حياة التلمذة

‏الحياة المسيحية هي حياة تلمذة 

+ كل الذين آمنوا بالمسيح، دعوا تلاميذاً له.
أما هو فدعى المعلم ، و المعلم الصالح. وعلى الرغم من تلمذة الجميع عليه ، كان له تلاميذ خصوصيون ، دعوا “خاصتة ” ( يو1:13). هؤلاء أعدهم لخدمة الكلمة (أع6: 4). عن هؤلاء قيل أنه : “دعا تلاميذه الاثني عشر وأعطاهم سلطاناً على أرواح نجسة حنی يخرجوها ” (مت 1:10)

۔ قيل في العظة على الجبل : “تقدم إليه تلاميذه . ففتح فاه وعلمهم … ” (مت2,1:5). ولما أراد أن يحتفل بالفصح ، أرسل اثنين من تلاميذه ، ليقولا إن المعلم : “أين المنزل حيث آكل الفصح مع تلاميذی؟” (مر 14: 13 ، 14 ) 

+ كذلك أتباع يوحنا المعمدان دعوا تلاميذاً له:
قيل إنه حدثت مرة “مُباحثة من تلاميذ يوحنا مع يهود من جهة التطهير” (يو25:3) . وفي إحدى المرات جاء إلى السيد المسيح تلاميذ يوحنا قائلين : ” لماذا نصوم نحن والفريسيون كثيراً وأما تلاميذك فلا يصومون؟” ( مت 14:9).
۔ والفريسيون كانوا يدعون أنفسهم تلاميذ موسی:
لذلك في مناقشة اليهود مع المولود أعمى الذي وهبه الرب البصر ، قالوا له : ” أنت تلميذ ذاك وأما نحن فإننا تلاميذ موسي” ( يو 28:9 ).

+  نلاحظ أن الكرازة كانت تسمى تلمذة :
فلما أرسل الرب تلاميذه ليكرزوا بالإنجيل ، قال لهم :”فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم … ، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به” ( مت19:28). ولما ذهب بولس وبرنابا إلى دربة ، قيل إنهما : ” فبشرا في تلك المدينة وتلمذا كثيرين” ( أع 21:14 ).

فاصل

شروط التلمذة

في موضوع التلمذة نحب أن نورد ملاحظتين :
1- إن التلمذة ليست على التعاليم فقط ، بل على الحياة.
2- لذلك فللتلمذة شروط لابد من توافرها في الحياة العملية. 

  وهكذا يقول السيد الرب لتلاميذه : ” إن ثبتم فى كلامى ، فبالحقيقة تكونون تلاميذي ” (يو31:8).إذن فمجرد سماع الكلام من معلم ، لا يعنى التليمذة له. إنما الثبات فى تعليمه. ومعنى هذا تحويل الكلام الى حياة ، والى مبادئ راسخة تثبت فيمن يتعلم.

     ويعطينا السيد المسيح علامة ومثالا عمليا بقوله لتلاميذه : ” بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي، أن كان لكم حب بعضاً لبعض ” (يو35:13).

هنا يقدم شرطاً بدونه لا يكونون تلاميذاً له ، مهما تعلموا منه نظرياً عن الحب .وان لم يجد الناس فيهم هذه المحبة المتبادلة ، لا يمكنكم ان يقولوا ان هؤلاء تلاميذ المسيح .. ‍‍! أنها علامة لازمة. كما كان المسيح يحب الكل ، هكذا ينبغى ان يكون تلاميذه. ” كما سلك ذاك هكذا يسلكون هم ايضاً” (1يو6:2).

     يذكرني هذا بقول الرب لليهود المفتخريين بأنهم أولاد إبراهيم : ” لو كنتم أولاد إبراهيم ، لكنتم تعملون أعمال إبراهيم (يو 39:8).

