العقيدة وتغيير السلوك



هل الفكر العقيدی يؤثر على سلوکی ، وحياتي اليومية ، وتعاملاتي مع الناس ؟
أو بمعنى آخر .. هل سيكون سلوكی له تميز خاص لو كان إيماني أرثوذكسياً؟
لقد هتف معلمنا يعقوب في رسالته بالروح القدس : ” أرني إيمانك بدون أعمالك ، وأنا أريك بأعمالي إيماني ( يع 18:2 )
لاشك أن الأمور الإيمانية لابد أن تترجم في حياتنا إلى سلوك يُعلن عنها ، فمثلاً

1- الإيمان بوجود الله يهب الخشية والتقوى

هل من يؤمن بأن الله حاضر ، وكائن في كل مكان ، ويرى ويسمع ، كمن لا يؤمن بهذا كله ؟
إن الإيمان بحضور الله في كل مكان ، يدفع المؤمنين أن يسلكوا بتقوى ووقار ، واحترام لهذا الحضور الإلهي الجليل.
لذلك قيل إن الخطية هي إلحاد لحظي .. ” أنت تؤمن أن الله واحد ، حسن تفعل. والشياطين يؤمنون ويقشعرون ! ” ( يع 19:2 ) . إن الشياطين يقشعرون رعباً لأنهم لا يستطيعون أن يعملوا البر والخير في حضور الله.

فاصل

2- الإيمان بالتجسد يُغيّر النظرة للجسد والمادة 

هل لنا بعد أن نُؤمن بتجسد الله – أن ننظر للجسد بنظرة دنيئة ، أو نحتقر المادة؟ .. لماذا يرفضون تقديس الماء في المعمودية ، وتقديس الزيت في الميرون ومسحة المرضى ، وتقديس الخبز والخمر فی الإفخارستيا ، وتقديس الأيقونات والمذابح والكنائس ؟ !!
إن تقديس المادة واحترامها في الفكر الأرثوذكسي، هو برهان إيمانناً بسر التجسد.. والإنسان الأرثوذكسي يحترم الماء والزرع والهواء والبيئة.. إلخ.. لا من منطلق حضاری إنساني بل من منطلق لاهوتی.
فعندما تجسد الله، وعاش حياتنا المادية بكل تفاصيلها، باركها وقدسها، لقد قدس المشي، والنوم، والجلوس، والوقوف، والماء، والأكل، والجسد، والحياة كلها مقدسة.
إننا حقا نعيش حياة مقدسة في كل تفاصيلها، بسبب أن الله شاركنا فيها، ووهبنا أن نتحد به من خلال كل تحركات حياتنا اليومية العادية، لذلك قيل: “فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئا، فافعلوا كل شيء لمجد الله” (1كو31:10).

وقيل أيضا عن موت السيد المسيح:
– ” الذي مات لأجلنا، حتى إذا سهرنا أو نمنا نحيا جميعاً معه” (اتس 10:5)
–  “لأننا إن عشنا فللرب نعيش وإن متنا فللرب نموت. فإن عشنا وإن ممتنا للرب نحن” (رو 8:14), وأيضا (2كو 15:5).

فاصل

3- الإيمان بالثالوث يُعلمنا المحبة

سر الثالوث هو سر الحب..

+ الأب يحب الابن (يو17:10).
+والابن يحب الآب (يو31:14)
+ والروح القدس يشهد للابن ويمجده (يو26:15)، (يو14:16).
والحب في الثالوث حب مطلق، فالثلاثة واحد في الجوهر، ولكنهم ثلاثة متمايزون في الأقنومية. لذلك قيل: “الله محبة” (1يو8:4).
+”المحبة هي من الله، وكل من يحب قد ولد من الله ويعرف الله. ومن لا يجب لم يعرف الله” (1 يو7:4، 8).
إن سر الثالوث هو سر الحب.. لذلك فالروحانية المسيحية هي روحانية الحب، وقوة المسيحية ليست في العنف، ولكن في الحب والتسامح والصداقة والحوار . إن هذا كله ينبع لا من ينبوع أخلاقي إنساني بل من ينبوع الثالوث.

فاصل

4- الإيمان بعضويتنا في جسد السيد المسيح

الإيمان بجسد السيد المسيح الواحد، وتعدد الأعضاء يعلمنا العمل الجماعي.. فالليتورجيا في الكنيسة هي تعبير عن الجسد الواحد واللسان الواحد.. “فإنه كما في جسد واحد لنا أعضاء كثيرة ولكن ليس جميع الأعضاء لا عمل واحد. هكذا نحن الكثيرين: جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضاً لبعض كل واحد للآخر” (رو 4:12, 5).
+فنحن نصلي معا بلسان واحد لأننا جسد واحد.
+ونصوم معا ونعيد معا.
+ ونصلى بعضناً لأجل بعض.
+ والراقدون يصلون من أجلنا فيما يسمى: “شفاعة القديسين”.
+ونحن نصلي من أجلهم فيما يسمى: “الصلاة علی الراقدين” أو “التراحيم”.
كل هذا برهان العضوية في الجسد الواحد، وحيوية هذه الأعضاء.. الصلاة“مصلين بكل صلاة وطلبة كل وقت في الروح، وساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة وطلبة، لأجل جميع القديسيين، ولأجلي” (أف 18:6، 19).
نحن أعضاء في جسد واحد.. لذلك فمن يخطيء – فهو فيما يخطىء إلى الله – يسيء أيضا إلى الجسد الواحد.. فبقدر ما هو مطالب أن يعود إلى الله بالتوبة عليه أن يعود للجسد (الكنيسة ممثلة في الأب الكاهن) بالاعتراف.
من يؤمن بالجسد الواحد يحب الآخرين كأعضائه، ويحترمهم ويقدمهم في الكرامة كأعضائه، ويشعر أنه لا يستطيع أن يستغني عنهم، أو عن صلواتهم سواء كانوا بالجسد أم خارج الجسد.. ويفرح بنصرتهم وتقدمهم ونجاحهم كمن يفرح بصحة جسده وجمال منظره.

“هكذا نحن الكثيرين: جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضا لبعض كل واحد للآخر” (رو5:12).

المسيحي يؤمن بالعمل الجماعي، وإفساح المجال للأخرين بحب وانفتاح وفرح. أيضا ليس هذا من منطلق اجتماعي إنساني بل من أساس لاهوتی.. الآخر لم يعد أخراً بالنسبة لي.. بل هو عضو في وأنا فيه في المسيح.

فاصل

5- الإيمان بضرورة الجهاد توجه سلوكنا الروحي

هل من يؤمن أنه ضمن الملكوت دون تحسبات، سيسلك بنفس الحرص والخوف، الذي يسلك به من يؤمن أن خلاصه لابد أن يكمله إلى المنتهي؟!! “تمموا خلاصم بخوف ورعدة” (في12:2).
إن الثقة في دخول الملكوت ستمنح الإنسان هدوءا وفرحا ونفسية مستقرة..نور الانجيل بل لا أبالغ لو قلت وأيضا كبرياء وإحساسا بالتميز والتفوق على الآخرين..
بينما يعلمنا الإنجيل ألا نفتكر هكذا..
+ “إذا من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط” (1كو12:10).
+” لا تستكبر بل خف!” (رو 20:11).
+” لا تكونوا حكماء عند أنفسكم” (رو 16:12).
فالثقة في ضمان الملكوت، أو كما يقولون: “النعمة تخلصنا، حتى ولو كنا في عمق الخطية”، حتى بدون توبة.. اسمعوا السيد المسيح يقول: “إن لم تتوبوا فجميعكم كذلك تهلكون” (لو5:13)، هل هذه الثقة تحثهم على التوبة، وترك الخطية، والجهاد ضدها.. مؤازرين بنعمة المسيح؟

إن سلوك الإنسان الواثق والضامن للملكوت، حتما سيختلف عن إنسان له رجاء في الملكوت، وثقة في المسيح، ولكنه حريص لئلا يأخذ أحد إكليله (رؤ11:3)، ولئلا يُمحى اسمه من سفر الحياة (رؤ19:22)، (رؤ5:3)، ولئلا يسقط (اكو12:10)، ولئلا يكمل بالجسد بعد أن بدأ بالروح (غل 3:3)، ولئلا تتزحزح منارته من مكانها (رؤ5:2).
وسيجتهد أن يكون أمينا إلى الموت حتى يأخذ إكليل الحياة (رؤ10:2). بالتأكيد ستكون سلوكيات الإنسان الأرثوذكسي يشوبها الاتضاع، والحرص، والتوبة المتكررة، وطلب الرحمة في كل يوم، والرفق بالخطاة، لا كمن ينظر إليهم من برج عالی بل كإنسان تحت الآلام مثلنا” (يع17:5)، شاعراً أنه في احتياج دائم لصلوات إخوته عنه، وصلوات القديسين، وسند الأب الكاهن، وشركة الكنيسة، والالتزام بالنظام الكنسي، وسيكون دائماً يشعر بالاحتياج للنمو والتلمذة والتعلم.
أما الواثق المطمئن فسيستغنی حتماً عن إخوته، ويشعر أنهم يحتاجونه لكي يخلصهم. أما هو فلا يحتاج أحدا لأنه قد خلص، ولا يحتاج لكنيسة أو أب كاهن أو شهيد أو قديس أو القديسة العذراء نفسها.. وغير محتاج للالتزام بنظام من جهة الصلاة أو الصوم أو الليتورجيا. فهو قد ملك مفاتيح الملكوت، وضمن الخلاص، ولا حاجة له إلى شيء (رؤ17:3).. سيكون دوره في الكنيسة أن يعلم، ويرشد، ويقود، ويعطي رأيا، ويفسر الإنجيل، ويدعو الناس البؤساء الخطاة إلى التوبة.. ليتمتعوا بالسيد المسيح مثله.
ألست تتفق معي أن الخلفية العقيدية ستغير كل سلوك وكل القناعات وكل علاقاتي مع الآخرين. إن الأمثلة كثيرة والحديث سيطول..

إن التهاون بالعقيدة.. سيؤدي حتما إلى انحرافات مريعة في السلوك.. نراها الآن بمنتهى الوضوح في تلك المجتمعات الغربية، التي بدأت بانحراف العقيدة، وانتهت إلى ضياع السلوك. فهل ما عملوه بالغرب يريدون أن يكرروه مع شبابنا المتدين المحب الله؟ أم ماذا يريدون بالكنيسة؟ وإلى أين هم سائرون؟

إنها صرخة أن نصحو وننتبه، لئلا ما أصاب الغرب يصيبنا، خصوصا ونحن في عالم (العولمة)، واختلاط الثقافات، ومع وجود تحدي البث الإعلامي الرهيب، الذي سيكتسح بيوتنا شئنا أم أبينا.

كما أنني أود أن أنبه – هنا – أن لا نكتفي من الأرثوذكسية بمجرد الإيمان بعقيدتها دون الدخول في ممارستها. فما المنفعة يا إخوتي الإنسان يؤمن بحقيقة التحول في الإفخارستيا ولكنه لا يتناول، وما المنفعة الإنسان يؤمن بضرورة الاعتراف على يد الأب الكاهن وهو لا يمارس الاعتراف.. وكذلك القول عن شفاعة القديسين والصيامات والصلاة بالأجبية.. الخ.

ليست الأرثوذكسية منطوق نظريات.. بل هي حياة نعيشها بكل الفرح في حضن الكنيسة.. متمتعين بشركة الرب يسوع المسيح.

* إننا لا نخلص بالمعرفة كما يدعي الغنوسيون، ولكننا سنهلك بالجهل كما أعلن الإنجيل.. فلابد من المعرفة، والمعرفة الصحيحة لأنه لا يمكن أن يتساوى من يتناول من جسد الرب بإيمان وثقة وخشوع، مع من لا يؤمن من الأصل بأن القربانة هي جسد الرب.
وكيف يخلص من كان يرفض المعمودية كأساس للخلاص، والرب قد حددها سبيلا للملكوت؟
+ وكيف يخلص من يحتقر الكهنوت، ويرفض سلطانه وخدمته ومواهبه في الكنيسة، ويرى أن الكل متساوون بدون مواهب خاصة للخدمة؟
* وكيف يخلص من لا يعرف أن الأعمال لازمة للخلاص؟

وهكذا.. فالعقيدة والفكر محرك أساسي للسلوك والإيمان، وبالتالي لابد أن يوجد لها دور هام جدا في خلاص الناس.. وبدون هذا الفكر العقيدى، والمعرفة السليمة للإيمان لا يمكن للإنسان أن يخلص، أما البسطاء من المؤمنين فلا خوف عليهم إذ أنهم ببساطتهم يتمسكون بتعاليم السيد المسيح والكنيسة بدون سفسطة.. وبذلك يخلصون ببساطة الإيمان والتسليم.

دعنا نؤمن بدون شك.. ونعرف بدون تعقيد.. ونسلك بدون تردد .. ونتشبث بإلهنا المحب المعلم الصالح.. لنرث به ومعه وفيه ملكوت السموات .

فاصل

لنيافة الانبا رافائيل الأسقف العام

 

 

 

 

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى