رسائل القديس أنطونيوس – الرسالة السادسة

 

من أنطونيوس إلى جَميع الإخوَة الأعزّاء الذين في أرسينوي وما حولها، وإلى أولئِكَ الذين معكم، سلام لكم.

إليكم جميعًا يا مَن أعددتم أنفسَكم لتأتوا إلى الله. أحيّيكم يا أحبّائي في الربّ من أصغركم إلى أكبركم، رِجالًا ونساءً، أنتم الأبناء الإسرائيليّون القدّيسون في جوهركم العقليّ. حقيقة يا أبنائي أنّ غبطة عظيمة قد أتت إليكم، فما أعظم النِعمة التي حلّت عليكم في أيّامكم هذه. ويليق بكم بسببه هو (المسيح) الذي قد افتقدكم، أن لا تكلّوا في جهادكم حتّى تقدّموا أنفسكم ذبيحة لله في كلّ قداسة. فإنّها بدونها لا يستطيع أحد أن ينال الميراث.

حقـًّا يا أحبّائي أنّ هذا أمرٌ عظيمٌ لكم، أن تطلبوا ما يختصّ بفهم الجوهر العقليّ الذي لا يوجد فيه ذكر أو أنثى، لكنّه كيان غير مائت له بداية لكن ليس له نهاية. وأن تعلموا أنّ هذا الجوهر العقليّ قد سقط في الهوان والعار العظيم الذي قد أتى علينا جَميعًا لكنّه جوهر غير مائت لا يفنى مع الجسد ولذلك رأى الله أنّ جرحه غير قابل للشّفاء. ولأنّه كان جرحًا خطيرًا هكذا، فإن الله افتقد البشر برحمته ومن صلاحه بعد مرور عدّة أزمنة، سلّم لهم ناموسًا لِمساعدتهم بواسطة موسى مُعطي الناموس، وأسّس موسى لهم بيت الحقّ وأراد أن يشفي ذلك الجرح العظيم ولم يستطع أن يكمِّل بناء هذا البيت.

ومرّة أخرى اجتمعت معًا جوقات القدّيسين (الأنبياء) وطلبوا الآب بخصوص مخلّصنا، لكي يأتي إلينا لأجل خلاصنا جَميعًا. لأنّه هو رئيس كهنتنا والأمين والطبيب الحقيقيّ الذي يستطيع أن يشفي الجرح العظيم. لذلك حسب إرادة الآب، أخلى نفسه من مجده. لقد كان إلهًا وأخذ صورة عبد (في 2/ 7، 8). لقد أخذ جسدنا وبذل نفسه لأجل خطايانا، وآثامنا سحقته، وبجراحاته شُفينا جَميعًا (أش 53/ 5).

لذلك يا أبنائي الأعزّاء في الربّ أريدكم أن تعرفوا، أنّه بسبب جهالتنا أخذ شكل الجهالة، وبسبب ضعفنا أخذ شكل الضعف، وبسبب فقرِنا أخذ شكل الفقر، وبسبب موتنا لبس صورة المائت وذاق الموت، واحتملَ كلّ هذا من أجلنا. حقـًّا يا أحبّائي في الربّ يجب ألا نُعطي نومًا لعيوننا ولا نعاسًا لأجفاننا (مز 132/ 4) لكن يجب علينا أن نصلّي ونطلب بلجاجة إلى صلاح الآب حتّى ننال رحمة، وبهذه الطريقة سوف يتجدّد حضور المسيح (فينا) ونُعطى قوّة لِخدمة القدّيسين، الذين يعملون لأجلنا على الأرض في وقت تراخينا، وسوف نحثّهم ليتحرّكوا إلى مساعدتنا وقت ضيقنا. حينئذٍ يفرح الزّارعُ والحاصدُ معًا.

أريدكم أن تعلموا يا أبنائي، حزني العظيم الذي أشعر به لأجلكم حينما أرى الاضطراب العظيم الآتي علينا وأفكّر في تعب القدّيسين وتنهدّاتهم التي ينطقون بها أمام الله من أجلنا، لأنّهم يشاهدون كلّ أتعاب خالقهم وعمله لأجل خلاصنا، وكلّ المشورات الشرّيرة التي لإبليس وخدّامه والشرّ الذي يفكّرون فيه دائِمًا لأجلِ هلاكنا منذ صار نصيبهم في جهنّم، ولأجل هذا السبب يريدوننا أن نهلك معهم وأن نكون مع جمعهم الكثير. حقـًّا يا أحبّائي في الربّ أتحدّث إليكم كما إلى رجالٍ حكماء لكيما تعرفوا تدبيرات خالقنا التي جعلها لأجلنا، والتي تُعطى لنا بواسطة البشارة الظاهرة والخفيّة.

لأنّنا ندعى عاقلون، لكنّنا قد لبسنا حالة الكائنات غير العاقلة بسبب ميلنا مع العدوّ، أم لستم تعلمون كيف تكون حيل الشيطان وفنونه الكثيرة، لأنّ الأرواح الشرّيرة تحسدنا منذ أن عرفوا أنّنا حاولنا أن نرى عارنا وخزينا وقد بحثنا عن طريقة للهروب من أعمالهم التي يعملونها معنا، ولم نحاول فقط أن نرفض مشوراتهم التي يزرعونها فينا بل أنَّ كثيرين منّا يهزأون بحيلهم. والشّياطين تعرف إحسان خالقنا في هذا العالم، وإنّه قد حكم عليهم بالموت وأعدّ لهم جهنّم ليرثوها بسبب غفلتهم وكثرة خبثهم.

أريدكم أن تعلموا يا أبنائي أنّني لا أكفُّ عن التّوسل لله لأجلكم ليلا ً ونهارًا لكي يفتح عيون قلوبكم حتّى تبصروا كثرة خبث الشّياطين الخفيّ وشرّهم الذي يجلبونه علينا كلّ يوم في هذا الوقت الحاضر. وأرجو الله أن يمنحكم قلب معرفة وروح تمييز حتّى تستطيعوا أن تقدّموا قلوبكم كذبيحة نقيّة أمام الآب في قداسة عظيمة بلا عيب.

حقـًّا يا أبنائي، أنّ الشّياطين تحسدنا في كلّ الأوقات بمشورتهم الشرّيرة واضطهاداتهم الخفيّة ومكرهم الخبيث وروح الإغراء، وأفكارهم التجديفيّة وعصيانهم، وكلّ الشرور التي يبذرونها في قلوبنا كلّ يوم، وقساوة القلب والأحزان الكثيرة التي يجلبونها علينا في كلّ ساعة، والمخاوف التي بها يجعلون قلوبنا تضعف يوميًّا، وكلّ غضب وذمّ بعضنا لبعض الذي يعلّموننا إيّاه، وكلّ تبرير لذواتنا في كلّ ما نفعل، والإدانة التي يدخلونها في قلوبنا، التي تجعلنا عندما نجلس منفردين، أن ندين إخوتنا بالرّغم من عدم سكناهم معنا، والاحتقار الذي يضعوه في قلوبنا بواسطة الكبرياء عندما نكون قساة القلوب ونحتقر بعضنا البعض، وعندما تكون عندنا مرارة ضدّ بعضنا البعض بكلماتنا القاسية، وعندما نحزن في كلّ ساعة، وعندما نتهّم بعضنا البعض، ولا نلوم أنفسَنا ظانّين أنّ إخوتنا هم سبب متاعبنا، بينما نحن جالسون نصدر أحكامنا على ما يظهر خارجًا (الأشياء الظاهرة)، بينما السّارق موجود بكلّيته داخل بيتنا، وكلّ المجادلات والانقسامات (في الرّأي) التي نتجادل بها مع بعضنا البعض إنّما تهدف إلى إثبات كلمة ذواتنا لنظهر مبرّرين أمام بعضنا البعض.

