تفسير إنجيل متى ٢٦ للقمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح السادس والعشرون

فِصح الملكوت الجديد

دخل السيِّد أورشليم ليُحفظ كخروف الفِصح، مقدّمًا ذاته الذبيحة الفريدة عن البشريّة كلها، وحياته فدية عن الجميع. 

1. الفِصح والصليب 1-2. 

“لما أكمل يسوع هذه الأقوال كلها قال لتلاميذه: 

تعلمون أنه بعد يومين يكون الفِصح، 

وابن الإنسان يسلّم ليصلب” [1-2]. 

في حديث السيِّد المسيح مع تلاميذه يربط الفِصح بالصليب بكونه الفِصح الفريد الذي قدّمه السيِّد بنفسه، ليعبُر بالبشريّة المؤمنة من العبوديّة القاتلة إلى الراحة الحقيقيّة، ويرفعهم من الاهتمام بالحياة الأرضيّة ليدخل بهم إلى حضن أبيه. وقد سبق لنا دراسة هذه العلاقة أثناء دراستنا الاصحاح الثاني عشر من سفر الخروج. 

v يتحقّق سرّ الفِصح في جسد الرب… فقد أُقتيد كحَمل، وذُبح كشاه، مخلِّصًا إيّانا من عبوديّة العالم (مصر)، ومحرِّرنا من عبوديّة الشيطان كما من فرعون، خاتمًا نفوسنا بروحه، وأعضائنا الجسديّة بدمه… إنه ذاك الواحد الذي خلَّصنا من العبوديّة إلى الحرّية، ومن الظلمة إلى النور، ومن الموت إلى الحياة، ومن الظلم إلى الملكوت الأبدي. 

الأب ميليتو أسقف ساردس

v إننا نعبُر من محبَّة الجسد إلى العفَّة، ومن جهلنا القديم إلى معرفة الله الحقيقيَّة، ومن الشرِّ إلى الفضيلة على رجاء الدخول إلى أمجاد البرّ عِوض عار الخطيّة، ونعبر من الموت إلى عدم الفساد. 

القدّيس كيرلّس الكبير

2. التشاور ضدّه 3-5.

“حينئذ اجتمع رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب 

إلى دار رئيس الكهنة الذي يُدعى قيافا، 

وتشاوروا لكي يمسِكوا يسوع بمكر ويقتلوه، 

ولكنهم قالوا ليس في العيد لئلا يكون شغَب في الشعب” [3-5]. 

تهتم الكنيسة بهذا التصرّف، فكرَّست يوم الأربعاء على مدار السنة فيما عدا أيام الخماسين، لكي يصوم المؤمنون تذكارًا لهذا التشاور. لقد اجتمعت السلطات الدينيّة معًا ليدبِّروا قتله عِوض أن يشهدوا للحق ويكرزوا به. كان يليق برئيس الكهنة الذي يشفع في الشعب أن يفرح بمجيء رئيس الكهنة الأعظم القادر وحده أن يدخل بالجميع إلى حضن أبيه السماوي، ويليق بالكتبة أن يتهلّلوا، لأن ما كانوا يحفظونه على الرقوق – أي كلمة الله المكتوبة – قد تحقّق بمجيء الله المتجسّد ليحل وسط الشعب، يلتقون به ويتحدّون معه، وكان يلزم لشيوخ الشعب وهم يرون الشعب قد اِلتف حول الملك المسيّا أن يتهلّلوا. كنّا نتوقع أن يجتمع هؤلاء جميعًا في دار رئيس الكهنة يُعلنون فرحهم بالمسيّا الملك الذي يُحقّق ما عجزوا عنه هم وأسلافهم، لكن شكليّة العبادة وحرفيّة الناموس وطلب الكرامات الزمنيّة والجري وراء الكراسي، هذه كلها قد أغلقت قلوبهم عن الحق، فسعوا وراءه ليقتلوه. حقًا لقد اِجتمعوا معًا في دار رئيس الكهنة يضمُّهم معًا فهمِهم الحرفي القاتل والتصميم على تدبير مؤامرة لقتل “الحياة” عينَه، ولم يدروا أن ما يفعلونه إنّما يقتل حَرْفهم القاتل، لقد ظنّوا أنهم قادرون على قتل الحياة بالصليب، ولكن كان هذا الصليب وحده القادر أن يصلِب حَرْفهم القاتل واهبًا إيّاهم الروح الذي يبني. لقد حسبوا أنهم قادرون أن يكتموا أنفاس النور بظلمتهم، ولم يدركوا أن النور يبدّد ظلمتهم ليستنيروا هم بنوره. 

لقد خافوا من الشعب المجتمع للاحتفال بعيد الفِصح السنوي، ولم يُدركوا أنهم بهذا التشاور ساهموا في تحقيق الفِصح الجديد الفريد، القادر أن يعبّر بهم من الحرف القاتل إلى الروح المحيي. 

v وقف حشد اليهود مع رئيسهم ضدّ مجد المسيح، وناضلوا ضدّ رب الجميع، لكنهم لم يُدركوا أنهم إنّما فعلوا ذلك ضدّ أنفسهم، ناصبين لأنفسهم الشباك. لقد حفروا لأنفسهم حُفرًا لهلاكهم، وكما يقول المرتّل: تورَّطت الأمم في الحُفرة التي عملوها، في الشبكة التي أخفوها اِنتشبت أرجلهم” (مز 9: 15)، لأن المخلّص رب الكل وإن كانت يمينه كليّة القُدرة وقوّته تطرد الفساد والموت، لكنّه خضع بإرادته، إذ صار جسدًا ليذوق الموت من أجل حياة الكل، لكي يُبطل الفساد، وينزع الخطيّة عن العالم، ويخلّص الذين هم تحت يد العدوّ الطاغية غير المحتمل. 

القدّيس كيرلّس الكبير

3. سكب الطيب لتكفينه 6-13.

كانت الأحداث تتكاتف معًا لتحقيق الفِصح بالصليب، الأمر الذي من أجله تجسّد ابن الله. ففي بيت عينا في بيت سمعان الأبرص تقدّمت امرأة لتسكب قارورة طيب كثير الثمن وهو متكئ – كنبوّة عن تكفينه – وكأن ما فعلته هذه المرأة يمثّل عمل محبّة تقدّمه الكنيسة كلها لهذا الجسد الطاهر، الذي قبل الموت بإرادته من أجل خلاصها، كسِرّ الفِصح الحقيقي. 

كثيرات اِلتقيْن بالسيِّد المسيح ممثِّلات الكنيسة المتَّحدة بعريسها، أمّا هذه فتبدو لي أنها فاقت جميعهن بعد القدّيسة مريم والدة الإله التي حملت ربّنا في أحشائها لتُمثل الكنيسة وقد صارت ملكوته، تحمل في داخلها سرّ حياتها وبهجتها. 

التقت الكنيسة التي لم يروها من قبل بعريسها، خلال المرأة السامريّة (يو 4) التي تزوَّجت بخمسة رجال والذي كان معها ليس برجلها، فجاء الرجل الحق يدخل بها إلى البئر الحقيقي ليُرويها فتفيض على كل العالم بسرّ شبعها. 

وفي وسط زحام البشريّة التقت كنيسة العهد الجديد سرّيًا مع طبيبها الحقيقي تلمس ثيابه، فيتوقّف نزف دمها (مت 9) ويزول عنها دنسها، خلال القوّة التي انطلقت إلى أعماقها الداخليّة!

وتقدّمت الكنيسة التي كانت قبلاً قد سقطت تحت حكم الموت كامرأة زانية أُمسِكت في ذات الفعل (يو 8: 2-11) فاغتصبت مراحمه الغافرة.

وانطلقت الكنيسة كأرملة فقيرة تدخل هيكل الرب لا تعرف ما تقدّمه سوى فِلْسين، هما كل ما تملكه كتقدِمة حب مقبولة!

والتقت الكنيسة كأم ابني زبدي تقدِّم أبناءها للعريس، لكي ينعموا بملكوته الأبدي خلال شركتهم معه في كأسه واِصطباغِهم بصِبغتِه. 

وفي شخص مرثا تقدّمت الكنيسة تخدم عريسها (لو 10) في شخص اخوته الأصاغر، كتقدّمة محبّة فائقة. 

وفي بيت سمعان الفرّيسي اقتحمت المرأة الخاطئة المجلس (لو 7) لتقف عند قدميّ السيِّد من ورائه باكية، وكانت تَبِل قدميه بالدموع وتمسحهما بشعر رأسها، تُقبِّل قدميه وتدهنهما بالطيب (لو 7: 38) ممثّلة سرّ العضويّة الكنسيّة. إنه دخول إلى السيِّد المسيح لتلتقي به دون أن تعوقها الحياة الفرّيسيَّة التي لسمعان. فتقف النفس في اتّضاع تسكب دموع التوبة على قدمي المخلّص، وتنحني برأسها أيضًا، فكرها وشعرها أيضًا، جمالها الجسدي تمسح به القدمين. أنها تُعلن توبتها الممتزجة بالفرح، إذ تُقبِّل قدميه وتسكب الطيب عليهما، فتُعلن رائحة المسيح الذكيّة في حياتها. 

أما هذه المرأة التي التقت بالسيِّد في بيت عنيا في بيت سمعان الأبرص، فجاءت تُعلن أروع لقاء للعروسين – الكنيسة مع عريسها – في حِجالِه السماوي لتسكُب كل حياتها رائحة طيب كثير الثمن يملأ السماء والأرض برائحة الحب الذكيّة ـ ما جاء عن هذا اللقاء يدخل بنا إلى أسرار فائقة، أقف أمامها في دهشة لا أعرف كيف أُعبِّر عنها. أنها تحمل سرّ حياة أبديّة لا يمكن للغة البشريّة أن تُسجّلها كما هي!

أولاً: هذه المرأة غالبًا هي القدّيسة مريم أخت لعازر ومرثا، والتي عُرفت بجلساتها الهادئة عند قدميّ المخلّص تسمع له وتتحدّث معه، بينما كانت مرثا ترتبك بخدمات كثيرة. لقد عرَفت كيف تبيع كل شيء لتقتني اللؤلؤة الكثيرة الثمن.

خلال لقائها المستمر مع السيِّد تعرَّفت على سرّ الصليب وأدركت موته وتكفينه، لا كأحداث تاريخيَّة تترقبْها في تخوُّف واضطراب، وإنما كأعمال إلهيّة فائقة. لهذا كانت تبذل كل الجهد أن تدَّخِر كل ما يمكن ادِّخاره لتقدِّم قارورة الطيب الكثيرة الثمن في الوقت المناسب وفي المكان المناسب. ففي قارورة الطيب رأى السيِّد قلب الكنيسة عروسه وقد أدركت سرّ موته، كسرّ طيب مفرح ومبهج للنفس، لهذا أعلن بقوَّة أنه حيثما يُكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يُذكر ما فعلته هذه المرأة. ويقول الإنجيلي مرقس أنها كسرت القارورة! يا له من سرّ عجيب، فإن الكنيسة وقد رأت السيِّد يقدّم حياته مبذولة على الصليب، وينابيع حبّه لها تتفجَّر خلال الجنب المطعون، تقدّمت هي أيضًا في شخص مريم كقارورة طيب تكسرها بإرادتها لتُفجِّر رائحة حبّها خلال الطيب. وهكذا يمتزج الحب بالحب، والألم بالألم، والصليب بالصليب، والجنب المطعون بالقارورة المنكسرة والمسكوبة على الجسد المقدّس!

