عيد النيروز عيد الشهادة الحية للثالوث القدوس

للقمص تادرس يعقوب ملطي

عيد النيروز

احتفالنا بعيد النيروز احتفال بالشهادة للثالوث القدوس محب البشر، العامل فينا ولحسابنا. نختبر عذوبة حب الآب المترقب مجيئنا، ونعمة الابن الوحيد الذي يكرمنا بالشركة معه في صلبه، وعطية الروح القدس الذي يهبنا أن نتشكل، فنصير أيقونة لمسيحنا ويهبنا أن نطير كما بجناحين إلى السماء.

تجسد الكلمة الإلهي ونزوله إلينا كشف لنا عن حقيقة الآب. قبلاً كان كثيرون يعبدون الآلهة بخوفٍ قاتلٍ. يظنون أنهم يسترضونهم بتقديم ذبائح بشرية، سواء من بين أطفالهم أو من الأسرى، كما كانوا يجرحون أنفسهم بالسيوف ليستعطفوا الآلهة. يا لها من آلهة مرعبة! أما تجسد الكلمة ففتح أعينا لنرى الآب كلي الحب الذي يجد مسرته مع ابنه الوحيد وروحه القدوس أن يبذل الابن نفسه فدية عن كل إنسانٍ.

مجيئه أعلن أن الله يبحث عني، ويجري ورائي، ويقدم كل شيءٍ لي، مُعلنًا لي أنه يحبني أولاً قبل أن أعرفه. إنه يشتهي سلامي وخلاصي ومجدي، يريدني أن أشاركه السماء المفرحة المجيدة. كشف لي عن حبه العملي على الصليب، مُقيمًا عهدًا جديدًا سجله في جسده، خاتمًا إياه بدمه الثمين! إنه يحول بريتي الداخلية إلى جنة تحمِل ثمر الروح من محبة وفرح وسلام (غلا  ٢٢:٥) يريد أن يحول أرضي إلى سماءٍ!

عيد النيروز والتسبحة الجديدة

تبدأ قراءات السنة في عشية النيروز: “سبحوا الرب تسبيحًا جديدًا، لأن الرب قد صنع أعمالاً عجيبة، أحيت له يمينه وذراعه القدوس. هليلويا” (مز ٩٨:١ )، لقد فتح لنا أبواب الفردوس! حيث نُدعى لتقديم تسبحة جديدة مع بداية السنة الجديدة، وتدعونا الكنيسة أن نطلب نعمة الله التي تحوّل ضيقاتنا إلى تسابيح وأمجادٍ.

النيروز والتمتع بالحب الإلهي

يأتي هذا العيد في بداية السنة القبطية، والكنيسة باتساع قلبها للبشرية كلها تمجد كل الشهداء المعروفين وغير المعروفين، بغض النظر عن جنسياتهم، إذ يحمل المؤمنون جنسية سماوية مشتركة! إننا نعرف فردوسًا واحدًا للرب، يُشبهه الشهيد كبريانوس بحديقةٍ سماوية، مملوءةٍ بزهورٍ حمراء (أي الشهداء) وبيضاء (أي بالمؤمنين المجاهدين).

عجيبة هي الكنيسة، فالملايين من أولادها قد عُذبوا وقتلوا، وتحسب ذلك عطية إلهية مُفرحة، وتقيم أعيادًا لا تنقطع، حتى يشتهي كل ابن للكنيسة أن يكون شهيدًا. فكلمة “شهيد Martyr ” في اليونانية تعني “شهادة.” فالشهداء هم مؤمنون شهدوا لله محب البشر. اكتشفوا في الآب محبته الفائقة، يفتح أحضانه، مشتهيًا أن ينطلق كل مؤمنٍ إليه ليوجد معه إلى الأبد. هذه هي مسرة الآب أن يقدم لي موضعًا خاصًا في أحضانه!

“لا تخافوا من أي عدو خارجي. انتصروا على أنفسكم، فتغلبوا العالم كله.” 

القديس أغسطينوس

لقد بهَرَ الشهداء العالم بفرحهم بالآلام وشكرهم لله عليها. ويكفي أن يشهد المؤرخون الوثنيون، كيف تَحَولَت السجون إلى كنائس سمائية خاصة في ليلة استشهادهم، فقد كانت السجون في ليلة الاستشهاد تتحول إلى حفلٍ مبهجٍ، يُسمع فيه أصوات الفرح والتهليل والألحان الروحية. لم يكن تهليلاً صادرًا عن رغبتهم في التخلص من العالم ومن مشاكله، بل الكل متهلون لاشتياقهم العجيب أن ينطلقوا ويلتقوا مع محبوبهم الذي طال انتظارهم له بشوقٍ عظيمٍ. هذا هو فرح الاستشهاد.

[يُقال عن كثير من الشهداء إنهم في اليوم الذي كانوا يتوقعون فيه قبول إكليل الاستشهاد، كانوا في تلك الليلة لا يذوقون شيئاً، بل يقفون ساهرين في الصلاة من المساء إلى الصباح، يمجدون الله بمزامير وتسابيح وأغاني روحية، منتظرين تلك الساعة بالفرح والتهليل؛ وكمثل أُناسٍ مستعدين للعُرس، كانوا ينتظرون أن يُلاقوا السيف وهم صائمون. ونحن أيضاً الآن المدعوين للاستشهاد غير المنظور، ولقبول أكاليل القداسة، لنسهر ولا ندَعْ أي عضو أو جزء من جسدنا تظهر عليه سمة الإنكار أمام أعدائنا. ]

القديس مار إسحق السرياني

عيد دائم وشهادة حية لا تنقطع

في كل ساعة نعيشها نحتفل بعيد الشهداء، نشهد متهلين على الدوام سواء بسفك الدم لحساب مسيحنا أو قبولنا كل شيءٍ بشكرٍ. فالاستشهاد هو تدريب روحي يومي. هو احتفال بعيد دائم بالإنجيل المنقوش في القلب. هو شهادة للإنجيل، الأخبار المفرحة، فيمتلئ قلب المؤمن فرحًا، بل ويصير مصدرًا لفرح الكثيرين. يحمل شهادة حية للإيمان المرتبط بالرجاء المفرح والحب العملي!

الاستشهاد هو عيد النصرة على إبليس وكل قواته وكل أعماله الشريرة.

هو عيد التحدي، أشهد لإلهي باختفائي فيه، فلا أحسب نفسي طرفًا في المعركة ضد قوات الظلمة. أراه يقاتل عني، فينهار عدو الخير تحت قدمي! هو عيد الرؤيا الحقيقية لِما أعلنه السيد المسيح بأنه رأى الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء (لو ١٨:١٠).

هو عيد التمتع بالسلطان الذي وهبه لنا مخلصنا أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوات العدو! عيد الاستشهاد هو شهادة مستمرة بأنه لم يعد للخطية سلطان علينا، بل نحيا كملوكٍ، لنا سلطان على القلب والفكر والأحاسيس والمشاعر واللسان والعمل، فنسلك في الداخل والخارج كأعضاء في جسد رب الشهداء نفسه والشهيد الأعظم السيد المسيح. إنه عيد التمتع بروح الملوكية السماوية!

سر نصرة الشهداء هو إدراكهم لحقيقة المَوْقِف ومعرفة العدو الحقيقي “الشيطان”!، إنها حرب خفية بين الله والشيطان. الله يريد أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبِلون (١ تي ٤ ø ٢ )، والشيطان يود هلاك الكل. بهذه النظرة لم ينظروا إلى المُضطهِدين كأعداء، بل مُجَرد آنية هلاك استخدمها الشيطان لتحقيق مآربه، مع أنهم زملاء لهم، مات المسيح لأجلهم.

ذكر القديس يوحنا كاسيان عن شيخ قديس أتى دفعة من الإسكندرية، فأحدق به كثير من الوثنيين وشرعوا يشتمونه ويضربونه. أما الشيخ فكان صامتًا كخروفٍ وديعٍ. فسأله أحدهم بنوع من السخرية: ما هي العجائب التي صنعها مسيحك؟ فأجابهم الشيخ: العجائب التي صنعها مسيحي هي أنكم إذا افتريتم عليَّ وسخرتم بي هكذا، لا أحقد على أحدكم بالغضب، ولا يتَنَجس قلبي أصلاً.

[اعلمْ أيها الإنسان أن الله لم يُجَردك من رأفته ومحبته فهو بجوارك، وساكن في داخلك. فيك بالروح القدس، لأننا نحن مسكنه وهو يسكن في نفوس مُحِبيه ومُرِيديه. هو الذي يعضدك بيمينه فلا تتزعزع، ويمسك بك فلا تسقط. “إذًا لا يغلبنك الشر، بل اغلب الشر بالخير..” (رو ٢١:١٢]

القديس كيرلس الإسكندري

أنهم أحد آبائي شهداء الكنيسة القبطية الذين قبلوا الاستشهاد من أجل اسم السيد المسيح. ومحفوظة بمكتبة جامعة ليفربول بإنجلترا. الشيء الملفت للنظر في هذه الأيقونة: أن الفرح والسرور وحياة التسليم الكامل على وجه الشهيد بينما الجذع والخوف على وجهى الشخصان اللذان يقومان بنشر الشهيد. فالمسيحيون يُجربون من الخارج، بينما من الداخل يكونون أيقونة شهداء الأقباط ممتلئين بالله ومُتحدين به.

[كما أن الرب لمَّا لبس الجسد، كان متفوقاً على كل رئاسة وكل سلطان، هكذا المسيحيون يلبسون الروح القدس ويكونون في اطمئنان. فإذا جاءهم القتال، يهاجمهم الشيطان من الخارج، لكنهم من الداخل يكونون ثابتين بقوة الرب، ولا يُبالون بالشيطان. فلما جرب الشيطانُ الرب أربعين يوماً في البرية، فبأي ضررٍ أصابه؟ لأنه كان يقترب من جسده فقط من الخارج، بينما من الداخل كان هو الله! هكذا المسيحيون أيضاً بينما يُجربون من الخارج، يكونون من الداخل ممتلئين بالله، ولا يُصيبهم ضررٌ ما. فإن وصل أحد إلى هذا المقدار، فقد بلغ إلى محبة المسيح الكاملة وإلى الامتلاء بالله وأما الذي ليس هكذا، فهو لا يزال في حرب من الداخل: ففي ساعة يرتاح إلى الصلاة، وفي ساعة أخرى يكون في شدة وقتال. ]

القديس مقاريوس الكبير


هب لنا أن نحتفل بالنيروز،
فنطلب عامًا مباركا للبشرية. وليختبر كل إنسانٍ حبك العجيب.
نعم، تعالَ سريعًا أيها الرب يسوع.
قلوبنا ملتهبة بحبك. قلوبنا لن تطلب أحدًا سواك!
هب لي أن أحتفل بعيد الشهداء كما يليق بهم، فأمارس حياة الشهادة لك.
تتحول حياتي كلها إلى فرحٍ دائم بك، حتى في لحظات توبتي المستمرة.
تراني يا الله متهللاً بك، فتُسر بي، وتملأني من فرحك وحبك.
ويراني السمائيون منطلقًا إليك فيرحبون بي،
يستقبلونني بفرحٍ شديدٍ لأشاركهم تسابيحهم.
يراني الخطاة مملوءً فرحًا فيمتلئون رجاءً، ويشاركونني توبتي المستمرة.

زر الذهاب إلى الأعلى