     إذن التلمذة الحقيقية هى تلمذه على حياة ، تظهر بأسلوب عملي فى حياة الإنسان ، يعلن بها تلمذته على معلم تميز بهذا النوع من الحياة ، وبهذا اللون من التعليم…

     ولهذا يقدم السيد المسيح عينات من الناس لا يمكن ان تكون تلاميذا له ، منها : يقول : ” ان كان أحد يأتى الى ، ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده واخوته ، فلا يقدر ان يكون لى تلميذا ” ” ومن لا يحمل صليبه ويأتى ورائى، فلا يقدر ان يكون لى تلميذا”

” فكذلك كل واحد منكم لا يترك جميع أمواله ، لا يقدر ان يكون لى تلميذاً ” (لو26:14،27،33).

     وهكذا وضع السيد المسيح قاعدة للتلاميذ عليه ، وهى التجرد ، ومحبة الله فوق محبة الأقرباء.

ومن هذا المنطق قال له تلميذه بطرس : ” قد تركنا كل شئ وتبعناك ” (مت27:19). فأجابه السيد بنفس تعليمه الروحي : ( كل من ترك بيوتاً ، أو أخوة أو أخوات ، أو أباً أو آم أو امرأة ، أو أولاداً أو حقولاً من أجل اسمي ، يأخذ مائة ضعف و يرث الحياة الأبدية ) (مت 19 : 29)

     أذن هو مبدأ التلمذة عل الرب ، ان تترك كل شئ من اجله ، أو على الأقل تكون مستعدا قلبياً لترك كل شئ ولا تندم على ذلك.

     ولهذا أضاف الرب شرطاً أخر وهو : ” ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر الى الوراء يصلح لملكوت الله ” (لو62:9). فالتلمذة على الرب تحتاج الى ثبات فى الطريق وعدم رجوع الى الوراء. وتحتاج الى ان يحتمل الإنسان من اجل الرب ومن اجل خدمته ، ويتعب فى سبيل ذلك. ولذلك قال الرب: ” من لا يحمل صليبه ويأتى ورائى ، فلا يقدر ان يكون لى تلميذا ” (لو27:14).

هناك شروط أخرى للتلمذة منها الالتزام والتنفيذ.

     فالذي يريد ان يتتلمذ عليه ان يلتزم بما يسمعه وينفذه ، وهكذا يحول المعلومات الى حياة. لانه ما فائدة الكلام ان كنا نسمعه وننساه ، أو نحتفظ به فى أذهاننا فقط لمجرد المعرفة. ولذلك جميلة تلك العبار التى كان يقولها من يزور الآباء : [قل لى كلمة ، لكي أحيا بها ]. فالكلمة هي طعامه الروحي. يأخذها ويغذى بها روحه ، فيحيا بها ، وينتفع. ليس مجرد المنفعة الفكرية، إنما ينتفع بها فى حياته العملية ، فتصبح كلمة منفعة…

فاصل

التلمذة علي الحياة

      أنت لا تتلمذ على كلام المعلمين فقط ، وإنما على حياتهم ، حتى دون ان يتكلموا. تمتص الحياة منهم ، بما فيهم من أمثولة طيبة وقدوة صالحة.

   فليست الأذن وحدها وسيلة التعليم ، وانما العين أيضا:

+ يروى عن القديس الأنبا شيشوى، انه من فرط تواضعه ما كان يعطى تعليماً لمن يتتلمذ أليه . فلما عاتبه الآباء لانه لم يعط أية إرشادات لأخ جديد سلموه إليه ليعلمه … قال لهم : [ أنا لست رئيساً ولا معلماً. فإن أراد هو ان يتعلم شيئاً ، فلينظر كيف أتصرف وكيف أعمل ، ويعمل هكذا مثلى ، دون ان آمره].

+ ومن أمثلة التعليم من السيرة ، ان ثلاثة إخوة زاروا القديس الأنبا أنطونيوس ، فإثنان منهما سألاه . أما الثالث فجلس صامتاً ، فلما استفسر منه القديس لماذا لم يسأل عن شئ ، أجابه الأخ : [ يكفيني مجرد النظر الى وجهك يا أبى ].
كان مجرد النظر الى وجه القديس درساً يتعلم منه الأخ وهو صامت . يرى القديس كيف يتكلم وكيف يحبيب ، ويبصر ملامحه الوديعة الهادئة المتضعة … ويتعلم ..

+ مثال اخر : فى إحدى المرات زار البابا ثاوفيلس برية شيهيت . فقال الآباء للقديس الأنبا بفنوتيوس : [ قل كلمة لينتفع البابا ] . فأجابهم: [ ان لم ينتفع من سكوتى ، فمن كلامى ايضا سوف لا ينتفع ]. حقاً أن الصمت يمكن التتلمذ عليه ، تماما ككلام المنفعة.

+ وهكذا يتتلمذ الآن على حياة الآخري ، على الصفات الجميلة التى فيهم . ويمتص فضائلهم ، دون أن يلقوا عليه دروساً فى تلك الفضائل. وقد فعل القديس الأنبا أنطونيوس هكذا فى أول عهده بحياة الرهبنة: فكان يتعلم من حياة النساك الذين يراهم : كان كالنحلة التى تمتص من كل زهرة رحيقاً…
     يتعلم من أحد النساك الهدوء ، ومن اخر التواضع ، ومن ثالث الصمت ، ومن رابع حسن الكلام … وما فعله القديس أنطونيوس يذكرنا بتعليم أخر نافع وهو: لا يحاول أن تكون فى تلميذتك صورة كربونية من شخص واحد بالذات

فلا يوجد شخص واحد من بنى البشر فيه كل الفضائل. كما ان ما يناسب شخصاً معينا قد لا يناسبك أنت. إنما خذ من كل شخص ما يعجبك فيه من صفات جميلة. وخذ من هذه الصفات بالقدر الذى يصلح لك وبالأسلوب الذي يوافق طبعك وعقليتك وظروفك. 

  وهكذا تكون التلمذة على الحياة ، ومنها التلمذة على سير القديسين .

وفى هذا يقول القديس بولس الرسول : ” اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله . انظروا إلى نهاية سيرتهم ، فتمثلوا بأيمانهم” (عب7:13) . ولقد قدم لنا الكتاب المقدس أمثلة عملية من كل نوع ، كما قدم لنا التاريخ أمثلة أخرى فى كل فروع الفضيلة ، وفى كل ألوان الحياة ،يمكن ان نتتلمذ عليها.

  + ان السيد المسيح بكت اليهود بمثال ملكة التيمن. فقال لهم : ” ملكة التيمن ستقوم فى (يوم) الدين مع هذا الجيل وتدينه، لأنها أتت من أقاصي الأرض لتسمع حكمة سليمان . وهوذا أعظم من سليمان ههنا ” ( مت42:12).
إنها كانت مثالاً عجيباً فى طلب الحكمة والمعرفة ، أى فى التلمذة. وقد تتلمذت على إنسان أخذ الحكمة من الله نفسه، وكان أحكم أهل جيله (1مل12: 3). واصبحت هذه الملكة مثالا لنا نقتدي به.

وقد قدم السيد لجيله ولنا أمثلة نتتلمذ عليها: قدم لنا المرأة الكنعانية فى أتضعها ، إذ قالت عن نفسها وابنتها : ” والكلام أيضا تآكل من الفتات الذى يسقط من مائدة أربابها “. وقدم لنا الرب أيضاً مثال قائد المائة فى أيمانه ، إذ قال : ” يا سيد لست مستحقا ان تدخل تحت سقفي ، لكن قل كلمة فقط فيبرأ غلامي “. فقال الرب للذين يتبعونه :” الحق أقول لكم : لم أجد ولا فى إسرائيل إيمانا بمقدار هذا “.

 وهكذا قدم الرب للناس أمثلة حية ممن يعيشون حولهم، ويصلحون قدوة للتلمذعلى مثالها.

وقدم لهم أيضا مثال الأرملة التى أعطت من أعوازها (مر12:9 ) ومثال الأرملة التي سكبت قاروة الطيب الغالي الثمن علي رأسه في بيت سمعان الأبرص . و قال : (الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم ، يخبر أيضا بما فعلته هذه تذكاراً لها ) ( مر 14 : 9) .

إذن ليست الأمثلة التي تتلمذ عليها ، هي فقط للقديسين الذين رقدوا ، إنما أيضا الأمثلة الحية من حولك

ولعلك تجد فيمن تعاشرهم و تختلط بهم ، و في من يعيشون في جيلك – حتي لو لم تختلط بهم -ربما تجد في هؤلاء و أولئك أمثله طيبة يمكن أن تلتقطها و تمتصها و تحتذيها .

 + ونحن نري في الأطفال مثالاً لمن يتعلم بالمحاكاة: إنهم لم يصلوا بعد إلي درجة الفهم و النضوج الفكري الذي يساعدهم علي تلقي العلم أو فهم النصائح . و لكنهم كما يعيش الذين حولهم يأخذون الحياة و الدين و كل شئ عن طريق التسليم ، وليس عن طريق التعليم .
وكما تتعلم من فضائل الناس ، يمكنك التعليم من أخطائهم :

+ فأنت إذ تري الخطأ ، و نتائجه السيئة ، وردود فعله عند الآخرين ، تستطيع أن تأخذ درساً في تحاشي هذا الخطأ في حياتك . أو كما قال الأسد : [ من علمك الحكمة أيها الثعلب ؟ ] فأجابه : [ تعلمتها من رأس الذئب الطائر عن جثته ]…

وما أجمل المثل الذي يقول : [ تعلمت الصمت من الببغاء ]. أي أنني لما رأيت مساوئ كثرة الكلام ، أخذت درساً في سمو الصمت و فائدته واحترام الناس للصامتين.

التلمذة علي الكتب

الأصل هو التلمذة علي الآباء و المعلمين . وكما قال الشاعر :

فخذوا العلم علي أربابه   واطلبوا الحكمة عند الحكماء

ولكن ماذا يحدث إن لم تجد المعلم ولا الأب ولا المرشد . هناك إذن الكتب . فيها كل شئ . وقد تنفعك مع وجود مرشد أيضاً ..
+ أوريجانوس أعظم عالم في عصره : تتلمذ علي الكتب. قيل عنه إنه كان يستأجر المكتبات و يبيت فيها . ويظل يقرأ طول الليل ، ويلتهم ما يوجد في المحفوظات من كنوز المعرفة وقال عنه القديس جيروم : [ إنه كان يقرأ وهو يأكل ، ويقرأ وهو يمشى .. حتي إمتلأ عقله من العلم ] . ولكن أوريجانوس أصابه ضرر من بعض قراءاته.

+ وفي عصرنا الحاضر نذكر اسم حبيب جرجس:
لم يجد معلماً في الآكليريكية يتلقى عليه العلم ، وبخاصة بعد مرض و نياحة القمص فيلوثاوس إبراهيم ، فلجأ إلي الكتب يلتهم معلوماتها إلتهاماً . واستطاع أن يكون معلم اللاهوت الأول في جيل . وأن يكتب في العقيدة وفي الروحيات وفي سير القديسين وفي مناهج التربية الكنسية والتعليم الديني . وكان مصدر علمه هو الكتب .

ملاحظات هامة:
+ علي الإنسان أن يحسن انتقاء  الكتب التي يقرأها ويتتلمذ عليها ، وأن يقرأ بإفراز وحرص ، ولا يعتنق كل ما يقرأ.
فهناك كتب – حتي لمشاهير الكتَّاب – قد تحمل معلومات غير سليمة. وليست كل الكتب معصومة. فعلي القارئ أن يضع أمامه قول القديس بولس الرسول : ” امتحنوا كل شئ ، تمسكوا بالحسن”( 1تس5 : 21) . وكذلك قول القديس يوحنا “لا تصدقوا كل روح ، بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله؟” ( 1 يو 4:1 ) .

+ وأيضاً علي الإنسان أن يميز بين القراءة و التطبيق. فهناك مبادئ روحية تحتاج إلي إرشاد في تطبيقها ، وقد تحتج بعض الفضائل إلي تدرج كبير في تنفيذها . وقد يقرأ إنسان في بستان الرهبان عن فضيلة اتقنها أحد القديسين ، ربما بعد جهاد سنوات حتي وصل إليها ، فهل يأخذها القارئ كنقطة ابتداء ، مقلداً القديس فيما وصل إليه أخيراً ، دون أن يحاكيه في تدرجه وجهاده ..نقول هذا عن بعض درجات الصلاة ، والصمت ، والصوم ، و الوحدة ، وما شابه ذلك من أمور يحتاج تنفذها إلي إرشاد روحي
و نشكر الله أن المكتبة القبطية تذخر حالياً بالعديد من الكتب الثمينة : سواء من أقوال الآباء المترجمة ، أو من سير القديسين ، أو الكتب الروحية و العقدية و التاريخية و الطقسية ، وشتي ألوان المعرفة.

+ و علي الإنسان أن ينتقي ما يشبع قلبه وفكره. و أن يصنع لنفسه برنامجاًُ يومياً في القراءة ، أو علي الأقل برنامجاً أسبوعياً ، بحيث إن قصر في يوم تسنده قراءة يوم أخر .

+ والتلمذة علي الكتب لها اتجاهان : المعرفة و الحياة . و لكي تحول بعض معارفك إلي حياة ، عليك بالتداريب الروحية . إقرأ ، وافهم جيدا . و استخرج المعاني الروحية النافعة و المناسبة لك . وسجلها في مفكرة خاصة ، لكي تتذكرها بين الحين و الحين . ودرب نفسك عليها . و حاسب نفسك علي التدريب . و راقب نفسك في التطبيق . ووبخ نفسك إن قصرت. وهكذا تحول المعلومات الروحية إلي حياة .

وفي حديثنا عن الكتب وأوريجانوس ، نذكر اثنين تتلمذا عليه: إنهما القديسان باسيليوس الكبير ، وأغريغوريوس الناطق بالإلهيات . مع إنهما لم يعاصراه ، إذ عاشا في القرن التالي له . و لكنهما تتلمذا علي كتبه. تماماً كما قال اليهود للمولود أعمي : ” وأما نحن فإننا تلاميذ موسى”( يو 9: 28) . مع أنهم لم يعاصروا موسى النبي ، لكنهم تتلمذوا علي الأسفار الخمسة التي كتبها ، و التي أطلق عليه اسم ناموس موسى .

لاشك أنكم رأيتم كثيرين من الناس الطيبين . فهل استفدتم منهم ؟ صدقوني أن الله سيديننا في اليوم الأخير ، إن لم نستفيد ممن أرسلهم إلينا كعناصر ممتازة يمكن أن نقتدي بها ، مثلما قال عن معاصري حياته في الجسد علي الأرض “ملكة التيمن ستقوم في يوم الدين مع هذا الجيل و تدينه” ( مت12: 42 ).

ربما تسمع أو تقرأ عن الوداعة ولا تفهم معناها بالضبط . ثم يرسل الله لك إنساناً و ديعاً ، تراه فتتلمذ علي وداعته ، و تفهم منه ما هي الوداعة أكثر مما تشرحه الكتب.

وهكذا في كل فضيلة يرسل لنا الرب عينات حية : في التواضع ، في البساطة ، في الغيرة المقدسة ، في الإيمان ، في كافة الأمور الروحية التي قد تعجز الكتب عن شرحها بدقه ، والتي قد يكون معناها أكثر من احتمال تعبير الألفاظ .. وإن سأل الله (( لماذا لم تتلمذوا علي هذه النماذج العملية ؟! )) حينئذ ” يستند كل فم ” ( رو3: 19) ..

أتظن إن التلمذة هي فقط علي الكتب و العظات و الإرشاد الروحي . كلا. فهناك تلمذة علي أشخاص لا يتحدثون عن الفضائل ، إنما تتحدث فضائلهم عنهم .

لذلك خذ درساً من كل فضيلة تراها في أي إنسان ، أياً كان ، مسيحياً كان أو غير مسيحي ، خادماً كان أو علمانياً .. 

فاصل

التعليم من الطقوس :

 كل ما وضعته الكنيسة من الطقوس ، له فوائدة الروحية ، لمن يحب يتأمل و يتعلم .. ومن أجل هذا نجد الأطفال و الأميين يستفيدون ، حتي أن كان مستواهم العلمي و الذهني لا يساعد علي فهم كل معاني الصلوات . وليسواهم فقط بل كل الشعب يحصل علي فوائد روحية من الطقوس . ولكنهم يستفدون من كل ما يرونه من شموع ، وبخور و أيقونات و ملابس . بل و يستفيدون من تحركات الكاهن ، ومن وجودهم وسطها أو في الهيكل . و ينتفعون كذلك روحياً ، من سلالم الكنيسة ، ومن الوقوف و الجلوس ، ومن منظر الملابس و الصلبان .. إلخ .

+ يرون الشمعة تنير أمام صورة قديس : فيتذكرون سيرة القديس و ينتفعون به . ويرون إكرام الكنيسة له بالأنوار فيعرفون أنه لابد كان نافعاً ويستحق التكريم . وهكذا يكرم الله الذين يكرمونه . ونور الشمعة يذكرهم كيف أن القديس كان منيراً  مثل هذه الشمعة . ولكي ينير كالشمعة ، لابد أنه كان يروي و يذوب فيما ينير . وهكذا يأخذون درساً في بذل الذات ، من أجل محبه الله ، وفي خدمة الآخرين ..

ويشعرون أن هذا القديس حي لم يمت، فيتحدث معه ويطلبون صلواته عنهم ، ويكلمونه كما لو كان موجوداً بينهم . وهكذا يأخذون فكرة عن العلاقة بين الكنيسة المجاهدة علي الأرض ، و أعضائها الذين جاهدوا و انتقلوا . وفي كل ذلك – ودون أن يشعروا -تثبت فيهم عقيدة الخلود ، ويرددون في داخلهم قول الكاهن في الصلاة : “لأنه ليس موت لعبيدك بل هو انتقال”. إنها دروس من مجرد شمعة وصورة ..
و المتعمقون يرون أن الشمعة تضئ بسبب الزيت يرمز إلي الروح القدس ..  وهكذا يرون أن كل ما نعمله خير ، لا يرجع إلي معدننا الطيب ، بقدر ما يرجع إلي عمل الروح فينا . و يتذكر أهمية الزيت في قصة العذارى الحكيمات و الجاهلات …
وكذلك يأخذون دروساً أخري من الشموع عند قراءة الإنجيل ، والشموع في الكنيسة عموماً وفي الهيكل .
ويذكرون قول المزمور (( سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي )) (مز 119) وأيضاً “كلمة الرب مضيئة تنير العينين عن بعد” ويرون أن الكنيسة كالسماء في أنوارها ، وأن هذه الأنوار تذكرنا بالملائكة . وبأن المؤمنين (( يضئيون كالكواكب إلي آبد الدهور )) (دا12 : 3 ) .

+ ملابس الكهنة البيضاء تذكر المصلين بنقاوة الكهنوت: و بأن الكهنة هم ملائكة الكنيسة( رؤ2،3) . وتذكرهم بسكان السماء الذين ظهروا في سفر الرؤيا بثياب بيض ، قد بيضوها في دم الحمل (رؤ7 : 13 ،14) .

+ والدرجات التي يصعدها الكهنة إلي الهيكل ، تذكرهم بسمو المذبح و ارتفاعه ، وعلو خدامه .. وهكذا يخلعون أحذيتهم وهم يدخلون إلي الهيكل . شاعرين بقدسيته . وبأن مكان الشمامسة و الخدام أعلي من مكان الشعب ، ومكان الهيكل أعلي من كليهما …

 + و البخور إذ يرتفع  إلي فوق ، وهو لرائحة زكيه : يذكرهم بالصلوات الطاهرة التي تصعد إلي فوق إلي السماء . ويعوزني الوقت إن تكلمت عن كل طقوس الكنيسة بالتفصيل ، وكل ما فيها من تأملات ومن دروس . مع تنوع القراءات وألحان الصلوات .. إنها تحتاج إلي كتب .
ولكن يكفي أن كل من يدخل الكنيسة بروح التأمل ، يخرج منها وهو في حالة روحية قوية ، وقد أثرت فيه الدروس التي تلقاها من الطقوس ..

فاصل

 التلمذة علي أب الإعتراف

 سعيد هو الإنسان الذي له أب اعتراف علي مستوي الإرشاد الروحي . لا يسمع فقط ويقرأ التحليل ، وإنما يرشد أيضاً ويعلم ويشرح الطريق الروحي ، ويمنح ابنه في الإعتراف موهبة الإفراز و التمييز..

 ذلك هو المعلم الذي درس الطريق الروحي و اختبره .

ودرس النفس البشرية ، وعرف ضعفاتها ، وغرائزها ، وميولها ، و دوافعها . كما يكون أيضاً قد درس حروب الشياطين وحيلهم ومكرهم وخداعهم . وعرف أيضاً وسائل الإنتصار عليهم .

مثل هذا الأب يمكن التتلمذ عليه . فإن لم يوجد يبحث المعترف عن المرشد روحي . يضعه إلي جوار أب الاعتراف ، ويسأله فيما يمكن أن يتصرف به في حياته الروحية .. المفروض أن يكون أب الاعتراف هو المرشد لأن نفس المعترف مكشوفة أمامه . فإن لم يكن له هذه الموهبة . أو كان وقته ضيقاً جداً لا يكفي الإرشاد المئات من المعترفين عليه ، بالإضافة إلي  مسئوليات الأخرى ، حينئذ تقضي الضرورة إلي وجود مرشد يسند المعترف بنصائحه و تشجيعا ته ، ويكشف له ما خفي عن معرفته ، حتي لا يسير في الضباب .

ومن  جهة التلمذة علي الآباء و المرشدين ، لنا ملاحظات :

1-    ينبغي أن يكون المرشد سليماً في عقيدته ، سليماً في إرشاده وفي قيادته ، مجرباً مختبراً.

2- إذن إنحرف الأب و المرشد ، لا تجوز له طاعة ، ولا يجوز قبول إرشاده. من هنا كان علي الإنسان أن يسترشد ، وفي نفس الوقت يكون مفتوحاً العينين . ويحرص علي راحه ضميره في كل ما يقبله من إرشاد . وعلي الأب أو المرشد أن لا يكتفي بمجرد التوجيه ، إنما أيضاً يقنع ويثبت التعليم بآيات الكتاب أو أقوال . القديسين .

3- وليس من الصالح أن يحاول المعترف أن يكون صورة من أبيه الروحي في كل شئ . فربما ما يناسب أباه لا يناسبه هو . وربما ظروف أبيه ومقدراته ونفسيته تختلف عنه تماماً . إنما يأخذ المبادئ ، ويطبقها علي قدر طاقته الروحية ، وحسبما يناسبه هو ويناسب شخصيته .

4- وفي نفس الوقت لا يجوز للمرشد أن يلغي شخصية من يتتلمذ عليه .. 

5- وقد يحتاج الإنسان فيما يتلقاه من المرشد أو من الكتب إلي شئ من التدريج :فليس كل ما يقتنع به الإنسان من الفضائل أمراً سهلاً في تنفيذه . ربما يحتاج إلي وقت طويل .. من أجل عدم تعود النفس علي هذا الجديد من الفضائل ، وربما لمقاومة العادة ، أو بسبب حروب الشياطين ومحاولتهم عرقلته في طريق الله ، أو بسبب العقبات التي تصادفه من بيته أو من البيئة المحيطة ..! كذلك فالشيء الذي يدركه بسهولة ، قد يفقده بسهولة .

6- قبل أن تذهب للاسترشاد الروحي ، عليك أن تصلي أن يهب الله لمرشدك الفكر الصالح الذي يناسب حياتك .  أي تصلي أن ينفذ الله مشيئته في حياتك عن طريق الأب أو المرشد . فيقودك في الإرشاد الذي يريد الله أن يقدمه لك ، ويرشده بما يرشدك به ..

7.- اعرف أن الفضائل التي تسلك فيها حسب هواك ، قد تقودك إلي المجد الباطل… وقد شرح الكتاب هذا الأمر في آية تكررت مرتين متقاربتين في نفس السفر ” توجد طرق تظهر للإنسان مستقيمة ، وعاقبتها طرق الموت” ( أم 14 : 12 ، 16 :25) . وقد يتشبث الإنسان بهذه الطريق التي تبدو مستقيمة ، ويكون فيها تشبثه كل الضرر له .

8- إن التعليم من الله قد يعني التعليم من مصادر إلهية:  إننا نتعلم من الله في كتابه المقدس . يتعلم من السيد المسيح في سيرته المقدسة  . ومع ذلك نحتاج إلي من يفسر لنا هذه الكتب ، و إلي من يقودنا في الطريق الروحي . فليس التعلم مجرد فهم نظري ، بقدر ما هو تطبيق عملي .

9-وإلا فلماذا أوجد الله المعلمين و المرشدين ؟! لماذا قال للتلاميذ (( وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به )) ( مت 28 : 2.) إن كان يمكن للإنسان أن يتعلم من الله مباشرة ؟! ولماذا (( أعطي البعض أن يكونوا .. رعاة ومعلمين )) ( أف4: 11) . ولماذا قيل (( أم المعلم ففي التعليم )) ( رو 12 : 7) . ولماذا قيل إنه من فم الكاهن تطلب الشريعة ( ملا2)
إن عبارة (( يكون الجميع متعلمين من الله )) ( يو 6: 45 ) ، نفهمها بآية أخرى هي (( من يسمع منكم ، يسمع مني )) ( لو 1.: 16) .
إن من يطلب أن يتعلم من الله مباشرة ، أو يتتلمذ علي المسيح مباشرة ، ربما ينقصه الإتضاع الذي يقبل التعليم من المعلمين و المرشدين ، و يعوزه أن يتذكر قول الرسول (( اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله ..)) ( عب 13 : 7) . وأيضاً (( أطيعوا مرشديكم واخضعوا . لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم كأنهم سوف يعطون حساباً ، لكي يفعلون ذلك بفرح غير آنين ، لأن هذا غير نافع لكم )) ( عب 13 : 17) . إن القديس بولس الرسول قد أمتدح تلميذه تيموثاوس الأسقف قائلاً : (( وأما أنت فقد  تبعت تعليمي و سيرتي وقصدي و إيماني ..)) ( 2تي 3 : 1.) . لماذا لم ينصحه أن تعليمه و سيرته من الله مباشرة ؟! وهل ترانا أعظم من القديس تيموثاوس الذي تلقي تعليمه من بولس الرسول ؟ ! ولماذا يقول بولس الرسول للمؤمنين (( كونوا متمثلين بي ، كما أنا بالمسيح )) ( 1كو 11: 1) (( كونوا متمثلين بي معاً أيها الأخوة)) ( في 3: 17)..

10 – الحياة الروحية أيها الإخوة تحتاج إلي إتضاع قلب .  وفي التلمذة أتضاع .. أما الذي يصر علي أن يتعلم من الله مباشرة ، فقد يقع في الكبرياء . وتستطيع الكبرياء أن تسلمه فريسة سهله للشياطين ، فيقدمون له ما يشاءوا من التعليم . وكل المبتدعين و الهراطقة في تاريخ الكنيسة ، رفضوا أن  يتتلمذوا علي الكنيسة ، واتبعوا فكرهم ، ظانين أن ذلك الفكر هو من الله !!

11- ربما تكون هناك مصادر كثيرة للفكر الذي تظنه من الله .
قد يكون فكرك الخاص ، أو هواك الخاص . وقد يكون فكراً مترسباً في عقلك الباطن من قراءات أو سماعات سابقة . وقد يكون خدعة من الشيطان .. وأنت محتاج أن تتباطأ وتتروي ، وتقرأ الكتاب ، وتسأل وتسترشد .

أيها الأحباء ، تواضعوا ، وتتلمذوا ..

واذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله ..

فاصل

من كتاب التلمذة – البابا شنودة الثالث

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى