كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار

اطلبوا الرب

في منتصف القرن الثامن قبل الميلاد، كانت المملكة الشمالية لإسرائيل في حالة من الفوضى الاجتماعية والسياسية والدينية. وكانت مناحي الحياة الثلاثة هذه، وما زالت، مرتبطة ببعضها البعض بطريقة معقدة. فالمشاكل الاجتماعية والسياسية في أيام عاموس النبي – أي في تلك الفترة – أثرت تأثيراً مباشراً في الحياة الدينية. وكانت آمال وطموحات الأمة والمواطنين، وما يطلبونه ويبحثون عنه، السبب الرئيسي في تفاقم مشاكلهم الدينية.

وكانت الكلمات التي كتبها عاموس النبي على هذه الأمة، هي رسالة الرب لإسرائيل. فلم تكن كلمات إنسان، بل كلمات الرب القدير. الذي أعلن عن نفسه صراحة في (عاموس ٥: ٤) إنه الرب: “لأنه هكذا قال الرب لبيت إسرائيل: اطلبوا (الرب) فتحيوا».

الكلمة العبرية التي ترجمت “الرب” هنا هي “يهوه”. وهذا هو الاسم الشخصي لله. ففي سفر الخروج (٣: ١٤-١٥) عرَّف الله نفسه لموسى بهذا الاسم، عندما سأله موسى عن الاسم الذي يخبر به بني إسرائيل، قال له الله: “أهية الذي أهية”، أو “أكون الذي أكون”، أو “أنا هو الكائن بذاتي”، أو كما قال الرب يسوع في العهد الجديد “أنا هو”. وبغض النظر عن المعنى الحرفي لهذا الاسم، فهذا هو الاسم الذي استعمله بنو إسرائيل للتعريف بالإله الذي يعبدونه في مقابل الآلهة الوثنية الكثيرة التي كانت منتشرة في منطقة الشرق الأوسط قديماً. لذلك بيَّن الله لبني إسرائيل تفرده ووحدانيته في بداية الوصايا التي أمر بها شعبه، والمعروفة باسم “الشماع” (من كلمة اسمع): “إسمع يا إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد» (تث ٦: ٤). وكلمة واحد في هذه الوصية تعني الوحدة والتفرد، والمعنى واضح، فالله واحد أي ليس هناك إله آخر غيره.

أما “طلب الرب” فهذه هي رسالة الأنبياء والكارزين عل مدى العصور، فما معنى عبارة طلب الرب في أيام عاموس النبي؟

يأتي الفعل “اطلبوا” في اللغة العبرية “درش darash”. وهذه الكلمة تعني أكثر من مجرد الطلب. فهي تعني: يطلب بعناية وإصرار، يطلب من النبي أو الكاهن أو الرائي من أجل الحصول عل قرار أو إجابة لسؤال. فمن يطلب يبحث عن حل إلهي لمشكلة ما. والطلب يستلزم عناية فائقة من الطالب. فالمعنى يتضمن الاتجاه لله في الطلب، والاستمرار في التوجه إليه وذلك كمنهج دائم للحياة. فطلب الله والبحث عنه يعني مسيرة حياة تخضع لإرادة الله، وتسير حسب توجيهاته. والشعب الذي يطلب الله، يتخلل العدل والبر كل تعاملاته، ويصبح الله هو الموجه لكل تصرفاته.
وباختصار، فإن طلب الرب هو صنع مشيئته” .

