الصمت المقدس والحديث السرّي مع الربّ
إذ يبدأ شهر کیهك ، ما يشغل المؤمنين هو السهر في تسابيح ” سبعة وأربعة ” ؛ حيث يشتم الكل روائح اللقاء مع مخلص البشرية خلال تسبيح القلب والفكر.
يتسم هذا الشهر بالسهر في الأديرة كما في كثير من الكنائس ، خاصة عشية السبت واستمرار التسبيح حتى قداس الأحد.
تُحسب قراءات أيام الآحاد في هذا الشهر رحلة المؤمن في صحبة أناس الله نحو اللقاء مع طفل المزود.
صمت طفلة الهيكل
خلال الأسبوع الأول من شهر كيهك تحتفل الكنيسة بتذکار تقديم القديسة العذراء مريم إلى الهيكل بأورشليم وهي ابنة ثلاث سنوات ، لأنها كانت نذيرة الرب. وذلك أنه لما كانت أمها حنة عاقراً كانت حزينة جداً هي وزوجها القديس يواقيم ، فنذرت ، وقالت : ” یا إلهي إذا أعطيتني ثمرة، فإني أقدمها نذراً لهيكلك المقدس” . فاستجاب الرب ورزقها هذه القديسة ، فأسمتها مريم.
وبعد أن ربتها ثلاث سنوات مضت بها إلى هيكل الرب وقدمتها لتقيم مع العذارى ، وهي تنمو في الفضيلة والنسك والعبادة . فأقامت نحو عشرة سنوات حتى جاء ملء الزمان الذي فيه يأتي الرب إلى العالم متجسداً من هذه العذراء الطاهرة التي اختارها.
لعل من أهم الفضائل التي اقتنتها منذ طفولتها الصمت المقدس ، حيث كانت تصمت بلسانها عن أحاديث العالم وما يجري فيه ، لينشغل قلبها بمعاملات الله معها، هذه الفضيلة التي لازمتها حتى يوم رحيلها من هذا العالم . إذ يكرر الإنجيلي قوله عنها : “كانت تحفظ جميع هذا الكلام متفكرة به في قلبها” ( لو ۲ : ۱۹ ، ۵۱ ) ، ما كان يمكن للقديسة مريم أن تحتمل ما نالته من نعم إلهية فائقة حتى بالنسبة للسمائيين لو لم تهبها نعمة الله أن تتأمل في أعماقها أسرار الله وعطاياه لها ولكل البشرية.
تبقى هذه القديسة الفريدة قائدة لموكب الصامتين في الرب منذ طفولتها ، حيث لا تقدر مباهج الحياة الزمنية ولا تجاربها أن تسحب فكر المؤمن عن التصاقه بالرب وتمجيده على تدبيره العجيب لأجل تمتعنا بشركة أمجاده.
بالصمت المقدس تهیأت البتول أن تصير والدة الإله، وبالصمت المقدس يتهيأ المؤمن ليكون هیکل الله وروح الله يسكن فيه ( 1 کو 3 : 16).
إن كان العالم يستقبل عيد ميلاد السيد المسيح ( الكريسماس ) بالزينات والأنوار والهدايا المتبادلة والحفلات . فما قدمته القديسة مريم بصمتها المقدس منذ طفولتها يفوق كل زينة وكل هدية وكل احتفال.
يليق بنا في هذا الشهر المبارك أن نقيَّم حياتنا : هل نستقبل مخلّص العالم في قلوبنا خلال الحديث السري الصريح معه، دون أن يعوقه أو تقاطعة الأحاديث الباطلة.
لم تتوقف القديسة منذ طفولتها عن الجدية في إتمام رسالتها ، وقد تجلى ذلك بوضوح عندما سمعت عن اليصابات نسيبتها أنها حبلى بابن في شيخوختها. “فقامت مريم في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى الجبال إلى مدينة يهوذا ، ودخلت بيت زکریا وسلمت على اليصابات” ( لو 1 :39). بصمتها المقدس ارتكض الجنين بابتهاج في بطن أمه ( لو1 : 41- 44 )، وتحول بیت الكاهن كما إلى بيت تسبيح يشترك فيه حتى الجنين!
لنصمت مع القديسة مريم ، ونحمل مسيحنا في قلوبنا ، فيعمل روح الربّ بنا ، حيث تصير لنا الأرض سماءً متهللة. هذه هي هدية الكريسماس التي يُسرّ بها طفل المزود العجيب!
صمت الكاهن الشيخ
في الأحد الأول من شهر كيهك يلتهب قلیناً شوقاً لممارسة ما تمتعت به نذيرة الرب القديسة مريم منذ طفولتها ، كما نتمتع بالصمت الذي اختبره الكاهن الشيخ زكريا وهو يتقبل البشارة بالحبل بيوحنا السابق ، الذي يعد الطريق للرب.
حقا كان صمت زكريا بسبب عدم تصديقه للبشارة التي قدمها له الربّ خلال جبرائيل الواقف قدام الله ( لو 1 : 20). غير أن الله الصانع الخيرات حًّول هذا التأديب لبنيان زكريا الكاهن ولنشر خبر هذه العطية التي وُهبت له حتى كل من سمع عن ميلاد يوحنا تساءل : “أتُرى ماذا يكون هذا الصبي ؟ !” ( لو 1 : 66 )، وشعروا أن يد الربّ كانت معه!
كان زكريا الكاهن في حاجة إلى هذا الصمت ، فلم يجد فرصة للحديث حتى مع زوجته اليصابات ومع أقربائه . تُری کیف قضى زكريا هذه الشهور التسع؟! لم يكن أمامه سوى التسبيح الصامت ، وقراءة الأسفار المقدسة والطلب الدائم كي ينير الربّ فكره ، ويكشف له خطته وأسراره ونبواته مع ممارسة مطانياته وعبادته الظاهرة والخفية!
هكذا يليق بنا مع بداية شهر كيهك أن نطلب بلغة القلب قبل اللسان قائلين : “بنورك يا رب نعاين النور” ( مز 9:36 ). نمارس أصوامنا ومطانياتنا وصلواتنا وتسابيحنا كي يشرق علينا طفل المزود، شمس البرّ ، فندرك كلمات النبي : “ولكم أيها المتقون اسمي تشرق شمس البرّ، والشفاء في أجنحتها” ( ملا 4 : 2)
موكب الصامتين
تجسد كلمة الله والحبل به وميلاده في مزود ليس في بيت أحد الكهنة أو القيادات الكنسية أو الزمنية ، يدفعنا للانضمام إلى موكب الصامتين العجيب.
لم يحتفل الهيكل بميلاده ، ولم يذهب الكهنة والقيادات الكنسية ليسجدوا له ويسبحوه ، وساد السكون العام. حتما وقفت الطغمات السماوية التي تعجز عن أن تتفرس في لاهوته وأمجاده في صمت لاستقبال المخلُص.
تُری من هم أعضاء موكب الصامتين؟
لقد ظهر ملاك الرب ووقف بالرعاة البسطاء ومجد الرب أضاء حولهم ، وظهر بغتة مع الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله ، وقائلين : ” المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة ” ( لو2 :9 ،13- 14).
لم يظهروا لجمهور الكهنة أو الشعب ، إنما للبسطاء الساهرين في عملهم بأمانة، وغالبا ما كانوا مشتاقين للقاء مع المسيَّا المخلص. لذا ما أن رأوا وسمعوا السمائيين حتى انطلقوا إلى بيت لحم وهم يقولون : ” لنذهب الآن .. وننظر الأمر الواقع الذي أعلمنا به الربّ” ( لو ۲ : ۱۵ ) ، وجاءوا مسرورين. وكأن هؤلاء الرعاة قد انضموا إلى موكب الملائكة في هدوء دون دعاية!
وانضم أيضا إلى الموكب جماعة من المجوس يقودهم کوکب عظيم ، وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم ، إنه ملاك جاء على شكل كوكب ، فتحدث مع المجوس بلغتهم ، لغة الفلك والكواكب!
لم يذكر لنا الإنجيليون شيئا عن أحاديثهم في الطريق سواء مع بعضهم البعض أو مع الشعوب التي خرجت تنظرهم في دهشة ؟! وكأن الإنجيليين يدعوننا للانضمام إلى هذا الموكب الصامت. لسنا نتحدث بألسنتنا بل بقلوبنا وأفكارنا وعواطفنا المقدسة وسلوكنا من جهة الملك مخلّص العالم!
إذ بلغوا أورشليم لم يرافقهم أحد من القصر الملكي ولا من رجال الهيكل ، إنما ما كان يشغل هيرودس هو قتله، وما يشغل قيادات الهيكل هو ارتباكهم خوفاً على فقدانهم سلطانهم وإيراداتهم!
هلم ننضم إلى موكب الصامتين؟
هب لي يا ربّ أن أنضم بنعمتك إلى موكب الصامتين ، لأنضم إلى نذيرتك القديسة مريم الطفلة فأجد راحتي في هيكل قدسك مع العذارى! لأسلك ببساطة الطفولة، فلا تشغلني ملذات العالم ، ولا تقلقني تجاربه! إذ أصمت في هيكلك ، يتكلم قلبي معك، وتتكلم أنت أيها القدوس مع ضعفي.
لأحفظ مع أمك كل الأمور متفکراً بها في قلبي . بالصمت أنشغل بالثبوت فيك. أراك ساكناً في عميقاً أعمق من عمقي ، وعالياً في داخلي أعلى من علوي! لأنضم إلى زكريا الكاهن الصامت. فما يشغلني هو كلمتك وإعلاناتك الإلهية.
لن تأسرني الحرفية القاتلة ، بل أجد في كتابك فردوس الحرية، أقطف منه ثمر روحك القدوس: الحب والسلام والوداعة والعفة أرتوي من ينابيع حبك الدائمة الفيض! لأرافق الرعاة البسطاء الساهرين بأمانة. فأرى السماء ليست ببعيدة عني وأسمع الطغمات السماوية تتهلل لخلاصي . أنضم إلى خورس الملائكة وأتمتع بالترنيمة الجديدة. اسمح لي أن أرافق المجوس الأمميين ، التهبت قلوبهم شوقاً إليك ، وساروا في الطريق يشهدون لك وقدموا لك ما لم يقدمة الكهنة واللاويون.
تقودني نعمتك فلا أتعثر من مقاومة الشرير حتى إن كان ملكاً. ولا أنتقد أحداً حتى إن كان كاهنا غير مبال بخلاصك!
ليصمت لساني ، فيتكلم قلبي وليصمت قلبي ،
فتتكلم يا أيها القدوس فيَّ!
القمص تادرس يعقوب ملطي
كيهك 1737 ش
2020م