ثانيًا: تمّ اللقاء في بيت عنيا في بيت سمعان الأبرص. إنه “بيت عنيا” موطن مريم، جاء إليه السيِّد مفضِّلاً إيّاه عن أورشليم، فيه يستريح كل ليلة. “بيت عنيا” تعني “بيت العناء” أو “بيت الألم”، فقد جاء إلينا إلى أرض آلامنا، لكي نلتقي به خلال الألم، نُدرك دفنه، لنُدفن معه، نقدّم له حياتنا مبذولة من أجله. 

اِلتقت به في بيت سمعان الأبرص، ولعلّ سمعان هذا كان أبرصًا طهَّره السيِّد. لقد جاء إلينا، إلى حياتنا البرصاء الدنسة لا ليحتقرها ولا ليأنف منها لأنها لا تقدر أن تُدنِّس القدّوس بل هو يطهرها. هنا تلتقي الكنيسة مقدَّسة وطاهرة بعريسها المتكئ في بيتها لتقدّم له تقدمة شكر! وكما لم تستطيع فرّيسيَّة سمعان أن تحرم المرأة الخاطئة من الالتقاء به لتقدِّم توبتها (لو 7)، فإنه لم يكن ممكنًا لبرص سمعان هنا إعاقة اِلتقاء مريم الشاكرة بمصدر تقديسها.

ثالثًا: كان توقيت اللقاء دقيقًا للغاية، فقد جاء بعد إقامة لعازر شقيقها من الأموات كتقدّمة شكر. فرحت بإقامة أخيها من القبر فجاءت بإرادتها لكي تُدفن هي مع عريسها في القبر المقدَّس وتقوم به وفيه. في آخر يوم يأتي فيه السيِّد إلى بيت عنيا، إذ كان ذلك يوم الأربعاء بعد تشاور القادة اليهود لقتله، ولم يبق سوى خميس العهد حيث يُقبض على السيِّد لمحاكمته وصلبه، فلو تأخَّرت يومًا واحدًا لما نالت هذه الكرامة العظيمة، لما استحقَّت أن تتنبَّأ عن تكفينه. إنه بالروح الإلهي أدركت في أعماقها الوقت اللائق للالتقاء به بهذه الصورة الفريدة. 

v لقد قبِل السيِّد أن يُسكب الطيب فوق رأسه حتى يُعطِّر الكنيسة بنسائم عدم الفساد. لا تدهنوا بعفونة تعليم رئيس هذا العالم (إبليس) لئلا يقودكم إلى الأسْر بعيدًا عن الحياة المُعدَّة لكم. 

القدّيس أغناطيوس أسقف أنطاكية 

v المسيح ليس في حاجة إلى طيب، ولا الشهداء في حاجة إلى نور الشموع، لكن المرأة سكبت الطيب تكريمًا للمسيح فقبِل ورَع قلبها. 

القدّيس جيروم

4. خِيانة يهوذا 14-16.

يقول الأب يوسف: [أي شيء يمكن أن تقدّمه أكثر فائدة للعالم كلّه مثل بركات آلام الرب المخلِّصة؟! ومع هذا فإن الخائن الذي سلَّم الرب للآلام لم ينتفع شيئًا من خيانته، بل أصابه ضرر بالفعل، إذ قيل عنه “ويل لذلك الرجل الذي به يُسلَّم ابن الإنسان، كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد” (مت 26: 24). فثِمار عمله لا ترتد إليه حسب ما جاءت به من نتائج فعليّة، بل حسب ما أراد هو واِعتقد.] 

في الوقت الذي تسلَّلت فيه القدّيسة مريم لتلتقي مع عريسها في بيت عنيا، تُعلن شوقها أن تُدفن معه، إذ بيهوذا “التلميذ” يبيع السيِّد بدراهم قليلة كعبد. لقد كان يهوذا مع السيِّد أغلب الأيام يقضي الساعات الطويلة، بل وأحيانًا الأيام، يراه يصنع أعمالاً عجيبة ويسمعه كثيرًا، بل ونال منه سلطانًا للكرازة وعمل الآيات، لكن قلبه لم يلتقي معه بسبب محبّة المال، أمّا المرأة فلم ترى هذا كلّه ولا سمعت مثله ولا نالت سلطانًا، لكنها تعرَّفت عليه بنقاوة قلب. لقد أعمى الطمع قلب يهوذا ليبيع سيّده، أمّا المرأة فتقدّمت بالحب في حرارة الروح لتتقبّل عمل الخلاص وحق الكرازة الخفيّة. 

لم تكن مريم كيهوذا تنعم بالتملذة… فإن سرّ القوّة لا يكمن في مركز الإنسان أو عمله، بل في حياته الداخليّة… يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [الإنسان الفاضل وإن كان عبدًا أو سجينًا فهو أكثر الناس سعادة!… ضعيفة هي الرذيلة وقويّة هي الفضيلة.]