لقد أمر الرب شعبه عل فم عاموس النبي أن “اطلبوا فتحيوا. ولا تطلبوا بيت إيل وإلى الجلجال لا تذهبوا وإلى بئر سبع لا تعبروا” (عا ٥: ٤-٥). فقد وُضعت بيت إيل والجلجال وبيت سبع كبديل لطلب الله.
كان بيت إيل والجلجال أماكن مقدسة مشهورة في مملكة إسرائيل الشمالية. كان إبراهيم أبو الآباء هو الذي أسس بيت إيل (تك ١٢: ٨؛ ١٣: ٣-٤)، وارتبطت الجلجال بعبادة الشعب العبراني منذ أيام يشوع بن نون (يش ٤: ١٩-٢٤) وأثناء حكم القضاة (قض ٢). أما بئر سبع فتقع على الحد الجنوبي لمملكة يهوذا، على بعد حوالي ٦٤ كيلومترا جنوب أورشليم.
وقد ارتبطت هي أيضا بإبراهيم أبي الآباء (تك ٢١: ٢٥-٣٣). وقد مثلت هذه الأماكن الثلاثة أماكن مقدسة للعبادة عل مدى عدة عصور مروراً بأيام عاموس النبي.

كان عاموس النبي، المتحدث باسم الله، يأمر الشعب بالتوقف عن استشارة الكهنة والمنجمين في هذه الأماكن الثلاثة، والاتجاه لطلب الله وحده. وقراءة كلمات عاموس النبي توضح الممارسات التي كانت تجري باسم يهوه والتي كأن يرفضها الله. فالنشاط الديني الذي كان يمارس في بيت إيل والجلجال اعتُبر عل مستوى المعصية والتمرد عل الله، بالرغم من أنه كان نشاطاً دينياً. فالشعب في محاولته لإظهار بره الشخصي، كان
يحاول أن يقدم أكثر مما هو مطلوب منه في الناموس: «هلم إلى بيت إيل، وأذنبوا إلى الجلجال، وأكثروا الذنوب، وأحضروا كل صباح ذبائحكم، وكل ثلاثة أيام عشوركم. وأوقدوا الخمير تقدمة شكر، ونادوا بنوافل وسمعوا. لأنكم هكذا أحببتم يا بني إسرائيل، يقول السيد الرب» (عا ٤: ٤-٥).

لذلك أوضح لهم الرب على فم عاموس النبي رفضه لهذه الممارسات الدينية حتى ولو كانت تجري باسم الرب: “بغضت، كرهت أعيادكم، ولست ألتذ باعتكافاتكم. إني إذا قدمتم لي محرقاتكم وتقدماتكم لا أرتضي ،وذبائح  السلامة من مسمناتكم لا ألتفت إليها. أبعد عني ضجة أغانيك، ونغمة ربابك لا أسمع» (عا ٥ :٢١-٢٣).
لقد صارت عبادة الله عبادة آلية خالية من الروح. وأصبح الاهتمام بالطقس والألحان بديلاً للعلاقة الشخصية الحية مع الله. لذلك كان صراخ النبي عاموس للشعب أن يتوقف عن مظاهر العبادة الخارجية، يلتفت إلى عبادة الله من القلب. لقد أوضح الله مشيئته من جهة الشعب بهذه الكلمات: “وليجر الحق كالمياه، والير كنهر دائم” (عا ٥: ٢٤).

ثم يعود النبي ويوضح أكثر ما المقصود بطلب الرب، وذلك في قوله: “أطلبوا الخير لا الشر لتحيوا” (عا ٥: ١٤). هنا يعقد النبي مقارنة، فطلب الرب يمثله طلب الخير، وطلب الشر يمثله طلب بيت إيل والجلجال وبئر سبع. فبالرغم من أن تلك الأماكن كانت في نظرهم أماكن مقدسة يقدم فيها العبادة لله، فإن الله رفض هذه العبادة، لأنها لم تكن عبادة حقيقية. لم تكن سوى عبادة شكلية، ولم يكن وجه الله هو المطلوب في العبادة، بل تتميم فرائض وطقوس خارجية باطلة.

هذه الصورة القاتمة ليست ببعيدة عنا اليوم. فالبعض يظن أن مجرد الذهاب للكنيسة، وتتميم الطقس، ودفع العشور والنذور، هو العبادة المطلوبة. في القديم نصح عاموس النبي الشعب أن يدخلوا في علاقة شخصية مع الله، لا أن يمارسوا الطقس بطريقة شكلية فقط، فالطقس في حد ذاته مطلوب، أما العبادة الحقة فلازمة. لقد وبخ الرب يسوع الكتبة والفريسيين الذين يعشرون النعنع والشبث والكمون، لكنهم تركوا أهم وأثقل ما في الناموس: «الحق والرحمة والإيمان» (مت ٢٣:٢٣). لقد اهتموا بشدة بتنفيذ تعاليم الناموس والهيكل التي تحض على اعطاء عشر ما يقتنيه الإنسان، وهم في ذلك لم يخطئوا. بل كانت خطيئتهم أنهم نفذوا وصايا الله بطريقة شكلية دون الدخول في جوهر وصية الله: «إني إريد رحمة لا ذبيحة» (مت ٩: ١٣).

 لقد كأنت حياة بني اسرائيل اليومية وممارساتهم صورة حية لما يؤمنون به ويطلبونه. كأنوا في حياتهم اليومية “يحولون الحق أفسنتينا” (عا ٥: ٧)، وكانوا يضايقون البار آخذين الرشوة (عا ٥: ١٢). ولم يكن العدل الاجتماعي والسياسي موجوداً في قاموس حياتهم. لذلك طالبهم النبي بالعدل الاجتماعي قائلا:”ثبتوا الحق في الباب” (عا ٥: ١٥).

ومن الغريب أن هذا الشعب البعيد عن الله، الطالب شكل العبادة دون جوهرها، كان يشتهي يوم الرب: «ويل للذين يشتهون يوم الرب» (عا ٥: ١٨). لقد كأنوا يتوقعون أن يوم الرب سوف يأتي لهم بالعدل، وبالقضاء عل أعداء إسرائيل، ولرد إسرائيل إلى مركزها المرموق بين الأمم المجاورة. وربما كانوا يظنون أن يوم الرب سوف يكون يوم عبادة للرب، يقدمون فيه عبادة نقية من قلوبهم، وبلغة اليوم كأنوا يعتقدون أن يوم الرب هو
الحل.

وبغض النظر عن مفهوم يوم الرب عندهم، فلقد كان للنبي عاموس وجهة نظر أخرى في يوم الرب. لقد أخبرهم أنه سيكون يوم ظلام لا نور (عا ٥: ١٨)، وقضاء الله لن يكون حسبما يتوقعون. فالنبي كان يتكلم عن دينونة الله لشعب إسرائيل. فلم يكن يوم الرب في نظر النبي يوماً مستقبلياً، بل يوم حاضر بينهم. ولم تكن نظرة النبي سوداوية تشاؤمية، بل كانت نظرة مفعمة بالرجاء: «اطلبوا الرب فتحيوا». وأساس طلب الرب هو حياة التوبة والتغيير. التغيير بمعنى الاستجابة لقضاء الرب وتغيير نمط الحياة ليتوافق مع إرادة الله. ومظاهر هذا التغيير ستظهر في ترسيخ الحق في الأرض، والرحمة، والأمانة في حياة الناس. الأمور التي سيظهر تأثيرها المباشر في حياة الناس الدينية والسياسية والاجتماعية.

إن يوم الرب ليس يوماً مستقبلياً، بل هو يوم حاضر. إنه يوم نعيشه كل يوم ونحس به. ألا يأتي علينا يوم الرب في كل يوم نسمع فيه كلمه ونحس بحضرته! ألا يحل علينا يوم الرب في كل يوم نقترب من مائدته المقدسة ونتحد به. هذا هو يوم الرب، وهذا هو صراخ النبي لنا لكي نطلب الرب فتحيا قلوبنا، نتحد به، ونحيا معه وفيه.

أولاد إبراهيم كتب أنبا إبيفانيوس آية يونان النبي
كتاب مفاهيم إنجيلية
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى