إرجعوا إلىَّ .. أرجع إليكم
البعض يظن أن الرجوع إلى الله، معناه برنامج فى الصلاة والصوم والتداريب الروحية، والقراءات الروحية والإجتماعات والمطانيات…
كل هذا حسن وجميل، ولكن هل لك علاقة قلبية مع الله أم لا؟ هل لك حب لله أم لا؟
بدون هذه العلاقة القلبية، وبدون هذا الحب، لا تكون قد رجعت إلى الله، مهما كانت لك صلاة وأصوام وقراءات ومطانيات.. إنما بالعلاقة مع الله وبالحب، تأخذ كل هذه الوسائط الروحية فاعليتها وقوتها.. فالقلب أولاً، ومنه تصدر هذه الممارسات.
أولاً: شروط وملامح الرجوع
1- الرجوع من القلب : يقول: “ارْجِعُوا إِلَيَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ وَبِالصَّوْمِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ، وَمَزِّقُوا قُلُوبَكُمْ لاَ ثِيَابَكُمْ وَارْجِعُوا إِلَى الرَّبِّ إِلَهِكُمْ “.(يوئيل 2 : 13)
إذن الرجوع القلبى أولاً، ومن هذا القلب المنسحق أمام الله، يأخذ الصوم قوة، وكذلك الدموع.
كثير من الناس، يتمسكون بالوسائط وينسون الله.
كإنسان كل همه أن يتلو صلوات الأجبية. إن لم يتلها يكون حزينًا. حتى لو لم تكن له علاقة بالله أثناء تلاوتها!! كلا، ليس الأمر هكذا..
إن الصلاه وكل الممارسات الروحية لها قوتها الروحية الجبارة، ولها بركتها وتأثيرها وفاعليتها، بشرط أن تكون صادرة من القلب، بعلاقة مع الله.
أما الصلاة بدون شعور بالوجود فى حضرة الله، يجعل الأمر مجرد ممارسة شكلية، بدون علاقة قلبية فى الداخل تعطى هذه الممارسة وزنًا وقيمة..
– أو كإنسان يصوم، بطريقة شكلية.. كل همه يتركز في فترة الإنقطاع وتطويلها، وفي زهد الطعام ونسكه… إلخ. ولكن لم يغير الصوم حياته أو يتخلص من ضعفاته وخطاياه.
– إن القلب هو الأساس. وبه نميز بين إثنين:
هناك من يصوم، فينال مراحم الرب وغفرانه، كما فعل أهل نينوى. وغيره يصوم فلا يقبل الله صومه، كما حدث للفريسى.القلب إذن هو الحكم. والرجوع إلي الله، نريده أن يكون بالقلب.
2- الرجوع الدائم الثابت: هناك أناسًا يظنون أنهم قد رجعوا إلي الله، بينما يحيون مترددين، يومًا معه وربما بحرارة شديدة، ويومًا في شهوات العالم ورغباته.
أيضاً لا يكون رجوعك إلى الله، هو رجوع في مناسبات، أو في أصوام، أو في تأثرات معينة، أو فترات تدريبات، رجوعًا موسميًا، تعود بعده إلي خطاياك السابقة، منفصلاً عن الله مرة أخري..! خذ درسًا – في الرجوع إلي الله – من قصص القديسين:
– القديس موسى الأسود، حينما رجع إلي الله، رجع بكل قلبه، ولم يعد إلي خطاياه الأولي مرة أخرى، بل ظل ينمو وينمو حتى تحول إلي مرشد روحي وقدوة لكثيرين.
– ومريم القبطية، وبيلاجيه، وأوغسطينوس، وغيرهم. كل أولئك رجعوا إلي الله، ولم ينفصلوا عنه مرة أخري، إنما تقدموا بإستمرار في النمو الروحى، من حياة التوبة إلى حياة القداسة..وهذا الرجوع إلي الله معناه الرجوع بقلب جديد..
والله نفسه يقول في ذلك: “وَأُعْطِيكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا, وَأَجْعَلُ رُوحًا جَدِيدَةً فِي دَاخِلِكُمْ ” (حز 36: 26).
والقديس بولس الرسول يقول: ” تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ ” (رو 12: 2)، أى بفكر جديد، يزن الأمور بميزان غير ميزانه السابق. فكر أصبحت للروحيات عنده قيمتها، وفقدت الخطية تأثيرها عليه..
يتبقى أمر هام وهو إن الرجوع الدائم ليس معناه عدم الوقوع فى الخطية، لا بل هو عدم الاستمرار فى الخطية، أى التوبة المتجددة المستمرة.
3- الرجوع بالصوم والتذلل: كما رجع إليه أهل نينوى. سمعوا إنذار النبى أنه بعد أربعين يوم تنقلب المدينة ولكنهم لم ييأسوا من مراحم الله، ورجعوا إليه بالصوم والتذلل. فماذا فعلوا؟
“َنَادُوا بِصَوْمٍ وَلَبِسُوا مُسُوحًا مِنْ كَبِيرِهِمْ إِلَى صَغِيرِهِمْ. وَبَلَغَ الأَمْرُ مَلِكَ نِينَوَى، فَقَامَ عَنْ كُرْسِيِّهِ وَخَلَعَ رِدَاءَهُ عَنْهُ، وَتَغَطَّى بِمِسْحٍ وَجَلَسَ عَلَى الرَّمَادِ“.(يونان 3: 5-6)
نفس الصوم والتذلل، نراه في سفر يوئيل (2: 15 – 17). حيث قال: قَدِّسُوا صَوْمًا. نَادُوا بِاعْتِكَافٍ. اِجْمَعُوا الشَّعْبَ. قَدِّسُوا الْجَمَاعَةَ. احْشُِدُوا الشُّيُوخَ. اجْمَعُوا الأَطْفَالَ وَرَاضِعِي الثُّدِيِّ. لِيَخْرُجِ الْعَرِيسُ مِنْ مِخْدَعِهِ وَالْعَرُوسُ مِنْ حَجَلَتِهَا. لِيَبْكِ الْكَهَنَةُ خُدَّامُ الرَّبِّ بَيْنَ الرِّواقِ وَالْمَذْبَحِ، هكذا وفي نفس الوضع نراه في صوم دانيال النبى وتذلله.
4- الرجوع بالحرص والتدقيق والجدية: الذي يرجع إلي الله، يكون فرحًا جدًا برجوعه، حريصًا علي هذا الصلح الذي تم بينه وبين الله. لذلك يكون مدققًا جدًا لئلا تصيبه نكسة فيسقط كما كان.. لقد جرب من قبل مشاكل التساهل مع الخطية. وكيف أنه إذا تساهل مع الفكر، يتحول إلي شعور في القلب، ثم إلي شهوة تشتعل داخله، وتبدأ الخطية تسيطر عليه. ويصبح من الصعب أن يفلت منها. لذلك يدقق مع كل فكر، ومع جميع الحواس.
يدقق مع الخطايا التي تبدو صغيرة، مثلما مع الخطايا الواضحة الخطأ. حذراً من: “الثَّعَالِبَ الصِّغَارَ الْمُفْسِدَةَ الْكُرُومِ” (نش 2: 15). وهكذا يكون أمينا في القليل..
وبهذا التدقيق تختبر أمانتك في الرجوع..
5- الرجوع بقوة: رجوع يمنحك فيه الله قوة تلمسها في كل نواحى حياتك الروحية: قوة في الانتصار على الخطية، وقوة في النمو الروحى، وفي الارتفاع إلى فوق. وكما قيل عن ذلك فى سفر أشعياءالنبي: “يُعْطِي الْمُعْيِيَ قُدْرَةً، وَلِعَدِيمِ الْقُوَّةِ يُكَثِّرُ شِدَّةً. اَلْغِلْمَانُ يُعْيُونَ وَيَتْعَبُونَ، وَالْفِتْيَانُ يَتَعَثَّرُونَ تَعَثُّرًا. وَأَمَّا مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً. يَرْفَعُونَ أَجْنِحَةً كَالنُّسُورِ. يَرْكُضُونَ وَلاَ يَتْعَبُونَ. يَمْشُونَ وَلاَ يُعْيُونَ” (أش 40: 29: 31).
أطلب من الرب إذن أن يعطيك قوة ترجع بها، وأن يعطيك قوة تلازمك فى رجوعك إليه، قوة من روحه القدوس.. قوة تحسها في كل عمل تمتد إليه يديك.
كإنسان كان مريضًا جدًا، ثم نقلوا إليه دمًا، فتقوى.. بنقل الدم، عاد إليه نشاطه، وعادت إليه حيويته، ودخلت فيه قوة.. هكذا أيضًا التائب الراجع إلي الله، حينما تدخله قوة من عمل روح الله فيه..
ثانياً: الله يريدنا أن نرجع إلية
إنه ينادينا في حب “ارْجِعُوا إِلَيَّ أَرْجِعْ إِلَيْكُمْ” (ملا 3: 7)، وتحمل هذه العبارات كثيرًا من المعانى الجميلة:
1- الخطية دخيلة علينا: وكأنه يقول لنا: ليس انفصالكم عنى هو وضعكم الأصلى. فوضعكم الأصلي هو الثبات فىٌ. لأنى أنا الكرمة، وأنتم الأغصان (يو 15: 5) وطبيعة الغصن أن يكون ثابتًا فىٌ الكرمة. وأنا الرأس، أنتم الجسد، أنتم الأعضاء (أف 5: 23). فثباتكم فىٌ أمر طبيعى. لذلك لست أناديكم أن تأتوا إلىٌ، بل أن ترجعوا إلىٌ..
ترجعوا إلىٌ الوضع الطبيعى الذى كان لكم منذ البدء.. وترجعوا إلي الصورة الإلهية التى
كانت لكم يوم خلقتم.. فإنفصالكم هذا، وضع طارئ، مؤقت، لا يصح أن تبقوا فيه. وحياة البر والقداسة ليست جديدة عليكم، بل هي طبيعتكم التى بدأت بها علاقتى معكم، والتى تعيشون بها معى فى الأبدية.
2- الله حنين: يهتم بالتراب والرماد، ويجد لذته فى بنى البشر، ويفرح بالوجود معنا “حَيْثُ أَكُونُ أَنَا تَكُونُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا” (يو 14: 3) الذى إسمه عمانوئيل، أى الله معنا (مت 1: 23) وقد جعل أورشليم السمائية هي “مَسْكَنُ اللهِ مَعَ النَّاسِ“، “الله وسط شعبه” (رؤ 21: 3).
3- المبادرة من الله: فهو الذى يبدأ، وهو الذى يطلب، وهو الذى يدعونا إليه. بل هو من أجل هذا أرسل إلينا الأنبياء، ووضع لنا سر التوبة. ووعدنا فى رجوعنا أن ينسى القديم كله ولا يذكره بعد (أر31: 34).
4- الله يستجيب: أنا في أى وقت تطلبوننى فيه، تجدوننى معكم. بل أنا واقف على أبواب قلوبكم أقرع لكى تفتحوا لى (رؤ 3: 20). إنما المشكلة تأتى من جهتكم أنتم. “فإن سمع أحد صوتي وفتح الباب، أدخل إليه“.. افتحوا أبواب قلوبكم المغلقة دونى، “فأرجع إليكم” أى أدخل إلى هذه القلوب التى أخرجتمونى منها، برفضكم إياى بخطاياكم..
إرجعوا إلي، فأنا موجود معكم. ولكنكم لا تشعرون بوجودى..
حقًا لقد صدق القديس أوغسطينوس حينما قال: (كنت يا رب معى، ولكننى أنا لم أكن معك).. الله معنا، يعمل لأجلنا، حتى ونحن في عمق خطايانا. يبحث عنا، وينادينا أرجعوا إلي. فمعني رجوعه إلينا، هو أن نشعر نحن بوجوده معنا..
5- الله يحترم إرادتنا: كأنه يقول: أنا لا أرغمكم على محبتى، ولا أضطركم علي تكوين علاقة معى. إنما الأمر متعلق بإرادتكم أنتم. إن أردتم أن أرجع إليكم، فإنى أرجع إليكم. وإن لم تريدوا، إسلكوا حسب حريتكم.
ثالثاً: بركات الرجوع إلى الله
1- حياة السلام: المشكلة الوحيدة فى حياتك هى الإنفصال عن الله، وكل المشاكل الباقية قد تكون نتيجة لها. فإن رجعت إلى الله، تحيا فى سلام، مع الله، ومع نفسك ومع الآخرين، حتى فى وسط المشاكل. وترى وعد الرب لك: “بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ. بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ” (أش 30: 15).
2- حياة التجديد (مز 103: 5): ويصير لحياتك طعم ويصير لها هدف، وتشعر أن الله داخلك، وأنه معك، وتتذوق ملكوته، وتختبر حلاوة العشرة معه، وتعرف معنى عبارة “الالتصاق بالرب” (مز 73: 28).
3- حياة الفرح: الله يفرح لأنه لا يُسر بموت الخاطئ، والسماء تفرح “يَكُونُ فَرَحٌ فِي السَّمَاءِ” (لو 15: 7)، ولقد فرح الرسل وبشروا التلاميذ برجوع الأمم (أع 15: 3).. وأنت تتمتع بملء الفرح لأن وعد الله لنا أراكم (وأنتم فى حاله التوبة) فتفرح قلوبكم ولاينزع أحد فرحكم منكم.
رابعاً : كيف أرجع إلى الله؟
1- قوة نطلبها من الله: توبتنا هى طلبة دائمة من الله فى كل وقت، لأننا بدونه لانقدر أن نفعل شئ، فهو الذى يعطينا القوة لنعيش حياة التوبة والرجوع إليه.
2- ممارسات روحية عميقة: صلاة أو كتاب مقدس أو قداس، كل ممارسة أصليها من كل قلبى وأخرج منها بشئ يغير حياتى.
3- حوار مع الله: ليست الحياة مع الله أوقات محددة بل هى حوار دائم مع الله، فحينما تستيقظ فى الصباح وتجد الله يضع فى يدك مصروفك (يوم جديد فى حياتك)، وأنت تقول له ” يارب ماذا تريد أن أفعل… إجعلنى مرآة لك أمام العالم” وتبدأ بحوار مع الله فى طعامك وشرابك وعملك وتسليتك وفى كل أوقاتك، جرب وابدأ بشئ بسيط، ستجد نفسك تعودت على الحوار مع الله.
4- تداريب روحية: بإرشاد أب إعترافك ضع التداريب الروحية المناسبة للنمو فى الحياة مع الله.
5- صلاة يسوع: “ياربى يسوع المسيح ارحمنى أنا الخاطئ“… إجعلها فى لسانك وفكرك وقلبك ومشاعرك، إجعل الأسم الحلو الذى ليسوع المسيح يقدس روحك ونفسك وجسدك.
6- الفضيلة: تدرب على الفضائل، ولنبدأ بالتواضع مثلاً “لأن الإتضاع خلص كثيرين بلا تعب” فإحفظ آيات من الكتاب المقدس عن التواضع، وكذلك أقوال الآباء وسير القديسين حتى تعيش الإتضاع الذى يخلصك.
7- الخير: كل يوم ضع بسمة جميلة على وجه أى إنسان (سواء بالمادة أو الصحة أو الوقت أو الكلام…) انشر الخير والحق والجمال والحب… كن مثل إلهك.