إنّ الأرواح الشرّيرة تجعلنا نتحمّس لأعمال لا نستطيع القيام بها. بينما تتسبب في أن نفشل ونخور في المهام التي في أيدينا والتي هي نافعة لنفوسنا، لذلك فإنّهم يجعلوننا نضحك في وقت البكاء ونبكي في وقت الضحك وهكذا ببساطة، فإنّهم يحوِّلوننا كلّ مرّة عن الطريق الصّحيح. وتوجد خداعات أخرى كثيرة يجعلوننا بواسطتها عبيدًا لهم، لكن لا يوجد وقت الآن لكي نصف كلّ هذه. لكنّهم عندما يملأون قلوبنا بهذه الخدع (الحيل) فإنّنا نتغذ ّى بها، فتصير طعامًا لنا، ومع ذلك فإنّ الله يصبر علينا ويفتقدنا لكي نتركها ونرجع إليه. هذا وإنّ أعمالنا الشرّيرة التي ارتكبناها ستظهر لنا في جسدنا وستلبس نفوسنا هذا الجسد مرّة أخرى، لأنّ الله بصبره يسمح بذلك، فتصير أواخرنا (في هذه الحالة) أشرّ من أوائلنا (متى 12/ 45). لذلك لا تملّوا من التّوسّل والصّلاة إلى صلاح الآب حتّى إذا أتتكم معونته، تستطيعون أن تُعلِموا نفوسَكم ما هو الصّواب.

حقـًّا أخبركم يا أبنائي أن هذا الإناء الذي نسكن فيه هو هلاك لنا، وبيت مملوء بالحرب. بالحقيقة يا أبنائي، أخبركم بأنّ الإنسان الذي يُسرّ بإرادته الذاتيّة ويُستعبد لأفكاره ويقبل الأشياء التي زُرِعت في قلبه ويلتذ بها، ويتصوّر في قلبه أنّ هذه الأفكار سرّ شيء عظيم ممتاز، ويبرّر نفسه بأعماله الظاهرة فإن نفس هذا الإنسان تكون مأوى للأرواح الشرّيرة التي تعلمه وتقوده إلى الشرّ، وجسده يمتلئ بنجاسات شرّيرة يخفيها في داخله: ويصير للشّياطين سلطان عظيم على مثل هذا الإنسان لأنّه لم ينفر منهم ولم يخزهم أمام الناس.

ألا تعرفون أنّ الشّياطين ليس لهم طريقة واحدة للاصطياد، حتّى يمكننا معرفتها والهروب منها؟

أنتم تعرفون أن شرّهم وإثمهم غير ظاهرين بشكل منظور، لأنّهم ليسوا أجسامًا منظورة، ولكن ينبغي أن تعرفوا بأنّنا نصير أجسادًا لهم حينما تقبل نفوسنا أفكارهم المظلمة الشرّيرة، وعندئذٍ يصيرون هم ظاهرين بواسطة جسدنا الذي نسكن فيه. فالآن إذن يا أبنائي، دعونا لا نعطيهم مكانًا فينا، لئلا يأتي غضب الله علينا، أمّا هم فسيمضون إلى موضعهم وهم يضحكون ساخرين بنا.

وهم يعلمون أنّ هلاكنا هو من طريق (بغضة) قريبنا، وأنّ حياتنا أيضًا وخلاصنا هي من طريق (محبّة) قريبنا. من رأى الله قط، حتّى يفرح معه ويحتفظ به داخل نفسه، حتّى أنّ الله لا يمكن أن يفارقه، بل يعينه أثناء سُكناه في هذا الجسد الثقيل؟ أو من رأى قط شيطانًا في محاربته ضدّنا، عندما يمنعنا من عمل الصّلاح ويهاجمنا، واقفـًا في مواجهتنا بشكل محسوس، لكي نخاف منه ونهرب منه؟ فإنّ الشّياطين يعملون خفية، ونحن نجعلهم ظاهرين بواسطة أعمالنا. وهم جميعًا من مصدر واحد في جوهرهم العقليّ، ولكنّهم عندما ابتعدوا عن الله صاروا أنواعًا متعدّدة عن طريق تنوّع أعمال شرّهم.

ولذلك أُعطيَت لهم (الملائكة الأبرار والأشرار) أسماء مختلفة على حسب نوع عمل كلّ واحد منهم. فالبعض من الملائكة (الأبرار) يُسمّون رؤساء ملائكة، والبعض منهم كراسي وربوبيات، والبعض رئاسات وسلاطين والشّاروبيم، وهذه الأسماء أُعطِيَت لهم حين حفظوا مشيئة خالقهم. ومن الجهّة الأخرى فإنّ شرّ الآخرين (الملائكة السّاقطين) جعل من الضروريّ تسميتهم بأسماء: إبليس والشّيطان، بسبب حالتهم الشرّيرة، والبعض منهم دُعوا شياطين، والبعض أرواح شرّيرة وأرواح نجسة، والبعض أرواح مُضلّة، والبعض دُعوا باسم رؤساء هذا العالم. وتوجد أيضًا أنواع أخرى كثيرة منهم.

ويوجد أيضًا بين البشر الذين سكنوا في هذا الجسد الثقيل، هذا الذي نسكن فيه، من قد قاوموا الشّياطين، والبعض من هؤلاء البشر دعوا رؤساء آباء، والبعض أنبياء وملوك وكهنة وقضاة ورسل، وآخرون كثيرون صاروا مختارين بسبب صلاحهم. وسواء كانوا رجالا ً أم نساءً، فقد أُعطِيَت لهم كلّ هذه الأسماء على حسب نوع أعمالهم، ولكنّهم جميعًا هم من واحد.

لذلك فلأجل هذا السبب، أنّ الذي يُخطئ ضدّ نفسه، والذي يفعل شرًّا بقريبه فإنّه يفعل شرّاً بنفسه، والذي يصنع خيرًا بقريبه يصنع خيرًا لنفسه. ومن جهّة أخرى، من الذي يستطيع أن يفعل شرًّا بالله أو مَن هو الذي يستطيع أن يؤذيه أو مَن يستطيع أن يُغنيه أو مَن يستطيع قط ّ أن يخدمه أو مَن يستطيع قط ّ أن يباركه؛ كأنّ الله محتاجٌ إلى مُباركة البشر وشكرهم، أو مَن الذي يستطيع أن يكرّم الله الإكرام الذي يليق به أو أن يمجّده بالمجد الذي يستحقـّه؟

لذلك ففي أثناء غُربتنا ونحن لابسون هذا الجسد الثقيل، فلنعطِ الفرصة لله لكي يكون حيًّا وفعّالا ً وحاضِرًا في نفوسنا عن طريق حثّ وتحريض بعضنا البعض. ولنبذل ذواتنا حتّى الموت لأجل نفوسنا ولأجل بعضنا البعض، فإذا فعلنا هذا فإنّنا بذلك نُظهر طبيعة رحمة الله وحنانه من نحونا. فلا نكن محبّين لذواتنا لكي لا نكون مستعبدين لسلطانها المتقلّب غير الثابت. لذلك فإنّ مَن يعرف نفسه، فهو يعرف جميع الناس. لذلك مكتوب “إنّ الله دعا كلّ الأشياء من العدم إلى الوجود” (حكمة 1: 14). ومثل هذه الشّهادات تشير إلى طبيعتنا العقليّة المختفية في هذا الجسد الفاسد، ولكنّها ليست منتمية إليه منذ البداية بل سوف تتحرّر منه. ولكن مَن يستطيع أن يحبّ نفسه يحبّ كلّ الناس.

