل البلاط معه ، فنفى القديس أثناسيوس ثانية .

وظلت المجامع المحلية الشرقية والغربية تتنازع القوى والغلبة بسبب سطوة آريوس وكثرة الأساقفة المنضمين له و بسبب مساندة الإمبراطور ونساء الإمبراطورية ، فقد لملم الشيطان كل مناكيد الأرض لزعزعة قرارات مجمع نيقية، وحكم على القديس أثناسيوس بالنفي، وعلى أسقف روما المناصر له ليبر يوس وعلى هوسيوس أسقف قرطبة بأسبانيا ، وكاد حسب الظاهر أن يخمد صوت الحق. ولكن هذا أمر مستحيل لأن الله ساهر على كلمته ليجربها!

ولكن بموت قسطنطيوس الإمبراطور والأسقف الوهمي الأريوسي (361 م)، انفتح الطريق أمام الكنيسة لتستعيد حريتها، بالرغم من أن الإمبراطور الجديد كان هو يوليانس الجاحد ( المرتد عن المسيحية). وقد دخل الميدان مع القديس أثناسيوس كل من القديسين باسيليوس وغر يغور يوس النزينزي والنيصي، وكلهم كانوا مملوئين من كل حكمة الرسل وتقواهم ، فلما مات القديس أثناسيوس سنة 373م ترك الإيمان الأرثوذكسي النيقاوي في أيدي مقتدرة أمينة. وظلت الآريوسية بعد ذلك تتمتع بنصرة ظاهرية تحت حماية الإمبراطور الآريوسي فالنس (364-378 م) إلى أن تولى الحكم جراتيان الأرثوذكسي، فأمر بالإفراج عن جميع الأساقفة الأرثوذكس المنفيين ، فكانت بداية النهاية للآريوسيين، وبعدها اعتلى العرش ثاؤذوسيوس الأول الكبير الذي تربى على الإيمان الأرثوذكسي النيقاوي والذي كان حكمه قوياً حازماً (379-395م).

 و بدأ الإمبراطور في تطهير القسطنطينية من الأريوسيين، أساقفة وكهنة، ثم دعا إلى عقد مجمع مسكوني للإنهاء على الآريوسية وبقية الخلافات الكنسية، لأنه كان قد ظهر في أثناء هذه الفترة هرطقتان خطيرتان الأولى هرطقة تخص شخص المسيح، والأخرى تخص شخص الروح القدس:

1- هرطقة أبوليناريوس:

أبوليناريوس كان أسقفاً على اللاذقية، ومن المتحمسين ضد الآريوسية، وقد بدا له أنه لكي يجعل إتحاد الطبيعة الإلهية في الطبيعة البشرية إتحاداً لا يقبل الإنفصال أو التغيير من جهة، ومن جهة أخرى لكي يجعل بشرية المسيح غير قابلة  للخطيئة، ومن جهة ثالثة لكي يجعل الفداء والموت ليس من عمل الجسد فقط بل باشتراك اللاهوت أيضاً ليضمن فاعلية الكفارة، لجأ إلى حيلة عقلية وهي إنه جعل اللاهوت يتحد بالناسوت عوض النفس العاقلة البشرية، أي أن المسيح اتخذ طبيعة بشرية خالية من النفس العاقلة البشرية، وحل بلاهوته عوض هذه النفس العاقلة.

وبهذا يتم في نظر أبولينار يوس إتحاد غير منفصم من جهة، ومن جهة أخرى لا يكون المسيح قابلاً للخطيئة مطلقاً حيث أن مركز الخطيئة هو النفس العاقلة، ومن جهة ثالثة تكون آلام الرب و يكون موته عملاً مشتركاً بين الناسوت واللاهوت فيكون بذلك ذا قدرة إلهية على الكفارة.

وهكذا وقع أبوليناريوس في هرطقة التجسد غير الكامل الذي يجعل المسيح إنساناً ليس كاملاً.

2 ـ هرطقة مقدونيوس :

كان التقليد الرسولي منذ البدء يعتبر الروح القدس ممجداً مع الآب والابن، و باسمه مع الآب والإبن تتم البركة و يتم التقديس والشهادة لله ، وكانت المعمودية تُجرى باسمه مع أسم الآب والابن ، بل وتُجرى بفاعليته الخاصة حسب قول الرب في إنجيل يوحنـا 3. فلاهوت الروح القدس كان واضحاً جداً لدى الأتقياء[2]. ولكن لم يكن قد تقرر بصفة رسمية أنه أقنوم مساو للآب والابن في الجوهر والمجد والـكـرامـة والـعـبـادة. ولكن بقيام بدعة آريوس وإنكاره لاهوت الإبن ، امتدت هرطقته بطبيعة الحال إلى إنكار الروح القدس أيضاً. وهكذا انفتح الباب أمام مـقـدونـيـوس وأتباعه لإنكار لاهوت الروح القدس جهاراً. ومقدونيوس كان أسقفاً على القسطنطينية وكان نصف آريوسي.

‏ومنذ ابتداء سنة ٣٦٢ تكونت جماعته التي سميت بـ «محاربي الروح القدس» πνευματόμαχοι ، فقد اعتبر مقدونيوس ومن معه أن الروح القدس هو خادم مثل بقية الملائكة، ولأنه ليس إلهاً فهو مخلوق . وقد عقد القديس أثناسيوس مجمعاً بعد رجوعه من المنفي سنة 362 م وحرم كل القائلين بعدم لاهوت الروح أو المنكرين مساواته للأقانيم في المجد والكرامة والعبادة والجوهر. وبنفس هذا المعنى عُقد مجمع في روما تحت قيادة البابا داماسوس سنة 366 م، وحرم كلاً من آريوس ومقدونيوس وثبت عقيدة الثالوث بألوهية واحدة وجوهر واحد ومجد واحد وقوة واحدة .

 

مجمع القسطنطينية، سنة 381

وقد دعا إليه الإمبراطور ثاؤذوسيوس الكبير، وحدد أن لا يحضره إلا الأساقفة المؤمنون والمناصرون لمجمع نيقية، لذلك كان عدده محدوداً جداً ( ١٥٠ أسقفاً)، لأن الأساقفة المناصرين لنيقية كان قد شملهم الإضطهاد والتعذيب والموت فنقص عددهم للغاية.

وقد رأس المجمع أولاً ميليتيوس أسقف أنطاكية، لكنه مات أثناء انعقاده، فخلفه غريغوريوس النزينزي الذي استقال بإرادته فترأسه أسقف القسطنطينية الجديد نكتاريوس.

وقد عنى المجمع بتصفية كل الهرطقات وتوضيح الإيمان النيقاوي :
– فيما يختص بناسوت المسيح الكامل أني بوجود نفس عاقلة بشرية للمسيح، وذلك ضد هرطقة أبوليناريوس!
وفيما يختص بلاهوت الروح القدس ومساواته للآب والابن في المجد والكرامة والعبادة، وذلك ضد هرطقة مقدونيوس وأتباعه.
– وحرم تعاليم المجدف المحترف أيونوموس الذي قال إن الإبن يخالف الآب في كل شيء وفي كل الصفات وفي الجوهر، وأمر الإمبراطور بحرق جميع مؤلفاته. 
– كما حرم تعاليم أفدوخسيوس أشد الآريوسيين تجديفاً وفساداً وهو صديق أيونوموس.
– كما حرم مارسيليوس أسقف أنقرة وكافة تعاليمه التي تظهر أنها ضد الآريوسيين ، وهي أشد فساداً من الآريوسية، فهو ينكر أزلية الإبن وينكر دوام ملكوته. ولذلك أدخل المجمع ضمن إقراراته العقائدية «وليس لملكه انقضاء».

و يعتبر مجمع القسطنطينية مكملاً لمجمع نيقية من حيث توضيحه علاقة الثالوث في ذاته، وإن خروج الكنيسة من مجمعي نيقية والقسطنطينية بتقرير لاهوت المسيح وناسوته الكاملين يُعتبر أعظم نصرة لقضية التجسد والفداء ، و بالتالي لإنارة طريق الخلاص أمام الإنسان بلا أدنى إيهام !

 

مجمع أفسس سنة ٤٣١ م 

عندما خرجت الكنيسة من مجمع القسطنطينية سنة 381م، كانت قد بلغت آخر مستوى في توضيح الثالوث القدوس حسب التقليد الرسولي وحسب الكتب أيضاً. وقد وضعت كافة الصيغ الممكنة لضمان وحدانية الجوهر الإلهي في الثالوث من جهة، ومن جهة أخرى تساوي الثلاثة أقانيم في المجد والكرامة والقوة.

أما من حيث الأقنوم الثاني، أي المسيح، فقد وصل مجمع القسطنطينية إلى تحـديـد الـعـقـيـدة التي تنص على كمال لاهوت المسيح وكمال ناسوته من كافة الوجوه، أي وجود طبيعتين كاملتين إلهية وبشرية لأقنومه الواحد. وبذلك بقيت ثغرة واحدة هي صلة الطبيعتين الإلهية والبشرية بعضها ببعض. ومن هذه الثغرة الأخيرة نفذ الشيطان وحرك نسطور ليدخل بصفته مناضلاً عن لاهوت الإبن ولكن ليخلخل الإتحاد بين اللاهوت والناسوت في شخص المسيح.

ونسطور هو بطريرك القسطنطينية، وتلميذ للعلامة ثيئوذور الأنطاكي (تلميذ ليبانيوس الفيلسوف الوثني المشهور). وقد تسلم نسطور من معلمه مبدأ الفلسفة التجريدي بعدم إمكانية حلول الله حلولاً كاملاً كيانياً في أي جسد، ولكن الله يحل بقوته أو بطاقته أو بعمله فقط، فحلول الله هو حلول الموافقة والمسرة[3]، وحلول الله على درجات ولكن أعلى درجة للحلول كانت في المسيح وهي لا تقارن بأي حلول آخر، لأنه ابن الله ، وقد تم ذلك في بطن العذراء ـ وأهلته  أن يكون متحداً بكلمة الله » إتحاداً غير مفترق ، وبذلك صار شخص المسيح أي أقنومه يحتوي «كلمة الله» ويحتوي بشريته كلاً ،بمفرده، لأن إتحادهما ، في عُرف نسطور وتفسيره، هو إتحاد الموافقة للوصول إلى شخصية موحدة !!

وكان قصد نسطور من ذلك أن يتحاشى هرطقة أبوليناريوس الذي مزج بين اللاهوت والناسوت بقصد الوصول إلى عصمة إجبارية لناسوت المسيح، فـقـال ـــ مـقـابـل ذلك ــ بالفصل الكامل بين الطبيعتين على أن إتحادهما بالموافقة فقط (التي هي أساس الحلول الإلهي عنده) حتى تكون عصمة المسيح كإنسان عصمة حرة إرادية… ولكن هذا ـ قطعاً ـ أنشأ في تعاليم نسطور عقيدة وجود شخصين وطبيعتين.

ولكن هذا الإنفصال «الجوهري» في طبيعتي المسيح وفي شخصه ظل مختبئاً غير ملحوظ في تعاليم نسطور إلى أن ظهر فجأة وبصورة عنيفة عندما ابتدأ نسطور يهاجم العذراء مريم منكراً أنها «والدة الإله – ثيئوتوكوس»، إذ اعتبر ذلك وثنية دينية وأنه يخالف الكتاب المقدس. فمريم ـ عنده ـ هي «أم الطبيعة البشرية فقط» : لأن الطبيعة البشرية والطبيعة الإلهية منفصلتان تماماً في المسيح» ، « ولا يوجد بينها إلا تـوافـق فـقـط » : [ حلول اللاهوت في الإنسان يُنتج إتحاداً في الأخلاق والتعاطف فقط. 

وبهذا جـعـل نـسـطور الإتحاد بين الطبيعتين إتحاداً صورياً ميكانيكياً كتحالف صناعي بينهما وليس كوحدة حية.

