هيكل في البحر
قدَّم لنا يونان صلاته الرائعة. بل تسبحته النبوية الفريدة، لا في لحظات الوسع، ولا في داخل مبنى الهيكل كمُعَلّم، إنما وسط الآلام كمن هو في قبر السيد المسيح المصلوب. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليتنا لا نهتم بالمكان. وإنما بربٌ المكان. فقد كان يونان في جوف الحوت، واستمع الرب لصلاته. وأنت إن كنت حتى في الحمامات فصل. أينما وُحِدَتَ صل؛ لا تطلب المكان لتُصلي فيه، فإن نفسك هي هيكل .]
يونان يصور مثال ابن الله!
يرى القديس مار يعقوب السروجي أن يونان خضع للحكُم بالموت الصادر منه بإرادته حتى لا يهلك النوتية الأمميّون. فتجلّى قُدامه المسيًا المْخَلْص. القادم إلى العالم ليموت بإرادته عن البشريّة. لقد تحوّلت الضيقة إلى نبوةٍ إلهية ورمز فائق. مما سكب على نفس يونان تهليلاً لم يبال بموته. لأنه صار رمزا لواهب الحياة الذي يموت لِيُقِيمَ الكل.
سمع يونان الصوت النبوي في أعماقه يهبه طمأنينة وسلامًا، فإنه إذ كان رمز للسيد المسيح واهب الحياة. يموت معه ويقوم، ولا يكون للفساد سلطان عليه. لقد صوّر لنا مثال الميت الحيّ الذي لا يفسد! كمثال السيد المسيح الذي وُضِعَ في القبر فبينما ذاق الموت بناسوته فقد كان حيَا بلاهوته الذي لا يموت وبهذا لم ير جسده فساداً.
بنزول يونان داخل البحر، سكنت الأمواج كما استراح الصالبون بموت ابن الله. لقد طلب الملآحون وحاولوا أن يُرجعوا السفينة إلى الشاطئ. ولم يستطيعوا أن ينقذوا يونان من الغرق وهكذا جادل أيضًا الحاكم (بيلاطس) كثيرا من أجل مُخَلْصِنهِ ولم يَقْدَرْ أن يُعِينَ ذاك البار. صرخ البحارة من أجل يونان إلى الله ألا يهلكوا بدم الرجل البار, وهكذا غسل الحاكم يديه من أجل ربنا لئلا يتلطخ بدمه الطاهر الزكي. رأى نفسه وهو يُلقَى في وسط المياه إشارة إلى نفس السيد المسيح التي انطلقت تكرز للذين كانوا في الجحيم. صار يونان كوديعةً محفوظة في جوف الحوت. فحيث لا يوجد رجاء يتجلى قُدامه الرجاء في الرب، وحيث وُجِدَّ الموت تلامس مع الحياة الجديدة المْقامَة !
سفينة جديدة مدهشة وفريدة !
إذ سخر بروفري من قصة يونان بكونها دعَابة مُضحكة، كتب القديس أغسطينوس أنه: إن خشي المسيحيون من سخرية الوثنيين بقصة يونان لا يمكن قبول قيامة المسيح في اليوم الثالث.
أما القديس يعقوب السروجي فيرى في الحوت الفريد. الحامل يونان في جوفه. صورةً رائعةٌ لمراحم الله العجيبة .
لقد صار له الحوت سفينة جديدة مُدهِشة يُحَوّطُ بها الرب ويحميها كما تحت جناحيه؛ راكبها لا يُصِيبه أذى. لا تُحَرّكها الرياح، بل روح الرب الذي يهب البشريّة الميلاد الجديد في مياه المعمودية. صار الحوت له بيتاً فريدًا ليس مؤسسًا على الأرض، بل سائرًا بين الأمواج يتمايل ولا يفرغ ما فيه لأنه بيت عجيب!
رآه قبرًا جديدًا. يضم شخصًا مائتًا وحيَّا في نفس الوقت. تحرسه قوة الله واهب القيامة.
رآه هاوية. تحمل ميتاً ينبع منه حياة مدهشة!
رآه حجال العرس المتحرّك. يضم في داخله عريسًا يتمتّع بوليمة الآلام خفية.
رآه أشبه برجم فتاة بتول، حملت به دون زرع بشر، إذ قد دخل إليه خلال فم (الحوت).
رآه قصرًا ملوكيًا. يسكنه ملكٌ عريسٌ.
رآه سجنًا يحبس دون أن يؤذي، يضم مع السجين الحياة كرفيقة له.