لقد قدّمت مريم غناها عطيّة للرب لتبقى غنيَّة في داخلها، حتى وإن بدت بلا أموال، وباع يهوذا سيّده بالفضّة ليبقى فقيرًا حتى وإن تمتّع بالفضّة في يديه. وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [من هو ليس غنيًا في نفسه لا يمكن أن يكون غنيًا، كما أنه لا يمكن أن يكون فقيرًا من هو ليس بفقيرٍ في ذهنه. فإن كانت النفس هي أسمى من الجسد، فالأعضاء الأقل سُموًا ليس لها سلطان تؤثّر به حتى على ذاتها، أمّا ما هو أسمى فإنه يؤثر عليها ويغيِّرها]، كما يقول: [لا نفع للمال إذا كانت النفس فقيرة، ولا ضرر من الفقر إن كانت النفس غنية.] 

إن كانت القدّيسة مريم تمثِّل النفوس الأمينة التي تتقدّم بالحب إليه. فإن يهوذا يمثّل النفوس الخائنة التي تسعى وراء الشرّ وتبيع سيّدها بمُتعة زمنيّة. 

يلزمنا هنا أن نُدرك أنه ليس كل خطيّة يسقط فيها الإنسان هي خيانة الرب، وإنما الجري وراءها والبحث عنها، يطلبها الإنسان مستهينًا بالدم، فهذه تُحسب خيانة! 

v اليد التي تناولت العطيّة المقدّسة منذ لحظات قامت لتتسلَّم أجرة تآمرها لموت سيّدها. 

القدّيس كيرلّس الأورشليمي

v عندما أعدَّ التلاميذ الفِصح أكله المسيح معهم، إذ أطال أناته على الخائن، وقبل أن يضمه إلى مائدة محبّته المترفِّقة اللانهائية – مع أنه كان خائنًا، وكان الشيطان قد وجد له موضعًا فيه.

v يقول “واحد من الاثنى عشر” (26: 14، 47). هذا أمر غاية في الأهمّية إذ يوضّح خطيّة الخيانة بأكثر جلاء. فإن الذي كرَّمه مساويًا إيّاه بالبقيَّة، وزيّنه بالكرامات الرسوليّة، وجعله المحبوب وضمّه للمائدة المقدّسة… صار طريقًا ووسيلة لقتل المسيح. 

v أي موضع وجده الشيطان في يهوذا؟ إنه لم يقدر أن يقترب إلى كل الذين أشرت إليهم (الطوباوي بطرس أو يعقوب أو يوحنا…) لأن قلوبهم كانت راسخة ومحبّتهم للمسيح ثابتة، لكن الشيطان وجد له موضعًا في الخائن، من أجل مرض الطمع المرّ الذي يقول عنه الطوباوي بولس “أصل كل الشرور ( 1تي 6: 10) كان قد هزمه. 

القدّيس كيرلّس الكبير

5. تقديم الفِصح 17-25.

كلما اقتربت ساعة الصليب كان الإنجيليُّون يبرزون كل تصرُّف للسيِّد المسيح بتفاصيله، لتكشِف عن أسرار عمله الخلاصي. 

في أول أيام الفطير تقدّم التلاميذ إلى يسوع، قائلين له:

أين تريد أن نُعد لك لتأكل الفِصح؟ 

فقال اذهبوا إلى المدينة إلى فلان وقولوا له:

المعلّم يقول: إن وقتي قريب، 

عندك أصنع الفِصح مع تلاميذي، 

ففعل التلاميذ كما أمرهم يسوع وأعدّوا الفِصح” [17-19]. 

لِمَ سأل التلاميذ السيِّد هذا السؤال؟ 

أولاً: ربّما لأن التلاميذ إذ تبعوا السيِّد تركوا كل شيء، فصاروا كمن ليس لهم موضع يُعدُّون فيه الفِصح. يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [من هذا يتَّضح أنه لم يكن له بيت ولا مكان للإقامة، كما يُفترض أنهم هم أيضًا كانوا هكذا، وإلا لتوسَّلوا إليه أن يذهب هناك.] 

ثانيًا: كان الفِصح في الطقس اليهودي يتمّ على مستوى عائلي، تقوم كل عائلة بذبح خروف الفِصح، وإن لم يكن في استطاعة العائلة ذلك يمكنها أن تنضم إلى عائلة أخرى، لكن السيِّد المسيح قدّم مفهومًا جديدًا للفِصح الجديد، فإن العائلة التي تحتفل به، إنّما رأسها السيِّد المسيح نفسه، وأعضاؤها يرتبطون بعلاقة روحيّة في المسيح، وليس خلال قرابة دمويَّة. 

ولما كان المساء اِتَّكأ مع الاثني عشر، 

وفيما هم يأكلون قال: 

“الحق أقول لكم إنَّ واحدًا منكم يسلّمني” [20-21].

العجيب أن السيِّد تحدّث عن خائنه وسط الجماعة دون أن يُشير إليه، كان مهتمًّا بخلاص نفسه دون أن يجرح إحساساته، ولكن إذ رأى السيِّد أن التلاميذ حزنوا جدًا، وابتدأ كل واحد منهم يقول له: “هل أنا هو يا رب” [22]، خاف السيِّد عليهم من هذا الاضطراب لئلا يهلكوا يأسًا، فاضطّرّ أن يُشير إليه. 

ولئلا يظن التلاميذ أن ما يحدث للسيِّد يتم عن ضعف أكَّد: “إن ابن الإنسان ماضٍ كما هو مكتوب عنه، ولكن ويل لذلك الرجل الذي يُسلِّم ابن الإنسان، كان خيرًا لذلك الرجل لو لم يولد” [24]. لقد أعلن السيِّد بؤس يهوذا حتى يؤكِّد أن ما يتم وإن كان بتدبيرٍ إلهيٍ لكن ما يفعله يهوذا لا يتم بغير إرادته؛ لقد كان يهوذا شرِّيرًا وقد استخدم الله شرُّه لتحقيق الأمور الإلهيّة. 

6. العشاء الأخير 26-30.

إذ كانوا يأكلون الفِصح اليهودي الرمزي “أحضر يسوع الخبز، وبارك وكسَّر وأعطى التلاميذ، وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي، وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: اشربوا منها كلّكم، لأن هذا هو دمي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا” [26-28]. 

يُعلّق القدّيس كيرلّس الكبير على العشاء الأخير، قائلاً: [بأيَّة وسيلة يمكن للإنسان الذي على الأرض وقد اِلتحف بالمائت أن يعود إلى عدم الفساد؟ أجيب أن هذا الجسد المائت يجب أن يشترك في قوّة واهب الحياة النازلة من الله. أمّا قوّة واهب الحياة التي لله الآب فهي الابن الوحيد الكلمة، الذي أرسله إلينا مخلّصًا وفاديًا. كيف أرسله إلينا؟ يخبرّنا يوحنا الإنجيلي بكل وضوح: والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا (يو 1: 14)… عندما نأكل جسد المسيح المقدّس، مخلّصنا جميعًا، ونشرب دمه الكريم ننال الحياة فينا، إذ نكون كما لو أننا واحد معه، نسكن فيه وهو يملك أيضًا فينا… لا تشك فإن هذا حق مادام يقول بنفسه بوضوح: “هذا هو جسدي، هذا هو دمي” (يو 6)، بل تقبل كلمة المخلّص بإيمان، إذ هو الحق الذي لا يقدر أن يكذب .]

لقد تحقّق ذلك في المساء [20] وكما يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [المساء علامة أكيدة عن تمام الأزمنة، وأن الأمور قد جاءت الآن إلى ذات النهاية .]

إذ أكمل السيِّد الفِصح حتى لا يُحسب متراخيًا في الشريعة، قدّم ذاته فِصحًا جديدًا عن البشريّة كلها، معلنًا أن ذبيحة الصليب لم تتم اعتباطًا وإنما بإرادته يسلّم نفسه للصليب. قام بتحويل الخبز والخمر إلى جسده ودمه الأقدسين ذبيحة حقيقيّة واهبة للغفران [28]. لقد قدّمها لكنيسته لكي تتمتّع بها عبر الأجيال تأكيدًا لاستمرار ذبيحة الصليب، كذبيحة حيّة وفريدة خلالها ينعم على المؤمنين بجسده ودمه الأقدسين كسِرّ حياتهم… يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم: [كثيرون يقولون الآن أرغب في رؤية هيئته وملابسه ونعاله، آه ها أنت تراه وتلمسه وتتناوله! حقًا أنت تريد ملابسه وها هو يعطي لك ذاته، لا لكي تراه فحسب بل تلمسه وتتناوله وتقبله في داخلك.]

يكمّل السيِّد كلماته: “وأقول لكم إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرْمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدًا في ملكوت أبي” [29]. ما هو هذا الجديد الذي نشربه معه في ملكوت أبينا إلا تمتّعنا بشركة الاتّحاد مع الله في ذبيحة ابنه في السماوات على مستوى جديد. إنه اِمتداد لليتورجيّة الحاليّة ولكن بطريقة لا ينطق بها!

بعد التناولسبَّحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون” [30]. لقد تمَّت ذبيحة الشكر لتختم بالتسابيح، الأمر الذي تعيشه الكنيسة في كل قداس إلهي حيث تختم ليتورجيَّا الإفخارستيا بالتسابيح المفرحة خاصة المزمور 150. 

7. تحذيرهم من الشك 31-35.

إذ اِنطلق السيِّد بتلاميذه إلى جبل الزيتون فقد انطلق بإرادته ليتقبّل الكأس من يدي الآب، حيث يقبل أن يحمل ثقل خطايانا على كتفيه مقدّمًا نفسه ذبيحة إثم عنّا. 

في طريقه إلى الصليب حذّر تلاميذه وشجَّعهم محدِّثًا إيّاهم عن الصليب والقيامة معًا، إذ يقول: “كلّكم تشكّون فيّ في هذه الليلة، لأنه مكتوب أني أضرب الراعي فتتبدّد خراف الرعيّة، ولكن بعد قيامي أسبقُكُم إلى الجليل” [31-32]. بالصليب أراد العدوّ أن يضرب الراعي ليُبدّد خراف الرعيَّة، لكن قد تحوّل الصليب إلى قيامة، فيسبقنا السيِّد إلى الجليل. ولما كانت كلمة “جليل” تعني “دائرة أو مقاطعة”، فكأن السيِّد بقيامته قد سبقنا إلى دائرة جديدة أو مقاطعة جديدة. إنه بكر الراقدين الذي يحمل فيه الحياة المقامة لكي ندخل به وفيه إلى دائرة هذه الحياة الجديدة المقامة. 

لقد ظنّ بطرس الرسول أنه قادر أن يقف بجانب السيِّد ولا يشك فيه أبدًا، لكن ما لم يعرفه بطرس عن نفسه كان يعرفه خالقه مؤكدًا له: “الحق أقول لك أنك في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك تُنكرني ثلاث مرّات” [34]. لقد كان بطرس واثقًا في ذاته بغير أساس، إذ قال: “ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك” [36]. وما قاله بطرس الرسول قاله أيضًا جميع التلاميذ. 

ما أحوجنا أن نرتمي في حضن الله العارف بضعفنا، فلا نثق بذواتنا بل في نعمة الله القادرة أن تقيمنا من الضعف. قد نظن أننا قادرون على الحياة الفاضلة المقدّسة، ولا ندري أننا ضعفاء كل الضعف يمكن أن نسقط في لحظات! وكما يقول القدّيس كيرلّس الكبير: [ليتنا لا نفتخر بأنفسنا بل بالأحرى نفتخر بعطاياه.]

والعجيب أن السيِّد المسيح الذي حذّر تلميذه من نتيجة تجربة الشيطان له إذ ينكره ثلاث مرّات أعطاه كلمة تعزية أنه يعود فيقوم بل ويسند إخوته (لو 22: 31-34). 

8. في جثّسيماني 36-46.

إذ جاء السيِّد بتلاميذه إلى جثسيماني، قال للتلاميذ: “اِجلسوا ههنا حتى أمضي وأصلِّي هناك، ثم أخذ بطرس وابنيّ زبدي، واِبتدأ يحزن ويكتئب” [36-37].”جثسيماني” كلمة آراميَّة تعني “معصرة زيت”. وكأن السيِّد يدخل بإرادته إلى المعصرة. ولم يكن ممكنًا للتلاميذ أن يدخلوا معه، إنّما اختار بطرس وابنيّ زبدي كشهود يرونه إلى حين، لكنهم لا يستطيعوا أن يعاينوا لحظات العصر، فقد تركهم قليلاً وسألهم أن يسهروا فلم يستطيعوا، بل ناموا. وتكرّر الأمر ثانية، فكان يسألهم أن يسهروا معه ولم يقدروا، وفي المرة الثالثة قال لهم: “ناموا الآن واستريحوا” [40]. 

بروح النبوّة رآه إشعياء النبي في جثسيماني وقد اِجتاز المعصرة الحقيقية، فقال “من ذا الآتي من آدوم بثياب حُمر… من بصرَة هذا البهي بملابسه.. المتعظِّم بكثرة قوّته؟! أنا المتكلِّم بالبرّ، العظيم للخلاص. ما بال لباسَك مُحمر، وثيابك كدائِس المِعصرة؟! قد دُستُ المِعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد” (إش 63: 1-3). 

لقد اجتاز السيِّد المِعصرة وحده وهو يقول: “نفسي حزينة جدًا حتى الموت” [38]. أمّا سِرّ حزنه فهو ليس الخوف من الآلام الجسديّة، إنّما ثقل الخطيّة التي لا يقبلها السيِّد ولا يطيقها، لكنّه من أجل هذا جاء، ونيابة عنّا خضع في طاعة للآب ليحمل موت الخطيّة فيه. إنه يصرخ: “يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنِّي هذه الكأس، لكن ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت” [39]. وكما يقول القدّيس أغسطينوس: [إن إرادة الآب وإرادة الابن واحدة لأن لهما روح واحد، لماذا إذن قال هذا؟ لقد جاء نيابة عنّا نحن الذين رفضنا إرادة الله فخضع للصليب بسرور من أجل الطاعة للآب، وفي نفس الوقت كان يريد ذلك. هذا ما أعلنه السيِّد نفسه بقوله: هكذا أحبَّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد” (يو 3: 16). وكأن البذل هنا هو من إرادة الآب المحب. وفي نفس الوقت يقول الرسول: أحبَّني وأسلم نفسه لأجلي (غل 2: 20)، باذلاً نفسه المملوءة حبًا.] 

v من المستحيل أن ابن الإنسان كان يقول: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنِّي هذه الكأس، تحت إحساس بالخوف!… فالرب يسوع لا يستعفي من ذبيحة الموت حتى تصل نعمة الخلاص للجنس البشري كله. 

العلاّمة أوريجينوس

v “نفسي حزينة جدًا حتى الموت”. لنقدّم الشكر أن ليسوع جسد حقيقي ونفس حقيقيّة، فلو أن الرب لم يأخذ الطبيعة الإنسانيّة بكاملها لما خلّص البشريّة. لو أنه أخذ جسدًا فقط بلا نفس لخلص الجسد دون النفس مع أننا نحتاج إلى خلاص النفس أكثر من خلاص الجسد. لقد أخذ الجسد والنفس معًا ليخلّصهما، يخلّص الإنسان بكامله كما خلقه. 

القدّيس جيروم

v بكونه الله الذي لبس جسدًا قام بدور الضعف الجسدي حتى لا يوجد عذر لدى الأشرار مُنكري التجسّد. فمع قوله هذا إذا بأتباع ماني لا يصدّقون، وفالنتيوس ينكر التجسّد، ومرقيون يَدَّعي أنه كان خيالاً… لقد أظهر نفسه أنه يحمل جسدًا حقيقيًا. 

القدّيس أمبروسيوس 

يرى القدّيس كيرلّس الكبير أن سرّ حزن السيِّد المسيح هو رفض إسرائيل ابنه البكر له، إذ يقول:

v كما بكى على لعازر في ترفُّق بالجنس البشري كلّه بكونه صار فريسة للفساد والموت، هكذا نقول أنه حزن هنا إذ رأى أورشليم، وقد أحاطت بها المآسي الكبرى، ولم يعد لمصائبها علاج. 

v لم تكن آلامه عملاً تحقّق بغير إرادته، لكن من جانب آخر كانت خطيرة، إذ تؤدي إلى رفض مجمع اليهود وخرابه. لم تكن إرادته أن يكون إسرائيل قاتلاً لربِّه، معرِّضًا نفسه للدينونة واللوم والحرمان من عطايا الله… بينما كانوا قبلاً شعبه، وحدهم كانوا شعبه ومختاريه وورثة!

القدّيس كيرلّس الكبير

لقد دخل السيِّد إلى صلاة أيضًا لتعليمنا، إذ يقول لتلاميذه: “اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة، أمّا الروح فنشيط، وأما الجسد فضعيف” [41].

يقول القدّيس جيروم: [بينما روحي قويّة تقودني للحياة، إذ بجسدي ضعيف يسحبني للموت.] فالحاجة ملحَّة إلى الصلاة ليسند الله روحنا ويقيم جسدنا من ضعفه. ويحدّثنا القدّيس كيرلّس الكبير عن ضرورة اقتدائنا بالسيِّد وقت التجربة، قائلاً: [كان يصلّي عندما كان الذين يريدون أن يمسكوه على الأبواب. لا يفهم أحد أنه يقدّم هنا توسُّلات كمن هو في حاجة إلى قوّة أو عون من آخر، إذ هو نفسه قوّة الله الآب القدير وسلطانه، إنّما صنع ذلك لتعليمنا، لكي ينزع عنّا التراخي عند حلول التجربة، وعندما يضغط الاضطهاد علينا وعندما تلقى شباك الغدر ضدّنا، وتكون شبكة الموت مُعدَّة لنا. فإن وسيلة خلاصنا هي السهر وإحناء الركب وتقديم التوسُّلات وسؤال العون من فوق حتى لا نضعف ويصيبنا هلاكًا مرعبًا.] 

إن كان السيِّد قد سألهم أن يسهروا، لكن بعد أن صلَّى ثلاث مرّات عاد إليهم وهو يقول: “ناموا الآن واستريحوا، هوذا الساعة قد اقتربت، وابن الإنسان يسلّم إلى أيدي الخطاة” [45]. إذ يسلّم السيِّد نفسه للموت ننام نحن ونستريح، إنه علّة راحتنا، يدخل إلى الصليب ليدفع الدين عنّا، يتألّم فنستريح، ويصلب فنكلّل!

9. القبض على السيِّد 47-56.

كان لابد للسيِّد المسيح وقد احتل آخر الصفوف – ليحمل آلامنا ويشرب عنّا الكأس حتى النهاية – أن يتقبّل الألم على يديّ أحد تلاميذه، وخلال قُبلة ليكون الجرح غاية في المرارة. لقد رآه النبي مجروحًا فسأله: “ما هذه الجروح في يديك؟” (زك 13: 6) فيجيب السيِّد في مرارة: هي التي جُرحتُ بها في بيت أحبائي (زك 13: 6). وتزداد الجراحات مرارة أنها جاءت مغلَّفة بغلاف الحب الغاش، والكلمات الليِّنة التي تحمل وراءها سُم الشرّ. ونحن أيضًا إذ نتَّحد بالسيِّد المسيح يلتقي بنا من هو من “أهل بيتنا“، كيهوذا مقاطعًا روح الحق فينا، إذ يقول: “أعداء الإنسان أهل بيته”. 

لقد أعطى السيِّد الفرصة الأخيرة ليهوذا فإنه حتى في لحظات القبض عليه عاتبه بكلمات لطيفة: “يا صاحب لماذا جئتَ؟!” [50].

بقُبلة سلَّم يهوذا سيّده وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [إنك تقدّم قُبلة يا من لا تعرف سرّ القُبلة، فالمطلوب ليس قُبلة الشفتين وإنما قُبلة القلب والنفس.]

مدّ بطرس الرسول يده واستل سيفه ليضرب ملْخَس عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه [51]…، فأمره السيِّد أن يرد سيفه إلى غِمده وشَفى أُذن العبد، قائلاً: “لأن كل الذين يأخذون بالسيف فبالسيف يُأخذون، أتظن إنّني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيُقدّم لي أكثر من اِثني عشر جيشًا من الملائكة، فكيف تكمل الكتب إنه هكذا ينبغي أن تكون؟! [52-54]

حينما يستخدم الإنسان العنف في خدمته تحت ستار الدفاع عن السيِّد المسيح الحق، إنّما يكون كبطرس الذي يضرب بالسيف فيقطع أُذن العبد ويفقده الاستماع لصوت الكلمة. كلمة العنف تُزيد المقاومين عنادًا، تفقدهم سمعهم الروحي للحق، فلا يشتهوا الرجوع عن مقاومتهم ولا يتوقون للحق. 

بسرور احتمل السيِّد جراحات مقاوميه لكنّه لم يحتمل دفاع تلميذه عنه بالسيف، فإن ما حمله بطرس من مرارة تجاه صالبي السيِّد كان في نظره أمر من سيف الأشرار. كما يقول القدّيس أمبروسيوس: [لا يريد المسيح أن يُدافع عنه ضدّ جراحات المضطهد، بل أراد أن يشفي الكل بهذه الجراحات.]

v لم يرد لنا أن نستخدم السيوف في مقاومة أعدائنا بل بالأحرى نستخدم الحب والوقار، فنكسب من هم ضدّنا. يعلّمنا بولس تعليمًا مشابهًا بقوله: هادمين ظنونًا وكل علوّ يرتفع ضدّ معرفة الله ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح” (2 كو 10: 5)، لأن الحرب من أجل الحق روحيّة والسلاح الذي يجعلنا قدّيسين عقلي ومملوء محبّة الله. 

القدّيس كيرلّس الكبير 

v لقد قطع بطرس الأذن اليُمنى لعبد رئيس الكهنة، وكان هذا العمل بمثابة علامة على عجز اليهود عن السمع الجيد، لأنهم لهم ينصتوا جيدًا لكلمات المسيح، بل أكرَموا الأذن اليُسرى أي طاعة هواجسهم التابعة عن تعصبُّهم فصاروا مضَلّين ومضِلَّين (2 تي 3: 13). وكما يقول الكتاب لأنهم عندما عاشوا حسب الناموس لم يهتمّوا بالوصيّة قدر اهتمامهم بتعاليم الناس (مت 15: 19). 

v كأن بطرس كشف ما في أعماقهم أن أذنهم اليُمنى الروحيّة قد قُطعت إذ اهتموا بالأُذن اليُسرى والسماع للأضاليل… لكن السيِّد جاء ليُصلِح هذه الأذن اليُمنى ويهبها سماعًا روحيًا. 

القدّيس كيرلّس الكبير

10. المحاكمة الدينيّة 57-68.

وقف الديّان أمام رؤساء الكهنة والكتبة والشيوخ ليُحاكَم كمجدِّفٍ يسندهم شاهدا زور، وكان هو صامتًا. وُجه الاتهام إليه كمجدِّف بكونه قال: “إني أقدر أن أنقض هيكل الله وفي ثلاثة أيام ابنيه” [61]، وكان ذلك شهادة زور، فإنه لم يقل هذا بل قال: انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أُقيمه” (يو 2: 19). وكان يتحدّث عن هيكل جسده (2: 12)، أمّا هم ففهموه يتحدّث عن هيكل أورشليم. أما الجانب الثاني من التجديف فهو أنه يقول عن نفسه أنه المسيح ابن الله وعندما سأله رئيس الكهنة في ذلك، أجاب “أنت قلت، وأيضًا أقول لكم من الآن تُبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوّة، وآتيًا على سحاب السماء” [64]. 

إذ لم يحتمل رئيس الكهنة إجابة السيِّد مزَّق ثيابه، وكان ذلك علامة نزع الكهنوت اللاوي واِنتهائه، فيظهر كهنوت جديد على طقس ملكي صادق. 

يُعلّق القدّيس كيرلّس الكبير على سؤال رئيس الكهنة للسيِّد المسيح: “اَستحلفك بالله الحيّ أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن الله؟” [63]، قائلاً: ٌ[اِخبرني لماذا تسأله؟ هل لتعرف إن كان هو المسيح؟ فإنك تستطيع بسهولة أن تعرفه من الناموس والأنبياء. اِبحث في كتابات موسى، فتراه مصوِّرًا فيها بطرق متعدّدة… افحص كتابات الأنبياء فإنك تسمعهم يُعلنون معجزاته الإلهيّة العجيبة.]

11. إنكار بطرس 69-75.

كان بطرس جالسًا خارجًا في الدار، فاصطادته جارية لتتهمه أنه كان مع يسوع، فأنكر قدام الجميع. وإذ خرج إلى الدهليز رأته أخرى واِتَّهمته كالأولى فأنكر، وبعد قليل جاء القيام يُعلنون أن لُغته تظهره، فابتدأ يَلعن ويحلف أنه لا يعرفه وللوقت صاح الديك. 

النفس التي تبقى متراخية في حالة جلوس خارجًا ولا تدخل مع السيِّد إلى الصليب لتتعرَّف على أعماقه الداخليّة لا تقدر أن تشهد بل تُنكر، وإذ تخرج إلى الدهليز أي تحيا بلا حياة سرّيّة تكرّر إنكارها له، ويصطادها الكثيرون ليدفعوها إلى الإنكار. أمّا النفس التي تدخل إلى الصليب، وتقترب منه كيوحنا، فلا تُنكر بل تتقبّل من السيِّد المسيح أُمُّه أُمًّا لها.

يتحدّث القدّيس كيرلّس الكبير عن ضعف بطرس الرسول وتوبته، قائلاً: [لم يكن المسيح قد قام من الأموات، ولا أبطل الموت، ولا نزع الفساد، لذلك كان الخوف من الموت فوق احتمال البشر… قد دان الرسول نفسه بضميره كما يظهر من بكائه مباشرة بعد ذلك ومن دموع توبته النازلة من عينيّه بسبب خطيّته الخطيرة… إنه لم يكن مهمِلاً في توبته، فكما سقط سريعًا في خطيّته هكذا بسرعة كانت دموعه تسقط بسببها، فإنه لم يبكِ فحسب وإنما بكى بمرارة. كإنسان سقط، وفي شجاعة قام مرّة أخرى إذ يعرف أن الله الرحوم يقول بأحد أنبيائه: هل يسقطون ولا يقومون؟! أو يرتدّ أحد ولا يرجع؟!” (إر 8: 4). ففي رجوعه لم يفقد العلامة بل اِستمر كما كان عليه قبلاً كتلميذٍ حقيقيٍ.] ويقول القدّيس أمبروسيوس: [بكى بطرس لأنه أخطأ، كإنسان ضلَّ وبكى ولم يعتذر، لأن الدموع تغسل ما تخجل أفواهنا أن تنطق به… الدموع لا تسأل الغفران إنّما تناله… نظر إليه يسوع، فبكى بكاءً مرًا. لتنظر إلينا أيها الرب يسوع فنعرف البكاء على خطيَّتنا.]

فاصل

إنجيل معلمنا متى : 12345678 910111213141516171819202122232425262728 

تفسير إنجيل معلمنا متى : مقدمة – 12345678910111213141516171819202122232425262728 

زر الذهاب إلى الأعلى