ولكن لقب العذراء «ثيئوتوكوس » كان مستقراً في تقليد الكنيسة وفي روح العبادة، لذلك هاجت الكنيسة كلها على نسطور حتى في القسطنطينية ذاتها، وفي كنيسة القيامة نفسها التي كان يعظ فيها، وامتد الهياج والسخط إلى كافة أنحاء البلاد، وسرعان ما دخل الموضوع في الفحص والتحقيق اللاهوتيين.

وكان القديس كيرلس الكبير إمام المتحمسين ، فابتدأ سنة 429م يراسل نسطور بخطابات ذات طابع عقائدي أرثوذكسي منقطع النظير، تعتبر خلاصة العقيدة الأرثوذكسية التي جنتها الكنيسة من كافة مصارعاتها الفكرية واللاهوتية والعقائدية مع الهرطقات منذ نشأتها. وقد ركز القديس كيرلس الكبير في أحد خطاباته على ما يجب أن يُقال وما لا يجب أن يُقال بخصوص إتحاد الطبيعتين، وذلك في هيئة قوانين ذات حرومات قاطعة ، وهو المسمى بـ «الخطاب الثالث لنسطور».

«وهذا الخطاب اعتُبر ضمن مقررات مجمع أفسس لتقرير الإيمان، لذلك كان موضع إحترام في مجمع خلقيدونية، ولو إنه كان إحتراماً صورياً، لأنه بالرغم من تعارضه الشديد مع طومس لاون الذي أخذ به مجمع خلقيدونية، فالمعروف أن مجمع خلقيدونية قبل طومس لاون ( بالرغم من رائحة النسطورية الزاعقة منه) على أساس خطاب القديس كيرلس الكبير ذي الإثني عشر حرماً (؟؟) وذلك طبعاً لتبرير قـانـونـيـة مجمع خلقيدونية حسب التقليد الكنسي، لأن المجمع المسكوني لا يكون صحيحاً إلا إذا أخذ بكافة قرارات المجامع السابقة له.»

كما قام البابا سيلستين في روما بعقد مجمع سنة 430م وحرم فيه نسطور. فإزاء هذا الإجماع الشديد ضد نسطور اضطر الإمبراطور ثيئوذوسيوس الثاني ـ وقد كان منحازاً لنسطور ـ إلى طلب عقد مجمع.

وقد انعقد المجمع في أفسس في 22 يونية وحكم على نسطور، ولكن ظل المجمع في ارتباك وتشويش بسبب تدخل الإمبراطور، وتشيع يوحنا أسقف أنطاكية لنسطور، حتى إن الإمبراطور حكم على القديس كيرلس الكبير بالسجن مدة. وأخيراً أمام الضغط الشعبي ومؤازرة البابا سيلستين للقديس كيرلس الكبير أصدر الإمبراطور الحكم على نسطور سنة 435 م بالنفي إلى ديره، ثم عاد سنة 436م وأصدر الحكم عليه بالنفي إلى صعيد مصر وحرق جميع مؤلفاته ومؤلفات معلمه ثيئوذور القس الأنطاكي الفيلسوف الذي كان قد مات منذ مدة طويلة .

وقد انجلى الموقف بعد هذا الصراع المرير ضد نسطور على تسجيل الخطابات التي أصدرها القديس كيرلس الكبير للدفاع عن العقيدة طيلة هذا النزاع، حيث اعتبرت كدستور للأرثوذكسية.

وكان أهم هذه الخطابات هو الخطاب الفصحي المشهور الذي أصدره سنة 429 م ، ثم الخطاب الذي أصدره بعد عقد مجمع محلي في الإسكندرية في أغسطس سنة 430 م وقد أرسله إلى القسطنطينية في نوفمبر و به الإثنا عشر حرماً مع شرح مطول للعقيدة و يسمى الخطاب الثالث أو Epistola Synodica ، وقد سبقه خطاب آخر شخصي لنسطور يشرح فيه القديس كيرلس الكبير دقائق العقيدة. وهذا الخطاب يدخل ضمن الوثائق الأرثوذكسية التي تأخذ بها كافة الكنائس الشرقية . ثم خطاب آخر أرسله لكنائس الشرق آسمه «المرسوم المقترح للإتحاد».

هذه الخطابات صارت بمثابة ملحق لقرارات مجمع أفسس تستخدمها الكنيسة اللاخـلـقـيـدونـيـة كـدسـتـور لاهوتى لها. هذا بخلاف عدة خطابات أخرى كتبها القديس كيرلس الكبير قبل وبعد المجمع الأفسسي، مليئة بالتعاليم والتفاسير اللاهوتية الدقيقة.

وفي كل دفاع القديس كيرلس الكبير وفي شرحه لإتحاد الطبيعتين وكيف صارا طبيعة واحدة من طبيعتين وتمسكه بالإصطلاح التاريخي المشهور «طبيعة واحدة الله الكلمة المتجسد»، لم يخرج القديس كيرلس قـط عـن مـا قـال بـه أثناسيوس. 

وبكل ما انتهى إليه مجمع أفسس تكون الكنيسة قد استوفت تفسير تقليدها الرسولي في قانون الإيمان الذي تسلمته كوديعة مقدسة وحددت عباراته واصطلاحاته اللاهوتية كعقيدة مستقرة ثابتة بالسلطان الكنسي القاطع.

أما مجمع خلقيدونية واجتماعه بسبب هرطقة أوطاخي، فلم يكن موفقاً في غرضه التقليدي، إذ انحرف عن مقررات مجمع أفسس. فلكي ينفي هرطقة أوطاخي الذي أنكر حقيقة وأصالة الجسد البشري الإنساني الذي للمسيح انحرف، بسبب طومس لاون ناحية النسطورية. ولقد جامل المجمع طومس لاون على حساب مقررات أفسس الهامة، وضحى بلاهوت القديس كيرلس الكبير الذي يمثل خلاصة التعليم الكنسي التقليدي ليناصر روما  ولكن للأسف، فإن روما خذلت القسطنطينية والشرق كله ، لا من حيث المجاملة، بل من حيث أصالة التقليد نفسه الذي ذهبت به يميناً وشمالاً أكثر مما يحتمل!!

لذلك، فالكنيسة اللاخلقيدونية التي يمثلها الأقباط والأحباش والسريان والأرمن، تقف في تقليدها الرسولي وتفسيرها العقائدي لقانون الإيمان عند مجمع أفسس متمسكة بكل قراراته مع المجامع السابقة عليه .

 

  1.  مات حوالي عام 450 م. ويُعتبر مؤسس معيار الحكم على ما هو تقليدي وما هو غير تقليدي في أمور الإيمان :
    فالتقليد الإيماني يرسو على ثلاث دعائم :
    أولاً : الإيمان الذي ساد في كل مكان.
    ثانياً : الإيمان الذي ساد في كل زمان .
    ثالثاً : الإيمان الذي ساد على كل مسيحي.
    وقد أخذت به الكنيسة، وسُمي قانون فنسنت فترة طويلة من الزمن. وهو راهب عاش في دير جزيرة Lerins، وتعيد له الكنيسة الغربية في 24 مايو، ويُعتبر دير الليرين من تأسيس القديس كاسيان ربيب أسقيط مصر والمتتلمذ على يدي الآباء الأقباط. لذلك يعتبر القديس فنسنت تلميذاً لتعاليم كاسيان المستمدة من مصر. 
  2.  لقد أوضح كثير من الآباء منذ البدء إيمانهم بلاهوت الروح القدس مثل ديديموس في رسالته عن الروح القدس (ترجمها القديس چيروم)، والقديس أثناسيوس في رسائله الأربع لسيرابيون، والقديس باسيليوس، والقديس غريغوريوس في عظة 31 عن الروح القدس والقديس غريغور يوس النيسي في عظته للموعوظين، والقديس أمبروسيوس في عظته عن الروح القدس.
  3. وهذا مما جعل القديس كيرلس الكبير يؤكد في خطابه أو في الإثني عشر حرماً أن إتحاد الكلمة بالطبيعة البشرية كان إتحاداً أقنومياً .

التقليد التفسيري يجمع شمل الكنيسةكتب القمص متى المسكينتفسير  التقليد الرسولي لقانون الايمان
كتاب التقليد وأهميته في الإيمان المسيحي
المكتبة المسيحية

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى