فاعلية الميلاد في حياتنا
الله رتب لنا أعياداً
إن الله أراد لأولاده أن يفرحوا ، فرتب لهم أعياداً.
إنه شيء جميل حقاً، يليق بالتأمل ، أن الله يُحدد أياماً معينة للفرح ، و يوجد مناسبات تُحسب أعياداً، يُعيد فيها الناس و يفرحون.
لم ينس الله هذه النقطة ، بل اهتم بها . وعندما أعطى البشرية شريعة ، لم تكن شريعته مجرد أوامر ونواه . إنما وضع ضمن الشريعة أياماً للفرح ، وأياماً للأعياد ، لأنه يريد لأولاده أن يفرحوا ، وأن يعيدوا ، وتبتهج قلوبهم.
وهذا واضح في الأصحاح الثالث والعشرين من سفر اللاوين : حيث نقرأ فيه « وكلم الرب موسى قائلاً : كلم بني إسرائيل وقل لهم مواسم الرب التي فيها تنادون محافل مقدسة ، هذه هي مواسمي … هذه مواسم الرب … » ( لا 23: 1-4 ).
فالأعياد في الكتاب المقدس ، هي مواسم للرب ، أيام للرب.
ومن ضمن هذه الأعياد ، يوم الرب ، يوم الراحة الأسبوعي . هذا اليوم هو أول عيد. إذ يقول الله « ستة أيام يعمل فيها عمل . أما اليوم السابع ففيه سبت عطلة ، محفل مقدس . عملاً ما لا تعملوا . إنه سبت للرب » ( لا ۲۳ : ۳ ) … وهذا المعنى تكلم الرب أيضا عن باقي الأعياد . إنها أيام للرب ، أيام للراحة . ولا يصح أن يكون يوم العيد يوم عمل ، لأنه يوم للرب . والعمل فيه كسر للوصية الإلهية.
حيث أن يوم العيد يوم مقدس ، مخصص للرب.
العالم ليس له نصيب فيه ، لا من جهة العمل ، ولا من جهة اللهو والعبث . إنه يوم عطلة . ولكن عطلة للرب . ولعل الترجمة الإنجليزية للكلمة تعطي معنى أجمل : يوم العطلة ترجمته HOLIDAY أي يوم مقدس. إذن أيام الأعياد ، مع يوم الراحة الأسبوعي ، هي أيام مقدسة حسب الشريعة ، وهي أيام مخصصة للرب ، ينبغي أن نشعر فيها تماماً أنها كلها من نصيب الرب. وقد كانت الأعياد قديمة ، طقوس دينية معينة تمارس فيها ، مثلما كان يحدث في عيد الفصح وعيد الفطير (خر ۱۲)، وفي عيد الحصاد وغيره من الأعياد (لا ۲۳). ومازالت للأعياد طقوسها وصلواتها في العهد الجديد.
ولكن لا يصح أن نكتفي في تقديس يوم العيد، بالصلوات التي تقام في الكنيسة ، إنما يجب أن نحرص على أن تكون له قدسيته الكاملة . وكيف ذلك ؟ إن أهم ما يجعل للعيد قدسيته هو : أن نتذكر الفضائل التي يوحی بها العيد ، ونحياها …
فما هي الفضائل التي يقدمها لنا عيد الميلاد مثلاً ، حتى ننفذها ونحيا بها؟ … وبهذا يكون ليوم العيد فاعليته في حياتنا وسلوكنا ، ونحتفظ بقدسيته عملياً … لأنه ما الفائدة أن نحتفل بالعيد ، وليست للعيد فاعلية نشعر بها ، و يشعر بها الناس ، في حياتنا العملية …
عدم الإهتمام بالمظاهر
من الدروس الهامة التي نتعلمها في عيد الميلاد، عدم الإهتمام بالمظاهر. فالسيد المسيح لم يهتم بها إطلاقاً . وإلا ، فبماذا نفسر إرادته في أن يولد ببلدة صغيرة هي بيت لحم، وفي مكان حقير هو مزود بقر ، وفي يوم لا يعلن للناس .. و بدون إحتفالات … ؟ !
كان في إمكانه أن يأتي إلى العالم في موكب مهيب ، على مركبة من الشاروبيم والسارافیم . ولكنه لم يهتم بالمظاهر . وولد في يوم شديد البرودة ، لم يجد فيه أقطة كافية ولا دفئاً. فعلينا إذن أن نتأمل هذه النقطة ونأخذ منها درساً.
فإن بعدنا عن المظاهر العالمية ، ندخل في فاعلية الميلاد.
فالعظمة الحقيقية ، ليست في المظاهر الخارجية من غنى وملابس و زينة … و باق أمثال هذه الأمور التي فيها إعلان عن الذات ، إنما العظمة الحقيقية هي في القلب المنتصر المملوء بالفضائل …
إبحثوا إذن ما هي المظاهر الخارجية التي تقعون في حبها ، وتجنبوها .. إن أردتم أن تكون للميلاد فاعلية في حياتكم … وماذا أيضا ؟
من دروس الميلاد : الإتضاع
إن میلاد السيد المسيح هو أكبر درس في الإتضاع . وقصة الميلاد بدون الإتضاع ، تفقد جوهرها الإلهي . تأملوا إذن في إتضاع الرب ، الذي في تجسده « أخلى ذاته ، وأخذ شكل العبد ، وصار في الهيئة كإنسان » ( في۲: ۷ ، ۸). وتأملوا في صورة الميلاد أيضاً، أمنا العذراء التي قالت عن اختيار الرب لها « نظر إلى اتضاع أمته » ( لو 48:1 ).
فإن أردنا الإحتفال بالميلاد ، فلنحتفل بالإنضاع فيه وفينا.
ولنبحث ما هي أعماق الإتضاع ، وكيف تكون ، وكيف نحياها ؟ وما هي الأمور التي تضاد الإتضاع في حياتنا لكي نتجنبها ؟ لأنه ما الفائدة أن ننظر إلى اتضاع المسيح ، دون أن نقتني هذا الإتضاع ، ونشابه فينا ، إذ قد ترك لنا مثالاً ( يو 15:13) ، حتى کما سلك هو ، ينبغي أن نسلك نحن أيضاً ( 1يو 2 : 6) . وماذا غير الإتضاع والبعد عن المظاهر؟
من دروس الميلاد : البساطة
نلاحظ في قصة الميلاد أن هناك أشخاصاً إختارهم الرب ، وأعلن لهم مشيئته … بينما هناك آخرون . على الرغم من علو مكانتهم ومراكزهم . لم يقع إختيار الرب عليهم . فمثلاً أعلن الرب بشارة الميلاد للرعاة ، وللمجوس ، فسمعوا وفرحوا ، وذهبوا إلى هناك ، وسجدوا …
حدث هذا ، بينما لم تعلن هذه البشارة لكثيرين من القادة ، كالكتبة والفريسيين والكهنة وشيوخ الشعب .. فلماذا ؟
ذلك لأن أسرار الرب ، تُعلن لقلوب بسيطة تفرح بها.
المجوس والرعاة كانوا بسطاء ، سمعوا فصدقوا ففرحوا وآمنوا . وذهب المجوس وقدموا هدایاهم . وكما أرشدهم الرب في حلم ، نفذوا ما أراد ( مت ۱۲:۲ ). أما الكبار فلم تكن قلوبهم مستعدة ، ولم تكن بسيطة … ومثل ذلك هيرودس الملك ، سمع الخبر « إضطرب وكل أورشليم معه » (مت ۳:۲).
واستخدام الفحص والإستقصاء ، وأيضا الكذب والحيلة والتآمر …
أمامك النوعان من الناس . فمن أي نوع أنت؟
هل أنت من المستحقين أن يعلن لهم الرب أسراره ؟
ولعلك تسأل : من أين لي أن أعرف ؟ فأجيبك أن الإستحقاق يحتاج إلى بساطة قلب ، كقلوب الرعاة البسطاء . وكالمجوس الذي على الرغم من كونهم حکماء ، إلا إنهم كانوا بسطاء أيضاً، ولم يكن في قلوبهم مکر کھیرودس وأمثاله. فلما أرشدهم النجم ، صدقوا وتبعوه. ولما أعلن لهم في حلم ألا يرجعوا إلى هيرودس ، صدقوا ونفذوا . ولما رأوا الرب كطفل ، وفي مزود ، لم يشكوا ، بل آمنوا وصدقوا .. إن الإيمان يحتاج بلا شك إلى بساطة قلب.
العذراء القديسة ، كانت لها بساطة قلب أيضاً، فآمنت بما قيل لها من قبل الرب ( لو 1 : 45 ) . وصدقت أنها ستلد وهي عذراء . و يوسف النجار أيضأ آمن بنفس الموضوع ، لما أُوحي له بذلك في حلم … ونحن في هذه المناسبة علينا أن نسأل أنفسنا:
هل نسلك ببساطة قلب ، أم بتعقيد وشك؟
إن العالم المعاصر – للأسف الشديد . في حياته الكثير من التعقيد . وإن كان للمدنية المعاصرة أخطاء، فلعل في مقدمتها أنها أفقدت العالم بساطة القلب.
والبساطة كنز عظيم، من الخسارة أن يضيع.
والبساطة غير السذاجة. ويمكن أن تكون بسيطاً وحكيماً.
ولقد دعانا الرب أن نكون بسطاء وحكماء « بسطاء كالحمام ، وحكماء كالحيات » ( مت 16:10 ) . والمجوس كانوا بسطاء وحكماء . فليتنا نحن أيضا نكون كذلك . نكون بسطاء في غير انقياد وفي غير جهل ، إنما مع حكمة ، ولكن في غیر تعقيد …
ومن دروس الميلاد : ملء الزمان
قيل عن السيد المسيح إنه جاء « في ملء الزمان » ( غل 4 : 4 ) . مع أن الوعد بالخلاص أُعطى لآدم وحواء قبل ذلك بآلاف السنين.
ونحن في ميلاد الرب نتذكر « ملء الزمان » هذا ، وأن كل شيء يتم في حينه الحسن ، حسب إرادة الرب الذي يُحدد الأزمنة والأوقات.
إيماننا بملء الزمان ، يجعلنا نصبر ، ولا نقلق …
بل في طمأنينة كاملة ، ننتظر الرب « من محرس الصبح حتى الليل » ( مز ۱۲۹ ) ، عالمين أن السرعة ليست هي المقياس السليم ، بل اختیار الرب للوقت المناسب . وعندما يأتي الوقت المناسب ، لا بد أن يعمل الرب عملاً …
سعي الله لخلاصنا
من المعاني الروحية التي نتعلمها من قصة التجسد والميلاد ، أن الله هو الذي يسعى لخلاصنا. وأن خلاص الإنسان هو عمل الله نفسه ، حتى لو قصر الإنسان أو أهمل في خلاص نفسه ، فإن الله يهتم به.
كانت البشرية الخاطئة عاجزة عن تخليص نفسها ، فأتى الله ليخلصها.
قال القديس يعقوب السروجي ، إنه كانت هناك خصومة بين الله والإنسان . ولما لم يستطع الإنسان أن يذهب إلى الله ليصالحه ، نزل الله إلى الإنسان لکی يصالحه …
إذن الله هو الذي بدأ عملية الخلاص هذه . هو الذي وعد بها ، وهو الذي أعد لها ، وهو الذي تمم العمل كله. وما كان ممكن أن يتم الخلاص بدونه.
قصة الميلاد هي بداية عمل الخلاص كله. لذلك لما رأى سمعان الشيخ هذه البداية ، قال « الآن يارب تطلق عبدك بسلام ، لأن عينى قد أبصرتا خلاصك » ( لو ۲۹:۲ ، ۳۰ ).
إن ميلاد السيد المسيح ، ليس هو مجرد میلاد عادی ، إنما هو دليل الحب الإلهي العجيب « هكذا أحب الله العالم ، حتى بذل إبنه الوحيد » ( يو 3 : 16 ) . وطبعاً أرسل إبنه لكي يبذله عن العالم . فهذا البذل أو الفداء هو سبب التجسد الإلهي. هو مجيء محبة الله إلى العالم.
وكلما ننظر إلى صورة ميلاد المسيح ، نتذكر حب الله للبشرية . نتذكر سعيه لخلاصهم . نتذكر الرب الذي جاء « يطلب ويخلص ما قد هلك » ( لو ۱۹: ۱۰ ) . من أجل خلاصنا أخلى ذاته ، وأخذ شكل العبد . تجسد ، واحتمل ضعف البشرية ، وجاع وعطش وتعب ، وتعرض للإهانات ، وتحمل الآلام ، صُلب ، وقبر وقام . أي حب أعظم من هذا ، تتذكره كلما تأملنا ميلاده …
ولد في مزود بقر ، لکی يرفعنا إلى العرش في الأبدية.
صار إبناً للإنسان ، لكي يجعل الإنسان إبناً لله
أخذ الذي لنا ، لكي يعطينا الذي له. حمل خطايانا ، لكي نحمل بره.
مجيئه إلى العالم ، كان لوناً من الإفتقاد ومن الرعاية ، إفتقد به جنسنا البشري. أرسل الأنبياء والرسل والملائكة لتعد الطريق قدامه . ثم جاء أخيراً بنفسه ، وكل هذا يدل على عمق محبته لنا ، وأنه لا يشاء أن نهلك في خطايانا.
فإن كان الله يحبنا بهذا المقدار ، فلنحبه نحن أيضا.
وإن كان الله يسعى إلى خلاصنا بكل هذه التضحية واليذل ، فلنحرص نحن على خلاصنا ، ولنشترك معه في العمل .. نسعى لعلنا ندرك الذي لأجله أدركنا المسيح ( في ۱۲:۳ ) .
هذا أيضأ درس آخر نتعلمه من الميلاد . وإن كنا لا نهتم بخلاصنا ، لا نكون قد دخلنا إلى فاعلية الميلاد في حياتنا . .
روح المناسبة
لا بد أن هناك دروس أخرى كثيرة نأخذها من میلاد الرب. ولكن الشيء المهم هو أن ندرب أنفسنا على الإستفادة من هذه الدروس.
في هذا العيد ، وفي كل عيد يمر بكم ، وفي كل مناسبة روحية ، أدخلوا في « روح المناسبة » . إكتشفوا روحياتها ، وطبقوها في حياتكم . قولوا في أنفسكم : أي درس يريد الله أن يعطيه لنا في هذه المناسبة ؟ وما هي رسالة الله إلينا فيها؟ إستفيدوا من هذا اليوم المبارك ، فلا يمر مروراً عابراً دون أن يكون له أثر في حياتكم العملية.
أشعروا أن العيد قد أحدث في حياتكم تغييراً إلى الأفضل.
وأن العيد كانت فيه دفعة قوية ، دفعتكم إلى قدام ، وقربتكم بالأكثر إلى الله. واذكروا أن العيد هو أحد مواسم الرب وأعياده . وقد أعطانا الرب أن نفرح فيه فرحاً روحياً ، لتكون لنا فيه حياة ، و يكون لنا أفضل .