+ أخيراً يُقدَّم القديس مقارنة بين المقبوريّن: يونان النبي ومُخَلْصه يسوع المسيح. إذ دخل كلاهما القبر؛ قدما الحياة للآخرين.
ميّتان صارا سبب الحياة بأفعالهما: يونان لنينوى. وابن الله للأرض كلها.
صارا غطَاسَيْن ومن العمق أخرجا الغنائم، وميتين عَجِيبَينَ نبعت منهما حياة جديدة .
غطس يونان وأنقذ نينوى من العمق، وغطس أيضًا ربنا وأنقذ آدم من الهاوية،
أين نظرتم مقبورًا يُصَلي إلا يونان؟ ومن كان مقتولاً يُحي الموتى سوى ربنا؟
القديس مار يعقوب السروجي
هيكل مقدس ودير جديد وسماء مخفيه!
كان يونان في موقع مُدهِشٍ, لم تطأه قَدَمْ إنسان من قبْل، فقد ترك الهيكل في أورشليم. ليجد الحوت هيكلاً مُقَدمساً يُقَدُمٍ فيه ذبائح التسبيح. ترك بني جنسه. ليَقْطْنَ كما في ديرٍ يمارس حياة العبادة كمتوحدٍ لا يشغله إلا الله محبوبه. ارتفع كما إلى السماء عَيْنِها، ليشارك السيرافيم والكاروبيم تسابيحهم!
+ من داخل البحر لسانى يُسبحك بغنى، وفي قاع البحر ارتل لك..
تركتك يا سيدي داخل أورشليم عند التابوت. ووجدتّك تحت الأرض تََدبّر لي.
في دير جديد أسكنتني تحت الأرض. أرتل لك بأصوات التمجيد من أجل عظمتك.
من داخل الموت أُمَجْدك أيها الرب الصالح، ويضفر لك فمي إكليل المديح وسط الهلاك..
كمثل مَنْ هو قائم في السماء صلّى في داخل الحوت إلى الله. وكمثل من هو بين الكاروبيم دَوَتْ صلاته .
القديس مار يعقوب السروجي
تُرّى ماذا رأى القديس مار يعقوب السروجي في يونان؟
تارة يراه ربَّان سفينة مُدهِشة. وأخرى ميتاً في قبر في صحبة الحياة الجديدة. وعريسًا حجاله مُتحرك. يَتمتّع بوليمة فريدة مُفرحة. وجنيناً في رَحم أم بتول. وملكًا يقطن في قصر عجيب. وسجيناً في داخل حبس لا يؤذى من فيه. وكالشيخ الذي صار جنيناً من جديد في أمعاء الحوت. والآن يراه كاهنًا قادمًا من البرَّ ليكمّن في أعماق البح، في هيكل ليس من صنع بشر.
صلاة صعدت كباكورة لرب الأعالى !
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله قدَّم ليونان دروسًا متوالية في الترفُق بالآخرين. فإن كان الحوت قد ابتلعه ثم قذفه دون أن يؤذيه ألا يليق به أن يترفق هو بإخوته في البشرية وإن كانوا أمميين؟! “لقد استقبلته الأمواج ولم تخنقه. وتلقّفه الحوت دون أن يُهلِكه. بهذا كان يليق بالنبي أن يكون رقيقًا ورحيمًاء لا أن يكون أقسى من الحيوان المُفترس أو البحّارة الجهلاء أو الأمواج العنيفة.
+ يا للعجب! حين لفظ صلاته في جوف الحوت صعدت، لم يوجد شيء يُعيقها . الثمرة التي أرسلها يونان من جوف الحوت شهية: صلاة صعدت كباكورة لرب الأعالي . بعيد هو الموضع الذي أتت منه، وهي جميلة. لأنه من صلّى تحت الأرض إلا يونان؟ إنها أنشودة تعلو من العُمْق منفردة.، ولا يوجد مثلها قبلها ولا بعدها.
إنها لحن أطلقه عبراني في قلب الأرض، وصعد وبلغ إلى قمة الأعالي بعجب عظيم. إنها عنقود المجدء قطفه يونان من جوف الحوت وأرسله. وتعجب السمائيون من طعمه الحلو. وضع يونان عطر البخور ليس على النار، بل في المياه. وبرائحته أبهج السمائيون. صلاة طاهرة، رائحتها أطيب من العطور, وحبٌ مُضطرم أكثر من جمرات اللهيب. دخلت الصلاة، وأخرجت معها الحنان العظيم، ليجلب من الهلاك الرجاء لمن ليس له رجاء. خرج السجين من الظلام ونظر النور, إنسان جديد وُلِدّ من المياه على غير العادة. ولدَهِ الحوت كطفلٍ جاء من الظلام. واستقبلته اليابسة كمولودٍ من مرضعة. صعد كما نزل، ولم يفسد في بطن الجحيم. خرج من الموت وامتلأً حيلاً بدون أن يمسِكَ به أذى.
أشرقت القيامة على النبي وَرَتْ عليه الحياة. ففتح عينيه ورأى النور واشتاق إلى لقائه معه.
القديس مار يعقوب الدروجي
وأمر الرب الحوت فقذف يونان إلى البر” (يونان2: 10) يرى القديس جيروم أن تعبير “قذف” يُشِير إلى الحياة المنتصرة الخارجة من حيث يوجد الموت. فلم يكن مُمْكِنَا لجوف الجحيم أن يمسك بيوناننا ولا بالفساد أن يَلْحَقَ به. وكما يقول المْرتل: “لأنك لن تترك نفسي في الهاوية. لن تدع تقيك يرى فسادًا” (مز 16: 10) لقد قام من بين الراقدين كباكورة لنا، يُقيمنا معه. وكما يقول القديس جيروم: [الذي مات لكي يُحَرْرَ المَسبِيين من رباطات الموت يقدر أن يقود الكثيرين نحو الحياة.]
يونان يرجم نينوى بأصوات كرازته!
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [كانت رسالة الله على فم يونان واضحة. لم يذكر فيها شيئًا عن قبولهم إن رجعوا، لكنهم أعلنوا توبتهم. قائلين: “لعل الله يعود ويندم ويرجع عن حمو غضبه، فلا نهلك” (يونان 3: 9). فإن كان الأمميون غير الفاهمين استطاعوا إدراك هذا، كم بالحري يليق بنا نحن الذين تربينا على التعاليم الإلهية.
وشاهدنا أمثلة كثيرة من هذا النوع عبر التاريخ وفي اختباراتنا الحالية أن ندرك هذا؟!
كما يقول: [في أيام يونان لو لم يُهَدَّدْ الله بالدمار لما نُزِعَ عنهم الدمار… لو لم يهددنا بجهنم لسقطنا جميعًا فيها.]
كما يقول: [التهديد بالخطر يُسَبّبْ خلاصًا منه… التهديد بالموت يجلب حياة. أبطلَ الحُكُمْ بعد أن أُعلِنَ، وذلك على عكس ما يحدث بين القضاة الزمنين؛ فإنهم إذ يصدرون حكمًا يصير نافذ المفعول… أما بالنسبة لله. فبالعكس يُعِنَ الحُكُمَ لي يُبْطله.]
كثيرًا ما أشار القديس يوحنا الذهبي الفم إلى تهديد الله بالهلاك والموت. لا لكي يُهْلِكَ ويميت. وإنما لكي يقود الإنسان أو الشعب إلى الحياة بالتوبة. فالتهديد بالموت هو والد للحياة. [لهذا هِدّدَ الله بالجحيم، حتى لا يقود أحدًا إلى الجحيم.]
ويرى القديس مار يعقوب السروجي أن كلمات يونان كانت كالسهام؛ صؤّبها على شعب نينوى. إذ لم يفتح أمامهم باب الرجاء، ولا قدَّم لهم مراحم الله التي تحتضن التائبين. بل صب عليهم الويلات المرعبة. ومع هذا لم يَشْكُوا في كلماته. بل صدّقوه وتحركوا للعمل. في تواضع طلب أهل نينوى أن يترفق بهم يونان، فيفتح فمه بكلمة رجاء. كانوا مستعدين للتعلم، فقد مارسوا الصوم؛ ولبسوا المسوح, واجتمعوا معًا بروح الوحدة لتعلّم كيفية إرضاء الله.
ظهرت حكمة الملك في معالجته للموقف:
- في تواضع. لم يستخف بإنسانٍ أعزل من السلاح. فقير ويبدو في مظهره كحقير
- ترك الكرسي الملكي. مُقَدَمَا التوبة في انسحاق وتوبةٍ صادقةٍ .
- جمع الشعب ليشترك الكل. حتى الأطفال الصغار في المعركة .
- أدرك أن سلاح الرُضّع والأطفال أعظم وأقوى من كل سلاح. فبهم يربحون المعركة. ويغتصبون مراحم الله العظيمة .
بحكمةٍ أدرك الملك أن حياته وحياة شعبه في يد الله. إله هذا النبي. فإن كان يونان قد أغلق باب قلبه أمامهم. فإن التوبة قادرة أن تفتح أبواب مراحم الله.
القمص تادرس يعقوب ملطي
الأربعاء 17 أمشير 1737ش
24 فبراير2021م