يا أبنائي الأعزّاء، إنّني أصلّي لكي لا يكون هذا الأمر شاقـًّا عليكم ومتعبًا لكم، ولكي لا تكلّوا وتضجروا من محبّة بعضكم البعض. يا أبنائي إرفعوا وقدّموا جسدَكم هذا الذي تلبسونه، واجعلوا منه مذبحًا (لإحراق البخور)، وضعوا عليه كلّ أفكاركم واتركوا عليه أمام الربّ كلّ مشورة شرّيرة، وارفعوا يديّ قلوبكم إلى الله – العقل الخالق – متوسّلين إليه بالصّلاة، أن يرسل عليكم من الأعالي ويُنعم عليكم من الأعالي ويُنعم عليكم بناره غير المرئيّة العظيمة، لكي تنزل من السّماء وتحرق كلّ ما هو موضوع على المذبح، وتطهّر المذبح، وبذلك فإنّ كهنة البعل – الذين هم أعمال العدوّ المُضادة سيخافون ويهربون من أمام وجوهكم، كهروبهم أمام وجه إيليّا (1مل 18/ 38-44) وحينئذٍ ستبصرون سحابة “قدّ كفّ إنسان” صاعدة من البحر، وهي التي ستأتي إليكم بالمطر الرّوحانيّ ليسقط عليكم، الذي هو تعزية الرّوح المعزّي.

يا أبنائي الأعزّاء في الربّ، الأبناء الإسرائيليّون القدّيسون، إنّه لا توجد حاجة إلى تسمية أسماءكم الجسديّة، التي ستمضي وتنتهي. ولكنّكم تعرفون مقدار المحبّة التي بيني وبينكم، وهي ليست محبّة جسديّة، بل محبّة روحيّة إلهيّة.

وإنّي واثق تمامًا أنّكم قد نلتم نعمة وغبطة عظيمة، عن طريق إكتشافكم لخزيكم وعاركم الخاص بكم، واهتمامكم بتقوية وتشديد وثبات جوهركم غير المنظور (إنسانكم الباطن) الذي لا يفنى ولا يضمحلّ مع الجسد. وبهذه الطريقة أعتقد أنّكم تحصلون على النّعمة والبركة والغبطة من هذا الزمان الحاضر.

لذلك فلتكن هذه الكلمة واضحة دائمًا أمامكم وهي أن لا تظنّوا، في تقدّمكم (في النّعمة) وسيركم في الطريق (الرّوحي)، أنّ هذا هو من فضل أعمالكم، بل افهموا أنّ الفضل في هذا يرجع إلى قوّة إلهيّة مقدّسة تشترك معكم وتعينكم دائمًا في كلّ أعمالكم. اجتهدوا أن تقدّموا ذواتكم كذبيحة لله دائمًا. واعطوا فرحًا لتلك القوّة التي تُعينكم، وابهجوا قلب الله في مجيئه، وكذلك كلّ جماعة القدّيسين، وأعطوا فرحًا لي أنا أيضًا – أنا المسكين البائس – الذي أسكن في هذا المسكن المصنوع من طين وظُلمة. من أجل هذا فأنا أخبركم بهذه الأمور، لكي أنعش وأعزّي نفوسكم، وأصلّي، حيث أنّنا جميعًا من نفس الجوهر غير المنظور – الذي له بداية ولكنّه بلا نهاية – أن نحبّ بعضنا بعضًا بمحبّة واحدة. لأنّ كلّ الذين عرفوا أنفسهم، يعرفون أنّهم جميعًا من جوهر واحد عديم الموت.

وأريدكم أن تعرفوا هذا، أنّ يسوع المسيح ربّنا، هو نفسه عقل الآب الحقيقيّ وبه قد خلِقت كلّ الخلائق العاقلة على مثال صورته، وإنّه هو نفسه، رأس الخليقة، ورأس جسده أي الكنيسة (كو 1/ 15-18). لذلك فإنّنا جميعًا أعضاء بعضنا البعض ونحن جسد المسيح.

والرأس لا تستطيع أن تقول للقدمين، لا حاجة لي إليكما، وإن كان عضوٌ واحد يتألم، فالجسد كلّه يتألم معه (أف 4/ 25، 1كو 12/ 26، 27). أمّا إذا انفصل عضو وخرج من الجسد ولم يعد له اتّصال بالرّأس، بل يجد مسرّته في أهواء وشهوات نفسه وجسده، فهذا معناه أنّ جرحه عديم الشّفاء، وقد نسي أصل حياته وبدايتها ونسي نهايتها وغايتها.

ولذلك فإنّ آب الخليقة كلّها قد تحرّك بالحنوّ والرّحمة نحو جرحنا هذا، الذي لم يستطع أحد من الخلائق أن يشفيه، ولكنَّ شفاءه هو بصلاح الآب وحده. الذي بصلاحه ومحبّته، أرسل لنا ابنه الوحيد، الذي من أجل عبوديّتنا أخذ صورة العبد (في 2/ 7)، وبذل نفسه من أجل خطايانا، مسحوقـًا لأجل آثامنا، وبجرحه شفينا جميعًا (أش 53/ 5)، وهو جمعنا من كلّ الجهّات لكي يصنع قيامة لقلوبنا من الأرض ويعلّمنا أنّنا جَميعًا من جوهر واحد وأعضاء بعضنا البعض. لذلك ينبغي علينا أن نحبَّ بعضنا بعضًا بقوّة عظيمة. فإنّ الذي يحبّ أخاه، يحبّ الله، والذي يحبّ الله فإنّه يحبّ نفسه.

لتكن هذه الكلمة ظاهرة أمامكم، يا أبنائي الأعزّاء في الربّ – الأبناء الإسرائيليّون القدّيسون وأعدّوا أنفسكم للمجيء إلى الربّ، لتقدّموا ذواتكم كذبائح لله بكلّ نقاوة، تلك التي لا يستطيع أحد أن يحصل عليها بدون تطهير. أم تجهلون يا أحبّائي، أنّ أعداء الصّلاح يتآمرون دائمًا، مدبّرين شرورًا ضدّ الحقّ؟

لأجل هذا أيضًا يا أحبّائي، كونوا حريصين، ولا تعطوا عيونكم نومًا، ولا أجفانكم نعاسًا (مز 132: 4).

واصرخوا إلى خالقكم نهارًا وليلاً، لكي تأتيكم القوّة والمعونة من الأعالي، وتحيط وتحفظ قلوبكم وأفكاركم في المسيح. حقـًّا يا أبنائي إنّنا متغرّبون الآن في بيت السَّارق، ومربوطون بربطات الموت. أقول لكم بالحقيقة، يا أحبّائي، أن إهمالنا وحالتنا الوضيعة وانحرافنا عن طريق الربّ، ليست خسارة وهلاك لنفوسنا فقط، ولكنّها أيضًا سبب حزن وتعب للملائكة ولجميع القدّيسين في المسيح يسوع. حقـًّا يا أبنائي، أنّ انحطاطنا واستعبادنا ـ يسبّبان حزنًا عظيمًا، كما أن خلاصنا وسموّنا ومجدنا هي سبب فرح وتهليل لهم جميعًا.

إعلموا أنّ محبّة الآب ورأفته لا تتوقـّف أبدًا، فمنذ بداية تحرّكه بالمحبّة من نحونا وإلى اليوم، وهو لا يكفّ عن العمل لخيرنا وخلاصنا، لكي لا نجلب الموت على أنفسنا بسبب سوء استعمال الإرادة الحرّة التي خلقنا بها. لأجل هذا فإنّ الملائكة أيضًا يحيطون بنا في كلّ الأوقات كما هو مكتوب “ملاك الربّ حالّ حول خائفيه وينجّيهم” (مز 34/ 7).

والآن يا أحبّائي أريدكم أن تعرفوا، أنّه منذ بدأت حركة محبّة الله نحونا حتّى الآن، فإنّ كلّ الذين ابتعدوا عن الصّلاح وسلكوا في الشرّ، يُحسبون أنّهم أبناء إبليس، وجنود إبليس يعرفون ذلك ولهذا السبب يحاولون أن يحوّلوا كلّ واحد منّا لنسير في طريقهم.

ولأنَّ الشّياطين يعرفون، أنّ إبليس سقط من السّماء عن طريق الكبرياء، لهذا السبب أيضًا فإنّهم يهاجمون أوّلا ً، أولئِكَ الذين بلغوا درجة عالية (في الفضيلة)، محاولين بواسطة الكبرياء والمجد الباطل أن يحرّكوهم الواحد ضدّ الآخر. وهم يعرفون إنّهم بهذه الطريقة يستطيعون أن يقطعونا عن الله، لأنّهم يعلمون أنّ من يحبّ أخاه يحبّ الله. ولهذا السبب فإنّ أعداء الصّلاح يزرعون روح الانقسام في قلوبنا، لكي نمتلئ بعداوة وبغضة شديدة ضدّ بعضنا البعض، لدرجة أنّ الإنسان في هذه الحالة لا يستطيع أحيانًا أن يرى أخاه أو أن يحدّثه ولو من بعيد.

حقـًّا، يا أبنائي، إنّي أريدكم أن تعرفوا أنّ كثيرين قد سلكوا طريق النّسك طوال حياتهم، ولكن نقص التّمييز والإفراز تسبّب في موتهم. حقـًّا يا أبنائي، إنّكم إذا أهملتم نفوسَكم، ولم تميّزوا أعمالكم وتمتحنوها فلا أظنُّ أنّه يكون أمرًا عجيبًا أن تسقطوا في يديّ إبليس بينما أنتم تظنّون أنّكم قريبون من الله، وبينما أنتم تنتظرون النّور تستولي عليكم الظّلمة. فأي احتياج كان ليسوع حتّى يمنطق نفسه بمنشفة ويغسل أرجل من هم أقلّ منه. إلاّ لكيّ يُعطينا مِثالاً، ولكيّ يعلّم أولئكَ الذين سيأتون ويتحوّلون إليه لينالوا منه الحياة من جديد؟ (يو 13/ 4-17). لأنّ بداية حركة الشرّ كانت هي الكبرياء التي حدثت أوّلاً. ولهذا فبدون اتّضاع عظيم بكلّ القلب والعقل والرّوح والنّفس والجسد، لن تستطيعوا أن ترثوا ملكوت الله.

حقـًّا يا أبنائي في الربّ، إنّي أصلّي نهارًا وليلا ً إلى إلهي الذي نلت منه عربون الرّوح (2كو 1/ 22)، أن يفتح عيون قلوبكم لتعرفوا المحبّة التي عندي من نحوكم، ويفتح آذان نفوسكم لكيّ تكتشفوا ارتباككم. فإنّ مَن يعرف خزيه، فإنّه يسعى من جديد لطلب النعمة التي وهِبت له: والذي يعرف موته يعرف أيضًا حياته الأبديّة.

إنّي أكلّمكم يا أبنائي، كأناسٍ حكماء: إنّي أخاف لئلاّ يستولي عليكم الجوع في الطريق، بينما كان من المفروض أن نصير أغنياء. كنتُ أرجو أن أراكم وجهًا لوجه في الجسد. ولكنّني أتطلّع إلى الأمام، إلى الوقت القريب، الذي فيه سنصير قادرين على أن نرى بعضنا البعض وجهًا لوجه حينما يهرب الألم والحزن والتنهّد، ويكون الفرح على رؤوس الجميع (أش 35/ 10).

وهناك أمور أخرى كثيرة أريد أن أخبركم بها. ولكن “أعطِ فرصة حكمة للحكيم فيزداد حكمة” (أم 9:9).

سلامي لكم جميعًا، يا أبنائي الأعزّاء كلّ واحد باسمه.

فاصل

كما يمكنك أيضاً قراءة رسائل القديس أنطونيوس

زر الذهاب إلى الأعلى