ظهور المسيح للتلاميذ

 

القيامة ، يا أحبائي ، حدث هبط إلينا من السماء ، ومفهومه يفوق العقل والحواس والمشاعر والتفكير، إنه فعل خلقة جديد أضاف للإنسان بُعداً جديداً سماوياً ؛ لذلك يلزم هنا ذهن مستعد لقبول حقائق جديدة لا تُقاس بأي حقائق أو قياسات معروفة سابقاً للإنسان ، وهي في نفس الوقت حقائق ليست وهمية ولا تصويرية ، بل حقائق واقعية يمكن أن تلمسها اليد لمس اليد لليد ، وتتحسسها كما تحس العظم واللحم .

“ولما كانت عشية ذلك اليوم ، وهو أول الأسبوع ، وكانت الأبواب مغلقة » : كان هذا هو اليوم المشهود في تاريخ الكنيسة، بل على وجه الصدق في تاريخ البشرية كلها، المسيح غلب الموت، الذي هو عدو الإنسان الأول والأخير . ووهب للإنسان الحياة الجديدة التي لا سلطان للموت عليها. ونفخ في الإنسان من روح الله القدوس ليتقبل قوة الحياة التي لا تموت ، عوض نفخة الله في نفس آدم التي أطفأتها لعنة العقوبة ، فساد عليها الموت كتأديب. 

كانوا عشرة تلاميذ من الاثني عشر ، فيهوذا سقط من الحساب ، وتوما تغيب ، وعلى أغلب الظن أنه غادر أورشليم إلى وطنه ، تماماً كما صنع تلميذا عمواس في ذلك اليوم أيضاً، واللذان عادا قبل المساء مسرعين إلى العلية بعد ظهور الرب لهما.

أما الأبواب المغلقة والخوف من اليهود ، فهذا إعلان صريح عن غياب الإيمان ، وغياب مفهوم القيامة وقوتها جملة وتفصيلاً، بل وغياب عنصر الرجاء ، الأمر الذي نلمسه بشدة في حديث الرب مع تلميذي عمواس ، الذي يعطينا صورة لما كان يدور الحديث حوله في العلية قبل ظهور الرب .

“فجاء يسوع ووقف في الوسط ” :

دخل الرب إلى حيث كان التلاميذ مجتمعين والأبواب مغلقة عليهم . هذا هو أول مفهوم لطبيعة القيامة ، فالقيامة من الموت لم تعد بعد تخضع لكل ما هو خاضع للموت ؛ أي الطبيعة البشرية بكل القوانين التي تحكمها ، فالجسد القائم من الموت هو جسد روحاني له عالمه الروحاني ، وله قوانينه الروحية .

 ظهور الرب وسط التلاميذ ألغي الأولويات والترتيب والكرامات في حضرة الرب ، فالكل في الحضرة الإلهية واحد ! ومن ذا الذي يتجرأ في حضور الله ليرى نفسه أعلى من أخيه؟

“سلام لكم ” :

ليست هي تحية بل عطية : « سلامي أعطيكم » ، وليس كما يعطي أهل العالم السلام بعضهم لبعض ، أو كما يعد الرؤساء شعوبهم بالسلام وهم أحوج الناس إليه ! سلام المسيح هنا ، أنشأ فيهم الفرح في الحال والتو : « ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب » . وهكذا ابتدأ يُداخلهم الفرح وسط الخوف الشديد الذي كان يعتريهم من اليهود. هذه أول مفاعیل القيامة وأشدها وأكثرها دوام : « ولكني سأراكم أيضا فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم » . إنها بهجة القيامة ، أمضى أسلحة الإيمان التي تغلب بها كل أهوال العالم ومخاوف الشيطان ومقاومة الأشرار . فالمسيحي الذي قام مع المسيح لا يعود يرهب الموت وكل تهديدات الموت ، لأن حياته ممتدة فوق الموت وأهواله ، لأن سيرته مكتوبة في السماويات.

« ولما قال هذا أراهم يديه وجنبه . ففرح التلاميذ إذ رأوا الرب »

مسيح القيامة هو مسيح الصليب : « لا تخف . أنا هو الأول والآخر ، الحي وكنت ميتاً ، وها أنا حي إلى أبد الآبدين » .. 

لا يمكن أن تفهم القيامة إلا على توقيعات الصليب وجروحه وموته ، ولا يمكن أن يُفهم عذاب الصليب ومعنى الموت إلا على نور القيامة . فالمسيح الذي مات مصلوب أمام أعينهم ، وكأنه قُضي ” قُطع من أرض الأحياء” ها هو الآن بجروحه المميتة ، واقف أمامهم حياً في ملء قوة الحياة . والموت الذي تراءى لأعينهم أنه ساد عليه وأنزله القبر ؛ طرحه المسيح عنه وداسه ، وقام بذات الجسد وذات الروح شامخاً فوق الموت ومن له سلطان الموت.

جروح اليدين والرجلين لم تُشف ، ولا الجنب المفتوح التأم ؛ بل احتفظ المسيح بها كعلامة الموت الذي جازه ، احتفظ بها كلها كما هي ؛ لأن الجسد الذي قام لم يعد يستمد حياته من عناصر الحياة على الأرض ، بل من فوق ، من الحياة التي له خاصة.

سمات الموت التي تقبلها الرب في الجسد ، صارت هي سمات القيامة والمجد ، ومن جروحه وجنبه المفتوح يخرج لنا الآن الشفاء والعزاء والحياة .

وليلاحظ السامع أن المسيح دخل إلى حيث كانوا مجتمعين والأبواب مغلقة ، هذا شأن جسد القيامة ، الجسد الجديد للخليقة الجديدة الروحانية . ولكن المسيح ، وبالجسد القائم من الموت ، وبمواصفاته الجديدة غير المنظورة ولا الملموسة ، أخضع جسده للرؤيا واللمس لتصير لدى التلاميذ ، وبالتالي لدى الكنيسة ، الخبرة الحقيقية والصادقة بحقيقة القيامة بالجسد وصدقها : “وأعطى أن يكون ظاهراً ليس لجميع الشعب ، بل لشهود سبق الله فانتخبهم ؛ لنا نحن الذين أكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الأموات ” ..

” ففرح التلاميذ “

هنا الفرح هو من نوع خاص جداً، ولا يمت بصلة إلى أي من أنواع الفرح التي نعرفها واختبرناها على الأرض . هذا الفرح هو فرح الروح بالروح ، وهو ينسكب على النفس نتيجة استعلان فائق ، وهو هنا المسيح نفسه. ولهذا الفرح مفاعيل ثلاث : الأول هو : توقف الحواس الجسدية بما فيها الخوف والاضطراب والحزن وكل المزعجات . والثاني هو : انفتاح النفس على المجال الروحي بلا عائق ، وتحس بالمسيح الواقف أمامها في الوسط . والثالث هو : تقبل النفس ، بقدر استعدادها : من المسيح سلاماً ونوراً وسكينة .

هذا الاختبار الروحي نفسه يمكن أن نحصل عليه أثناء تأملنا في الحقائق الإنجيلية إذا بلغ الإيمان التصديق الكلي لكل ما يقول الرب.

وهذا الفرح المنسكب علينا من الله هو مصدر قوة لا يستهان بها ، وقد عبر عن ذلك العهد القديم في منتهى الوضوح : « لأن فرح الرب هو قوتكم » .

« فقال لهم يسوع أيضا : سلام لكم ، كما أرسلني الآب أرسلكم أنا . ولما قال هذا ، نفخ وقال لهم : اقبلوا الروح القدس ».

المسيح هنا يعيد إعطاءهم السلام ؛ فالسلام الذي أعطاهم في البداية في حديث الوداع هو لحساب أنفسهم الخائفة الجزعة ، ليصيروا مُهيئين لتحمل الرسالة بأعبائها الخطيرة . أما عطية السلام الثانية هنا فهي لحساب الإرسالية ، هي ذخيرة وأمانة لكي كما قبلوا السلام لحساب الآخرين ؛ يعطونه للآخرين من عند الله والمسيح .

المسيح يكلفهم بمهمة الإرسالية ، لا كأنها عمل منفصل عنه ، يقومون به بأنفسهم ؛ بل كعمل ممتد منه و متصل به ، ومكمل له . فإرسالية المسيح للرسل تقوم على أساس ونمط وقوة إرسالية الآب للمسيح ، والتي هي أساس الإنحيل كله . وهو ما أكده المسيح في صلاته الختامية : « كما أرسلتني إلى العالم ؛ أرسلتهم أنا إلى العالم » .

وعندما يقول المسيح : « كما أرسلني الآب أرسلكم أنا » ، فهنا ليست المساواة في الإرسالية هي المقصودة ؛ بل ، الامتداد ، والمؤازرة ، والديمومة . ويلاحظ هنا أنه بعد أن أعطاهم التكليف بالإرسالية ، قدسهم بنفخة الروح القدس للعمل ، باعتبار أن الإرسالية عمل مقدس ، أي خاص بإعلان الله : « لأجلهم أقدس أنا ذاني ، ليكونوا هم أيضا مقدسين في الحق » . فالمسيح هنا يعطيهم الروح القدس ، وهو روح التقديس والشهادة معا ، لأنه هو الناطق فيهم والذي يعرفهم الحق . وعلينا أن نلاحظ الصلة بين الإرسالية وعطية الروح القدس للتلاميذ ، أنها صلة متبادلة وجذرية . فلا إرسالية بدون عطية الروح القدس ؛ ولا عطية الروح القدس دون كرازة وشهادة .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى